من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

عامة مجموعة من البصائر ذات الأثر المهم في إيمان الإنسان وواقعه في الحياة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا)

وللهلاك في القرآن معنيان : أحدهما : الموت والفناء ، قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) (١) أي حتى إذا مات ، والآخر : الموت بالعذاب والدمار ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٢) وتهدينا هذه الآية إلى الحقائق التالية :

١ ـ أنّ الكفار عادة ، ما يتهربون من مسئولية الحقائق الإلهية بتحويل قضية الرسالة إلى صراع شخصي بينهم وبين الرسول ، وكأنّ الرسالة قضية تهم النبي لذاته وأنّه يبحث عن مصلحته الذاتية لذلك فهو يخوض الصراع مع الذين لا يؤمنون بها. وهذه الآية تبيّن سفه هذا الرأي وتذكّر بأنّ الرسالة في البدء قضية بين الإنسان وربه وما الرسول إلّا واسطة بينهما ، وعبد من عباد الله إن شاء أهلكه وإن شاء رحمه ، وقد حذّر النبي شعيب ـ عليه السلام ـ قومه من الدخول في هذا النفق فقال : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٣)

٢ ـ وتحذّر الآية من الفهم الخاطئ للشفاعة سواء الأولياء أو شفاعة الشركاء المزعومين ، بزعم أنّهم قادرون على منع الله عمّا يشاء أو التأثير على قراره ، الأمر الذي يدعو الإنسان إلى الاسترسال في الانحراف واللّامسؤولية. وذلك ببيان أنّ لله

__________________

(١) غافر ٣٤.

(٢) القصص ٥٩.

(٣) هود ٨٩.

١٨١

وحده فيما يريد ، فهو بيده أن يهلك الرسول ويعذّبه أو يرحمه لو شاء. وهكذا تنسف الآية الأفكار الضالة في الشفاعة ، حيث يقول النبي محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهو أقرب الخلق إلى الله وأعظهم عنده وهو الموعود بالشفاعة أنّه لا يملك من الله شيئا ، فكيف بمن هو دونه من الأولياء الصالحين؟ وكيف بالشركاء الموهومين؟!

(فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)

فالكافر إذن معذّب لا محالة لأنّ الشفاعة والشركاء الموهومين لا يملكون له من الله شيئا.

قال البعض : إنّها تربط إجارة الكافرين من عذاب أليم ببقاء الرسول هاديا ومبشّرا ونذيرا (١) ويبدو أنّ ذلك مستوحى من قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

[٢٩] وبعد التخويف والتحذير يفتح القرآن على القلوب باب الرجاء بذكر اسم الرحمن حتى لا تصاب باليأس والقنوط.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ)

ويبدو أنّ في الآية إشارة لطيفة إلى أنّ الله لا يهلك الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ومن معه إنّما يرحمهم ، لأنّه الرحمن وقد آمنوا به وأطاعوه بالتوكل عليه وحده.

(وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا)

__________________

(١) تفسير الفرقان ج ٢٩ ص ٥٣.

١٨٢

ولا يخيب من توكل على الرحمن ، فإنّه سيكون حسبه ، يفيض عليه من بركاته ورحماته ، ويجيره من العذاب والهلاك. أمّا الكفّار والمشركون فقد ضلّوا ضلالا مبينا حينما كفروا بربهم وبالآخرة ، واعتقدوا بالأنداد المزعومين واعتمدوا عليهم ، وإذا كانوا يجهلون مدى ضلالتهم ، أو استطاعوا أن يخفوها عن الآخرين ، فإنّ الحقيقة ستظهر جلية في المستقبل ، وسيفتضحون أمام الناس عند الجزاء ، بالرغم من أنّهم يتهمون المؤمنين والقيادة الرسالية بالانحراف ويحاولون أن يقنعوا الرأي العام بذلك.

