تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

دلالته على المضي.

ومعنى (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فعبّر بالبغضاء عن دلائلها.

وجملة (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) حالية.

(والآيات) في قوله : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر ، والاستدلال ، وتعرّف المسبّبات من أسبابها في سائر أحوالها : في التّشريع ، والمعاملة لينشئها أمّة علم وفطنة.

ولكون هذه الآيات آيات فراسة وتوسّم ، قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ولم يقل : إن كنتم تعلمون أو تفقهون ، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه.

وجملة (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) مستأنفة.

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩))

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ).

استئناف ابتدائي ، قصد منه المقابلة بين خلق الفريقين ، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب ، وأهل الكتاب يبغضونهم ، وكلّ إناء بما فيه يرشح ، والشأن أنّ المحبّة تجلب المحبّة إلّا إذا اختلفت المقاصد والأخلاق.

وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل ها أنا تقدم في قوله تعالى ـ في سورة البقرة [٨٥] ـ : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ). ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) فالعجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين ، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلّا والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة.

وجملة (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) جملة حال من الضمير المرفوع في قوله : (تُحِبُّونَهُمْ) لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين.

٢٠١

وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط ، ولكنّه مجرد إيقاظ ، ولذلك عقّبه بقوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) فإنّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين ، لأنّ المؤمنين لمّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه ، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ. وهذان النظران ، منّا ومنهم ، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم ، وتصلّب أهل الكتابين مع ضعفهم.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ).

جملة (وَتُؤْمِنُونَ) معطوفة على (تُحِبُّونَهُمْ) كما أن جملة (وَإِذا لَقُوكُمْ) معطوفة على (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة.

والتعريف في (بِالْكِتابِ) للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاة للفظه ، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيت القينقاعي.

والعضّ : شدّ الشيء بالأسنان. وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر. وإن لم يكن عضّ أنامل محسوسا ، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف ، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال ، فقد تكون معينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه ، وفي ضدّه تقبيل من يحبّه ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله ، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب ، وضرب الرجل نفسه من الغضب ، وعضّه أصابعه من الغيظ ، وقرعه سنّه من النّدم ، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر ، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها ، وهي ضروب من علامات الجزع ، وبعضها جبلّي كالصياح ، وبعضها عادي يتعارفه النّاس ويكثر بينهم ، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل ، وقال الحارث بن ظالم المري :

فأقبل أقوام لئام أذلّة

يعضّون من غيظ رءوس الأباهم

وقوله : (عَلَيْكُمُ) على فيه للتّعليل ، والضّمير المجرور ضمير المسلمين ، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة ، أي على التئامكم وزوال البغضاء ، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) [آل عمران : ١٠٠] ، ونظير هذا التعليق قول الشاعر :

٢٠٢

لتقرعنّ على السنّ من ندم

إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي

و (مِنَ الْغَيْظِ) (من) للتعليل. والغيظ : غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام.

وقوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) كلام لم يقصد به مخاطبون معيّنون لأنّه دعاء على الّذين يعضّون الأنامل من الغيظ ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا ، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التّعيين ولكنّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الّذي يقصد به عموم كل مخاطب نحو : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢].

والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحه طلب موتهم بسبب غيظهم ، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت ، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم ، وهو حسن حال المسلمين ، وانتظام أمرهم ، وازدياد خيرهم ، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم ، وبتعجيل موتهم به ، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا ، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور ، والعرب تقول : فلان محسّد ، أي هو في حالة نعمة وكمال.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

تذييل لقوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) وما بينها كالاعتراض أي أنّ الله مطّلع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها).

زاد الله كشفا لما في صدورهم بقوله : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) أي تصبكم حسنة والمسّ الإصابة ، ولا يختصّ أحدهما بالخير والآخر بالشرّ ، فالتّعبير بأحدهما في جانب الحسنة ، وبالآخر في جانب السيّئة ، تفنّن ، وتقدّم عند قوله تعالى : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) في سورة البقرة [٢٧٥].

والحسنة والسيّئة هنا الحادثة أو الحالة الّتي تحسن عند صاحبها أو تسوء وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشّرعي.

٢٠٣

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ : بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر ، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم ، وقوله (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلّا أذى ، فالأذى ضرّ خفيف ، فلمّا انتفى الضرّ الأعظم الّذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق ، كان انتفاء ما بقي من الضرّ هيّنا ، وذلك بالصّبر على الأذى ، وقلّة الاكتراث به ، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّا عظيما. وفي الحديث : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يدعون له ندّا وهو يرزقهم».

