من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

حكم الله بحكم الشراكة معه في الملك والتدبير ، سبحانه ، وهكذا تراهم يعتقدون بالشفاعة الحتمية التي تقتضي نجاتهم من العذاب يقينا بفعل تأثير الآلهة الصغار كالأصنام والملائكة والجن والأولياء الذين يتوهم البعض أنّهم يتقاسمون الله الربوبية سبحانه وتعالى.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)

والمشركون حينما يعودون إلى وجدانهم ، أو عند المواجهة العلمية بالجدال أو الواقعية حيث يجازي الله الناس ، يعرفون أن لا حول للشركاء ، وأنّهم إنّما يخدعون أنفسهم ويخادعون الآخرين إذ يتظاهرون بعقيدة الشرك ، ولقد رأينا كيف أفحم نبيّ الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ المشركين في عصره عند المجادلة ، (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

وفي هذه النهاية القوية يتضح لنا أنّه تعالى في الآية (٤١) من سورة القلم إنّما طالبهم بأن يأتوا بشركائهم استثارة لوجدانهم وعقولهم للتحقيق في زعم الشركاء ، باعتبار أنّ بطلانه لا يحتاج إلى أكثر من ذلك ، فهناك مزاعم كثيرة يسترسل معها الإنسان ويعتبرها مسلّمات بل مقدّسات ولكن بمجرد عرضها على عقله ووجدانه والتفكير فيها بجدّ يتبين له مدى سخفها ، وإنّما كانت هذه المسلّمات تستمد قوّتها من التمنيات ومن الغفلة والجهل.

وإذا كان الإنسان قادرا على فضح باطل الشركاء بالوجدان والعقل في الدنيا

__________________

(١) النساء ٦٢ / ٦٧.

٢٤١

فإنّ كذب كل مزاعمهم وظنونهم الباطلة يتبين بأجلى صورة في الآخرة.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ)

وللكشف عن الساق تفاسير أهمّها :

ألف : قيل أنّه ساق العرش يكشف الله عنه يوم القيامة ، وقال الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ : «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا» (١).

باء : وأوغل البعض في الوهم إذ قالوا أنّه ساق الله سبحانه عمّا يصفون ، ورووا عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : (يكشف الله عزّ وجلّ عن ساقه) وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن منده عن ابن مسعود .. قال : عن ساقيه تبارك وتعالى .. وضعّفه البيهقي (٢) ، ويبدو أنّ ذلك من أفكار المجسّمة التي تسرّبت إلى الثقافات الدينية لدى بعض المسلمين ، كما اختلطت مع الأفكار المسيحية من قبل. وقد ردّ الفخر الرازي ردّا مفصّلا على هذه الخرافة في التفسير الكبير (٣).

جيم : وقد يكون الكشف عن الساق كناية عن أنّه يوم الجد والشدة ، وفي المجمع عن القتيبي : أصل هذا أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه يشمّر عن ساقه ، فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة .. تقول العرب : قامت الحرب على ساق ، وكشفت عن ساق يريدون شدّتها .. قال الشاعر : قد شمّرت عن ساقها فشدّوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا والقوس فيها وتر

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٩٥.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٥٤.

(٣) التفسير الكبير عند الآية في المجلد ٣٠.

٢٤٢

عردّ (١).

دال : ويمكن القول أنّه كناية عن تجلّي أصول الحقائق ، وإنما استخدم القرآن الكشف عن الساق لأنّ ساق الشيء أصله ، وعلى هذا قيل ساق الشجرة. ويوم القيامة هو يوم الكشف عن أصل الحقائق فهنالك يكشف للناس الحق الأصل وأعمالهم ، قال علي ابن إبراهيم : يوم يكشف عن الأمور التي خفيت (٢) ، ولعلّنا نلمس تلويحا إلى هذا المعنى في قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٣). إذن فيوم القيامة هو يوم سقوط الحجب عن الحقيقة ليراها الناس كما هي ، وهل ترى الساق إلّا حينما يكشف عنها ما يمنع الرؤية عنها؟