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

[٣٠] ويختم السياق سورة الملك مثيرا الخشية من الله بما يؤكد أنّه وحده الذي بيده الملك وأنّه على كلّ شيء قدير وأنّه الرحمن ، ويحذّر بأنّه قادر على الذهاب بمائهم الذي ترتكز عليه الحياة ، فلا أحد حينئذ يقدر على أن يأتيهم بماء. أترى لو جعل الله الماء أجاجا من الأساس بحيث لا يصلح للشرب والزراعة ، أو لا يمكن تفكيك أجزائه وتحليته ، أو قرّب موقع الشمس حتى تبخّرت المياه جميعا ، هل استمرت الحياة عليها ، ومن أين كانوا يأتون بالماء؟

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً)

والغور : القعر والعمق من كل شيء ، وغار الماء : ذهب في أعماق الأرض واختفى فلا تصل إليه يد الناس. وإنّ وقع هذا الإنذار في الوسط الذي تنزلت فيه يومئذ (شبه الجزيرة العربية) حيث يعزّ الماء ، وفي تلك العهود حيث الإنسان لم يكتشف بعد وسائل التنقيب عن الماء وحفر الآبار العميقة ، لا شك أنّه كان عظيما ، ولا يزال ولن يزال كذلك عند أولي الألباب من المؤمنين الذين يعرفون ربهم وقدرته المطلقة ، فهم يخشونه دائما ويخافون سطواته ، ويدركون الإجابة على

١٨٣

قوله تعالى :

(فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)

أنّها النفي القاطع الشامل الأبدي : لا أحد يا ربّ العالمين لأنّ الله وحده هو الرحمن والمالك والقادر الذي لا يغلب. وقد قال المفسرون في معنى «معين» أنّه الماء الذي من كثرته يظهر على وجه الأرض ويرى بالعين ، فهو معين ، خلافا للغائر الذي شحّ واختفى ، وقيل : هو الماء الجاري من العيون.

وقد أعطى أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ بعدا عميقا للآية بتأويلها في إمام الحق ، بأنّه الماء بما يحمله من رسالة الله والهدى للناس ، أو ليس الماء عصب الحياة وعمادها؟ كذلك الإمام ، لأنّه يحيي أتباعه ببصائر الوحي وبالهدى إلى الحق في حياتهم. أو ليس الكفر والضلال موتا؟

قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «هذه نزلت في الإمام القائم ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم لا تدرون أين هو فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟» (١) ، وقال الإمام موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ : «إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فما ذا تصنعون؟» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٨٧.

(٢) المصدر.

١٨٤

سورة القلم

١٨٥
١٨٦

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ سورة ن والقلم في فريضة أو نافلة آمنه الله عزّ وجلّ من أن يصيبه فقر أبدا ، وأعاذه الله إذا مات من ضمّة القبر»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٨٧.

١٨٧

الإطار العام

يبلغ الصراع بين الرسالات الإلهية والجاهلية أوجه في القيادة ، واستقامة النبي وأتباعه تحسم الموقف لصالح الوحي. من هنا جاءت فاتحة السورة في عظمة الرسالة والرسول ، وانعطفت سريعا نحو رفض القيادات الجاهلية ، وبالذات تلك التي تقوم بقيمة الثروة ، وتبيّن الآيات الستة عشر الأولى مفارقات القيادتين ، فبينما الرسول مقام نعم الله ، وله عنده أجر لا ينقطع ، وهو على خلق عظيم ، وتتجلّى آيات حكمته على كلّ أفق ، ترى القيادات الجاهلية تتشكّل من كلّ دجّال حلّاف مهين ، يستهزأ بالناس يفرّق بينهم ، وهو منّاع للخير معتد أثيم .. قد أغلق منافذ قلبه دون أيّ شعاع من نور الحق ، فإذا تليت عليه آيات الله قال إنّها أساطير الأوّلين.

ولا بد أن يبقى التمايز بين الفريقين قائما أبدا ، فلا يجوز أن يداهن الرساليون مثل هذه السلطات الفاسدة التي تستعد لتقديم بعض التنازل من أجل هذه المداهنة.

ويمضي السياق في قصة أصحاب الحقل الذين منعوا المساكين حقّهم فأهلك الله زرعهم ، لعلّها تكون عبرة لأصحاب الثروة فلا يطغون بها ، ولكي يعلموا أنّ هذا

١٨٨

العذاب إشارة إلى العذاب الأكبر في الآخرة.