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : (لا يَضُرُّكُمْ ـ بكسر الضاد وسكون الراء ـ من ضاره يضيره بمعنى أضرّه. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف ـ بضم الضاد وضم الراء مشدّدة ـ من ضرّه يضرّه ، والضمّة ضمّة اتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلّص من التقاء الساكنين : سكون الجزم وسكون الإدغام ، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثة وجوه في العربية : الضمّ لاتباع حركة العين ، والفتح لخفّته ، والكسر لأنّه الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين ، ولم يقرأ إلّا بالضمّ في المتواتر.

[١٢١ ، ١٢٢] (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))

وجود حرف العطف في قوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ) مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) [آل عمران : ١١٨] ومثل (يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠] وعليه فهو آت كما أتت نظائره في أوائل الآي والقصص القرآنية ، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير : واذكر إذ غدوت. ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممّا بعده لأنّ قوله : (تُبَوِّئُ) لا يستقيم أن يكون مبدأ الغرض ، وقوله : (هَمَّتْ) لا يصلح لتعليق (إِذْ غَدَوْتَ) لأنّه مدخول (إذ) أخرى.

ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين ، المنافقين ، ولمّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحدا ، ودخيلتهما

٢٠٤

سواء ، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود ، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحد ، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحد كما تقدّم. فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكّة ومن معهم من أحلافهم سفح جبل أحد ، حول المدينة ، لأخذ الثّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة ، فاستشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين ، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأي المشيرين بالخروج ، ولبس لأمته ، ثمّ عرض للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتّى يحكم الله بينه وبين عدوّه». وخرج بالمسلمين إلى جبل أحد وكان الجبل وراءهم ، وصفّهم للحرب ، وانكشفت الحرب عن هزيمة خفيفة لحقت المسلمين بسبب مكيدة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين ، إذا انخزل هو وثلث الجيش ، وكان عدد جيش المسلمين سبعمائة ، وعدد جيش أهل مكّة ثلاثة آلاف ، وهمّت بنو سلمة وبنو حارثة من المسلمين بالانخذال ، ثمّ عصمهم الله ، فذلك قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي ناصرهما على ذلك الهمّ الشيطاني ، الّذي لو صار عزما لكان سبب شقائهما ، فلعناية الله بهما برّأهما الله من فعل ما همّتا به ، وفي «البخاري» عن جابر بن عبد الله قال : «نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وفينا نزلت (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وما يسرّني أنّها لم تنزل والله يقول : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) وانكشفت الواقعة عن مرجوحية المسلمين إذ قتل منهم سبعون ، وقتل من المشركين نيف وعشرون وقال أبو سفيان يومئذ : «اعل هبل يوم بيوم بدر والحرب سجال» وقتل حمزة ـ رضي‌الله‌عنه ـ ومثّلت به هند بنت عتبة بن ربيعة ، زوج أبي سفيان ، إذ بقرت عن بطنه وقطعت قطعة من كبده لتأكلها لإحنة كانت في قلبها عليه إذ قتل أباها عتبة يوم بدر ، ثمّ أسلمت بعد وحسن إسلامها. وشجّ وجه النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ وكسرت رباعيته. والغدوّ : الخروج في وقت الغداة.

و (من) في قوله : (مِنْ أَهْلِكَ) ابتدائية.

والأهل : الزوج. والكلام بتقدير مضاف يدلّ عليه فعل (غَدَوْتَ) أي من بيت أهلك وهو بيت عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ.

و (تُبَوِّئُ) تجعل مباء أي مكان بوء.

٢٠٥

والبوء : الرجوع ، وهو هنا المقرّ لأنّه يبوء إليه صاحبه. وانتصب (الْمُؤْمِنِينَ) على أنّه مفعول أوّل ل (تبوئ) ، ومقاعد مفعول ثان إجراء لفعل تبوّئ مجرى تعطي. والمقاعد جمع مقعد. وهو مكان القعود أي الجلوس على الأرض ، والقعود ضدّ الوقوف والقيام ، وإضافة مقاعد لاسم (لِلْقِتالِ) قرينة على أنّه أطلق على المواضع اللّائقة بالقتال الّتي يثبت فيها الجيش ولا ينتقل عنها لأنّها لائقة بحركاته ، فأطلق المقاعد هنا على مواضع القرار كناية ، أو مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق ، وشاع ذلك في الكلام حتّى ساوى المقرّ والمكان ، ومنه قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر : ٥٥].

واعلم أنّ كلمة مقاعد جرى فيها على الشريف الرضي نقد إذ قال في رثاء أبي إسحاق الصابئ :

أعزز عليّ بأن أراك وقد خلا

عن جانبيك مقاعد العوّاد

ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن ابن سنان قال : إيراده هذه اللّفظة في هذا الموضع صحيح إلّا أنّه موافق لما يكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من تحتمل إضافته إليه وهم العوّاد ، ولو انفرد لكان الأمر سهلا. قال ابن الأثير : قد جاءت هذه اللّفظة في القرآن فجاءت مرضية وهي قوله تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) ألا ترى أنّها في هذه الآية غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه.

