تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

المسمّى بالتصديق عند المناطقة ، وقيل : أرادوا لو نحسن القتال لاتّبعناكم ، فالعلم بمعنى المعرفة ، وقولهم حينئذ تهكّم وتعذّر.

ومعنى (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أنّ ما يشاهد من حالهم يومئذ أقرب دلالة على أنهم يبطنون الكفر من دلالة أقوالهم : إنّا مسلمون ، واعتذارهم بقولهم : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. أي إنّ عذرهم ظاهر الكذب ، وإرادة تفشيل المسلمين ، والقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم.

ويتعلّق كلّ من المجرورين في قوله : (مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) بقوله : (أَقْرَبُ) لأنّ (أَقْرَبُ) تفضيل يقتضي فاضلا ومفضولا ، فلا يقع لبس في تعلّق مجرورين به لأنّ السامع يردّ كل مجرور إلى بعض معنى التفضيل.

وقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) استئناف لبيان مغزى هذا الاقتراب ، لأنّهم يبدون من حالهم أنّهم مؤمنون ، فكيف جعلوا إلى الكفر أقرب ، فقيل : إنّ الذي يبدونه ليس موافقا لما في قلوبهم ، وفي هذا الاستئناف ما يمنع أن يكون المراد من الكفر في قوله : (هُمْ لِلْكُفْرِ) أهل الكفر.

وقوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) بدل من (الَّذِينَ نافَقُوا) ، أو صفة له ، إذا كان مضمون صلته أشهر عند السامعين ، إذ لعلّهم عرفوا من قبل بقولهم فيما تقدّم (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) فذكر هنا وصفا لهم ليتميّزوا كمال تمييز. واللام في (لإخوانهم) للتعليل وليست للتعدية ، قالوا : كما هي في قوله : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) [آل عمران : ١٥٦].

والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك ، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أحد ، وهم من جلّة المؤمنين.

وجملة (وَقَعَدُوا) حال معترضة ، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أحد ، وفعلوا كما فعلنا ، وقرأ الجمهور : ما قتلوا ـ بتخفيف التاء ـ من القتل.

وقرأه هشام عن ابن عامر ـ بتشديد التاء ـ من التقتيل للمبالغة في القتل ، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعنا في طاعتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ادرءوه عند حلوله ، فإنّ من لم يمت بالسيف مات بغيره أي : إن كنتم صادقين في أنّ سبب موت إخوانكم هو

٢٨١

عصين أمركم.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢))

قوله : (وَلا تَحْسَبَنَ) عطف على (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) [آل عمران : ١٦٨] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سدى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم.

والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعليما له ، وليعلّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جاريا على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن.

والحسبان : الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهيا عن الجزم بأنّهم أموات.

وقرأ الجمهور : الذين قتلوا ـ بتخفيف التاء ـ وقرأه ابن عامر ـ بتشديد التاء ـ أي قتّلوا قتلا كثيرا.

وقوله : (بَلْ أَحْياءٌ) للإضراب عن قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تضرب عن مفرد من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة ـ بالرفع ـ ، وقرئ ـ بالنصب ـ على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي.

وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتا ظاهرا بقوله : (قُتِلُوا) ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فعلمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم

٢٨٢

أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) دليلا على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائما لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة. فإن علّقنا (عِنْدَ رَبِّهِمْ) بقوله : (أَحْياءٌ) كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : (يُرْزَقُونَ) فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشئ عنها كائنا عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويّة، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق. وقوله : (فَرِحِينَ) حال من ضمير (يُرْزَقُونَ).

والاستبشار : حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] وقد جمع الله لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم ، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم ، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين.

فالمراد (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.

و (مِنْ خَلْفِهِمْ) تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير : ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة من رفاقهم بأمنهم وانتفاء ما يحزنهم. وقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بدل اشتمال ، و (لا) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يبن اسم (لا) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع : «زوجي كليل نهامة ، لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سامة» برفع الأسماء النكرات الثلاثة.

وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء منحت الكشف على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا. وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصّا الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها. وقد يكون عامّا لجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أنّ الإمام الرازي حصر اللذّة الحقيقية في المعارف. وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة.

٢٨٣

وفي الآية بشارة لأصحاب أحد بأنّهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم.

