من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١) ، وما يؤكد أنّها الثانية أنّ السياق هو سياق الحديث عن الجزاء ، مما يستلزم الكلام عن النفخة الثانية التي يكون الجزاء بعدها ، ونقرأ هنا بعض الأخبار عن أئمة الهدى في شأن النفخ في الصور ، قال الإمام علي (ع): «وينفخ في الصور فتزهق كل مهجة ، وتبكم كل لهجة ، وتذل الشمّ الشوامخ ، والصمّ الرواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقراقا ، ومعهدها قاعا سملقا (مستويا) فلا شفيع يشفع ، ولا حميم ينفع ، ولا معذرة تدفع» (٢) ، وفي صلاته على حملة العرش قال الإمام زين العابدين : «وإسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن ، وحلول الأمر ، فينبّه بالنفخة صرعى رهائن القبور» (٣) ، وعن وهب بن منبه عن الإمام الصادق (ع) قال : «خلق الله الصور من لؤلؤة في صفاء الزجاجة ، ثم قال للعرش : خذ الصور ، فتعلق به ، ثم قال : كن ، فكان إسرافيل ، فأمره أن يأخذ الصور فأخذه ، وبه ثقب بعدد كلّ روح مخلوقة ، ونفس منفوسة ، لا تخرج روحان من ثقب واحد ، وفي وسط الصور كوّة (فتحة) كاستدارة السماء والأرض ، وإسرافيل واضع فمه على ذلك الكوّة ، ثم قال له الرب تعالى : قد وكّلتك بالصور فأنت للنفخة وللصيحة ، فدخل إسرافيل في مقدم العرش ، فأدخل رجله اليمنى تحت العرش ، وقدّم اليسرى ، ولم يطرف منذ خلقه الله ينظر متى يؤمر به» (٤) ، وفي رواية : «مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد إليه طرفه ، كأنّ عيناه كوكبان درّيّان» (٥)

__________________

(١) سورة الزمر / ٦٨

(٢) نهج البلاغة / ج ١٩٥ ص ٣١٠.

(٣) موسوعة بحار الأنوار / ج ٥٩ ص ٢١٧

(٤) المصدر / ص ٢٦١.

(٥) المصدر / ٣٦٢.

٢٨١

وهو لا يحتاج حتى يهلك الأحياء بالنفخة الأولى ويبعثهم قياما بالثانية إلى أكثر من مجرد نفخة واحدة ، لما أعطاه الله من القدرة العظيمة. قال العلامة الطباطبائي : وفي توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الأمر ، ونفوذ القدرة ، فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة (١).

ويا لها من نفخة صاعقة مخيفة ، لا تذهب بالأنفس وحسب بل تزلزل الكائنات وكأنّها ترليونات الترليونات من القنابل النووية التي تنفجر في دفعة واحدة ، فتدمّر الكون ونظامه ، بحيث تخرج الأرض عن مدارها ، وتستأصل الجبال الراسية من فوقها ، ثم يدكّها الله ببعضها.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً)

وأصل الدك هو الهدم ، يقال : دك الجدار إذا هدمه وسوّاه مع الأرض ، ولا ندري هل يضرب الله أجزاء الأرض والجبال ببعضها بتركيز الجاذبية تركيزا هائلا بين أجزائهما ، أو برفعها تماما مما يسبب تلاشيها ، أم يضرب الجبال بالأرض والعكس ، أم يرطمهما معا بكوكب آخر؟ المهمّ أنّهما يتداكّان .. وفي الآية إشارة إلى حقيقة علميّة جيولوجية : إذ لم يقل الله : «وحملت الأرض» فقط ، باعتبار أنّ الجبال جزء منها ، وذلك لأنّها في الواقع كيانات شبه مستقلّة ، جعلها الله فيها ، فنصبها وأرساها أوتادا للأرض (٢) ، فهي كما الشجرة لها هيكلها وجذورها الضاربة في التخوم .. كما نهتدي إلى أنّ الأرض تكون مستوية بالدكّ يوم القيامة ، ولذلك خص القرآن الجبال بالذكر لأنها الزوائد المرتفعة على سطحها.

ويتزامن بعث الناس للحساب مع تلك الأحداث الكونية الرهيبة لكي تتجلى

__________________

(١) الميزان / ج ١٩ ص ٣٩٧.

(٢) راجع الآيات : الغاشية ١٩ ، النازعات ٣٢ ، النبأ ٧

٢٨٢

لهم قدرة الله ، وتتساقط عندهم كل الحجب والتبريرات هنالك ، بل في الدنيا أيضا لمن يؤمن بالآخرة ويعي آياتها.