وفي الآيات ٣٤ يبيّن السياق عمق الفجوة بين المتقين والمجرمين ، وينسف أساس تفكير المبطلين بأنّهم شرع سواء مع المتقين ، لأنّ العقل يرفض ذلك ، ولا حجّة لهم بذلك لا من كتاب مدروس ولا عهد من الله ، ولا كفيل ولا شركاء ، ويحذّرهم الله من يوم القيامة الذي لا ينفع فيه عمل أو ندم ، ويبيّن أنّ أموالهم قد تكون لعنة عليهم ، لأنّ الله يستدرجهم بها ، ويملي لهم بكيده المتين.

وإنّ بعضهم يخشى من أجر يعطيه إزاء الرسالة ، كلّا .. بل الرسالة تنفعهم في دنياهم .. وينهي السياق هذا الحديث بأنّهم لا يعلمون الغيب فكيف يتشبّثون بأفكارهم؟ وينعطف نحو الرسول وكل رسالي يتبعه أن يصبر (حتى يحكم الله) ، ولا يكون كصاحب الحوت الذي استعجل في الدعاء على قومه ، فلو لا أنّ نعمة من الله تداركته لكان ينبذ بالعراء (بعد التقام الحوت له) وهو مذموم ، ولكنّ الله اجتباه بنعمته فجعله من الصالحين.

وتختم السورة بأنّ الذين كفروا يكادون يزلقون الرسول بأبصارهم التي يتطاير منها شرر البغض والحسد وذلك حينما يسمعون الذكر ، ويتهمون الرسول بالجنون خشية تأثّرهم به ومن شدة عداوتهم له ، بينما هو ذكر للعالمين يذكّرهم بالله واليوم الآخر ، ولو اتبعوه لكان شرفا لهم ومجدا.

وبهذا تنتهي سورة القلم التي فصلت بين خطّي العلم والجهل على صعيد الفكر وفي صميم الحياة حقا.

١٨٩
١٩٠

سورة القلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ

___________________

٦ [المفتون] : المبتلى بتخبيل الرأي ، كالمجنون.

٩ [تدهن] : أي تجامل الكفّار وتلين لهم ، فكأنّ المجامل يستعمل الدهن ليتلائم مع الطرف المقابل كما يستعمل الدهن لتلائم الشيئين الخشنين حتى لا يصطدما ولا يصطكّا بعنف.

١٩١

حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ

___________________

١١ [همّاز] : أي كثير الهمز للناس ، والهمز هو الطعن في الغير بشدة ، وفي مفردات الراغب : الهمز كالعصر يقال همزت الشيء في كفّي ، وهمز الإنسان اغتيابه.

[مشّاء بنميم] : كثير المشي بين الناس بالنميمة.

١٣ [عتل] : العتلّ الجافي الغليظ.

[زنيم] : الزنيم الدعيّ الملصق بالقوم وليس منهم ، وأصله الزنمة وهي الهنيّة المتدلّية تحت حلق الجدي.

١٦ [سنسمه] : سنعلمه بعلامة يعرف بها أنّه مجرم.

١٧ [أصحاب الجنة] : أصحاب البستان الذي كان قرب صنعاء.

[ليصر منّها] : أي يقطعون ثمرها من الصرم بمعنى القطع.

١٩٢

وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)

___________________

٢٠ [كالصّريم] : أي كالمقطوع ثماره ، أو كالليل المظلم.

٢٥ [حرد] : بمعنى المنع ، يقال : حاردت السنة ، إذا منعت قطرها.

١٩٣

ولا تطع كلّ حلّاف مهين

هدى من الآيات :

بالأدلة الدامغة يفنّد السياق تهمة المكذبين ، ثم يحذّر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ومن خلاله كلّ قائد مؤمن من التأثّر بقوى الضغط ، سواء الظاهرة منها التي تكذّبه جهرا أو المنافقة التي لا يهمّها سوى مصلحتها الشخصية.

ثم يفضح القرآن فئة المنافقين ببيان صفاتهم السيئة ، كالمبالغة في الحلف ، والمشي بالنميمة ، ومنع الخير عن الآخرين ، وإذ يولي الوحي هذا الاهتمام بفضحها بالتركيز على بيان صفاتهم تفصيليّا فلأنّها الأبلغ أثرا على المؤمنين بحكم سرّيتها ، وتؤكّد الآية (١٤) على حقيقة أساسية وهي أنّ جذر تلك الصفات السيئة يكمن في الافتتان بالمال والأتباع ، محذّرا المسلمين من مغبّة الفتنة بالثروة والأولاد.