[١٢٣ ، ١٢٥] (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥))

إذ قد كانت وقعة أحد لم تنكشف عن نصر المسلمين ، عقّب الله ذكرها بأن ذكّرهم الله تعالى نصره إيّاهم النصر الّذي قدّره لهم يوم بدر ، وهو نصر عظيم إذ كان نصر فئة قليلة على جيش كثير ، ذي عدد وافرة ، وكان قتلى المشركين يومئذ سادة قريش ، وأئمّة الشرك ، وحسبك بأبي جهل بن هشام ، ولذلك قال تعالى : (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي ضعفاء. والذلّ ضد العزّ فهو الوهن والضعف. وهذا تعريض بأنّ انهزام يوم أحد لا يفلّ حدّة المسلمين لأنّهم صاروا أعزّة. والحرب سجال.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اعتراض بين جملة (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ)

٢٠٦

ومتعلّق فعلها أعني (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ). والفاء للتفريع والفاء تقع في الجملة المعترضة على الأصحّ ، خلافا لمن منع ذلك من النحويين .. فإنّه لمّا ذكّرهم بتلك المنّة العظيمة ذكّرهم بأنّها سبب للشكر فأمرهم بالشكر بملازمة التّقوى تأدّبا بنسبة قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧٠].

ومن الشكر على ذلك النّصر أن يثبتوا في قتال العدو ، وامتثال أمر النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن لا تفلّ حدّتهم هزيمة يوم أحد.

وظرف (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) زماني وهو متعلّق «بنصركم» لأنّ الوعد بنصرة الملائكة والمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد. هذا قول جمهور المفسّرين.

وخصّ هذا الوقت بالذكر لأنّه كان وقت ظهور هذه المعجزة ، وهذه النّعمة ، فكان جديرا بالتذكير والامتنان.

والمعنى : إذ تعد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة ، فما كان قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم تلك المقالة إلّا بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله.

والاستفهام في قوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) تقريري ، والتقريري يكثر أن يورد على النّفي ، كما قدّمنا بيانه عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٤٣].

وإنّما جيء في النّفي بحرف لن الّذي يفيد تأكيد النّفي للإشعار بأنّهم كانوا يوم بدر لقلّتهم ، وضعفهم ، مع كثرة عدوّهم ، وشوكته ، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة ، فأوقع الاستفهام التّقريري على ذلك ليكون تلقينا لمن يخالج نفسه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة ، بأن يصرّح بما في نفسه ، والمقصود من ذلك لازمه ، وهذا إثبات أنّ ذلك العدد كاف.

ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قبل السائل بقوله : (بَلى) لأنّه ممّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) في سورة الأنعام [١٩] ، فكان (بلى) إبطالا للنفي ، وإثباتا لكون ذلك العدد كافيا ، وهو من تمام مقالة النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين.

وقد جاء ـ في سورة الأنفال [٩] ـ عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ

٢٠٧

الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله : (مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩] أي مردفين بعدد آخر ، ودلّ كلامه هنا على أنّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين» أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتّقوا. وبهذا الوجه فسّر الجمهور ، وهو الذي يقتضيه السياق. وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين ، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم ، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالا من المشركين.

ووصف الملائكة بمنزلين للدلالة على أنّهم ينزلون إلى الأرض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) [الحجر : ٨].

وقرأ الجمهور : منزلين ـ بسكون النّون وتخفيف الزاي ـ وقرأه ابن عامر ـ بفتح النّون وتشديد الزاي ـ. وأنزل ونزّل بمعنى واحد.

فالضميران : المرفوع والمجرور ، في قوله : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) عائدان إلى الملائكة الّذين جرى الكلام عليهم ، كما هو الظاهر ، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين.

