من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق ، وجواز الرجعة ، فكان المناسب أن يكون راجعا إلى الطلاق ، وإنّ تعليل الإشهاد بأنه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشح ذلك ويقويه ، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجّونها إلى الزوجين ، فيكون لهما مخرج من الطلاق.

فإذا لم يشهد على الطلاق شاهدين ظاهرهما العدالة يسمعان إنشاء الطلاق كان غير واقع ، وكذا لا يقع إذا أشهد عدلا واحدا أو فاسقين يكون باطلا ، فإنّهم قالوا : إنّ بالإشهاد على الطلاق يظهر التناسق بين إنشاء الزواج وإنهائه ، بل قالوا : إنّه لو طلق ثم أشهد لم يكن ذلك شيئا ، والشرط أن يكونا رجلين عدلين ، فلا شهادة للنساء منفردات ولا منضمات للرجال.

ورأي الشيعة الإمامية هو الراجح إذ أنه يضيّق دائرة الطلاق التي اتسعت الآن كثيرا ، كما يسهل إثباته فيما لو وقع خلاف بين الزوجين في الطلاق ، ويجري العمل في مصر على أنّه يجب على الموثق «المأذون» أن يجري الطلاق بحضور شاهدين يثبتهما في إشهاد الطلاق ، ويوقّعان على وثيقة الطلاق بالشهادة. وقد نص قانون حقوق العائلة في المادة (١١٠) على أنّ الزوج الذي يطلّق زوجته مجبور على إخبار المحاكم بذلك) (١).

وهذه شهادة بصورة أخرى يقرها القانون المدني نظرا لأهميتها وواقعيتها.

ويقول الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية بكلّية الحقوق بجامعة عين شمس بالقاهرة في كتابه : (الأحوال الشخصية) مشيدا برأي الإمامية في الشهادة : (وهذه وجهة نظر يجب عدم التغاضي عنها ، فإنّ الأخذ

__________________

(١) الفقه المقارن للأحوال الشخصية بين المذاهب الأربعة السنية والمذهب الجعفري والقانون طبعة دار النهضة العربية ص ٣٧٨.

٦١

بهذا الرأي يمهّد السبيل للصلح في كثير من الحالات حقّا) (١).

ومن هنا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ أنّه قال لأبي يوسف (الفقيه الحنفي الشهير): «يا أبا يوسف إنّ الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك. إنّ الله تبارك وتعالى أمر في كتابه في الطلاق وأكد فيه بشاهدين ، ولم يرض بهما إلّا عدلين ، وأمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود ، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله ، وأبطلتم شاهدين فيما أكّد الله تعالى» (٢).

ويعود القرآن ليؤكد على أهمية التقوى بالذات في الظروف الصعبة والحرجة ، فإنّها قبل كل شيء سبيل الإنسان للانتصار على المشاكل وحلّها ، لما فيها من زخم إيماني يثبّت المؤمن على الحق ، ولأن التقوى في حقيقتها برنامج متكامل يجد فيه حلّا لكلّ معضلة ومخرجا من كلّ حرج مهما كان الظاهر باعثا على اليأس والقنوط.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)

وتنقض هذه الآية الكريمة ظنون البعض بأنّ اتباع شرع الله وأحكامه يضيّق على الإنسان مدار حريته ، ويسبّب له في الحرج والضيق ، كلّا .. إنّما يصل البشر لأهدافه ويتخلص من مشاكله ، ويجد الحلول الناجعة لها والمخارج من العسر والحرج باتباع سنن الله وأحكامه ، وذلك لأنّ سنن الله كما السبل اللاحبة التي لو مشى عليها الإنسان بلغ أهدافه بيسر وبلا عقبات ، ومن يتقي الله يتقي ـ في الواقع ـ الانزلاق عن هذه السنن إلى المتاهات التي لا تزيد السائر فيها إلّا ضلالا وبعدا عن أهدافه ، فقد تبدو للبعض أنّ السرقة والانتهاب والحيلة والغش والظلم

__________________

(١) الأحوال الشخصية للدكتور محمد يوسف موسى ص ٢٧١ طبعة ١٩٥٨ م.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٥٢.