[١٥ ـ ١٧] وبعد أن يصوّر لنا القرآن مشهدا من القيامة يؤكّد بأنّها أعظم الوقائع التي تمر بالإنسان ، لأنّها تدمّر الكائنات ، وتسوق الإنسان إلى مصيره الأبدي.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ)

والتعريف بالألف واللام يعظّمها في ذهن السامع ، ويؤكد بأنّ للإنسان معها عهدا أودعه الله في فطرته ، فهي ليست نكرة للبشر السوي .. وإنّ في تسميتها (القيامة) بالواقعة يأتي للتأكيد باللفظ على كونها حقيقة لا بد من حصولها ، فكون الشيء الواقعي في الغيب ، ويفصل الإنسان عنه الزمن المستقبل لا ينفي أصل وجوده ، وهذه مسلّمة فطرية وعقلية ، وكأنّ الآية تقول : بأنّ تكذيبكم أيها البشر بالآخرة لن يغير شيئا فيها ، ولا في ما يتصل بها من الاحداث ، فهل يمنع تكذيبنا ـ مثلا ـ من تأثير نفخة إسرافيل في الأرض والجبال؟ كلا ..

ويوصلنا كتاب الله بالغيب ، إذ يضع أمامنا مشهدا آخر من مشاهد الواقعة وهو انشقاق السماء المحبوكة والمتينة الخلق إلى حدّ تكون فيه واهية كالخرقة البالية التي تصير رمادا أو هباء.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ)

المحبوكة التي لا فروج فيها ولا ضعف.

(فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ)

٢٨٣

أي شديدة الضعف وقليلة التماسك ، ليس في هيكلها وحسب بل في جزئيّات كيانها ، مما يجعلها تتبدل شيئا آخر كالمهل أو الدهان كما قال الله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١) ، وهكذا لا تبقى السماء سقفا محفوظا يمنع عن الأرض النيازك والأخطار.

ومشهدا آخر عظيم هو منظر الملائكة على الأرجاء والملائكة الثمانية العظام الذين يحملون عرش الله فوقهم.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها)

أي أطرافها ونواحيها ، قالوا : بأن الضمير عائد إلى السماء التي تشقق وتصير قطعا وأجزاء على كل واحدة منها ملائكة كثيرون.

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ)

من أعظم ملائكة الله ، وربما أعظمهم على الإطلاق ، ولفوقهم تفسيران : أحدهما : فوقهم بالمسافة ، والآخر : فوقهم بالمرتبة ، فالثمانية يحملون العرش من أركانه ومعهم من الملائكة من يحملونه من أطرافه الأخرى ، أو أنّ الثمانية لهم الرئاسة على بقية الملائكة فهم فوقهم مرتبة ، وبهذا نجمع بين الروايات القائلة : بأنهم ثمانية ، والقائلة : بأنهم أكثر من ذلك.

قال الإمام علي بن الحسين (ع) في صفة خلق العرش : «له ثمانية أركان ، على كلّ ركن منها من الملائكة ما لا يحصي عددهم إلّا الله ـ عزّ وجلّ ـ يسبّحون الليل والنهار لا يفترون» (٢) ،وقال الإمام الصادق (ع): «إنّ حملة العرش

__________________

(١) إبراهيم / ٤٨

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٠٤.

٢٨٤

أربعة : أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لبني آدم ، والثاني : على صورة الديك يسترزق الله للطير ، والثالث : على صورة الأسد يسترزق الله للسباع ، والرابع : على صورة الثور يسترزق الله للبهائم ، ونكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل ، فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية» (١)

ولقد خاض بعض المفسرين في مواضيع لا داعي لها ، واختلفوا مع بعضهم في عدد الملائكة وأشكالهم ، وهي بحوث لم نكلّف بها ، بينما توجّه أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ للرد على الأفكار المادية التي حاول أصحابها إثبات معتقداتهم التجسيدية والتشبيهية من خلال الفهم الخاطئ لهذه الآية الكريمة ، حيث شبهوا عرش الله بعروش السلاطين التي يتربعون عليها. تعالى الله عما يصفون علوّا كبيرا.