وعليه فموقع قوله : (وَيَأْتُوكُمْ) موقع وعد ، فهو المعنى معطوف على (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) وكان حقّه أن يرد بعده ، ولكنّه قدّم على المعطوف عليه ، تعجيلا للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين ، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه ، وإذا جاز ذلك التّقديم في عطف المفردات كما في قول صنّان بن عبّاد اليشكري :

ثمّ اشتكيت لأشكاني وساكنه

قبر بسنجار أو قبر على قهد

قال ابن جنّي في شرح أبيات الحماسة : قدّم المعطوف على المعطوف عليه ، وحسّنه شدّة الاتّصال بين الفعل ومرفوعه (أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظّه من التقديم ولا التفات لكون المعطوف عليه مؤخّرا عن المعطوف) ولو قلت : ضربت وزيدا عمرا كان أضعف ، لأنّ اتّصال المفعول بالفعل ليس في قوّة اتّصال الفاعل به ، ولكن لو قلت : مررت وزيد بعمرو ، لم يجز من جهة أنّك لم تقدم العامل ، وهو الباء ، على حرف العطف. ومن تقديم المفعول به قول زيد :

٢٠٨

جمعت وعيبا غيبة ونميمة

ثلاث خصال لست عنها بمرعوي

ومنه قول آخر :

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة الفعل

ولا يجوز وعيبا جمعت غيبة ونميمة. وأمّا قوله :

عليك ورحمة الله السلام

فممّا قرب مأخذه عن سيبويه ، ولكن الجماعة لم تتلقّ هذا البيت إلّا على اعتقاد التّقديم فيه ، ووافقه المرزوقي على ذلك ، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر ، فلذلك خرّجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل ، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنّه عطف صوري.

ووقع في «مغني اللبيب» ـ في حرف الواو ـ أنّ تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة ، وسبقه إلى ذلك ابن السّيد في شرح أبيات الجمل ، والتفتازانيّ في شرح المفتاح ، كما نقله عنه الدماميني في «تحفة الغريب».

وجعل جمع من المفسّرين ضميري الغيبة في قوله : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) عائدين إلى طائفة من المشركين ، بلغ المسلمين أنّهم سيمدّون جيش العدوّ يوم بدر ، وهم كرز بن جابر المحاربي ، ومن معه ، فشقّ ذلك على المسلمين وخافوا ، فأنزل الله تعالى : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية ، وعليه درج «الكشاف» ومتابعوه. فيكون معاد الضّميرين غير مذكور في الكلام ، ولكنّه معلوم للنّاس الّذين حضروا يوم بدر ، وحينئذ يكون (يَأْتُوكُمْ) معطوفا على الشرط : أي إن صبرتم واتّقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربّكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف ، قالوا فبلغت كرزا وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدّهم الله بالملائكة ، أي بالملائكة الزائدين على الألف. وقيل : لم يمدّهم بملائكة أصلا ، والآثار تشهد بخلاف ذلك.

وذهب بعض المفسّرين الأوّلين : مثل مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والزهري : إلى أن القول المحكي في قوله تعالى : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) قول صادر يوم أحد ، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا ، فلمّا لم يصبروا واستبقوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملك واحد ، وعلى هذا التفسير يكون (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ)

٢٠٩

بدلا من (وَإِذْ غَدَوْتَ) وحينئذ يتعيّن أن تكون جملة (وَيَأْتُوكُمْ) مقدمة على المعطوفة هي عليها ، للوجه المتقدّم من تحقيق سرعة النّصر ، ويكون القول في إعراب (وَيَأْتُوكُمْ) على ما ذكرناه آنفا من الوجهين.

ومعنى (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) المبادرة السّريعة ، فإنّ الفور المبادرة إلى الفعل ، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدّة اختصاص الفور بهم ، أي شدّة اتّصافهم به حتّى صار يعرف بأنّه فورهم ، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره. و (من) لابتداء الغاية.

والإشارة بقوله (هذا) إلى الفور تنزيلا له منزلة المشاهد القريب ، وتلك كناية أو استعادة لكونه عاجلا.

و (مُسَوِّمِينَ) قرأه الجمهور ـ بفتح الواو ـ على صيغة اسم المفعول من سوّمه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب ـ بكسر الواو ـ بصيغة اسم الفاعل. وهو مشتقّ من السّومة ـ بضم السين ـ وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة. وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن ، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه ، يرمز بها إلى أنّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه ، فيسدّدوا إليه سهامهم ، أو يحملون عليه بسيوفهم ، فهو يرمز بها إلى أنّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته ، وصدق لقائه ، وأنّه لا يعبأ بغيره من العدوّ. وتقدّم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : ١٤] في أوّل هذه السورة. وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة.

ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شدادا.

وأحسب أنّ الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدوّ لأنّ جيش العدوّ يوم بدر كان ألفا فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلمّا خشوا أن يلحق بالعدوّ مدد من كرز المحاربي. وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب.

وميمنة وميسرة كلّ ركن منها ألف ، ولمّا لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف ، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسرة ومقدّمة وساقة ، وذلك هو الخميس ، وهو أعظم تركيبا وجعل كلّ ركن منه مساويا لجيش العدوّ كلّه.