٦٢

والاعتداء والربا وسائر الطرق المحرمة هي وسائل جيدة للارتزاق لما في بعضها من ربح عاجل ، إلّا أن عاقبة هذه الطرق هي الخسارة ، بينما السعي النظيف والكسب الحلال هو باب الرزق الواسع والسبيل اللاحب للثروة المشروعة ، أما غير المؤمن فهو ينهزم أمام الأزمات والمشاكل إلى حد الانتحار ، وكثيرهم الذين انتحروا بسبب عقدة الفشل في العلاقات الزوجية أو الجنسية. وفي تضاعيف الآية إشارة إلى أن المآزق التي يتورط فيها الإنسان تأتي في الأغلب نتيجة ذنوبه ومخالفته لأحكام الله ، فاذا اتقى ابتعد عن الذنوب ونفذ القوانين ، وهل نأتي الطرق المسدودة إلّا بسبب مخالفة القوانين والأنظمة؟!

[٣] ولأن الفقر والضيق من المآزق التي يواجهها الرجل في إدارة أسرته والإنفاق على أهله وعياله ، فإن الإسلام يسعى أن لا يكون مبررا للطلاق ، وذلك من خلال تنمية روح الأمل بالله والتوكل عليه في روعه بأنّه يضمن له رزقه ، وهذه الأفكار والمنهجية ترتكز على قيمة أساسية في الإسلام هي إيمانه بضرورة دفع الإنسان باتجاه المزيد من تحمل المسؤولية وليس تبرير التهرب منها.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)

أي أن هناك آفاقا للرزق لا يتوقعها الإنسان لمحدودية علمه وإحاطته يفتحها الله له ، وخير شاهد على ذلك ما يكتشفه العلم الحديث من الوسائل والآفاق الجديدة للتنمية والاستثمار والإقتصاد والتي ما كانت تخطر على بال أحد منذ قبل ، جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في رسالته إلى بعض أصحابه : «أمّا بعد فإني أوصيك بتقوى الله ، فإنّ الله قد ضمن لمن اتقاه أن يحوّله عما يكره إلى ما يحب ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فإياك أن تكون ممن

٦٣

يخاف على العباد من ذنوبهم ، ويأمن العقوبة من ذنبه» (١)

وقال (ع): «إنّ الله عزّ وجل جعل أرزاق المؤمنين من حيث لا يحتسبون ، وذلك أنّ العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه» (٢)

وقال ـ في حديث آخر يفسر هذه الكلمة ـ : «يبارك له فيما آتاه» (٣)

والايمان بهذه الحقيقة يقشع عن عقل الإنسان وروحه سحب اليأس ويفكّ أغلاله ، ويدعوه إلى المزيد من البحث والسعي طلبا لتلك الآفاق. وما دام ربنا يرزقنا من حيث لا نحتسب فبالأولى أن يأتنا رزقه من حيث نتوقع حيث نعمل ونسعى ونتبع سبله ، ومن المعروف : أنّ مالتز كان قد حذّر العالم قبل قرن من نقص هائل في الموارد الغذائية في هذا القرن ، واتبعه الكثير من الكتّاب والمؤسسات الدراسية ، بينما فتح الله آفاقا جديدة في حقل التقدم العلمي وتنمية الموارد الغذائية التي تضاعفت خلال القرن الحاضر .. وتبشّر الدراسات بأنّها ستتضاعف في المستقبل.

إنّ آفاق التقدم لا تحد ، وإنّ قدرات الإنسان على التكامل عبرها لا تحصى ، وإنّما اليأس وسائر الأغلال والأصر تقيد البشر من الانبعاث ، ولو عرف الإنسان قيمة التوكل على الله فاتقى ربه لرزقه الله من حيث لا يحتسب.

ولا ريب أنّ الآية لا تدعونا إلى الكسل والجلوس في البيت على أمل نزول رزق الله بالمعجزة ، كلّا .. بل ينبغي النظر لمعناها والتدبر فيها ضمن الأصول العامة التي جاء بها الإسلام والموجودة في الآيات الأخرى ، كأصل السعي والعمل والكدح ، بل الآية نفسها تشير إلى ذلك في الخاتمة وتدعو إلى نفض غبار اليأس والقنوط ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٥٥.

(٢) المصدر / ص ٣٥٤.

(٣) المصدر / ص ٣٥٧.

