تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

ووقعت ما الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسئول عنه هو سبب المحاجة فما صدق (ما) علة من العلل مجهولة أي سبب للمحاجّة مجهول ؛ لأنه ليس من شأنه أن يعلم لأنه لا وجود له ، فلا يعلم ، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه ، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري ، وليس عينيه.

وحذفت ألف ما الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] وقول ابن معد يكرب :

علام تقول الرمح يثقل عاتقي

والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء. إذا جر بواحد من تلك الحروف (ما) هذه يكتبون الألفات على صورة الألف : لأنّ ما صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات.

وقوله : (فِي إِبْراهِيمَ) معناه في شيء من أحواله ، وظاهر أنّ المراد بذلك هنا دينه ، فهذا من تعليق الحكم بالذات ، والمراد حال من أحوال الذات يتعين من المقام كما تقدّم في تفسير قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) في سورة البقرة [١٧٣].

و (ها) من قوله : (ها أَنْتُمْ) تنبيه ، وأصل الكلام أنتم حاججتم ، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والنكير والتنبيه ونحو ذلك ، ولذلك يؤكد غالبا باسم إشارة بعده فيقال ها أنا ذا ، وها أنتم أولاء أو هؤلاء.

و (حاجَجْتُمْ) خبر (أَنْتُمْ) ، ولك أن تجعل جملة حاججتم حالا هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ) : لأنّ الاستفهام فيه إنكاري، فمعناه : فلا تحاجون.

وسيأتي بيان مثله في قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) [آل عمران : ١١٩].

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تكميل للحجة أي إنّ القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم ، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون ، وهذا كقوله في سورة البقرة [١٤٠] : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ).

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ

١٢١

الْمُشْرِكِينَ (٦٧))

نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجّة الماضية أنّ اليهودية والنصرانية غير الحنيفية ، وأنّ موسى وعيسى ، عليهما‌السلام ، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية ، فأنتج أنّ إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية ؛ إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى ، عليهما‌السلام ، فهذا سنده خلوّ كتبهم عن ادّعاء ذلك. وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوّها عن فريضة الحج ، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه ، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦] عن عكرمة قال : «لما نزلت الآية قال أهل الملل : «قد أسلمنا قبلك ، ونحن المسلمون» فقال الله له : فحجهم يا محمد وأنزل الله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] الآية فحجّ المسلمون وقعد الكفار». ثمّ تمم الله ذلك بقوله : وما كان من المشركين ، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.

والحنيف تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في سورة البقرة [١٣٥].

وقوله : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أفاد الاستدراك بعد نفي الضدّ حصرا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام ، ولذلك بيّن حنيفا بقوله : (مُسْلِماً) لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام ، فأعلمهم أنّ الإسلام هو الحنيفية ، وقال : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فنفى عن إبراهيم موافقة اليهودية ،. وموافقة النصرانية ، وموافقة المشركين ، وإنه كان مسلما ، فثبتت موافقته الإسلام ، وقد تقدم ـ في سورة البقرة [١٣٥] في مواضع أنّ إبراهيم سأل أن يكون مسلما ، وأنّ الله أمره أن يكون مسلما ، وأنه كان حنيفا ، وأنّ الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي كان جاء به إبراهيم (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وكلّ ذلك لا يبقي شكا في أنّ الإسلام هو إسلام إبراهيم.

وقد بينت آنفا عند قوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] الأصول الداخلة تحت معنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) فلنفرضها في معنى قول إبراهيم : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] فقد جاء إبراهيم بالتوحيد ، وأعلنه إعلانا لم يترك للشرك مسلكا إلى نفوس الغافلين ، وأقام هيكلا وهو الكعبة ، أول بيت وضع للناس ، ـ وفرض حجّه على الناس : ارتباطا بمغزاه ، وأعلن تمام العبودية لله

١٢٢

تعالى بقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) [الأنعام : ٨٠] وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) [الأنعام : ٨١] وتطلّب الهدى بقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] ـ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا) [البقرة : ١٢٨] وكسر الأصنام بيده (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) [الأنبياء : ٥٨] ، وأظهر الانقطاع لله بقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [الشعراء : ٧٨ ـ ٨١] ، وتصدّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] ـ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ـ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) [الأنعام : ٨٠].