[١٢٦ ـ ١٢٨]

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ

٢١٠

عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨))

يجوز أن تكون جملة (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) [البقرة : ١٢٣] والمعنى لقد نصركم الله ببدر حين تقول للمؤمنين ما وعدك الله به في حال أنّ الله ما جعل ذلك الوعد إلّا بشرى لكم وإلّا فإنّه وعدكم النصر كما في قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال: ٧٠] الآية.

ويجوز أن يكون الواو للعطف عطف الإخبار على التذكير والامتنان. وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم ، والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

وضمير النصب في قوله : (جَعَلَهُ) عائد إلى الإمداد المستفاد من (يُمْدِدْكُمْ) [آل عمران : ١٢٥] أو إلى الوعد المستفاد من قوله : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) [آل عمران: ١٢٥] الآية.

والاستثناء مفرّغ. و (بُشْرى) مفعول ثان ل (جعله) أي ما جعل الله الإمداد والوعد به إلّا أنّه بشرى ، أي جعله بشرى ، ولم يجعله غير ذلك.

و (لكم) متعلّق ب (بشرى). وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكرمة الله تعالى إيّاهم بأن بشّرهم بشرى لأجلهم كما في التصريح بذلك في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

والبشرى اسم لمصدر بشّر كالرّجعى ، والبشرى خبر بحصول ما فيه نفع ومسرّة للمخبر به ، فإنّ الله لمّا وعدهم بالنّصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طمأنة لنفوسهم لأنّ النفوس تركن إلى الصّور المألوفة.

والطمأنة والطّمأنينة : السكون وعدم الاضطراب ، واستعيرت هنا ليقين النّفس بحصول الأمر تشبيها للعلم الثابت بثبات النفس أي عدم اضطرابها ، وتقدّمت عند قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ـ في سورة البقرة [٢٦٠] ـ.

وعطف (وَلِتَطْمَئِنَ) على (بُشْرى) فكان داخلا في حيّز الاستثناء فيكون استثناء من علل ، أي ما جعله الله لأجل شيء إلّا لأجل أن تطمئن قلوبكم به.

٢١١

وجملة (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) تذييل أي كلّ نصر هو من الله لا من الملائكة. وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنّهما أولى بالذكر في هذا المقام ، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره ، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يعطاه.

وقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) متعلّق ب (النّصر) باعتبار أنّه علّة لبعض أحوال النصر ، أي ليقطع يوم بدر طرفا من المشركين.

والطّرف ـ بالتحريك ـ يجوز أن يكون بمعنى النّاحية ، ويخصّ بالنّاحية الّتي هي منتهى المكان ، قال أبو تمّام :

كانت هي الوسط المحميّ فاتّصلت

بها الحوادث حتّى أصبحت طرفا

فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين والرجلين والرأس فيكون مستعارا هنا لأشراف المشركين ، أي ليقطع من جسم الشرك أهم أعضائه ، أي ليستأصل صناديد الّذين كفروا. وتنكير (طرفا) للتفخيم ، ويقال : هو من أطراف العرب ، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها.

ومعنى (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يصيبهم بغمّ وكمد ، وأصل كبت كبد بالدال إذا أصابه في كبده. كقولهم : صدر إذا أصيب في صدره ، وكلي إذا أصيب في كليته ، ومتن إذا أصيب في متنه ، ورئي إذا أصيب في رئته ، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالا كقولهم : سبد رأسه وسبته أي حلقه. والعرب تتخيّل الغمّ والحزن مقرّه الكبد ، والغضب مقرّه الصّدر وأعضاء التنفّس. قال أبو الطيب يمدح سيف الدّولة حين سفره عن أنطاكية :

لأكبت حاسدا وأري عدوا

كأنّهما وداعك والرّحيل

وقد استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقا قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقا كبتوا وانقلبوا خائبين ، وفريقا منّ الله عليهم بالإسلام ، فأسلموا ، وفريقا عذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك ، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ ، والصغار ، والأسر ، والمنّ عليهم يوم الفتح ، بعد أخذ بلدهم و «أو» بين هذه الأفعال للتقسيم.

وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين ، فالتّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير.

وجملة (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معترضة بين المتعاطفات ، والخطاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٢١٢

فيجوز أن تحمل على صريح لفظها ، فيكون المعنى نفي أن يكون للنّبي ، أي لقتاله الكفار بجيشه من المسلمين ، تأثير في حصول النّصر يوم بدر ، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كلّ جانب من جوانب القتال ، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين ، وهذا من معنى قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال: ١٧]. ولفظ (الأمر) من قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معناه الشأن ، و (أل) فيه للعهد ، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النّصر.