٦٤

والانبعاث بروح الأمل والتوكل. كذلك الآية تواجه الوسوسة الشيطانية التي تجعل البعض يزعم أن الرزق لا يتأتّى إلّا عبر الحرام ، لذلك يجد مثلا انفصاله عن دوائر الأنظمة ومؤسساتها أمرا لا يطاق ، بينما لو توكلنا على الله فسوف نجده عند حسن ظننا به.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)

أي الذي يكفيه ، ولا ينبغي للمؤمن أبدا أن يشك في قدرة الله على تحقيق ما يعد به ، مهما كانت الظروف صعبة ومعاكسة كما يبدو للإنسان فإن إرادته تعالى فوق كل شيء.

(إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ)

بلى. نحن البشر تثنينا الأسباب ، وتحول بيننا وبين ما نريد العقبات والموانع ، لأنّ إرادتنا محدودة ، أما الله فإنّ إرادته مطلقة. ولكنّه تعالى أبى أن يجري الأمور إلّا بحكمة وموازين.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)

على الإطلاق ، فليس من شيء خارج على هذا القانون الإلهي العام ، وكما تحكم المقاييس الظاهرية الحجم والوزن والكثافة واللون والأجل وجود كل شيء ومن ذلك المشاكل فإنّ هناك سننا وقوانين معنوية تحكمه أيضا ، فلا يمكن للإنسان أن يجد رزقا حلالا من غير سعي مادي أو معنوي. ووعد الله برزق من يتقيه ويتوكل عليه أمر من أموره وهو لا ريب بالغه ، ولكنّه جعل لذلك موازين وضوابط «قدرا» ينبغي للإنسان معرفتها وحلّ مشاكله من خلالها ، ويجب عليه السعي في الحياة لتحقيق أهدافه وتطلعاته ومقاصده انطلاقا من الإيمان بهذه الحقيقة في تدبير

٦٥

الله لشؤون خلقه. من هنا جاء في تفسير هذه الآية : «أنّ الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ سأل بعض أصحابه فقال : ما فعل عمر بن مسلم؟ فقال له البعض : جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة ، فقال : ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له. إنّ قوما من أصحاب رسول الله لمّا نزلت : «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» أغلقوا الأبواب ، وأقبلوا على العبادة ، وقالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النبي فأرسل إليهم قال : ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا : يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، قال : إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب» (١)

[٤ ـ ٥] وكما تتجلى هذه الحقيقة في عالم التكوين الطبيعية الإقتصاد والفيزياء وما أشبه ، فإنها تطبع آثارها في عالم التشريع أيضا ، حيث فرض الله عدّة معينة كحق من حقوق المرأة وواجب من واجبات الرجل بعد الطلاق. وبالطبع إنّ هناك حكمة ليست لذات الاعتداد وحسب ، بل لاختلاف العدة من امرأة إلى أخرى كذلك ، قد تتكشف للإنسان في مفردات العدة بالتفكير العميق.

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ)

في كونهن هل يئسن أم لا؟

(فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ)

بناء على الأصل السابق هو عدم اليأس ، مما يجعل حكمهن كحكم النساء العاديات. أمّا لو تبين كونهن يائسات فليست لهن عدة ، فعن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في الني يئست من المحيض يطلقها زوجها قال : «قد بانت منه

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ١٥٥.

٦٦

ولا عدة عليها» (١). ويظهر من النصوص أنّ الأشهر هي الأشهر الهلالية.

(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)

إذا ارتيب في كونهن بلغن الحيض فإنّ عدّتهن كالمشكوك في يأسهن ، أي ثلاثة أشهر ، تأسيسا على الاحتياط ، فإن كنّ لم يحضن فليس ذلك بضارّ أحدا ، وإن تبين حيضهن يكون الرجل قد أحرز التكليف الشرعي الملقى عليه. وإلّا فإن الصبيّة لا عدة لها ولو دخل بها ، فعن علي بن إبراهيم ، عن أبيه عن بن محبوب ، عن حمّاد عن عثمان ، عمّن رواه عن زرارة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئست من الحيض قال : «ليس عليهما عدة وإن دخل بهما» (٢) واعتبار الإسلام مجرد الريب والشك بمنزلة اليقين بعدم اليأس لدى النساء وبالحيض للصبية عمليّا بحيث يعطي للمرأة حق الاعتداد ثلاث أشهر يظهر حرصه على سلامة الأسرة والعلاقات الزوجية ، إذ لعل الاختلاف يحلّ وتعود المياه إلى مجاريها في هذه الفرصة.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)

فإذا ما وضعت الحمل انتهت عدتها ، قال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ «طلاق الحبلى واحدة وإن شاء راجعها قبل أن تضع ، فإن وضعت قبل أن يراجعها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب» (٣) أي تقبله أو ترفضه. ووضع الحمل خروجه من بطنها ولدا أو سقطا ، تماما أو مضغة ، عن عبد الرحمن الحجاج عن أبي الحسن ـ عليه السلام ـ قال : سألته عن الحبلى إذا طلقها زوجها فوضعت

__________________

(١) المصدر ص ٤٠٩.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٥ ص ٤٠٨.