وكذلك يتضح للمجرمين بطلان حكمهم بالتساوي مع المسلمين ، وأنّه ليس من كتاب يؤيّد ذلك ، ولا يمين بالغة قطعها الله على نفسه لصالحهم ، ولا شريك موجود فينفعهم يوم القيامة إن لم يكتشفوا ذلك بأنفسهم في الدنيا ، فيهتدوا للحق ، ويسلّمون لله بدل ممارسة الجريمة حيث الفرصة قائمة لا تزال ، وإلّا فإن شيئا من ذلك لا ينفعهم قيد شعرة في الآخرة لأنّها دار جزاء لا عمل فيها.

(وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ)

دعوة تشريعية يوجّهها منادي الحق يومئذ ، وتكوينية يفرضها هول الموقف وعظمة تجليات الحقيقة ، وهنالك يستجيب المؤمنون لربّهم بطبيعة التسليم التي كانوا عليها في الدنيا ، وبفعل الخشية من مقام الله ، بل لا يملك أحد من أهل المحشر

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٣٩.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٨٣.

(٣) ق ٢٢.

٢٤٣

إلّا الاستجابة لدعوة الحق لو لا أنّه تعالى بحكمته يمنع المجرمين من ذلك.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ)

جاء في الحديث المأثور عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «تبقى أصلابهم طبقا واحدا» (١) أي فقارة واحدة ، وفي نور الثقلين عن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ «تدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود» (٢) ، وبالاضافة إلى هذا المعنى الظاهري تتسع الآية لمعنى أعم وهو أنّ المجرمين لا يملكون يوم القيامة أيّة حرية ، ليعلموا أن ليس لهم ما يتخيّرون ولا ما يحكمون كما كانوا يظنون ، وليسوا كوضعهم في الدنيا حيث أطلقوا العنان لأهوائهم فلم يراعوا حلال الله وحرامه ولا حقّا وباطلا ، وبالذات أولئك الذين تسلّطوا على رقاب الناس فتمادوا في الجريمة طغيانا وظلما.

ويصوّر لنا القرآن حالهم حيث الهوان الظاهر على جوارحهم ووجوههم ، والذلة الباطنة التي تكاد تقتلهم إرهاقا في المحشر. وقد شمخوا بأنوفهم حتى كادت تستطيل مثل الخرطوم ، واستكبروا وبالغوا في التظاهر بالعزة في الدنيا لأنّهم في أيديهم المال والسلطة وحولهم الأتباع.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ)

مرسلة إلى الأسفل لا يرفعونها بين الناس لما هم فيه من ذلّ الموقف الذي لا يستطيعون معه حتى النظر إلى الآخرين.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)

__________________

(١) الكشّاف ج ٤ ص ٥٩٥.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٩٥.

٢٤٤

أي تغشاهم وتعلو وجوههم ذلة ، ويحتمل أن يكون المعنى أي تحمّلهم الذلة مالا يطيقون من الأذى المعنوي ، وتتعبهم كما تتعب الكلاب الصيد ، يقال : أرهقه أي حمله على ما لا يطيق ، وحكمة الله في منع المجرمين عن السجود بعد أمرهم به فضيحتهم في المحشر حيث يمتاز بامتحان السجود المسلم عن المجرم ، قال قتادة ذكر لنا أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان يقول : «يؤذن للمؤمنين يوم القيامة في السجود فيسجد المؤمنون ، وبين كل مؤمن منافق فيتعسّر ظهر المنافق عن السجود» (١) ، وبذلك يعرف الناس حقيقته ، حيث أنّ الآخرة في حقيقتها انعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا ، وبالتالي فإنّ التمايز في الجزاء هناك هو صورة للتمايز في الأعمال والصفات هنا في الدنيا ، وهذا يعمّق المسؤولية في النفوس ، ويدفعها باتجاه التسليم لربها واستغلال فرصة الدنيا لمستقبل الآخرة.