ثم ينعطف السياق نحو قصة أصحاب الجنة مثلا سيئا لأولئك الذين افتتنوا بزينة الحياة الدنيا ، إذ استكبروا على الحق ، وتعالوا على المساكين ، إلّا أنّهم

١٩٤

اكتشفوا خطأهم فتابوا إلى ربهم (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بل قالوا : إنّنا تجاوزنا الحدّ فطغينا. وإنّنا نجد في هذه القصة دعوة للمترفين إلى التوبة والحذر من مغبّة الافتتان بزينة الدنيا لأنّ ذلك ينتهي إلى عذاب الدارين.

بينات من الآيات :

[١] اختلفت أقوال المفسرين في معنى «ن» فقائل أنّها الحوت لقوله تعالى في هذه السورة : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) (١) ، وقائل أنّها اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه الأقدار الإلهية ، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي ، حيث ذكر أنّه لوح من نور ، واستدلوا من الآية على هذا الرأي بذكر القلم ، وقيل : هي الدوات التي منها يأخذ القلم مداده ، وفي الدّر المنثور والتفسير الكبير أنّها إشارة لاسم الرحمن باعتبارها من حروفه ، وقيل : هي من أسماء رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

وقد سئل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ عن «ن» ما هي؟ فقال : ... وأمّا «ن» فكان نهرا في الجنة ، أشد بياضا من الثلج ، وأحلى من العسل ، قال الله تعالى عزّ وجلّ له : كن مدادا ، فكان مدادا (٢) ، والذي أعتقده بالإضافة إلى ما سبق وأن بيّنا في شأن الحروف القرآنية المقطّعة أنّ تفسير «ن» يتسع لبعض ما ذهب إليه المفسرون ، ولكن يبقى علمه عند الله والراسخين فيه لما علّمهم إيّاه من المعاني والتأويلات.

واختلف في القلم ما هو؟ فقالوا : إنّه القلم الذي يكتب أقدار الله في اللوح المحفوظ ، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ (يعني الله): ثم أخذ شجرة

__________________

(١) الأنبياء / ٨٧.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٨٨.

١٩٥

فغرسها بيده ، ثم قال : واليد القوة وليس بحيث تذهب إليه المشبّهة ، ثم قال لها : كوني قلما ، ثم قال له : اكتب ، فقال له : يا ربّ وما أكتب؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة ، ففعل ذلك (١) ، وفي حديث آخر قال لسفيان الثوري : «فنون ملك يؤدي إلى القلم وهو ملك ، والقلم يؤدي إلى اللوح وهو ملك ، واللوح يؤدي إلى إسرافيل ، وإسرافيل يؤدي إلى ميكائيل ، وميكائيل يؤدي إلى جبرئيل ، وجبرئيل يؤدي إلى الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم» (٢).

ويبدو لي أنّ معنى القلم يتسع لمصداقها المعروف عند الإنسان ، باعتبار القلم وسيلة لنقل العلم وتثبيته بالكتابة ، والعلم قيمة اعتمدها الوحي ، فيكون القسم بالقلم كوسيلة للعلم كاشفا عن عظمته لأنّه يرفعه إلى مرتبة سائر الحقائق التي أقسم الله بها في القرآن ، وإذا كان الإنسان يستمد قوّة لحديثه بالقسم والمقسم به فإنّ كلام ربنا يعطي ما يحلف به قيمة وشأنا ، فنحن إذن نعرف عظمة القلم لأن ربنا أقسم به.

وهكذا نستوحي من هذا القسم دور القلم في منح المؤمنين الكرامة والعزة وفتح آفاق العلم ، وأنّ علينا أن نملك ناصية القلم إذا أردنا امتلاك ناصية الحياة ، وقد قال ربنا سبحانه : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٣) ويدل على ذلك القسم بما يسطّر القلم (وهو العلم).

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ)

قالوا : يعني الملائكة الذين يكتبون بالقلم أقدار الله في اللوح ، أي قسما باليراع

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٨٨.

(٢) المصدر.

(٣) العلق / ٤ ـ ٥.