(٣) المصدر ص ٤١٩.

٦٧

سقطا تم أو لم يتم أو وضعته مضغة فقال : «كلّ شيء يستبين أنّه حمل تم أو لم يتم فقد انقضت عدتها وإن كان مضغة» (١) ، ولا يعتد بالمدة أكانت ثمانية أشهر أو لحظة واحدة بين الطلاق ووضع الحمل. وقد تكون العلة التي صارت من أجلها عدة الحامل وضع الحمل أنّ مسئولية الحمل مشتركة بين الأم والأب لذلك تمتد عدتها زمنيا حتى تضع وقد يطول ذلك ثمانية أشهر ، كما أنّ ذلك يعطي للزوج فرصة أكبر للمراجعة والتفكير ، فعسى يعدو إلى تكفّل الولد بعد أن يلقي الله في قلبه حبه ، ولعل ظاهر الآية يدل على أنّ العدة تنقضي حتى لو أجهضت المرأة نفسها لأن المعول على وضع الحمل. أما الحامل التي يتوفّى زوجها فعدتها أبعد الأجلين ، فعن سماعة عن الصادق عن الباقر ـ عليهما السلام ـ قال : «المتوفّى عنها زوجها الحامل أجلها آخر الأجلين ، إن كانت حبلى فتمّت لها أربعة أشهر وعشر ولم تضع فإنّ عدتها إلى أن تضع ، وإن كانت تضع حملها قبل أن يتم لها أربعة أشهر وعشر تعتد بعد ما تضع تمام أربعة أشهر وعشر ، وذلك أبعد الأجلين» (٢)

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)

إذن فالطريق السليم الذي ينبغي للإنسان أن ينتهجه للخروج من العسرة والمشاكل المتأزّمة هو التقوى ، وخطأ ظن البعض أنه يصل إلى اليسر في أموره بمخالفة حدود الله وأحكامه.

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ)

وأمره أحكامه وتعاليمه.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ)

__________________

(١) المصدر ٤٢١.

(٢) المصدر ص ٤٥٥.

٦٨

ونتساءل : كيف تكفّر التقوى سيئات الإنسان؟ والجواب لسببين :

١ ـ لأنّ أخطاء الإنسان التي تنتهي به إلى المآزق والمشاكل كالطلاق وخراب علاقته مع أهله نتيجة مباشرة لمنهجية خاطئة يتبعها في الحياة ، كمنهجية الهوى أو المناهج البشرية الضالة ، وبالتالي عدم اتباعه لنهج الله القويم. والتقوى بمفهومها الواسع ليس مجرد الإيمان بالله والخشية منه بل هي إضافة إلى ذلك عودة الإنسان إلى نهج ربه المستقيم الكفيل بتصحيح أخطائه وإزالة آثارها السلبية في الواقع.

٢ ـ ولأن التقوى حسنة كبيرة تشفع عند الله في الأخطاء الجانبية. وإلى جانب التكفير عن السيئات هناك ثمرة عظيمة أخرى للتقوى تتمثل في المزيد من الجزاء والثواب.

(وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)

إذ لا شك أن العمل الصالح كالصدقة أعظم ثوابا وأجرا مع التقوى منه بدونها ، ذلك أنّه كلما زاد إيمان الإنسان كلما زاد إتقانه للعمل وخلوصه فيه وقربه بالتالي به إلى ربه ، مما يزيد في جزائه عنده.

٦٩

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ

___________________

٦ [وجدكم] : أي بقدر امكاناتكم وغناكم وطاقتكم ، وعن الحسن والجبائي : أي ما تجدونه من المساكن ، وعن الفراء :

يقول على ما يجد ، فإن كان موسعا وسّع عليها في المسكن والنفقة ، وان كان فقيرا فعلى قدر ذلك.