(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)

معنويّا وماديّا بحيث لم يكن عندهم عذر يبرر عدم تسليمهم لدعوة الله سوى اتخاذهم الهوى إلها من دونه عزّ وجلّ ، ولعلنا نستوحي من الآيتين (٤٢ ـ ٤٣) فكرة هامة تتصل بسلوك الإنسان في الدنيا ، وهي : أنّه حينما لا يستغل نعم الله عليه كالصحة والغنى فإنّها قد تسلب منه فيفوته الانتفاع بها ، أو يسلبه الله توفيق الطاعة بسبب تماديه في المعصية والجريمة حتى يصل به الأمر أنّه قد يفكّر في التوبة والاستجابة لدعوة ربه ولكنّه لا يوفّق لذلك لأنّه قد طبع على قلبه.

[٤٤ ـ ٤٥] ولأنّ المترفين يعتبرون تتالي النعم عليهم دليلا على رضاه تعالى عنهم ، فيتمادون في التكذيب بالرسالة ومحاربة الرسول اعتمادا على ذلك ، جاءت الآيات تؤكّد بأنّ الحقيقة عكس ذلك تماما لأنّ الله يكيد لهم عبر خطة حكيمة ،

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ عند الآية.

٢٤٥

وأيّ كيد أعظم من ذلك الذي يحسبه الإنسان خيرا وهو شر وبيل ، وينطوي على حرب مباشرة بين الخالق العظيم الجبّار شديد العقاب وبين المخلوق الحقير الضعيف المسكين يمشي إليها برجله ويقع في فخاخها بغتة؟!!

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ)

يعني الرسالة التي هي حديث الله إلى الإنسان ، ومن الرسالة حديث الآخرة والعذاب ، وما أخوف هذه الآية للمكذبين أن يبارزهم ربّ العزة مباشرة ، وما أسوء مصير من لا تبقى بينه وبين ربه رحمة!

وما أرجى هذه الآية في نفس الوقت للرساليين الذين يواجهون تحديات المترفين في مسيرتهم الجهادية ، فإنّها تثلج صدورهم وتزرع فيها الاطمئنان والسكينة بأنّهم منتصرون ومحميّون لأنّ الله يدافع عنهم ، وأنّ الله سيدمّر المكذبين بدعوتهم الصادقة والمعارضين لها ، إنّ خطة الحرب الإلهية ضدهم تمرّ خلال كيد متين (قوي لا يستطيع أحد تحدّيه والإنتصار عليه ، ومحكم لا يجد الطرف الآخر ثغرة ينفذ فيها حينما يواجهه) بحيث يدخل هو كعنصر فعّال ضد نفسه دون أن يعلم ومن حيث لا يتوقع.

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)

في المنجد : تدرّج إلى كذا تقدم إليه شيئا فشيئا ، واستدرجه صار به من درجة إلى درجة وخدعه (١) ، وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى أنّه تعالى يجعلهم يتقدمون للوقوع في المكيدة من خلال نقاط ضعف عندهم ، هم قاصرون عن وعيها ، بحيث يصيّرها الله عاملا يستحثّهم للوقوع في عذابه. ومن أهمّ نقاط ضعفهم ما أترفوا فيه

__________________

(١) المنجد مادة درج بتصرف.

٢٤٦

من الأحوال والأتباع الذي يزيد لهم فيه ليطغوا في الدنيا ويأتوا يوم القيامة لا خلاق لهم.

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)

وكلّما أترفهم الله ظنوا ذلك دليلا على رضاه عنهم ، وأنّ مسيرتهم سليمة ، فيتمادون في الانحراف ولا يعلمون أنّ الإملاء كيد متين ضدهم ، (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ* أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (١) ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٢) ، والإملاء هو الزيادة في النعم والإمهال في الأخذ ، ولماذا يستعجل الله وهو لا يفوته أحد وله الأولى والآخرة؟