وضمير (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالا من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله ، ويحتمل أن يكون تكريرا لقوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا) والضمير ل (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] فكرّر أغويناهم ، ولأنّ هذا استبشار منه عائد لأنفسهم ، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح ، والأولى عائدة لإخوانهم. والنعمة : هي ما يكون به صلاح ، والفضل : الزيادة في النعمة.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) قرأه الجمهور ـ بفتح همزة (أنّ) ـ على أنه عطف على (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) ، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأن جمع الله لهم المسرّة الجثمانية الجزئية والمسرّة العقليّة الكلية ، فإنّ إدراك الحقائق الكلية لذّة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية وشرف العلم بها ، وحصول المسرّة للنفس من انكشافها لها وإدراكها ، أي استبشروا بأنّ علموا حقيقة كليّة وسرّا جليلا من أسرار العلم بصفات الله وكمالاته ، التي تعمّ آثارها ، أهل الكمال كلّهم ، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم ، ولو لا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) إذ لم يحصل بزيادته زيادة نعمة وفضل للمستبشرين من جنس النعمة والفضل الأولين ، بل حصلت نعمة وفضل آخران. وقرأه الكسائي ـ بكسر همزة (إنّ) ـ على أنه عطف على جملة (يَسْتَبْشِرُونَ) في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء. ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام ، فتكون الواو للاستئناف.

وجملة (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أحد من الأرجاف بأنّ المشركين ، بعد أن بلغوا الرّوحاء ، خطر لهم أن لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم. وقد مرّ ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٩]. وقد تقدّم القول في القرح عند قوله : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) [آل عمران : ١٤٠]. والظاهر أنّه هنا للقرح المجازي ، ولذلك لم يجمع فيقال القروح.

٢٨٤

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

يجوز أن يكون (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى آخره ، بدلا من (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [آل عمران : ١٧٢] ، أو صفة له ، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧١] على طريقة ترك العطف في الأخبار. وإنّما جيء بإعادة الموصول ، دون أن تعطف الصلة على الصلة ، اهتماما بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلة ، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنف ، فيكون مبتدأ وخبره قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] أي ذلك القول ، كما سيأتي. وهذا تخلّص بذكر شأن من شئون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يوم أحد بعام ، إنجازا لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال : موعدكم بدر في العام القابل ، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل ، وكاد للمسلمين ليظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين ، فجاعل ركبا من عبد القيس مارين بمرّ الظّهران قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة ، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشا جمعوا لهم جيشا عظيما ، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي ، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعدادا وحميّة للدين ، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر ، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك ، وكانت هنالك سوق فاتّجروا ورجعوا سالمين غير مذمومين ، فذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أي الركب العبديون (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أي إنّ قريشا قد جمعوا لكم. وحذف مفعول (جَمَعُوا) أي جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول.

وقال بعض المفسّرين وأهل العربية : إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نعيم بن مسعود وأبي سفيان ، وجعلوه شاهدا على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله ، وإطلاق لفظ الناس مرادا به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام ، ومنه قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] قال المفسّرون : يعني ب (الناس) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم قول الناس ، فضمير الرفع المستتر في

٢٨٥

(فَزادَهُمْ) عائد إلى القول المستفاد من فعل (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أو عائد إلى الناس ، ولمّا كان ذاك القول مرادا به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم. وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون ، جعل ما حصل به زائدا في إيمان المسلمين. فالظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل ، أي العزم على النصر والجهاد ، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص. ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة ، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] يعني صلاتكم. أمّا التّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول ، فلا يقبل النقص ، ولا يقبل الزيادة ، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى ، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته ، أو طال زمانه ، أو قارنته التجارب ، يزداد جلاء وانكشافا ، وهو المعبّر عنه بالملكة ، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة ، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة ، وقد قال إبراهيم عليه‌السلام : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].

وقولهم : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) كلمة لعلّهم ألهموها أو تلقّوها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحسب أي كاف ، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل ، قالوا : ومنه اسمه تعالى الحسيب ، فهو فعيل بمعنى مفعل. وقيل : الإحساب هو الإكفاء ، وقيل : هو اسم فعل بمعنى كفى ، وهو ظاهر القاموس. وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) ، وقولهم : بحسبك درهم ، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل ، وقيل : هو مصدر ، وهو ظاهر كلام سيبويه. وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظا دون معنى ، فيبنى على الضمّ مثل : قبل وبعد ، كقولهم : أعطه درهمين فحسب ، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير. وإضافته لا تفيده تعريفا لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة ، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابه المصدر ، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر ، أو لأنّه مصدر ، وهو شأن المصادر ، ومعناها : إنّهم اكتفوا بالله ناصرا وإن كانوا في قلّة وضعف.