[تضاروهنّ] : أي تضيّقوا عليهن بالضرر في السكن والنفقة :

[وأتمروا] : من الائتمار ، والائتمار : قبول الأمر ، وملاقاته بالتّقبّل.

٧٠

عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

٧١

فَاتَّقُوا اللهَ

يا أُولِي الْأَلْبابِ

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير من سورة الطلاق يشرّع الله مجموعة من الأحكام المتصلة بالأسرة ، وبالذات بالعلاقة بين الزوجين حيث العدة ، ليقرّر للمرأة حقّ السكنى والنفقة على زوجها ، بل أخذ أجرة على الرضاعة ، كما وينهى الرجل عن الإضرار بها والتضييق عليها تشفّيا أو للخلاص من المسؤولية بالضغط ، ثم يؤكّد بأنّ الائتمار بالمعروف كواجب شرعي على كل مؤمن ومؤمنة تجاه بعضهم لا ينبغي أن يقطع حباله الاختلاف مهما بلغ .. ولو بلغ حالة الطلاق .. لأنّ المسؤولية الاجتماعية واجب إلهي يجب أن تبقى حاكمة في علاقة المؤمنين ببعضهم حيث بعضهم أولياء بعض في كل زمان ومكان وظرف .. وتبلغ عناية الدين الحنيف بالمرأة إلى حدّ يقرر لها الحق في قبول الرضاعة أو رفضها ، خلافا للعرف الذي جرت عليه المجتمعات ، وسارت عليه الجاهلية والكثير من المذاهب البشرية.

٧٢

ثم يعود القرآن ليضع الميزان الحق في شأن النفقة ، فهو كما يوجبها على الرجل حقّا للمرأة ، لا يسمح من جهة أخرى للزوجة استغلال هذا الحق لتطالب زوجها عند قراره بالطلاق نفقة أكثر ممّا يتحمل تشفّيا منه ، فليس أحد مكلّفا في شرع الله أكبر وأكثر مما يستطيع.

وينتهي السياق القرآني الذي يتمحور حول التقوى في هذه السورة ليحذّر من مخالفة شرائع الله وحدوده بصورة عامة وفي حق الأسرة بالذات ، مشيرا إلى أنّ الأسرة لا تختلف في ظلّ سننه عن المجتمع الكبير الذي لو تجاوز الحدود فإنّ عاقبته الخسارة والدمار كما ينطق بذلك تاريخ الحضارات التي دمّرت فأصبحت عبرا وأحاديث.

ولأن المؤمنين أولى بدراسة التاريخ من غيرهم فإنّ الخطاب يتوجه إليهم خاصة لكي يخرجوا بذلك إلى النور ، ويختم السورة بالإشارة إلى الحكمة من خلق الإنسان والعالم المسخّر له ألا وهي أن يتعرّف الله لعباده عبر آياته المبثوثة في النفس وفي الآفاق لعلّهم يخلصون من ظلمات الضلال والشرك.

بينات من الآيات :

[٦] لكي لا يظلم المرء زوجته التي عافتها نفسه ، ومشى الشيطان بينهما بألف عقدة وعقدة ، يأمر القرآن بأن يختار لها زوجها سكنا مناسبا لوضعهم الاجتماعي بلا تميّز.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)

والوجد : ما يجده الإنسان ويقدر عليه ، وفي المنجد : أنا واجد للشيء أي قادر عليه. والوجد القدرة ، يقال أنا واجد الشيء أي قادر عليه. والآية تحدّثنا عن نوع

٧٣

السكن وأنّه واجب على الرجل ليس السكنى وحسب بل إسكان زوجته في العدّة بالذات كما يسكن ، فلا يصح أن يسكن هو في المكان المكيّف صيفا وشتاء ويسكنها فيما دون ذلك ، ولهذا جاء التعبير ب «من» التبعيضية ولا يكون بعض الشيء إلّا من نوعه وجنسه. ويحرم الإسلام أن يضرّ الرجل بزوجته أثناء العدّة ليضطرها للتنازل عن النفقة أو الخروج من بيته قبل انتهاء العدة باستخدام الضغوط المختلفة المادية أو المعنوية نفسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية أو ما أشبه مما يحقّق نفس الغرض ، بل لا بدّ أن تجد الزوجة الراحة والسعة من جميع جوانبها قدر الإمكان.