وفي النصوص تحذير من حالة الاستدراج الذي يأتي نتيجة لاسترسال الإنسان ، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد الله له نعمة فيدع الاستغفار فذلك الاستدراج» (٣) وقال ـ عليه السلام ـ : إذا أراد الله عزّ وجلّ بعبد خيرا فأذنب ذنبا تبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار ، وإذا أراد الله عزّ وجل بعبد شرّا فأذنب ذنبا تبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى به ، وهو قول الله عزّ وجلّ : «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» بالنعم عند المعاصي (٤) ، وفي رواية : «أنّ رجلا من بني إسرائيل قال : يا ربّ كم أعصيك وأنت لا تعاقبني؟! فأوحى الله إلى نبيّ زمانهم أن قل له : كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر ، إنّ جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت» ، وفي

__________________

(١) المؤمنون ٥٤ ـ ٥٦.

(٢) آل عمران ١٧٨.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ عند الآية.

(٤) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٩٧.

٢٤٧

الكشّاف قال الزمخشري : قيل : «كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه» (١).

ثانيا : الاعتقاد بأنّ الرسالة مغرم.

[٤٦] وثمّة مرض عضال يستولي على قلوب المترفين يدعوهم للتكذيب بالرسالة والرسول وكل حركة إصلاحية في المجتمع وهو شعورهم الخاطئ بأنّ الاستجابة لها واتباع المصلحين مغرم يخالف مصالحهم ومن طبيعة رؤوس الأموال وأصحابها الجبن. ولكن هل الرسالة جاءت لتأخذ منّا شيئا أم جاءت لتعطينا الكثير وفي مختلف جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والحضارية؟

بلى. قد يتصوّر الإنسان حينما يلاحظ برامج الإنفاق التي تفرضها رسالة الله وتدعوا القيادات الرسالية إليها أنّ الاستجابة لذلك مغرم ، ولكنّ البصيرة النافذة تناقض ذلك تماما ، فإنّ المجتمع حينما تحكمه القوانين الإلهية سوف ينمو اقتصاديّا وحضاريّا لصالح الناس وحتى لصالح أصحاب الثروة ، لما في الرسالة من برامج لتنميتها وتدويرها. وليس أدلّ على ذلك من دراسة تجربة مجتمع الجاهلية المتخلف في شبه الجزيرة العربية ومقارنتها بواقع الإسلام حينما آمنوا بمناهجه وكيف تطوّرت حياتهم ، فلما ذا إذن يكذّب المترفون؟!

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)

والمغرم في التجارة الخسارة أو ما يعطى من المال على كره (ه) ، والتجارة التي يدل الرسول الناس عليها لا خسارة فيها ، بل هي مشتملة على أرباح الدنيا والآخرة ، كما أنّه (ص) لا يسأل أحدا أجرا على تبليغ الرسالة لأنّه (ص) (وكذلك كل قيادة رسالية) إنّما يبلّغ لوجه الله لا يريد جزاء ولا شكورا ، ولا يطالب بمال ولا منصب ،

__________________

(١) المنجد مادة غرم.

٢٤٨

إنّما لأجر الله عزّ وجلّ الذي وعده وكل مصلح مخلص فقال : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) كما مرّ في مطلع السورة.

نعم. إنّ دعوة الرسول (ص) خالصة من أيّ تطلّع نحو حطام الدنيا ، فلا مبرّر يدعو المترفين للتكذيب به أو التشكيك في سلامة رسالته ، وحيث يتثاقلون عن اتباعه فلمرض في صدورهم.

ثالثا : البطر.

[٤٧] إنّ المترفين ينظرون إلى الحياة ويقيّمون كلّ شيء فيها من خلال المادة (المال والثروة) وكأنّها كل شيء ، وما دامت في أيديهم فإنّهم لا يحسّون بالحاجة إلى العلم أو القائد العالم الذي يهديهم إلى الحق ، ويرشدهم في جوانب الحياة المعنوية ، والقرآن ينفي ذلك فيتساءل مستنكرا :

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)

كلّا .. إنّ علم الغيب يختص بالله ، وإذا أخرجه الله فهو إمّا في رسالاته وإمّا عند رسله الذين يرتضي ، لأنّهم وحدهم الذين يتصلون به عبر الوحي. والذي يريد اتصالا بالغيب فلا طريق له إليه إلّا بالتصديق بالرسالة والرسول (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (١) ، والمترفون يكذبون بهما فكيف يدّعون علم الغيب؟!