١٩٦

وبما يكتبه سطرا بعد سطر ، أو بما يسطّره من العلوم الحقّة ، فإنّ العلم هو الآخر عظيم وحريّ أن يقسم به ، وهكذا يأتي قسم القرآن بالقلم والعلم تمهيدا لتفنيد تهمة الكهانة والسحر والشعر من رسالة الله. وليعلم الناس أنّ العقل والوحي صنوان ، وأنّ الرسالة والعلم كجناحي طائر تحلّق به الإنسانية عاليا ، وأنّ ما يتقوّله أدعياء الدين بأنّ العلم ليس منه هراء ، وما يزعمه أدعياء العلم بأنّه يتنافى مع الدّين ضلال بعيد .. فها هو الكتاب يشيد بالعلم وبما يكتب به.

ونستوحي من كلّ ذلك أنّ موقع القلم هو خدمة الدين والعلم لا تضليل الناس أو استعبادهم ، ولا يكون ذلك إلّا إذا تسلّح به المؤمنون وبادروا للانتفاع به قبل الجبّارين ومرتزقتهم السفلة.

[٢] ويربط الوحي بين حقيقة العلم الذي يسطّره القلم وحقيقة الرسالة ، وقد ظهرت هذه الصلة مرة أخرى في سورة العلق عند قوله تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (١) فما هي العلاقة بين الأمرين؟

إنّ هذا الربط يكشف بصيرة مهمة وهي علاقة العلم بالإيمان ، وبتعبير آخر علاقة العقل بالوحي ، ذلك أنّ العقل هو الذي يذكّرنا بالوحي ويهدينا إليه ، كما أنّ الوحي هو الذي يستثير العقل ويستخرج كوامنه ويوجه مسيرته نحو الحق. وإنّ من يتعلّم ويقرأ تجارب العقل البشري عبر التاريخ لا ريب يهتدي إلى أنّ الرسالة الإلهية ليست جنونا ، ولا إلقاءات الشيطان ، ولا أساطير الأوّلين ، وأنّها لا يمكن أن تتنزل إلّا من ربّ العالمين ، لو أنصف الحق من نفسه وقصد سواء السبيل. إلّا أنّ المكذبين يكيلون التهم الباطلة التي يرفضها كل عاقل ليبرروا رفضهم للحقيقة ، وتهربهم من المسؤولية التي تفرضها. ثم هل اكتفوا بذلك؟ كلّا .. لقد حاولوا

__________________

(١) العلق / ٣ ـ ٥.

١٩٧

التأثير على الرسول ليداهنهم في بعض قيم الرسالة بما يحفظ مصالحهم ويحوّلها إلى طائفة من الطقوس الخفيفة الفارغة عن قيم الحق والتقوى والعدل والاجتهاد ، فقالوا له ما قاله الطغاة لكلّ مصلح وداعية حق عبر التاريخ. قالوا : إنّك لمجنون. لماذا؟ لأنّ القيم التي تؤمن بها وتسعى لنشرها تتنافى وقيم النخبة المستكبرة التي تتحكم بمصائر الناس ، ثم جندوا لنشر هذه الدعايات إمكانياتهم المادية والمعنوية ، وهكذا استهدفوا هزيمة المصلحين نفسيّا لعلهم يتنازلون عن بعض قيمهم.

وأمام الهجمة التي يشنّها أولئك المضللون ضد الرسول والرسالة يقف الوحي مسددا للرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ولكل الرساليين عبر التاريخ ومدافعا عن قيم الحق حيث يؤكد القرآن أنّ ما يزعمونه ما هو إلّا كذب وافتراء ، وذلك بالتذكرة بالبصائر التالية :

أولا : إنّ الرسالة التي يحملها الرسول ويدعو إليها نعمة إلهية لا يدانيها جنون ، لأنّها حيث يدرسها الإنسان ويتدبر معانيها يجدها قمّة العقل ، بل هي متقدمة بخطوات كثيرة على مسيرة العقل البشري لأنّها من عند ربّ العقول.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)

لأنّ المجنون هو الذي سلب الله عقله ، بينما قد أنعم الله على رسوله بالوحي الذي يكمل العقل ، وكيف يكون من يحمل للبشرية نور الحكمة والعلم والبصيرة مجنونا؟!