ويجوز أن تحمل الجملة على أنّها كناية عن صرف النّبيء ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالّذين كفروا ، من قطع طرفهم ، وكبتهم أو توبة عليهم ، أو تعذيب لهم : أي فذلك موكول إلينا نحقّقه متى أردنا ، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المسلمين يوم أحد.

فلفظ (الأمر) بمعنى شأن المشركين. والتعريف فيه عوض عن المضاف إليه ، أي ليس لك من أمرهم اهتمام. وهذا تذكير بما كان للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه ، وإلحاحه في الدّعاء بالنّصر. ولعلّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يودّ استيصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم ، فذكّره الله بذلك أنّه لم يقدّر استيصالهم جميعا بل جعل الانتقام منهم ألوانا فانتقم من طائفة بقطع طرف منهم ، ومن بقيّتهم بالكبت ، وهو الحزن على قتلاهم ، وذهاب رؤسائهم ، واختلال أمورهم ، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم ، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك ، وهم من آمن من أهل مكّة قبل الفتح ، ويوم الفتح : مثل أبي سفيان ، والحارث بن هشام أخي أبي جهل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وخالد بن الوليد ، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر ، أو بالقتل : مثل ابن خطل ، والنضر بن الحارث ، فلذلك قيل له : «ليس لك من الأمر شيء». ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين ، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله ، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجعل هذه الجملة قبل قوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) استئناس للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ قدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله ، ثمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم ، ثمّ أردف بما يدلّ على عقابهم ، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له ، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له. ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى :

٢١٣

(أَوْ يُعَذِّبَهُمْ).

ولكون التّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحد ، كأنّ في هذا التّقسيم إيماء إلى ما يصلح بيانا لحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحد ، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين ، لم يصبهم القتل يومئذ ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد ، بعد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر ، وإن حسبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحد ، وإن لم ينتصروا. ولا يستقيم أن يكون قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) متعلّقا بأحوال يوم أحد : لأنّ سياق الكلام ينبو عنه ، وحال المشركين يوم أحد لا يناسبه قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله : (خائِبِينَ).

ووقع في «صحيح مسلم» ، عن أنس بن مالك : أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجّ وجهه ، وكسرت رباعيته يوم أحد ، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم ، فقال النّبيء ـ عليه‌السلام ـ : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم» أي في حال أنّه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم ، فنزلت الآية ، ومعناه : لا تستبعد فلاحهم. ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية متأوّل على إرادة : : فذكّر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية ، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سببا لأنّ النّبيء تعجّب من فلاحهم أو استبعده ، ولم يدّع لنفسه شيئا ، أو عملا ، حتّى يقال : «ليس لك من الأمر شيء». وروى الترمذي : أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على أربعة من المشركين ، وسمّى أناسا ، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك ، ثمّ أسلموا. وقيل: إنّه همّ بالدعاء ، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال ، فنهى. ويردّ هذه الوجوه ما في «صحيح مسلم» ، عن ابن مسعود ، قال : كأنّي انظر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي نبيئا من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون. وورد أنّه لمّا شجّ وجهه يوم أحد قال له أصحابه : لو دعوت عليهم ، فقال : إنّي لم أبعث لعّانا ، ولكنّي بعثت داعيا ورحمة ، اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون. وما ثبت من خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه كان لا ينتقم لنفسه.

وأغرب جماعة فقالوا نزل قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) نسخا لما كان يدعو به النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قنوته على رعل ، وذكوان ، وعصية ، ولحيان ، الّذين قتلوا أصحاب بئر معونة ، وسندهم في ذلك ما وقع في «البخاري» أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل يدعو عليهم ، حتّى أنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). قال ابن عطية : وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ. وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين

٢١٤

علل النّصر الواقع يوم بدر. وتفسير ما وقع في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذا بكامل الأدب ، لأنّ الله لمّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلم بما فيه نفع الإسلام ، ونقمة الكفر ، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا. وإذ جعلنا دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعا تقرّر بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح ، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية ، من قبيل النسخ بالقياس ، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل.

ومنهم من أبعد المرمى ، وزعم أن قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) منصوب بأن مضمرة وجوبا ، وأنّ (أو) بمعنى حتّى : أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتّى يتوب الله عليهم ، أي لا يؤمنون إلّا إذا تاب عليهم ، وهل يجهل هذا أحد حتّى يحتاج إلى بيانه ، على أن الجملة وقعت بين علل النصر ، فكيف يشتّت الكلام ، وتنتثر المتعاطفات.

ومنهم من جعل (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عطفا على قوله (الْأَمْرِ) أو على قوله (شَيْءٌ) ، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أن على سبيل الجواز ، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء ، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم.