إن علم الغيب عند الله وهو وحده الذي يستطيع أن يكتبه بالقلم على لوح الأقدار ، لأنّه لا يتبع الظن أو التخمين. أمّا البشر فإنّهم ولو ادّعوا ذلك

__________________

(١) آل عمران ١٧٩ ولقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق مفصل للترف والمترفين.

٢٤٩

(كالمنجّمين والكهنة) فهم لا يثبتونه بمثل الكتابة باعتباره لا قطع به. وإنّ المترفين ليدّعون علم الغيب حيث يظنّون في أنفسهم بأنّ أموالهم باقية وسوف تزداد في المستقبل ، ولا يدرون لعلّها في علم الله تزول ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً* كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (١).

وما داموا لا يملكون ناصية العلم فهم بحاجة ماسة إلى مصادره (الرسالة) وما تكذيبهم بهما إلّا دليل على ما هم فيه من العتو والجحود.

[٤٨ ـ ٥٠] والأسباب الثلاثة التي مرّ ذكرها تجعل الحركة التغييرية في أوساط المترفين تواجه تحدّيات صعبة من شأنها أن توحي للبعض بأنّ التغيير مستحيل البتة ، وفي ذلك خطران على المصلحين :

الأول : خطر التراجع عن المسيرة ، كنتيجة طبيعية لليأس من الوصول إلى الأهداف المنشودة من الحركة التغييرية ، أولا أقل التنازل عن بعض القيم والتطلعات ، والاستسلام للتحديات المضادة ، ومن ثمّ المداهنة فيها ، وإلى ذلك أشار الله في قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٢).

الثاني : خطر اليأس من الناس ، ممّا يؤدي إلى اعتزالهم والانطواء على الذات ، ومن ثمّ إصدار حكم الكفر عليهم ممّا يفقد المصلحين الفاعلية التغييرية.

وهكذا يحتاج الرساليّون إلى مزيد من الصبر في مواجهة تكذيب المترفين. الصبر

__________________

(١) مريم ٧٧ / ٧٩.

(٢) هود ١٢.

٢٥٠

كصفة نفسية تعطيهم روح الاستمرار والاستقامة على طريق الرسالة.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)

أي أنّ ذلك ليس أمرا شاذا ، بل هو من القوانين والسنن الطبيعية التي حكم الله بها أن تكون في المجتمعات ، ومعرفة هذه الحقيقة من شأنه أن ينفخ روح الصبر والاستقامة في نفوس المصلحين فلا يستعجلون النتائج أو يكفّرون المجتمع ، ولا حتى يكونون كيونس بن متى ـ عليه السلام ـ الّذي زرعت تحديات قومه في نفسه الغيظ والغضب لرسالة ربه فدعا عليهم بالهلاك.

(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ)

قال الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ «أي مغموم» (١) ، وفي تضاعيف الآيتين (٤٨ ـ ٤٩) تحذير للمؤمنين من أنّ عدم الصبر لحكم الله ليس لا يخدم الرسالة فقط ، بل ويضرّ بهم أنفسهم ، كما أضرّ بيونس ـ عليه السلام ـ.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ)

فسبّحه واعترف أنّ النقص كان فيه إذ تعجّل بالدعاء على قومه ، ولم يصبر لحكم ربه فظلم نفسه ، وليس في تدبير الله ولا في حكمه.

(لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ)

من قبل ربه أو عند قومه وعبر التاريخ بسبب موقفه ، ونبذ الله له بالعراء يدل على عدم رضاه عنه ، ولكنّه تعالى تداركه بنعمة منه معنوية حيث تاب إليه ، ومادية حيث أخرجه من بطن الحوت وأنبت عليه شجرة من يقطين تظلّه عن ذلك العراء.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٩٩.