(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ)

ولعل أبلغ ضرر تناله المرأة المطلقة من زوجها هو جراحات اللسان ، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «لا يضار الرجل امرأته إذا طلقها فيضيق عليها حتى تنتقل قبل أن تنقضي عدتها فإنّ الله قد نهى عن ذلك» (١) والتي لزوجها عليها السكنى والنفقة غير المبتوتة (٢) ، فعن أبي بصير عنه ـ عليه السلام ـ أنّه «سأله عن المطلقة ثلاثا لها سكنى ونفقة؟ قال : حبلى هي؟ قلت : لا ، قال : لا» (٣) وعن زرارة عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : «المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة على زوجها ، إنّما ذلك للتي لزوجها عليها رجعة» (٤).

وكما تمتد عدة الحامل إلى الوضع كذلك يجب أن يسكّنها وينفق عليها حتى تضع حملها ، لأنّ الولد له ، وثابت علميّا أنّ الولد يستهلك ما يحتاج من أمّه ، فلو

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٦٢.

(٢) المصدر.

(٣) المبتوتة : المطلقة بائنها فلا يحق لزوجها الرجعة لها بتة.

(٤) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٣٦٢.

٧٤

نقص الكالسيوم في غذاء أمّه فإنّه سوف يؤثر على تركيبة عظامها ، يقول الدكتور محمد علي البار في كتابه خلق الإنسان بين الطب والقرآن : (تصاب بعض الأمهات الحوامل بلين في العظام أثناء الحمل ، كما تصاب أسنانهن بالالتهابات المتكررة ، والسبب في ذلك أنّ الجنين لكي يبني عظامه يسحب من دم أمه وعظامها الكالسيوم والمواد الضرورية لبناء عظامه ، حتى ولو تركها هزيلة هشّة العظام شاحبة الوجه تعاني من لين العظام ومن فقر الدم .. ويضيف : يقول مجموعة من أساتذة طب النساء والولادة : والطفل يعتبر كالنبات الطفيلي الذي يستمد كلّ ما يحتاج إليه من الشجرة التي يتعلق بها ، يعيش ويأخذ غذاءه من الأم مهما كانت حالتها أو ظروفها حتى ولو تركها شبحا) (١) ، لهذا فالمرأة أحوج ما تكون للعناية في فترة الحمل.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)

وجاء في أصول الكافي عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : «الحامل أجلها أن تضع حملها وعليه نفقة بالمعروف حتى تضع حملها» (٢) ، ولو أنّها أرضعت وليدها بعدئذ فلها الحق أن تتقاضى أجرا على الإرضاع ، لأنّه من الناحية الشرعية ليس واجبا على الأم بشكل عام حتى غير المطلقة التي تنتهي عدتها وقيمومة الرجل عليها بعد الوضع ، فالحليب ملكها وإن كان من الناحية التكوينية يتكون مع الحمل وبسببه.

والعلم الحديث يقر هذه الحقيقة ، وعلى أساسه دعت التشريعات الحديثة الى تخصيصات للمرأة أثناء الرضاعة ، وبعض البلدان تشرف على طعام المرأة المرضع والحامل ، وتدعوا إلى الاهتمام بطعامها في هاتين الفترتين.

__________________

(١) المصدر نقلا عن الكافي.

(٢) المصدر ص ٤٤٨.

٧٥

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ)

في مقابل الرضاعة. أمّا السكنى والنفقة فليسا واجبين على الزوج بعد الوضع.

ولا يحقّ للزوج أن يلزم زوجته ـ وبالذات المطلقة ـ بالرضاعة ، بلى. يجوز التفاهم في هذه المسألة بين الطرفين بعيدا عن أي لون من الضغوط والسبل الملتوية ، بل بالحق.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)

أي ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف بالتشاور والتحاور ، ولا بد أن يتمّ ذلك في إطار صحيح لا يتنكر له العقلاء «بمعروف» حتى يستقر التآمر على رأي يرضاه الطرفان. أمّا إذا حدث الاختلاف فإنّ الحق للأم تقبل الرضاعة أو ترفضها لتكون المرضعة غيرها.

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى)

ولا يجوز للأب أن يجبر أم ولده على رضاعته كحل للتعاسر ، لأنّ ولاية الرجال على النساء لا تمتد إلى هذه الحدود في الظروف الطبيعية فكيف بعد الطلاق؟! ونهتدي من خاتمة الآية أنّ للحاكم الشرعي أن يلزم الأم بالرضاعة لو توقفت حياة الولد عليها ، فيكون الزوج حينئذ ملزما بإعطاء أجرة المثل.