وجملة (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) معطوفة على (حَسْبُنَا اللهُ) في كلام القائلين ، فالواو من المحكي لا من الحكاية ، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا

٢٨٦

المناسبة. والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله.

و (الْوَكِيلُ) فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه. يقال : وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها ، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشئونه بنفسه : رجل وكل ـ بفتحتين ـ أي كثير الاعتماد على غيره ، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله ، وهذا القيام بشأن الموكّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها ، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل ، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ٦٦] ، ومنه (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) [النساء : ١٠٩]. ومنه الوكيل في الخصومة ، وإن كان في شئون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [الإسراء : ٢] كما قال : (قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) [النحل : ٩١] ولذلك كان من أسمائه تعالى : الوكيل ، وقوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ومنه الوكيل على المال ، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضا اسم الكفيل في قوله تعالى : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً). وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) في سورة الأنعام [١٠٢] ، فقال : وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال. وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها ، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات.

وقوله : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) تعقيب للإخبار عن ثبات إيمانهم وقولهم : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وهو تعقيب لمحذوف يدلّ عليه فعل (فَانْقَلَبُوا) ، لأنّ الانقلاب يقتضي أنّهم خرجوا للقاء العدوّ الذي بلغ عنهم أنّهم جمعوا لهم ولم يعبئوا بتخويف الشيطان ، والتقدير : فخرجوا فانقلبوا بنعمة من الله.

والباء للملابسة أي ملابسين لنعمة وفضل من الله. فالنعمة هي ما أخذوه من الأموال ، والفضل فضل الجهاد. ومعنى لم يمسسهم سوء لم يلاقوا حربا مع المشركين.

وجملة (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) إمّا استئناف بياني إن جعلت قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) بدلا أو صفة كما تقدّم ، وإمّا خبر عن (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إن جعلت قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) مبتدأ ، والتقدير : الذين قال لهم الناس إلى آخره إنّما مقالهم يخوّف الشيطان به. ورابط هذه الجملة بالمبتدإ ، وهو (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) على هذا التقدير ، هو اسم الإشارة ، واسم الإشارة مبتدأ.

٢٨٧

ثم الإشارة بقوله : (ذلِكُمُ) إمّا عائد إلى المقال فلفظ الشيطان على هذا مبتدأ ثان ، ولفظه مستعمل في معناه الحقيقي ، والمعنى : أنّ ذلك المقال ناشئ عن وسوسة الشيطان في نفوس الذين دبّروا مكيدة الإرجاف بتلك المقالة لتخويف المسلمين بواسطة ركب عبد القيس.

وإمّا أن تعود الإشارة الى (النَّاسُ) من قوله : (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) لأن الناس مؤوّل بشخص ، أعني نعيم بن مسعود ، فالشيطان بدل أو بيان من اسم الإشارة وأطلق عليه لفظ شيطان على طريقة التشبيه البليغ.

وقوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) تقديره يخوّفكم أولياءه ، فحذف المفعول الأول لفعل (يخوّف) بقرينة قوله بعده : (فَلا تَخافُوهُمْ) فإنّ خوّف يتعدّى إلى مفعولين إذ هو مضاعف خاف المجرّد ، وخاف يتعدّى الى مفعول واحد فصار بالتضعيف متعدّيا إلى مفعولين من باب كسا كما قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨].

وضمير (فَلا تَخافُوهُمْ) على هذا يعود إلى (أَوْلِياءَهُ) وجملة (وَخافُونِ) معترضة بين جملة (فَلا تَخافُوهُمْ) وجملة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط مؤخّر تقدّم دليل جوابه ، وهو تذكير وإحماء لإيمانهم وإلا فقد علم أنّهم مؤمنون حقّا.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦))

نهي للرسول عن أن يحزن من فعل قوم يحرصون على الكفر أي على أعماله ومعنى (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يتوغّلون فيه ويعجلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص ، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس ، فعبّر عن هذا المعنى بقوله : (يُسارِعُونَ) ، فقيل : ذلك من التضمين ضمّن يسارعون معنى يقعون ، فعدّي بفي ، وهي طريقة «الكشاف» وشروحه ، وعندي أنّ هذا استعارة تمثيلية : شبّه حال حرصهم وجدّهم في تفكير الناس وإدخال الشكّ على المؤمنين وتربّصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع الى تحصيل شيء يخشى أن يفوته وهو متوغّل فيه متلبس به ، فلذلك عدّي بفي الدالة على سرعتهم سرعة طالب التمكين ، لا طالب الحصول ، إذ هو حاصل عندهم ولو عدّي بإلى لفهم منه أنّهم لم يكفروا عند المسارعة. قيل : هؤلاء هم المنافقون ، وقيل :

٢٨٨

قوم أسلموا ثم خافوا من المشركين فارتدّوا.