وعطف قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لييأس مشركو العرب من أن يكونوا على ملّة إبراهيم ، وحتى لا يتوهم متوهم أنّ القصر المستفاد من قوله : (ولكن حنيفا مسلما) قصر إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية ، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم لكنهم مشركون.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

استئناف ناشئ عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم ، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به ، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون : نحن أولى بدينكم.

و (أولى) اسم تفضيل أي أشد وليا أي قربا مشتق من ولي إذا صار وليّا ، وعدّي بالباء لتضمّنه معنى الاتصال أي أخصّ الناس بإبراهيم وأقربهم منه. ومن المفسّرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطرّ إلى تقدير مضاف قبل قوله : (بِإِبْراهِيمَ) أي بدين إبراهيم.

والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته : مثل لوط وإسماعيل وإسحاق ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها ، مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمية ابن أبي الصّلت ، وأبيه أبي الصّلت ، وأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجّار ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاد أمية بن أبي الصّلت ، أن يسلم» وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفا ، وفي «صحيح البخاري» : أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل

١٢٣

عن الدين فلقي عالما من اليهود ، فسأله عن دينه فقال له : إنّي أريد أن أكون على دينك ، فقال اليهوديّ : إنّك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : أفرّ إلّا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال : لا أعلمه إلّا أن تكون حنيفا ، قال : وما الحنيف؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلّا الله ، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي ، غير أنّ النصراني قال : أن تأخذ بنصيبك من لعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم ، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء وقال : اللهم أشهد أنّي على دين إبراهيم وهذا أمنية منه لا تصادف الواقع. وفي «صحيح البخاري» ، عن أسماء بنت أبي بكر : قالت : رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول : «يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري» وفيه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي فقدّمت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفرة فأبى زيد بن عمرو أن يأكل منها وقال : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلّا ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهّم منه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل كما تفعل قريش. وإنّ زيدا كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء أنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله.

واسم الإشارة في قوله : (وَهذَا النَّبِيُ) مستعمل مجازا في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث : «فجعل الفراش وهذه الدّوابّ تقع في النار» فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها ، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية ، حينئذ ، ولا قصدت الإشارة إلى ذاته. ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام ، فهو كقول الشاعر : «نجوت وهذا تحملين طليق» أي والمتكلّم الذي تحملينه. والاسم الواقع بعد اسم الإشارة ، بدلا منه ، هو الذي يعين جهة الإشارة ما هي. وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه‌السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنّه موافق لها في أصولها. والمراد بالذين آمنوا المسلمون. فالمقصود معناه اللقبي ، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقبا لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيا أيها الذين آمنوا.

ووجه كون هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم ، مثل الذين اتبعوه ،

١٢٤

إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه ، وعرفوا قدره ، وكانوا له لسان صدق دائبا بذكره ، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون ، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه ، وهم اليهود والنصارى ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سأل عن صوم اليهود ، يوم عاشوراء فقالوا : هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال : «نحن أحقّ بموسى منهم» وصامه وأمر المسلمين بصومه.

وقوله : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم ، والله ولي إبراهيم ، والذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا ؛ لأنّ التذييل يشمل المذيّل قطعا ، ثم يشمل غيره تكميلا كالعام على سبب خاص. وفي قوله : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بعد قوله: (كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) [آل عمران : ٦٧] تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩))

استئناف مناسبته قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ـ إلى قوله ـ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٦٤ ـ ٦٨] إلخ. والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، ولذلك عبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلّا يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة معهم في الآيات السابقة.

والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، دعوا عمّار بن ياسر ، ومعاذ بن جبل ، وحذيفة بن اليمان ، إلى الرجوع إلى الشرك.

وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت ، على طريقة الإجمال والتفصيل. فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازا لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي. وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل ودّت تقديره : لو يضلونكم لحصل مودودهم ، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لو الامتناعية في بعض المقامات. وليس هو معنى أصليا من معاني لو. وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) في سورة البقرة [٩٦].

وقوله : (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب : أي يذبذبوهم ، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس

١٢٥

الأمر ، وإن كان ودّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم. وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أن يكون معناه : إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضا ضالين ؛ لأنّ الإضلال ضلال ، وأن يكون معناه : إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

التفات إلى خطاب اليهود. والاستفهام إنكاري. والآيات : المعجزات ، ولذلك قال وأنتم تشهدون. وإعادة ندائهم بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم. ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة ، حتى ارتفعت الثقة بجميعه. وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوّضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم ، وهم يعلمونها ولا يعملون بها.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ).

عطف على (وَدَّتْ طائِفَةٌ) [آل عمران : ٦٩]. فالطائفة الأولى حاولت الإضلال بالمجاهرة ، وهذه الطائفة حاولته بالمخادعة : قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وغيرهما من يهود خيبر ، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى ، فقالوا لطائفة من أتباعهم : «آمنوا بمحمد أول النهار مظهرين أنكم صدّقتموه ثم اكفروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون ما صرف هؤلاء عنا إلّا ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا الدين ، وأنّه ليس هو الدين المبشر به في الكتب السالفة» ففعلوا ذلك.

١٢٦

وقوله : (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويها بصدق إيمانهم. ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علما بالغلبة عليهم. ووجه النهار أوله وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [آل عمران : ٤٥].

وقوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار أنه إيمان حقّ ، فالمعنى ولا تؤمنوا إيمانا حقا إلّا لمن تبع دينكم ، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم يتبع دينكم فهذا تعليل للنهي.

وهذا اعتذار عن إلزامهم بأنّ كتبهم بشرت بمجيء رسول مقفّ فتوهموا أنه لا يجيء إلّا بشريعة التوراة ، وضلوا عن عدم الفائدة في مجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل ، فينزّه فعل الله عنه ، فالرسول الذي يجيء بعد موسى لا يكون إلّا ناسخا لبعض شريعة التوراة فجمعهم بين مقالة : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وبين مقالة : (وَلا تُؤْمِنُوا) مثل (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧].

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) كلام معترض ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم. كناية عن استبعاد حصول اهتدائهم ، وأنّ الله لم يهدهم ، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب ، إذا لم يقدّره الله. فالقصر حقيقي : لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهدى وهو مقابل قولهم : آمنوا بالذي أنزل ـ ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم ، إذ أرادوا صورة الإيمان ، وما هو بإيمان ، وفي هذا الجواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم.

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ).

أشكل موقع هذه الآية بعد سابقتها وصف نظمها ، ومصرف معناها : إلى أي فريق.

وقال القرطبي : إنها أشكل آية في هذه السورة. وذكر ابن عطية وجوها ثمانية. ترجع إلى احتمالين أصليين.

الاحتمال الأول أنها تكلمة لمحاورة الطائفة من أهل الكتاب بعضهم بعضا ، وأن جملة (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) معترضة في أثناء ذلك الحوار ، وعلى هذا الاحتمال تأتي

١٢٧

وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين :

أحدهما : أنهم أرادوا تعليل قولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة ، واستحالة بعثة رسول بعد موسى ، وأنه يقدّر لام تعليل محذوف قبل (أن) المصدرية وهو حذف شائع مثله. ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد (أن) يدل عليه هذا السياق ويقتضيه لفظ (أحد) المراد منه شمول كلّ أحد : لأنّ ذلك اللفظ لا يستعمل مرادا منه الشمول إلّا في سياق النفي ، وما في معنيّ النفي مثل استفهام الإنكار ، فأما إذا استعمل (أحد) في الكلام الموجب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحدة ، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية.

فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وحذف حرف النفي بعد لام التعليل ، ظاهرة ومقدّرة ، كثير في الكلام ، ومنه قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، أي لئلّا تضلوا.

والمعنى : أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيت أنفسهم على ملازمة دين اليهودية ، لأن اليهود لا يجوّزون نسخ أحكام الله ، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البداء.

الوجه الثاني : أنهم أرادوا إنكار أن يؤتى أحد النبوءة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاما إنكاريا حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق ؛ ويؤيده قراءة ابن كثير قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) بهمزتين.

وأما قوله : أو يحاجوكم عند ربكم فحرف (أو) فيه للتقسيم مثل (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] (أو) معطوف على النفي ، أو على الاستفهام الإنكاري : على اختلاف التقديرين ، والمعنى : ولا يحاجوكم عند ربكم ـ أو ـ وكيف يحاجونكم عند ربكم ، أي لا حجة لهم عليكم عند الله.

وواو الجمع في (يُحاجُّوكُمْ) ضمير عائد إلى (أحد) لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار.

وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأنّ الله حرمهم التوفيق.

الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله لهم بقية لقوله : «إنّ الهدى هدى الله».

١٢٨

والكلام على هذا ردّ على قولهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ ـ وقولهم ـ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على طريقة اللفّ والنشر المعكوس ، فقوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) إبطال لقولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي قلتم ذلك حسدا من أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) ردّ لقولهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) على طريقة التهكم ، أي مرادكم التنصّل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة ، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون ، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون ، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية ، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عائد إلى الذين آمنوا. وهذا الاحتمال أنسب نظما بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) ، ليكون لكلّ كلام حكي عنهم تلقين جواب عنه:فجواب قولهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ). وجواب قولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا) إلخ قوله : قل إنّ الفضل بيد الله إلخ. فهذا ملاك الوجوه ، ولا نطيل باستيعابها إذ ليس من غرضنا في هذا التفسير.

وكلمة (أَحَدٌ) اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلّا في حيّز النفي فيفيد العموم مثل عريب وديّار ونحوهما وندر وقوعه في حيّز الإيجاب ، وهمزته مبدلة من الواو وأصله وحد بمعنى واحد ويرد وصفا بمعنى واحد.

وقرأ الجمهور (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) بهمزة واحدة هي جزء من حرف (أن). وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف (أن) وسهل الهمزة الثانية.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)).

زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا من الله ، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمدا ، وهذا كقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [النساء : ٥٤].

وتأكيد الكلام ب (إنّ) لتنزيلهم منزلة من ينكر أنّ الفضل بيد الله ومن يحسب أنّ

١٢٩

الفضل تبع لشهواتهم وجملة (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) عطف على جملة أنّ الفضل بيد الله إلخ أي أنّ الفضل بيد الله وهو لا يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله.

و (واسِعٌ) اسم فاعل الموصوف بالسعة.

وحقيقة السعة امتداد فضاء الحيّز من مكان أو ظرف امتدادا يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحويّ ، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع ، ويطلق الاتساع وما يشتقّ منه على وفاء شيء بالعمل الذي يعمله نوعه دون مشقة يقال : فلان واسع البال ، وواسع الصدر ، وواسع العطاء. وواسع الخلق ، فتدلّ على شدّة أو كثرة ما يسند إليه أو يوصف به أو يعلق به من أشياء ومعان ، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانيا.

و (واسِعٌ) من صفات الله وأسمائه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى ، ومعنى هذا الاسم عدم تناهي التعلقات لصفاته ذات التعلق فهو واسع العلم ، واسع الرحمة ، واسع العطاء ، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها ، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع ، لأنه الواسع المطلق.

وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضا لأنّ الواسع صفاته ولذلك يؤتى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو : وسع كل شيء علما ، ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. فوصفه في هذه الآية بأنه واسع هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلا لقوله : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن.

وقوله : (عَلِيمٌ) صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلّقات صفة علمه تعالى.

ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضله ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه ، قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

وجملة (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) بدل بعض من كل لجملة (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فإنّ رحمته بعض مما هو فضله.

وجملة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل وتقدم تفسير نظيره عند قوله تعالى : (وَاللهُ

١٣٠

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) في سورة البقرة [١٠٥].

[٧٥ ، ٧٦] (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦))

عطف على قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧٢] أو على قوله : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) [آل عمران : ٦٩] عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادّعائهم أنهم أولى الناس به ، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم.

وقد ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين : فريقا يؤدّي الأمانة تعففا عن الخيانة وفريقا لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم ، قيل : ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام ، ومن الفريق الثاني فنحاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخون قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فلذلك كان المقصود هو قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) إلخ ولذلك طوّل الكلام فيه.

وإنما قدّم عليه قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) إنصافا لحقّ هذا الفريق ، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام ، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم ، فقد صار النعي عليهم ، والتعبير بهذا القول لازما لجميعهم أمينهم وخائنهم ، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلّا في أنّه ترك حقا يبيح له دينه أخذه ، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.

وتقديم المسند في قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما : ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة ، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه ، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخون خلقا لمتبع كتاب من كتب الله ، ثم يزيد التعجيب عند قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) فيكسب المسند إليهما زيادة عجب حال.

١٣١

وعدّي (تَأْمَنْهُ) بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) [يوسف : ٦٤] ، لتضمينه معنى تعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة ، والأمانة بالمعاملة على الاستيمان ، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباس بن مرداس :

أربّ يبول الثعلبان برأسه

وهو محمل بعيد ، لأنّ الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى : (بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح: ٢٤].

وقرأ الجمهور (يُؤَدِّهِ) إليك بكسر الهاء من يؤدّه على الأصل في الضمائر.

وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر : بإسكان هاء الضمير في يؤدّه ، فقال الزجاج : هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيّن لأنّ الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل (هكذا نقله ابن عطية ومعناه أنّ جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء). وقيل هو إجراء للوصل مجرى الوقف وهو قليل ، قال الزجاج : وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه المشهور من الاستعمال المقيس ، واللغة أوسع من ذلك ، والقراءة حجة. وقرأه هشام عن ابن عامر ، ويعقوب باختلاس الكسر.

وحكى القرطبي عن الفرّاء : أنّ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله الرفع وهذا كما قال الراجز :

لما رأى ألّا دعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فاضطجع

والقنطار تقدم آنفا في قوله تعالى : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) [آل عمران : ١٤].

والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرّب دنّار من الرومية.

وقد جعل القنطار والدينار مثلين للكثرة والقلة ، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار ، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.

وقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة : كقوله :

١٣٢

(قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] أي لا يفعل إلّا العدل.

وعديّ «قائما» بحرف (على) لأنّ القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة.

و (ما) من قوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر ، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزم حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية. وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف ، ولكنها مستفادة من موقع (ما) في سياق كلام يؤذن بالزمان ، ويكثر ذلك في دخول (ما) على الفعل المتصرّف من مادة دام ومرادفها.

و (ما) في هذه الآية كذلك فالمعنى : لا يؤدّه إليك إلّا في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه. والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة ، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء ، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعد الموت.

والاستثناء من قوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) يجوز أن يكون استثناء مفرّغا من أوقات يدل عليها موقع (ما) والتقدير لا يؤدّه إليك في جميع الأزمان إلّا زمانا تدوم عليه فيه قائما فيكون ما بعد (إلّا) نصبا على الظرف ، ويجوز أن يكون مفرّغا من مصادر يدل عليها معنى (ما) المصدرية ، فيكون ما بعده منصوبا على الحال لأنّ المصدر يقع حالا.

وقدّم المجرور على متعلقه في قوله : (عَلَيْهِ قائِماً) للاهتمام بمعنى المجرور ، ففي تقديمه معنى الإلحاح ، أي إذا لم يكن قيامك عليه لا يرجع لك أمانتك.

والإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) إلى الحكم المذكور وهو (إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب.

والباء للسبب أي ذلك مسبب عن أقوال اختلقوها ، وعبّر عن ذلك بالقول ، لأنّ القول يصدر عن الاعتقاد ، فلذا ناب منابه فأطلق على الظنّ في مواضع من كلام العرب.

وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم ، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة.

وحرف (في) هنا للتعليل. وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات ، تعيّن تقدير مضاف

١٣٣

مجرور بحرف (في) والتقدير في معاملة الأمّيّين.

ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم ، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سبق له الكلام.

فالسبيل هنا طريق المؤاخذة ، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازا مشهورا على المؤاخذة قال تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١] وقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) [التوبة : ٩٣] وربما عبّر عنه العرب بالطريق قال حميد بن ثور :

وهل أنا إن علّلت نفسي بسرحة

من السرح موجود عليّ طريق

وقصدهم بذلك أن يحقروا المسلمين ، ويتطاولوا بما أوتوه من معرفة القراءة والكتابة من قبلهم. أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة ، أي الجاهلين : كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دين موسى عليه‌السلام.

وأيّاما كان فقد أنبأ هذا عن خلق عجيب فيهم ، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين ، واستباحة ظلمهم مع اعتقادهم أنّ الجاهل أو الأمّي جدير بأن يدحض حقه. والظاهر أنّ الذي جرّأهم على هذا سوء فهمهم في التوراة ، فإنّ التوراة ذكرت أحكاما فرّقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق ، غير أنّ ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة ، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر : «في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كل صاحب دين يده ممّا أقرض صاحبه. الأجنبيّ تطالب ، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئة» وجاء في «الإصحاح» ٢٣ منه : «لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تقرض بربا» ولكن شتان بين الحقوق وبين المؤاساة فإنّ تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة ، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملّة الواحدة. وعن ابن الكلبي قالت اليهود : الأموال كلّها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وإنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم. وهذا الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين ، فاستحلّ بعضهم حقوق أهل الذمة ، وتأوّلوها بأنهم صاروا أهل حرب ، في حين لا حرب ولا ضرب.

وقد كذّبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قال المفسرون : إنهم ادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وروى عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ـ إلى قوله ـ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال

١٣٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا وهو تحت قدميّ هاتين إلّا الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر.

وقوله وهم يعلمون حال أي يعتمدون الكذب : إما لأنهم علموا أنّ ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه بصحيح ، وإما لأنّ التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب ، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد.

و (بلى) حرف جواب وهو مختص بإبطال النفي فهو هنا لإبطال قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥].

و (بلى) غير مختصّة بجواب الاستفهام المنفي بل يجاب بها عند قصد الإبطال ، وأكثر مواقعها في جواب الاستفهام المنفي ، وجيء في الجواب بحكم عام ليشمل المقصود وغيره : توفيرا للمعنى ، وقصدا في اللفظ ، فقال : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) أي لم يخن ، لأنّ الأمانة عهد ، (وَاتَّقى)» ربه فلم يدحض حق غيره (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ١٣] أي الموصوفين بالتقوى ، والمقصود نفي محبة الله عن ضدّ المذكور بقرينة المقام.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ في خيانة الأمانة إبطالا للعهد ، وللحلف الذي بينهم ، وبين المسلمين ، وقريش. والكلام استئناف قصد منه ذكر الخلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود ، دعا إليه قوله ودّت طائفة من أهل الكتاب وما بعده.

وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرّقة في سورة البقرة [٤٠] : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) ، (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١]. (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة : ١٠٢]. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) [البقرة : ١٧٤]. فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا. وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق ، في مواضع ، لأنّ موسى عاهدهم على العمل به ، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار.

ومعنى (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) غضبه عليهم إذ قد شاع نفي

١٣٥

الكلام في الكناية عن الغضب ، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية ، ونفي النظر في الغضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص. وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.

وقوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم ، لأنّ من بلغ من رقّة الديانة إلى حدّ أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا ، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله ، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات.

وفي مجيء هذا الوعيد ، عقب الصلة ، وهي يشترون بعهد الله الآية ، إيذان بأنّ من شابههم في هذه الصفات فهو لاحق بهم ، حتى ظنّ بعض السلف أنّ هذه الآية نزلت فيمن حلف يمينا باطلة ، وكلّ يظنّ أنها نزلت فيما يعرفه من قصة يمين فاجرة ، ففي «البخاري» ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ) الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال : «ما يحدثكم أبو عبد الرحمن» قلنا : كذا وكذا. قال : «فيّ أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي» فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينتك أو يمينه ـ قلت : إذن يحلف ـ فقال رسول الله : من حلف على يمين صبر الحديث.

وفي «البخاري» ، عن عبد الله بن أبي أوفى : أنّ رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية.

وفيه عن ابن عباس أنه قرأ هاته الآية في قصّة وجبت فيها يمين لردّ دعوى :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة ، وليست كذلك ، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة ، كقولهم : ليس علينا في الأميين سبيل ، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن ، أو لإدخال

١٣٦

الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن ، فاللّيّ مجمل ، ولكنه مبين بقوله : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) وقوله : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

واللّيّ في الأصل : الإراغة أي إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوب الذي هو ممتدّ إليه : فمن ذلك ليّ الحبل ، وليّ العنان للفرس لإدارته إلى جهة غير صوب سيره ، ومنه ليّ العنق ، وليّ الرأس بمعنى الالتفات الشزر والإعراض قال تعالى : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) [المنافقون : ٥].

واللّي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في أذن السامع جرس كلمة أخرى ، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم «راعنا» وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي : «السام عليكم» أي الموت أو «السّلام ـ بكسر السين ـ عليك» وهذا اللّي يشابه الإشمام والاختلاس ومنه إمالة الألف إلى الياء ، وقد تتغير الكلمات بالترقيق والتفخيم وباختلاف صفات الحروف. والظاهر أنّ الكتاب هو التوراة فلعلهم كانوا إذا قرءوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بين بين ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد ، وقد كانت لهم مقدرة ومراس في هذا.

وقريب من هذا ما ذكره المبرّد في الكامل أنّ بعض الأزارقة أعاد بيت عمر ابن أبي ربيعة في مجلس ابن عباس.

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأما بالعشي فيخصر

فجعل يضحى يحزى وجعل يخصر يخسر بالسين ليشوّه المعنى لأنه غضب من إقبال ابن عباس على سماع شعره. وفي الأحاجي والألغاز كثير من هذا كقولهم : إنّ للّاهي إلها فوقه فيقولها أحد بحضرة ناس ولا يشبع كسرة اللّاهي يخالها السامع لله فيظنه كفر. أو لعلهم كانوا يقرءون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرءون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرءون التوراة.

ويحتمل أن يكون اللّي هنا مجازا عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم لوى الحجة أي ألقي بها على غير وجهها ، وهو تحريف الكلم عن مواضعه : بالتأويلات الباطلة ، والأقيسة الفاسدة ، والموضوعات الكاذبة ، وينسبون ذلك إلى الله ، وأياما كان فهذا اللّيّ يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض ، حكما فعل ابن صوريا في إخفاء

١٣٧

حكم رجم الزاني في التوراة وقوله : نحمم وجهه.

والمخاطب بتحسبوه المسلمون دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو هو والمسلمون في ظنّ اليهود.

وجيء بالمضارع في هاته الأفعال : يلوون ، ويقولون ، للدلالة على تجدّد ذلك وأنه دأبهم.