فإن قلت : هلّا جمع العقوبات متوالية : فقال ليقطع طرفا من الّذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، أو يتوب عليهم ، أو يعذّبهم ، قلت : روعي قضاء حقّ جمع النظير أولا ، وجمع الضدّين ثانيا ، بجمع القطع والكبت ، ثم جمع التوبة والعذاب ، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة :

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

كأنّك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى حزينة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت ، وأخّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة ، في قصة مذكورة في كتب الأدب.

واللام الجارّة لام الملك ، وكاف الخطاب لمعيّن ، وهو الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيبا وجيزا محذوفا منه بعض الكلمات ، ولم أظفر ، فيما حفظت من غير القرآن ، بأنّها كانت مستعملة عند العرب ، فلعلّها من

٢١٥

مبتكرات القرآن ، وقريب منها قوله : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) [آل عمران : ١٥٤] و (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه ، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب ، وإن كان حكاية بالمعنى فلا.

وقوله : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) إشارة إلى أنّهم بالعقوبة أجدر ، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

تذييل لقوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) مشير إلى أن هذين الحالين على التوزيع بين المشركين ، ولمّا كان مظنّة التطلّع لمعرفة تخصيص فريق دون فريق ، أو تعميم العذاب ، ذيّله بالحوالة على إجمال حضرة الإطلاق الإلهية ، لأنّ أسرار تخصيص كلّ أحد بما يعيّن له ، أسرار خفيّة لا يعلمها إلّا الله تعالى ، وكلّ ميسّر لما خلق له.

[١٣٠ ـ ١٣٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢))

لو لا أنّ الكلام على يوم أحد لم يكمل ، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) إلى قوله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ ...) [آل عمران : ١٧١] الآية لقلنا إنّ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) اقتضاب تشريع ، ولكنّه متعيّن لأن نعتبره استطرادا في خلال الحديث عن يوم أحد ، ثمّ لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء. قال ابن عطية : ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا. وقال الفخر : من النّاس من قال : لمّا أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنّهي فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) فلا تعلّق لها بما قبلها.

وقال القفّال : لمّا أنفق المشركون على جيوشهم أموالا جمعوها من الربا ، خيف أن يدعو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الرّبا. وهذه مناسبة مستبعدة. وقال ابن عرفة : لمّا ذكر الله وعيد الكفار عقّبه ببيان أن الوعيد لا يخصّهم بل يتناول العصاة ، وذكر أحد صور

٢١٦

العصيان وهي أكل الربا. وهو في ضعف ما قبله ، وعندي بادئ ذي بدء أن لا حاجة إلى اطّراد المناسبة ، فإن مدّة نزول السورة قابلة ، لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة ، كما بيّناه في المقدّمة الثّامنة ، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قبلها فكتبت هنا ولا تكون بينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقا بالكلام.

ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة ـ بما هو أوفى ممّا في هذه السورة ، فالجواب : أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية ـ سورة البقرة ـ فكانت هذه تمهيدا لتلك ، ولم يكن النّهي فيها بالغا ما في ـ سورة البقرة ـ وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حرّم الله الربا وأن ثقيفا قالوا : كيف ننهى عن الربا ، وهو مثل البيع ، ويكون وصف الربا ب (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) نهيا عن الربا الفاحش وسكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف ، ثمّ نزلت الآية الّتي في ـ سورة البقرة ـ ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضا بالمراباة عقب غزوة أحد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة. وتقدّم الكلام على معنى أكل الرّبا ، وعلى معنى الربا ، ووجه تحريمه ، ـ في سورة البقرة ـ.

وقوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) حال من (الرِّبَوا) والأضعاف جمع ضعف ـ بكسر الضّاد ـ وهو معادل الشيء في المقدار إذا كان الشيء ومماثله متلازمين ، لا تقول : عندي ضعف درهمك ، إذ ليس الأصل عندك ، بل يحسن أن تقول : عندي درهمان ، وإنّما تقول : عندي درهم وضعفه ، إذا كان أصل الدرهم عندك ، وتقول : لك درهم وضعفه ، إذا فعلت كذا.

والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف بال نحو ضعفه ، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجمع كما هنا ، وإذا عرف الضعف بال صحّ اعتبار العهد واعتبار الجنس ، كقوله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) [سبأ : ٣٧] فإن الجزاء أضعاف ، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف.