وجملة (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم الى الكفر بعلّة يوقن بها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وموقع إنّ في مثل هذا المقام إفادة التعليل ، وإنّ تغني غناء فاء التسبّب ، كما تقدّم غير مرّة.

ونفي (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) مراد به نفي أن يعطّلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول إظهار دينه على الدّين كلّه ، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك ، نهي الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة ، وبيّن له أنّهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله ، تذكيرا له بأنه وعده بأنّه متمّ نوره.

ووجه الحاجة الى هذا النهي : هو أنّ نفس الرسول ، وإن بلغت مرتقى الكمال ، لا تعدو أن تعتريها في بعض أوقات الشدّة أحوال النفوس البشرية : من تأثير مظاهر الأسباب ، وتوقّع حصول المسبّبات العادية عندها ، كما وقع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر. وهو في العريش ، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله. وقرأ الجمهور : يحزنك ـ بفتح الياء وضمّ الزاي ـ من حزنه إذا أدخل عليه الحزن ، وقرأه نافع ـ بضم الياء وكسر الزاي ـ من أحزنه.

وجملة (يُرِيدُ اللهُ) استئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة ، بعد أن بيّن السلامة من كيدهم في الدنيا والمعنى : أنّ الله خذلهم وسلبهم التوفيق فكانوا مسارعين في الكفر لأنّه أراد أن لا يكون لهم حظّ في الآخرة. والحظّ : النصيب من شيء نافع.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧))

تكرير لجملة (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) قصد به ، مع التأكيد ، إفادة هذا الخبر استقلالا للاهتمام به بعد أن ذكر على وجه التعليل لتسلية الرسول. وفي اختلاف الصلتين إيماء إلى أنّ مضمون كل صلة منهما هو سبب الخبر الثابت لموصولها ، وتأكيد لقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) المتقدّم ، كقول لبيد :

كدخان نار ساطع أسنامها بعد قوله :

٢٨٩

كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مع زيادة بيان اشتهارهم هم بمضمون الصلة.

والاشتراء مستعار للاستبدال كما تقدّم في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في سورة البقرة [١٦].

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

عطف على قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) [آل عمران : ١٦٩] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين : إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ ، والأخرى تلوح حالة خير ، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين.

ويجوز كونه معطوفا على قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [آل عمران : ١٧٦] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجبا لحزنه ، لأنهم لا يضرّون الله شيئا ، ثم ألقى إليه خبرا لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين : أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاما ، ليكون أخذهم بعد ذلك أشدّ. وقرأه الجمهور (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ بياء الغيبة ـ وفاعل الفعل (الذين كفروا) ، وقرأه حمزة وحده ـ بتاء الخطاب ـ.

فالخطاب إما للرسول ـ عليه‌السلام ـ وهو نهي عن حسبان لم يقع ، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير أنّه حسبان تعجّب ، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيرا لهم ، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره ، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك.

وعلى قراءة ـ الياء التحتية ـ فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم ، ويمرّ عيشهم بهذا الوعيد ، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل والإملاء : الإمهال في الحياة ، والمراد به هنا تأخير حياتهم ، وعدم استئصالهم في الحرب ، حيث فرحوا بالنصر يوم أحد ، وبأنّ قتلى المسلمين يوم أحد كانوا أكثر من قتلاهم.

ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم

٢٩٠

الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر ، يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطّول في المرعى ، وهو مأخوذ من الملو بالواو وهو سير البعير الشديد ، ثم قالوا : أمليت للبعير والفرس إذا وسّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخبب والركض ، فشبّه فعله بشدّة السير ، وقالوا : أمليت لزيد في غيّه أي تركته : على وجه الاستعارة ، وأملى الله لفلان أخّر عقابه ، قال تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف : ١٨٣] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيها للمعقول بالمحسوس فقالوا : ملّأك الله حبيبك تملية ، أي أطال عمرك معه.

وقوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) (أنّ) أخت (إنّ) المكسورة الهمزة ، و (ما) موصولة وليست الزائدة ، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من (إن) أخت (أنّ) و (ما) الزائدة الكافّة ، التي هي حرف حصر بمعنى (ما) و (إلّا) ، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّردا في الرسم القديم ، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين. وأنا أرى أنّه يجوز أن يكون (أنّما) من قوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من (أنّ) و (ما) الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين ، وأنّ المعنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنّه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلّا خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرّا لهم ، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث. فهو قصر حقيقي في ظنّهم.

ولهذا يكون رسمهم كلمة (أنّما) المفتوحة الهمزة في المصحف جاريا على ما يقتضيه اصطلاح الرسم. و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) هو بدل اشتمال من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فيكون سادّا مسدّ المفعولين ، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك ، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال ، ثمّ التفصيل ، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلّق بها الظنّ ، وهي مدلول المفعول الثاني ، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضل تمكّن وزاد تقريرا.

وقوله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء خيرا ، أي ما هو بخير لأنّهم يزدادون في تلك المدّة إثما.

و (إنما) هذه كلمة مركّبة من (إنّ) حرف التوكيد و (ما) الزائدة الكافّة وهي أداة حصر أي : ما نملي لهم إلّا ليزدادوا إثما ، أي فيكون أخذهم به أشدّ فهو قصر قلب.

٢٩١

ومعناه أنّه يملي لهم ويؤخّرهم وهم على كفرهم فيزدادون إثما في تلك المدّة ، فيشتدّ عقابهم على ذلك ، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيرا لهم ، بل هو شرّ لهم.

واللام في (لِيَزْدادُوا إِثْماً) لام العاقبة كما هي في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أي : إنما نملي لهم فيزدادون إثما ، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء ، كان كالعلّة له ، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملى لهم علم أنّهم يزدادون به إثما ، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلّة ، أمّا علّة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله ، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلال وأهله والشياطين والأشياء الضارّة. وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام ، وهي ممّا استأثر الله بعلم الحكمة في شأنه. وتعليل النهي على حسبان الإملاء لهم خيرا لأنفسهم حاصل ، لأنّ مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدّة الإملاء.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

استئناف ابتدائي ، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أحد من الحكم النافعة دنيا وأخرى ، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٦] بيّن هنا أنّ الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم ، فقدّر ذلك زمانا كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيّام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدّة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتّى لا يبدأ الانشقاق من أوّل أيّام الهجرة ، فلمّا استقرّ الإيمان في النفوس ، وقرّ للمؤمنين الخالصين المقام في أمن ، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيّب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لمّا رأوا أمر المؤمنين في إقبال ، ورأوا انتصارهم يوم بدر ، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم ، بأن أصاب المؤمنين يقرح الهزيمة حتّى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين ، وسجّل الله عليهم نفاقهم باديا للعيان كما قال:

جزى الله المصائب كلّ خير

عرفت بها عدوّي من صديقي

وما صدق (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) هو اشتباه المؤمن والمنافق في ظاهر الحال.

٢٩٢

وحرفا (على) الأوّل والثاني ، في قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) للاستعلاء المجازي ، وهو التمكّن من معنى مجرورها ويتبيّن الوصف المبهم في الصلة بما ورد بعد (حتّى) من قوله : (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، فيعلم أنّ ما هم عليه هو عدم التمييز بين الخبيث والطيّب.

ومعنى (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) نفي هذا عن أن يكون مرادا لله نفيا مؤكّدا بلام الجحود ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) [آل عمران : ٧٩] إلخ ...

فقوله : (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق ، فالضمير في قوله : (أَنْتُمْ عَلَيْهِ) مخاطب به المسلمون كلّهم باعتبار من فيهم من المنافقين.

والمراد بالمؤمنين المؤمنون الخلّص من النفاق ، ولذلك عبّر عنهم بالمؤمنين ، وغيّر الأسلوب لأجل ذلك ، فلم يقل : ليذركم على ما أنتم عليه تنبيها على أنّ المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين ، ولذلك لم يقل على ما هم عليه.

وقوله : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) غاية للجحود المستفاد من قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) المفيد أنّ هذا الوذر لا تتعلّق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعا منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيّب ، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطيّب صار هذا الوذر ممكنا ، فقد تتعلّق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله ، ومعناه رجوع إلى حال الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة.