٢٥١

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)

والاجتباء هو الإختيار والاصطفاء ، وقد بيّن الله ذلك حتى لا تصير قصة يونس ـ عليه السلام ـ مع قومه سببا للطعن فيه ، والنيل من شخصيته. والآية تهدينا إلى أنّ الإنسان بعد الخطيئة والتوبة يمكن أن يسمو بنفسه إلى مقام يجتبيه ربه ، فيصيّره في عداد أئمة الصلاح والتقوى ، كما تهدينا عموم قصة يونس إلى أنّ الله يمتحن الرساليين بعناد أقوامهم ليرى هل يصبروا لحكمه أم لا.

وهذا جانب من القصة نقلها العيّاشي في تفسيره بالتفصيل : عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال : «كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ قال : حدّثني رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّ جبرئيل حدّثه أنّ يونس بن متى بعثه الله إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة ، وكان رجلا تعتريه الحدّة ، وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم ، وأنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان بالله والتصديق به واتباعه ثلاثا وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به ولم يتبعه من قومه إلّا رجلان : اسم أحدهما روبيل والآخر تنوخا ، وكان روبيل من أهل بيت العلم والنبوّة والحكمة ، وكان قديم الصحبة ليونس بن متى من قبل أن يبعثه الله بالنبوة ، وكان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة وليس له علم ولا حكم ، وكان روبيل صاحب غنم يرعاها ويتقوّت منها ، وكان تنوخا رجلا حطّابا يحتطب على رأسه ويأكل من كسبه ، وكان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا لعلم روبيل وحكمته وقديم صحبته ، فلمّا رأى أنّ قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون ضجر ، وعرف من نفسه قلّة الصبر ، فشكا ذلك إلى ربه ، وكان فيما شكا أن قال : يا ربّ إنّك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة فلبثت فيهم أدعوهم إلى الإيمان بك والتصديق برسالتي وأخوّفهم عذابك ونقمتك ثلاثا وثلاثين سنة فكذّبوني ، ولم يؤمنوا بي وجحدوا نبوتي واستخفّوا برسالتي ، وقد توعّدوني

٢٥٢

وخفت أن يقتلوني ، فأنزل عليهم عذابك فإنّهم قوم لا يؤمنون ، فأوحى الله إلى يونس : إنّ فيهم الحمّل والجنين والطفل والشيخ الكبير والمرأة الضعيفة والمستضعف المهين وأنا الحكم العدل ، سبقت رحمتي غضبي ، لا أعذّب الصغار بذنوب الكبار من قومك ، وهم يا يونس عبادي وخلقي وبريّتي في بلادي وفي عيلتي ، أحبّ أن أتأنّاهم وأرفق بهم وأنتظر توبتهم ، وإنّما بعثتك إلى قومك لتكون حيطا عليهم ، تعطف عليهم سخاء الرحمة الماسّة منهم ، وتتأنّاهم برأفة النبوّة ، فاصبر معهم بأحلام الرسالة ، وتكون لهم كهيئة الطبيب المداوي العالم بمداواة الدواء ، فخرجت بهم ولم تستعمل قلوبهم بالرفق ، ولم تمسسهم بسياسة المرسلين ، ثم سألتني مع سوء نظرك العذاب لهم عند قلة الصبر منك ، وعبدي نوح كان أصبر منك على قومه ، وأحسن صحبة ، وأشد تأنّيا في الصبر عندي ، وأبلغ في العذر ، فغضبت له حين غضب لي ، وأجبته حين دعاني ، فقال يونس : يا ربّ إنّما غضبت عليهم فيك ، وإنّما دعوت عليهم حين عصوك ، فوعزّتك لا أنعطف عليهم برأفة أبدا ، ولا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم وتكذيبهم إيّاي ، وجحدهم نبوّتي ، فأنزل عليهم عذابك فإنّهم لا يؤمنون أبدا ، فقال الله : يا يونس إنّهم مائة ألف أو يزيدون من خلقي ، يعمرون بلادي ، ويلدون عبادي ، ومحبتي أن أتأنّاهم للذي سبق من علمي فيهم وفيك ، وتقديري وتدبيري غير علمك وتقديرك ، وأنت المرسل وأنا الربّ الحكيم ، وعلمي فيهم يا يونس باطن في الغيب عندي لا تعلم ما منتهاه ، وعلمك فيهم ظاهر لا باطن له ، يا يونس قد أجبتك إلى ما سألت ، أنزل العذاب عليهم ، وما ذلك يا يونس بأوفر لحظّك عندي ، ولا أحمد لشأنك ، وسيأتيهم العذاب في شوّال في يوم الأربعاء وسط الشهر بعد طلوع الشمس ، فأعلمهم ذلك ، فسرّ يونس ولم يسؤه ولم يدر ما عاقبته» (١).