وقوله : (مُضاعَفَةً) صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التّضعيف ، وذلك أنّهم كانوا إذا داينوا أحدا إلى أجل داينوه بزيادة ، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة ، فيصير الضعف ضعفا ، ويزيد ، وهكذا ، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفا بمثله إلى الأجل ، وإذا ازداد أجلا ثانيا زاد مثل جميع ذلك ، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل ، ومضاعفتها في الآجال الموالية ، ويصدق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثمّ تزيد بزيادة الآجال ، حتّى يصير الدّين أضعافا ، وتصير الأضعاف أضعافا ،

٢١٧

فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوما : لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع ، وإن كان الثّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة. وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالا طويلة ، كان الوقوع في هذه العاقبة مطردا ، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوما كذلك إذ ليس القصد منها التقييد بل التشنيع ، فلا يقتصر التّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافا كثيرة ، حتّى يقول قائل : إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم. فليس هذا الحال هو مصبّ النّهي عن أكل الربا حتّى يتوهّم متوهّم أنّه إن كان دون الضعف لم يكن حراما. ويظهر أنّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا ، وجاءت بعدها آية البقرة ، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع ، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر ، ولذلك ذكر في تلك الآية عذاب المستمرّ على أكل الرّبا. وذكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع ، وقيل فيها (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) [البقرة : ٢٧٥] الآية ، كما ذكرناه آنفا ، فمفهوم القيد معطّل على كلّ حال.

وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشّريعة حمل الأمّة على مواساة غنيّها محتاجها احتياجا عارضا موقّتا بالقرض ، فهو مرتبة دون الصدقة ، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة ، ومنها ندب كالصّدقة والسلف ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها ، وكذلك المعروف كلّه ، وذلك أن العادة الماضية في الأمم ، وخاصّة العرب ، أنّ المرء لا يتداين إلّا لضرورة حياته ، فلذلك كان حقّ الأمّة مواساته. والمواساة يظهر أنّها فرض كفاية على القادرين عليها ، فهو غير الّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين : للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلّا أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية ، لا باختلاف أحوال المتعاقدين ، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف ، ولو كان المستسلف غير محتاج ، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك ، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتّجارة ودين السّلم ، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية.

ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال ، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شئون الدنيا ، فيكون تحريم الرّبا ، ولو كان قليلا ، مع تجويز الربح من التّجارة والشركات ، ولو كان كثيرا تحقيقا لهذا

٢١٨

المقصد.

ولقد قضى المسلمون قرونا طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا ، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم ، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم ، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شئونهم ، فلمّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية ، وارتبط المسلمون بغيرهم في التّجارة والمعاملة ، وانتظمت سوق الثّروة العالمية على قواعد القوانين الّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ، ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين ، دهش المسلمون ، وهم اليوم يتساءلون ، وتحريم الربا في الآية صريح ، وليس لما حرّمه الله مبيح. ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تبنى على أصول الشريعة في المصارف ، والبيوع ، وعقود المعاملات المركبة من رءوس الأموال وعمل العمّال. وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها. وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى.

وقد تقدّم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) الآيات الخمس من سورة البقرة [٢٧٥].

وقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) تحذير وتنفير من النّار وما يوقع فيها ، بأنّها معدودة للكافرين وإعدادها للكافرين. عدل من الله تعالى وحكمة لأنّ ترتّب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة ، ومن أشركوا بالله مخلوقاته ، فقد استحقّوا الحرمان من رحماته ، والمسلمون لا يرضون بمشاركة الكافرين لأنّ الإسلام الحقّ يوجب كراهية ما ينشأ عن الكفر. وذاك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا.

ومقابل هذا التنفير الترغيب الآتي في قوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، والتّقوى أعلى درجات الإيمان.

وتعريف النار بهذه الصّلة يشعر بأنّه قد شاع بين المسلمين هذا الوصف للنّار بما في القرآن من نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦] ، وقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩١] الآية.

[١٣٣ ، ١٣٤] (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ

٢١٩

النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤))

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (سارِعُوا) دون واو عطف.

تتنزّل جملة (سارِعُوا ..) منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لجملة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) لأنّ طاعة الله والرّسول مسارعة إلى المغفرة والجنّة فلذلك فصلت. ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنّة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصّالحة جاز عطف الجملة على الجملة الأمر بالطّاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة (وَسارِعُوا). بالعطف وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنّه يجوز الفصل والوصل في بعض الجمل باعتبارين.

والسرعة المشتقّ منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند النفير كقوله في الحديث : «وإذا استنفرتم فانفروا».

والمسارعة ، على التقادير كلّها تتعلّق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلّق بالذات.

وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرّدة عن معنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدلّ في الوضع على تكرّر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤].

وتنكير (مغفرة) ووصلها بقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) مع تأتّي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربّكم ، لقصد الدّلالة على التّعظيم ، ووصف الجنة بأنّ عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التّصريح بحرف التّشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد. والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتّساع لأنّ الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العديل :

ودون يد الحجّاج من أن تنالني

بساط بأيدي الناعجات عريض

٢٢٠