ولحتّى استعمال خاصّ بعد نفي الجحود ، فمعناها تنهية الاستحالة : ذلك أنّ الجحود أخصّ من النفي لأنّ أصل وضع الصيغة الدلالة على أنّ ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية ، فيكون حصوله كالمستحيل ، فإذا غيّاه المتكلّم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود ، وليست غاية للنفي حتّى يكون مفهومها أنّه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفيا ، وهذا كلّه لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة استعمالها في معنى مطلق النفي ، وقد أهمل التنبيه على إشكال الغاية هنا صاحب «الكشاف» ومتابعوه ، وتنبّه لها أبو حيّان ، فاستشكلها حتّى اضطرّ إلى تأوّل النفي بالإثبات ، فجعل التقدير : إنّ الله يخلّص بينكم بالامتحان ، حتّى يميز. وأخذ هذا التأويل من كلام ابن عطية ، ولا حاجة إليه على أنّه يمكن أن يتأوّل تأويلا أحسن ، وهو أن يجعل مفهوم الغاية معطّلا لوجود قرينة على عدم إرادة المفهوم ، ولكن فيما ذكرته وضوح وتوقيف على استعمال عربيّ رشيق.

٢٩٣

و (من) في قوله : (مِنَ الطَّيِّبِ) معناها الفصل أي فصل أحد الضدين من الآخر ، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب «مغني اللبيب» ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) في سورة البقرة [٢٢٠].

وقيل : الخطاب بضمير (ما أَنْتُمْ) للكفار ، أي : لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق.

وقرأ الجمهور : يميز ـ بفتح ياء المضارعة وكسر الميم وياء تحتية بعدها ساكنة ـ من ماز يميز ، وقرأه حمزة ، والكسائي ويعقوب ، وخلف ـ بضمّ ياء المضارعة وفتح الميم وياء بعدها مشدّدة مكسورة ـ من ميّز مضاعف ماز.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) عطف على قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) يعني أنّه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم ، ولم يكن من شأن الله اطلاعكم على الغيب ، فلذلك جعل أسبابا من شأنها أن تستفزّ أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلعوا عليهم ، وإنّما قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) لأنّه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسّسا على استفادة المسبّبات من أسبابها ، والنتائج من مقدّماتها.

وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) يجوز أنّه استدراك على ما أفاده قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتّى لا يجعله المنافقون حجّة على المؤمنين. في نفي الوحي والرسالة ، فيكون المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلّا ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسرّه الله إليه كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] الآية ، فيكون كاستثناء من عموم (لِيُطْلِعَكُمْ). ويجوز أنّه استدراك على ما يفيده (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) من انتفاء اطّلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي : إلّا الغيب الراجع الى إبلاغ الشريعة ، وأمّا ما عداه فلم يضمن الله لرسله اطلاعهم عليه بل قد يطلعهم ، وقد لا يطلعهم ، قال تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال : ٦٠].

وقوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) إن كان خطابا للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاصّ ، وهو التصديق بأنّهم لا ينطقون عن الهوى ، وبأنّ وعد الله لا يخلف ، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان ، لأنّ الحالة المتحدّث عنها قد يتوقع

٢٩٤

منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين ، وموقع (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) ظاهر على الوجهين ، وإن كان قوله : (فَآمِنُوا) خطابا للكفار من المنافقين بناء على أنّ الخطاب في قوله : (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) وقوله : (لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) للكفّار فالأمر بالإيمان ظاهر ، ومناسبة تفريعه عمّا تقدّم انتهاز فرص الدعوة حيثما تأتّت.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

عطف على (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء [٣٧] بقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلا في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّءون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسّرين : إنّ الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلّا منافق. ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أحد. ومعنى حسبانه خيرا أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قبلت منهم.

أمّا شمولها لمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب.

وقرأ الجمهور : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ـ بياء الغيبة ـ ، وقرأه حمزة ـ بتاء الخطاب ـ كما تقدّم في نظيره. وقرأ الجمهور : تحسبنّ ـ بكسر السين ـ ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ـ بفتح السين ـ.

وقوله : (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) قال الزمخشري (هو) ضمير فصل ، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسما وخبرا ، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال : زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلا مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصحّ أن يكون هنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون (هو) ضميرا واقعا موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعلّ الذي

٢٩٥

حسنه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام ، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من (يَبْخَلُونَ) ، مثل (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، ومثل قوله :

إذا نهي السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصارا لدلالة ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حلّ المضاف إليه محلّه ، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيرا وعلى قراءة التحتيّة : ولا يحسبنّ الذين يبخلون بخلهم خيرا.