[٥١ ـ ٥٢] وبعد أن يأمر الله نبيّه (وعبره كلّ داعية رسالي) بالصبر لحكم

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص (١٢٩ / ١٣٠).

٢٥٣

الله ، مشيرا إلى قصة صاحب الحوت النبي يونس وتجربته مع قومه ، ومحذّرا له من الوقوف كموقفه في هذا الجانب ، يوصل الكلام بذلك الأمر ، مؤكدا على الصبر في طريق الرسالة ، مهما كانت التحديات المضادة والضغوط مدعاة للتخلّي عن الرسالة أو ردّات الفعل العشواء ضد المكذبين والكافرين.

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ)

أي اصبر لحكم ربك بالرغم من ذلك ، والزلق من الانحراف ، قال صاحب المنجد : أزلقه : أزلّه وأبعده عن مكانه ونحّاه ، وزلقت القدم : لم تثبت ، والفرس : أجهضت وألقت ولدها قبل تمامه ، والأرض الزلقة : الملساء التي لا شيء فيها (١) ، ولا تثبت عليها قدم .. فيزلقوك إذن بمعنى يزلّون قدمك عن مسيرة الحق ، سواء بالمداهنة التي يودّها المكذّبون أو بالمواجهة والتحدي.

ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنّ معنى الإزلاق بالإبصار هو الحسد الّذي يؤثّر في الإنسان بصورة غيبية ، ونقلوا عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «إنّ العين تدخل الرجل إلى القبر ، والجمل إلى القدر» وقوله يعوّذ الحسنين : «أعيذ كما بكلمات الله التامة ، وأسمائه الحسنى كلّها عامة ، من شرّ السامّة والهامّة ، ومن شرّ كلّ عين لامّة ، ومن شرّ حاسد إذا حسد» (٢) ، وقد يكتشف البشر أسرار ظاهرة الحسد إذا تقدموا في العلم ودراسة الحالات النفسية ، ولكنّ الأقرب من هذا المعنى أنّها كناية عن المواقف الحاقدة التي تعبّر عنها نظراتهم الحادة كالسهم النافد وكحدّ الحسام المرهف. ونحن من هذه الظاهرة البصريّة يجب أن ننطلق لمعرفة ما وراءها وما تعبّر عنه من الضغوط ، والمواقف النفسية والاجتماعية والسياسية للكفّار ضد

__________________

(١) المنجد مادة زلق.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٠٠.

٢٥٤

كلّ قيادة رسالية تنشد التغيير ، وبالذات إعلامهم الموبوء بمختلف الدعايات والتهم الباطلة.

(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)

وقولهم هذا يعبّر عن ذلك الفيض الّذي امتلأ به قلوبهم والموقف الّذي أظهرته أبصارهم ، وهكذا كلمات القرآن يفسّر بعضها بعضا ، فقوله سبحانه (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) يفسّر قوله سبحانه : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ، فعبر أبصارهم الحادة وكلماتهم النابية يريدون ابعادك عن الصراط المستقيم.