وتكرير الكتاب في الآية مرتين ، واسم الجلالة أيضا مرتين ، لقصد الاهتمام بالاسمين ، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما ، والمتعلقين به ، قال المرزوقي في شرح الحماسة في باب الأدب عند قول يحيى بن زياد :

لما رأيت الشيب لاح بياضه

بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا

كان الواجب أن يقول : «قلت له مرحبا لكنهم يكرّرون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم» قلت ومنه قول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

قهر الموت ذا الغنى والفقيرا

وقد تقدم تفصيل ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة [٢٨٢] : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

والقراءة المعروفة يلوون : بفتح التحتية وسكون اللام وتخفيف الواو مضارع لوى ، وذكر ابن عطيّة أنّ أبا جعفر قرأه : يلوون بضم ففتح فواو مشدّدة مضارع لوّى بوزن فعل للمبالغة ولم أر نسبة هذه القراءة إلى أبي جعفر في كتب القراءات.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

اعتراض واستطراد : فإنه لما ذكر ليّ اليهود ألسنتهم بالتوراة ، وهو ضرب من التحريف ، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ تقوّل النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه‌السلام ، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك ، ردّا على النصارى ، فيكون رجوعا إلى الغرض الذي في قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ـ إلى قوله ـ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤].

١٣٨

وفي «الكشاف» قيل نزلت لأنّ رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك. قال : «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيئكم واعرفوا الحق لأهله». قلت : أخرجه عبد بن حميد عن الحسن ، فعلى تقدير كونه حديثا مقبولا فمناسبة ذكر هذه الآية أنها قص منها الردّ على جميع هذه المعتقدات. ووقع في أسباب النزول للواحدي من رواية الكلبي ، عن ابن عباس : أنّ أبا رافع اليهودي والسيد من نصارى نجران قالا يا محمد : «أتريد أن نعبدك» فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «معاذ الله أن يعبد غير الله» ونزلت هذه الآية.

وقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق.

وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فلان فاعلا كذا ، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس ، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لحمل اسم ذات على اسم ذات إلّا بواسطة بعض الحروف ، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل ، ويقال أيضا : ليس له أن يفعل ، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) [طه : ١١٨].

فمعنى الآية : ليس قول (كُونُوا عِباداً لِي) حقا لبشر أيّ بشر كان. وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [الأنفال : ٣٣] ، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي ، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولا لأجل فعل كذا ، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحودا.

والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة ، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله : (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) أي ما كان له أن يقول كونوا عبادا لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ.

والعباد جمع عبد كالعبيد ، وقال ابن عطية : «الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير ، والعبيد يقصد منه ، ولذلك قال تعالى : «يا عبادي» وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحيرة ودخلوا تحت حكم كسرى بالعباد ، وقيل لأنهم تنصّروا فسموهم بالعباد ، بخلاف جمعه على عبيد كقولهم : هم عبيد العصا ، وقال حمزة بن المطلب هل أنتم إلّا عبيد لأبي ومنه قول الله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ؛ لأنّه مكان تشفيق وإعلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلّام لهم مع ذلك ، ولما

١٣٩

كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية». اه.

وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عبادا للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّا لهم ، وجعلوه ابنا لله ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيد عيسى ، فلذلك جعلت مقالتهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادا له دون الله ، والمعنى أنّ الآمر بأن يكون الناس عبادا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله. (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ ، وهو الله تعالى ، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.

ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره.

والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللّحياني لعظيم اللحية ، والشّعراني لكثير الشعر.

وقوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة ، فإنّ فائدة العلم العمل.

وقرأ الجمهور : بما كنتم تعلمون ـ بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام ـ مضارع علم. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : بضم ففتح فلام مشدّدة مكسورة مضارع علّم المضاعف.

و (تَدْرُسُونَ) معناه تقرءون أي قراءة بإعادة وتكرير : لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يعمل في أمثاله ، فمنه قولهم : درست الريح رسم الدار إذا عفته وأبلته ، فهو دارس ، يقال منزل دارس ، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين. وثوب دارس خلق ، وقالوا : درس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه ، أو للتدبّر ، وفي الحديث : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة إلخ» رواه الترمذي فعطف التدارس على القراءة فعلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة. وسموا بيت قراءة اليهود مدراسا كما في الحديث : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج

١٤٠