[٧] ويعود القرآن لبيان المقياس الذي ينبغي أن يكون ميزانا فيصلا بين الطرفين في مقدار النفقة ، ولكن الوحي لا يحدد دينارا ولا درهما بل يضع قيمة تصلح لكل زمان ومكان واحد لأنه لم ينزل لامة دون أخرى ، ولا لجيل دون جيل. من هنا يطرح المقاييس الفطرية العامة بوضوح كاف لينطبق على كل عصر ، فما هو

٧٦

المقياس الذي يحدد كيف وكم تكون النفقة؟ إنّه استطاعة الزوج المادية الممكنة ، وليست صفاته ، فلو كان غنيّا بخيلا فإنّه لا يجوز منه التقتير على زوجته المطلقة بالذات حيث تجب عليه نفقتها ، بل عليه التوسيع عليها ، كما لا يجوز للزوج ولا للحاكم أن يفرض عليه التوسيع في النفقة لو كان مقترا فقيرا.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)

أي بعضها وبنسبتها ، فليس مطالبا ببذل كل ما يملك ، إنّما الواجب أن يفيض عليها من غناه بحيث يوسع عليها.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)

وكان فقيرا.

(فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)

فتشريعه عزّ وجلّ تشريع واقعي عملي ، وحاشا له أن يكلّف أحدا ما لا يطيق ، وهذه الآية لا تقتصر على مسألة النفقة على الزوجة حين العدة ، بل هي قاعدة لتنظيم الإقتصاد الفردي ، وحل المشاكل المتصلة به في المجتمع والأسرة ، فلا غروّ أن يوسع الغني على نفسه من المال الحلال لأنّ الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يراها فيه ، قال الإمام أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ وقد سأله أحد أصحابه عن الرجل الموسر يتخذ الثياب الكثيرة الجياد والطيالسة والقمص الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمّل بها أيكون مسرفا؟ قال لا لأنّ الله عز وجلّ يقول : «الآية» (١) ، ومن جهة أخرى يجب أن لا ينفق الفقير أكثر من طاقته تلبية لرغابته الشخصية أو تظاهرا بين الناس أو لكي يوافق المجتمع المحيط في معيشته ومظاهره ، فإنّ ذلك يوقعه في

__________________

(١) المصدر ص ٣٦٣.

٧٧

مشاكل اقتصادية تنتهي إلى انحرافات خطيرة بعض الأحيان.

وهذه الآية يجب أن يتخذها الإنسان شعارا في إدارة نفسه وأسرته. وحيث أنّ النفقة من واجبات الرجل تجاه أسرته وأهله فإنّ للمرأة الحق في طلب الانفصال عنه لو لم يؤدّها الرجل ، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «إن أنفق الرجل على امرأته ما يقيم ظهرها مع الكسوة وإلّا فرّق بينهما» (١) ، ولكنّ الله يعطي الإنسان شحنة من الأمل برحمته ورزقه ، وفي نفس الوقت يدعو من طرف خفي الزوجة إلى الصبر والتحمل تسليما لقضاء الله ، وأملا في فضله ، فإنّها لا تدري لعل زوجها الفقير يصبح غنيّا مقتدرا بفضله تعالى.

(سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)

[٨] وبعد أن يبيّن ربنا هذه الحدود الشرعية يحذّر من عواقب خرقها وتعديها حيث الفشل والعذاب في الدارين ، فإنّها سنّة الله التي تتجلّى في تاريخ البشرية ، وهي كما تجري في المجتمعات الكبيرة حينما تحادد الله وتخرج عن أمره تجري في الأسرة ذلك المجتمع الصغير ، لأنّ سنن الله واحدة تجري في الموضوعات الصغيرة بمثل ما تجري في الحقائق الجليلة ، أرأيت سنّة الله في النار. إنّها تحرق سواء كانت في عود الثقّاب أو في فرن عظيم! من هنا علينا أن ندرس التاريخ لنعتبر به في سلوكنا الفردي في تنظيم حياتنا الأسرية وفي نظام المجتمع وحركة الحضارة .. لأنّ التاريخ تجسيد لسنن الله وسنن الله واحدة في الصغير والكبير.