إنّ الرسالة التي تنظّم حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية و.. و.. ، وتنطوي على أسرار الوجود ، وتكشف للبشرية السنن الإلهية ، والأقدار التي تسيّر الخليقة ، وما أمر الخالق به من خير وما نهى عنه من ضر وسوء

١٩٨

وشر! بل وتتجاوز هذه الحياة إلى المستقبل الأبدي البعيد لتحدثنا عن العالم الآخر وما فيه من حساب وجزاء ، وتبيّن تفاصيل دقيقة متناسبة وعقل الإنسان وأحاسيسه ، فهل يمكن أن تكون هذه الرسالة طيشا ومن يحملها إلى الناس مجنونا؟!! وهل يتسنّى لغير المجنون والمكابر أن يتجاهل حقيقة الرسالة التي هي نعمة ونور ويزعم بأنّها جنون ونقمة وظلام؟! ولعلّنا نستشف من قوله سبحانه «أنت» بأنّ الذي لا يكتشف الفرق بينهما لهو المجنون حقّا وليس أنت يا رسول الله.

وعند التأمّل في قوله الله : «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» نهتدي إلى فكرتين : الأولى : أنّ عظمة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ليست بذاته فهو بشر كسائر الناس ، وإنما عظمته برسالة ربه (نعمة الله عليه) ، وقد قدّم ربنا السبب (نعمته) ربما لبيان أنّه ليس هناك سبب آخر غير الرسالة استمد منه النبي عظمته وبلوغه كمال العقل ، والثانية : أنّ إضافة النعمة إلى الله سبحانه ينفي نفيا شديدا مزاعم الكفّار بأنّه قد تلقّى الوحي من الجن (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (١).

[٣] ثانيا : إنّ النتائج والمعطيات العظيمة التي وصل إليها الرسول في الدنيا والتي ستكون له في الآخرة أظهرت بجلاء أنّ الرسالة وحي ، وأنّ النبي أعظم الخليقة ، وأنّ جهلهم هو الذي جعلهم لا يفرّقون بين العظمة والجنون ، ولا بين رسالة الغيب وأساطير الأولين. كيف ذلك؟

إنّ الكفّار والمشركين كانوا يعدّون الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ مجنونا لأنه ينشد التغيير الحضاري الجذري والشامل ليس لمجتمع شبه الجزيرة العربية فقط بل للبشرية كلّها ، فيوحّد المجتمع المتمزق بالتناحر ، والمختلف بالأديان ، ويرقى به

__________________

(١) الفرقان / ٤.

١٩٩

إلى قمّة التقدم الحضاري السامقة ، وينتصر على أعدائه الأقوياء والكثيرين وهو اليتيم العائل .. وما إلى ذلك من الأهداف العظيمة. كانوا يعدّونه مجنونا لأنّه يطلب المستحيل الذي لا يخطر ببال بشر ولا خياله ، ولكنّ القرآن جاء ونسف هذه المزاعم مؤكّدا بأنّ النبي يبلغ ما يريد بإذن الله ، كما قال في سورة الضحى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (١) وكما يقول في هذه السورة :

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ)

أي غير مقطوع ، فهو أجر متواصل يزداد مع الزمن ، وما توسّع الأمّة التي بناها ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلّا جزء من ذلك الأجر ودليلا عليه ، فكيف وفي الآخرة ما هو أعظم إذ يعطى من قبل الله الوسيلة والشفاعة وأعلى درجات الجنة والثواب؟ إنّ بلوغ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ أهدافه التي تراءت لهم بأنّها مستحيلة أوضح دليل على عقلانيته وسلامة رسالته التي حقّقت أهدافه باتباعها ، لأنّ وصول الإنسان إلى أهدافه يحتاج إلى معرفة بسنن الحياة وقوانينها.

وكلمة أخيرة نقولها في الآية هي : أنّ تأكيد الله للنبي وكلّ رسالي يتبعه بأنّ له أجرا غير ممنون يصنع في الإنسان المؤمن روح التعالي على إغراءات الدنيا التي يقدّمها الأعداء والتي قد يثني الافتتان بها الرساليين عن أهدافهم الربّانية فيداهنون فيها.

[٤] ثالثا : وآية أخرى لعظمة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ أخلاقه العظيمة التي فاق بها عظماء البشرية وهم النبيون والصديقون مما يكشف مدى كمال عقله وعظيم حلمه وواسع علمه ونفاذ بصيرته.

__________________

(١) الضحى / ٥.

٢٠٠