والبخل ـ بضم الباء وسكون الخاء ـ ويقال : بخل بفتحهما ، وفعله في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع. وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلّا بها. وهو ضدّ الجود ، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلّا مجازا ، وقد ورد في أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البخيل الذي أذكر عنده فلا يصلّي عليّ» ويقولون : بخلت العين بالدموع ، ويرادف البخل الشحّ ، كما يرادف الجود السخاء والسماح. وقوله : (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) تأكيد لنفي كونه خيرا ، كقول امرئ القيس :

«وتعطو برخص غير ششن»

وهذا كثير في كلام العرب ، على أنّ في هذا المقام إفادة نفي توهّم الواسطة بين الخير والشرّ.

وجملة (سَيُطَوَّقُونَ) واقعة موقع العلّة لقوله : (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ).

ويطوّقون يحتمل أنه مشتقّ من الطاقة ، وهي تحمّل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزرا يوم القيامة ، والأظهر أنّه مشتقّ من الطّوق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقا يوم القيامة فيعذّبون بحملها ، وهذا كقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اغتصب شبرا من أرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة». والعرب يقولون في أمثالهم تقلّدها (أي الفعلة الذميمة) طوق الحمامة. وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنّهم يشهّرون بهذه المذمّة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك. وقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تذييل لموعظة الباخلين وغيرهم : بأنّ المال مال الله ، وما من

٢٩٦

بخيل إلّا سيذهب ويترك ماله ، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنهما تبعا لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأنّ المقصود لازم قوله : (خَبِيرٌ).

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢))

استئناف جملة (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) لمناسبة ذكر البخل لأنّهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات ، والذين قالوا ذلك هم اليهود ، كما هو صريح آخر الآية في قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) ، وقائل ذلك : قيل هو حييّ بن أخطب اليهودي ، حبر اليهود ، لمّا سمع قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] فقال حييّ : إنّما يستقرض الفقير الغنيّ ، وقيل : قاله فنحاص بن عازوراء لأبي بكر الصديق بسبب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل أبا بكر إلى يهود قينقاع يدعوهم ، فأتى بيت المدراس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حبرهم ، فدعاه أبو بكر ، فقال فنحاص : ما بنا إلى الله من حاجة ، وإنّه إلينا لفقير ولو كان غنيّا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهمّ بقتله ، فنزلت الآية. وشاع قولهما في اليهود.

وقوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) تهديد ، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة ، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن ، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة ، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر ، ولذلك قال تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ) المستعمل في لازم معناه ، وهو التهديد على كلام فاحش ، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا). والمراد بالكتابة إمّا كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات ، وهذا بعيد ، لأنّ وجود علامة الاستقبال يؤذّن بأنّ الكتابة أمر يحصل فيما بعد. فالظاهر أنّه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة. فعلى الأول يكون وعيدا وعلى الثاني يكون تهديدا.

٢٩٧

وقرأ الجمهور (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ) بنون العظمة من (سنكتب) وبنصب اللام من (قتلهم) على أنّه مفعول (نكتب) و (نقول) بنون. وقرأه حمزة : سيكتب ـ بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية ـ مبنيّا للنائب لأنّ فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى ، وبرفع اللام من (قتلهم) على أنه نائب الفاعل. (ويقول) بياء الغائب ، والضمير عائد الى اسم الجلالة في قوله : (إِنَّ اللهَ).

وعطف قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) زيادة في مذمّتهم بذكر مساوي أسلافهم ، لأنّ الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) بل هم من أسلافهم ، فذكر هنا ليدلّ على أنّ هذه شنشنة قديمة فيهم ، وهي الاجتراء على الله ورسله ، واتّحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذامّ التي تناط بالقبائل. قال الحجّاج في خطبته بعد يوم دير الجماجم يخاطب أهل العراق : ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمرتم الشرّ واستبطنتم الكفر إلى أن قال : ثمّ يوم الزاوية وما يوم الزاوية .. إلخ ، مع أنّ فيهم من مات ومن طرأ بعد.

وقوله : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) عطف أثر الكتب على الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح ، (وَنَقُولُ ذُوقُوا) وهو أمر الله بأن يدخلوا النار.