وتنتظم الآيات اللاحقة في السياق العام للسورة (التقوى) من زاوية مباشرة لهذا الموضوع ، ذلك أنّ التفكر في مصير الأمم الماضية التي تمرّدت على شرائع الله وسننه فلقيت من العذاب ما لا يخطر ببال بشر كفيل بتنمية روح التقوى عند

__________________

(١) المصدر.

٧٨

الإنسان.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)

أي : وكم من قرية؟!! فكأيّن تفيد الكثرة.

ولعل التعبير بصيغة الكثرة الرهيبة يهدف مواجهة حالة الاسترخاء التي تصيب الإنسان بسبب تواتر نعم الله وتتابع آلائه الكثيرة ، حتى يزعم بأنّ الرب قد غفل عنه أو أهمله أو فوض إليه أمره فيدعوه ذلك إلى الإيغال في الذنوب ، كلّا .. إنّ قرى كثيرة قد دمّرت فحذار أن تدمّر أيضا قريتك الصغيرة المتمثلة في الأسرة والكبيرة المتمثلة في بلدك ، لأنها ليست فوق سنن الله بل هي كأيّ من القرى الأخرى.

والقرية ـ كما يبدو ـ تطلق في القرآن عادة على المجتمعات المتخلفة الفاسدة ، بينما تستخدم كلمة بلد أو المدينة للتعبير عن المجتمعات المتحضرة ، وعدم تحديد الآية لقرية بذاتها ينطوي على دعوة لدراسة شاملة لتأريخ البشرية ، ذلك لأنّ الإنسان مفطور على مراجعة التاريخ والإعتبار به ، ونظرته إليه تحدد نظرته إلى الحاضر وتطلعه نحو المستقبل. والرسالات الإلهية تسعى إلى تصحيح تقييمه للتاريخ ، لكي لا تكون نظراته خاطئة ولا حتى عابرة ، وذلك لأنّ الكثير حينما يمرّون على آثار الماضين يكتفون بالسياحة أو النياحة ، والأدب العربي ـ كما سائر آداب البشر ـ زاخر بروائع الشعر التي تستوقف الإنسان على الأطلال والبكاء حزنا عندها ، وقد اشتهر هذا الاستهلال في شعر العرب ، قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل .. حتى قيل أنّه مطلع لسبعين رائعة شعرية!

بينما القرآن الكريم يستوقف الإنسان أيضا عند القرى المدمّرة ولكن ليس لمجرّد السياحة أو النياحة بل للاتعاظ والإعتبار.

٧٩

ولقد مرّ المسلمون في عهد الإمام علي ـ عليه السلام ـ على أطلال عاصمة كسرى فأنشد بعضهم :

جرت الرياح على ديارهم

فكأنّهم كانوا على ميعاد

فنهره الإمام وأمره بأن يقرأ : «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

وهكذا يوجّه القرآن هذه النظرة الكامنة في الإنسان ليقف على الأطلال ، ويتذكر الغابرين ، ويعتبر بمصيرهم ، ويهتدي بالسنن التي كشفتها حياتهم ومماتهم من أجل بناء حياة سعيدة آمنة.

وعادة ما ينقل القرآن تاريخ الشعوب وليس الأفراد ، وحتى إذا تحدث عن فرد كفرعون أو هامان أو قارون فغالبا ما يضع الحديث عنه في إطار اجتماعي باعتباره طاغية أو مرتزق أو مترف ، والسبب أنّ حركة التاريخ أجلى وأوضح حينما يوجه الإنسان نظره وفكره إلى مسيرة الأمم وتاريخها ، وتدمير المجتمعات والشعوب أدلّ على سنن الله وحاكميته من هلاك فرد لأنّه قد يكون موته بسبب طبيعي ، بل إن موته لا يثير الإنسان للتفكر والإعتبار كما يثيره هلاك الأمم والمجتمعات.

إنّ هلاك الأمم وبصورة متعاقبة لا يمكن أن يكون أمرا اعتياديّا ، وهذا ما يتضح عند دراسة تاريخ القرى التي دمّرت والحضارات التي بادت ، فإنّنا لا شك سنجد سببا لهذه العاقبة وهو الفساد الواقع الذي أفقدها مبرّر الحياة ، حيث تمرّدت على النظم الإلهية ، كما قال الله :

(عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ)

والعتو : هو المبالغة في العصيان والانحراف والتحدي ، أمّا الأمر فهو النهج

٨٠