قال سلمان المحمدي : سأل بعض النصارى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال له : أخبرني عن ربك أيحمل؟ فقال (ع) : «ربنا جل جلاله يحمّل ولا يحمل» ، قال النصراني : وكيف ذلك ونحن نجد في الإنجيل : «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ»؟ فقال علي (ع) : «إنّ الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ، ولكنّه شيء محدود مخلوق مدبّر ، وربك ـ عزّ وجلّ ـ مالكه ، لا أنّه عليه ككون الشيء على الشيء ، وأمر الملائكة بحمله يحملون العرش بما أقدرهم عليه» قال : النصراني صدقت رحمك الله (٢)

وقال الإمام الرضا (ع): «والمحمول ما سوى الله ، ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه : يا محمول» فقال له أبو قرّة : فإنّه قال : «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ»؟ وقال : «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ»؟! فقال أبو

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر نقلا عن كتاب التوحيد.

٢٨٥

الحسن (ع) : «العرش ليس هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة ، وعرش فيه كل شيء ، ثم أضاف : الحمل إلى غيره ، خلق من خلقه لأنّه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة العلم» (١)

والعرش هو رمز الهيمنة والسلطان والعلم ، والموضع الذي يتجلّى فيه علم الله وقدره وقضاؤه وأمره للملائكة ، الذين هم بدورهم يمضون ما يؤمرون به ، ولعل أهم حكمة لخلق العرش أنّه تعالى قد أوكل إلى الملائكة إنفاذ مقاديره وتدبيره للخلق ، وهو الذي لا يحدّه مكان ما كان لهم أن يتصلوا به ، وكيف يتّصل المخلوق المحدود بالخالق لو لا خلق الأسماء والأشياء كالبيت الذي يكون مركز عبادته ، والعرش الذي يكون مركز إدارته للكائنات وهيمنته.

وقد أوّلت بعض النصوص الحملة في خير خلق الله قال الإمام الصادق (ع): «حملة العرش ثمانية أربعة منّا وأربعة ممن شاء الله» (٢) ، وفي حديث آخر : «حملة العرش ثمانية : أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين ، فأما الأربعة من الأولين : فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأمّا الآخرون : فمحمد وعلي والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ ومعنى «يحملون» يعني العلم» (٣)

وإذا كان الظاهر أنّ الملائكة هم الذين يحملون العرش فإنّ الباطن هو أولئك الذين خلقت الملائكة لأجلهم وهم الصفوة من عباد الله. أليس قد خلق الأشياء لأجل الإنسان ، وأيّ إنسان أعظم من الأنبياء والأوصياء؟

[١٨] وأعظم مشهد في القيامة هو عرض الناس للحساب والجزاء ، لأنه أشدّ

__________________

(١) المصدر / ص ٤٠٥

(٢) المصدر / ص ٤٠٦.

(٣) المصدر

٢٨٦

رهبة ، حيث يلقى الإنسان حسابه ومصيره الأبدي ، ولأنه الهدف الأساسي من وراء كلّ أحداثها ومشاهدها المرعبة ..

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)

وإذا كانت لا تخفى عند الحساب والجزاء ولا حتى واحدة من الأعمال التي أخفاها الإنسان وقام بها في السر ، فكيف بالظاهر منها؟ فالحساب اذن دقيق ، لأنه يتأسس على علم الله المحيط بكلّ شيء ، وبالحساب يوم القيامة يتجلّى عدل الله ولطفه وغضبه وعلمه ، قال رسول الله (ص): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتى يسأله عن أربع خصال : عمرك فيما أفنيته؟ وجسدك فيما أبليته؟ ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته؟ وعن حبّنا أهل البيت» (١) ، ويعرض أعمال العباد ليظهر الحق جليّا ، كما تتأكد القارعة والواقعة بوقوعها ، ولذلك سمّيت القيامة بالحاقة.

وكلمة أخيرة :

إنّنا نلاحظ في القرآن أنّه لا يكاد يتحدث عن التاريخ ومصير الأقوام السالفة إلّا ويوصل ذلك بالحديث عن الآخرة ، فما هو السر في ذلك وما هي العلاقة بينهما؟

١ ـ لأنّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يعيش لحظته الراهنة فقط ، إنّما يعيش الحاضر على ضوء الماضي والمستقبل معا ، فيتحرك من حيث انتهى الآخرون ، ويتعظ بتجاربهم لبناء حياة سعيدة في الحاضر ، وفي نفس الوقت يخطط ويعمل لكي يربح المستقبل.

٢ ـ ولأنّ الآخرة كما التاريخ غيب لا سبيل للإنسان إلى معرفته إلّا بالآيات

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧ ص ٢٥٩.

٢٨٧

والآثار الدالّة عليه ، والذي يكفر بالآخرة لأنّه لا يعاينها بذاتها كالذي يكفر بالتاريخ لأنه لم يعاصر أحداثه ، مع أنّ الأدلة قائمة تهدي إليه.