والذوق حقيقته إدراك الطّعوم ، واستعمل هنا مجازا مرسلا في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق ، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل ، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون «ذوقوا» استعارة.

وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ ، وورد في القرآن كثيرا.

والإشارة في قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) للعذاب المشاهد يومئذ ، وفيه تهويل للعذاب. والباء للسببية على أنّ هذا العذاب لعظم هوله ممّا يتساءل عن سببه. وعطف قوله: (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) على مجرور الباء ، ليكون لهذا العذاب سببان : ما قدّمته أيديهم ، وعدل الله تعالى ، فما قدّمت أيديهم أوجب حصول العذاب ، وعدل الله أوجب كون هذا العذاب في مقداره المشاهد من الشدّة حتّى لا يظنّوا أن في شدّته إفراطا عليهم في التعذيب.

[١٨٣ ، ١٨٤]

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا

٢٩٨

بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

أبدل (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ) من (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) [آل عمران : ١٨١] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم ، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان ، أي حتّى يذبح قربانا فتأكله نار تنزل من السماء ، فتلك علامة القبول ، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه‌السلام حين ذبح أوّل قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقته. كما في سفر اللاويين. إلّا أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة. وفي الحديث : «ما من الأنبياء نبيء إلّا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» فقال الله تعالى لنبيّه : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ).

وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم ، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاءوكم بها وقتلتموهم ، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم ، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء ، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاءوا بالقربان تأكله النار على قولهم ، وقتلهم آخرا يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم ، فلا عجب أن يأتي خلفهم بمثل ما أتى به سلفهم.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة.

وإنّما قال : (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) عدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلا عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى : (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) إلى قوله : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم : ٧٧ ، ٨٠] أي نرث ماله وولده.

ثم سلى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «فإن كذّبوك فقد كذّب رسل من قبلك» والمذكور بعد

٢٩٩

الفاء دليل الجواب لأنّه علّته ، والتقدير : فإن كذّبوك فلا عجب أو فلا تخزن لأنّ هذه سنّة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك ، وليس ذلك لنقص فيما جئت به. والبيّنات : الدلائل على الصدق ، والزبر جمع زبور وهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول ، أي مزبور بمعنى مخطوط. وقد قيل : إنه مأخوذ من زبر إذا زجر أو حبس لأنّ الكتاب يقصد للحكم. وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل ، ممّا يتضمّن مواعظ وتذكيرا مثل كتاب داود والإنجيل.

والمراد بالكتاب المنير : إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل ، وإن كان للعهد فهو التوراة ، ووصفه بالمنير مجاز بمعنى المبيّن للحق كقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] والعطف منظور فيه إلى التوزيع ، فبعض الرسل جاء بالزّبر ، وبعضهم بالكتاب المنير ، وكلّهم جاء بالبيّنات.

وقرأ الجمهور (وَالزُّبُرِ) بعطف الزبر بدون إعادة باء الجرّ.

وقرأه ابن عامر : وبالزبر ـ بإعادة باء الجرّ بعد واو العطف ـ وكذلك هو مرسوم في المصحف الشامي.

وقرأ الجمهور : والكتاب ـ بدون إعادة باء الجرّ ـ وقرأه هشام عن ابن عامر ـ وبالكتاب ـ باعادة باء الجرّ ـ وهذا انفرد به هشام ، وقد قيل : إنّه كتب كذلك في بعض مصاحف الشام العتيقة ، وليست في المصحف الإمام. ويوشك أن تكون هذه الرواية لهشام عن ابن عامر شاذّة في هذه الآية ، وأنّ المصاحف التي كتبت بإثبات الباء في قوله : (وَبِالْكِتابِ) [فاطر : ٢٥] كانت مملاة من حفّاظ هذه الرواية الشاذّة.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام ، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أحد ، وتفنيد المنافقين في مزاعمهم أنّ الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا ، فبعد أنّ بيّن لهم ما يدفع توهّمهم أنّ الانهزام كان خذلانا من الله وتعجّبهم منه كيف يلحق قوما خرجوا لنصر الدين وأن لا سبب للهزيمة بقوله : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) [آل عمران : ١٥٥] ثم بيّن لهم أنّ في تلك الرّزية فوائد بقول الله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) [آل عمران : ١٥٣] وقوله : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٦] ، ثم أمرهم بالتسليم لله في كلّ حال فقال : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ

٣٠٠