واليوم ومع تطور الوسائل الإعلامية ينبغي أن يتوقّع كلّ مصلح رسالي أن يواجه المزيد من الضغوط في مسيرته ، وبالتالي عليه أن يصبر في نفسه ، ويستقيم في حركته وعمله لوجه الله وتسليما بقضائه وحكمه ، فأنّى كانت الضغوط والتهم لا يمكنها أن تغير من الواقع شيئا ، فهل يصبح العاقل مجنونا والذكر أساطير الأولين بمجرد أن يقول الكافرون ذلك؟ كلّا .. لأنّ الحقائق لا تتغيّر بقول المكذبين المنكرين ، وإنّ الدارس للقرآن لا يمكنه إلّا التسليم بأنّه رسالة من الله إلى الناس.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)

والذكر في مقابل الغفلة والنسيان ، وقد سمّي القرآن بذلك لأنّه يذكّر البشر بربّهم وبالحق في جوانب الحياة المختلفة ، بل ويكشف لهم من أسرار الوجود وقوانينه ، ويذكّرهم بعقولهم التي تستثيرها آياته ، فهو الّذي يحافظ على مسيرة الإنسان مستقيمة على الفطرة والحق ونحو الهدف السليم دون غفلة أو انحراف ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (١).

__________________

(١) التكوير ٢٧ / ٢٨.

٢٥٥

وحينما يكون القرآن ذكرا للعالمين (وليس لقوم النبي وحده) يتبيّن أنّه يتجاوز البيئة الجاهلية الضيّقة والموبوءة بتلك الدعايات التافهة ، ويتسامى فوق تلك الحواجز التي وضعها الجاهليّون حول أنفسهم ، ومجرّد هذا التجاوز يدل على أنّ القرآن ليس وليد تلك البيئة ، وأنّ النبي ليس مجرّد حكيم عظيم أفرزه ذلك المحيط ، بل هو رسول الله ربّ العالمين. ترى كم هي المسافة شاسعة بين قولهم أنّه مجنون وبين الحقيقة؟

٢٥٦

سورة الحاقة

٢٥٧
٢٥٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله (ع) قال : «أكثر من قراءة «الحاقة» فإن قراءتها في الفرائض والنوافل من الايمان بالله ورسوله ، لأنها إنّما نزلت في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومعاوية ، ولم يسلب قارئها دينه حتى يلقى الله عزّ وجل»

تفسير نور الثقلين ـ ج ٥ ص ٤٠١

وفي مجمع البيان ، بإسناده عن جابر الجعفي ، عن أبي عبد الله (ع) قال : «أكثروا من قراءة الحاقّة في الفرائض والنوافل ، فإنّ قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسلب قارئها دينه حتى يلقى الله»

مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٤٢

٢٥٩

الإطار العام

ثلاث آيات غرر في هذه السورة ترسم معالمها ، وتحدّد ـ فيما يبدو لي ـ إطارها : فاتحتها : «الحاقة» ، وعند الخاتمة : «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» ، وأوسطها «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» ، وحين ينفتح القلب على أشعة السورة يلامس الحقيقة ـ كلّ حقيقة وكلّ الحقيقة ـ بلا حجاب ، وكذلك سور القرآن جميعا هي الجسر بين الإنسان والحقيقة ، يتجاوز المتدبرون فيها كلّ الحواجز ، ولكن كل سورة تسقط عنّا حاجزا.

وسورة الحاقة ـ كما آيات أخرى مبثوثة في كتاب ربنا العزيز ـ تسقط حاجز التهاون ، ذلك أنّ الإنسان بطبعه يعيش الغفلة عن الحق ، والتهاون فيه ، وعدم الجدّيّة في التعامل معه ، واتخاذ أمره بسذاجة بل وبسفاهة. كلّا .. إنّه حق وللحقّ ثقله ، وللحق اقتداره ، وللحق حقيقته وطاقته التي تثبته وتجعل مخالفيه في حرج عظيم. ألم تسمع بقصة عاد وثمود وفرعون وقوم نوح

٢٦٠