٣ ـ ويتشابه التاريخ مع الآخرة في كون الإثنين عرصة تكشف عن سنة الجزاء الحاكمة في الحياة ، وهيمنة الله عليها ، وتمايز المؤمنين عن سواهم ، وهكذا الكثير من الحقائق ، بل أنّ التاريخ هو الآية المادية العظمى التي تهدي إلى الإيمان بالآخرة والجزاء.

٢٨٨

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ

___________________

٣٦ [غسلين] : الصديد الذي ينغسل بسيلانه من أبدان أهل النار ، ووزنه فعلين من الغسل.

٢٨٩

إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

٢٩٠

وإنّه لحقّ اليقين

هدى من الآيات :

يأتي كلّ إنسان إلى الدنيا وأمامه طريقان وفرصة واحدة : طريق الحق الذي ينتهي به إلى الجنة والنعيم ، وطريق الباطل الذي ينتهي به إلى النار والعذاب ، وأمّا الفرصة فهي عمره الذي يفنيه في أحد الطريقين ، فإمّا يختار الجنة ويسعى لها سعيها أو العكس ، فالدنيا وحدها هي دار الابتلاء والعمل وحيث تقع الواقعة ويعرض للحساب فإنّه لا يملك تبديلا ولا تحويلا ، لأنّ الآخرة دار الحساب والجزاء فقط.

وفي الدرس الأخير من سورة الحاقة يضعنا القرآن وجها لوجه أمام هذه الحقيقة مؤكّدا بأنّ هناك عاقبتين وفريقين ، فإمّا العيشة الراضية في الجنة التي هي نصيب أصحاب اليمين ، وإمّا تصلية الجحيم جزاء لأصحاب الشمال. وبعد أن يبين في الأثناء بأنّ المصير في الآخرة متأسس على موقف الإنسان وعمله في الدنيا يوجّهنا ربنا إلى رسالته الحقة الصادقة باعتبارها الصراط المستقيم والنهج الذي يقود إلى الفوز والفلاح يوم القيامة ، مدافعا عنها ضد ضلالات أعدائه وأعداء رسوله الذين

٢٩١

قالوا بأنّها شعر تارة وكهانة تارة أخرى جحودا واستكبارا ، وإنّها لتذكرة للمتقين وحسرة على الكافرين ، وإنّه لحق اليقين ، فسبحان الله عمّا يصفون ويشركون.

بينات من الآيات :

[١٩] بعد عرض الناس للحساب تظهر حقيقتهم ، وتتعين مصائرهم على أساسها في ظل الهيمنة المطلقة للحق ، ولعله لذلك سمّيت القيامة بالحاقّة ، فإمّا أن يكون الحق مع الإنسان فيقوده إلى الفوز بالجنة ، وإمّا أن يكون ضده فيسوقه إلى بئس المصير في جهنم. ويكشف لنا القرآن عن غيب الآخرة ليضعنا أمام مصيرين لا ثالث لهما بعد أن وضعنا في أجواء القيامة وأحضر مشاهدها في قلوبنا لكي نختار أحد الإثنين ، وبالطبع نرى السياق القرآني يرجّح لنا بعرضه الحكيم خيار أصحاب اليمين.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ)

ممّا يعني فوزه بالجنة والرضوان ، لأنّ اليمين رمز ذلك ، وكناية عن اليمن والبركة والخير.

(فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)

قال العلامة الطبرسي «هاؤم» أمر للجماعة بمنزلة هاكم (وأضاف :) بمنزلة خذوا ، وإنّما يقول ذلك سرورا لعلمه بأنّه ليس فيه إلّا الطاعات ، فلا يستحي أن ينظر فيه غيره (١) ، وقال الرازي : دلّ ذلك على أنّه بلغ الغاية في السرور فأحبّ أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما ناله (٢) ، ولعل خطابه موجّه لإخوانه من أصحاب

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ عند الآية.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية.

٢٩٢

الجنة ، وبالخصوص أئمة الحق الذين ينصبهم الله موازين للأمم عند الحساب ، كما قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (١).

قال الإمام الصادق (ع): كل أمّة يحاسبها إمام زمانها ، ويعرف الأئمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم ، وهو قوله تعالى : «وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ» وهم الأئمة «كلّا بسيماهم» فيعطوا أولياءهم كتابهم بيمينهم ، فيمرّوا إلى الجنة بلا حساب ، ويعطوا أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمروا إلى النار بلا حساب ، فإذا نظر أولياؤهم في كتابهم يقولون لإخوانهم : الآيتان ١٩ (٢)

وكتاب المؤمنين الذي سجّلت فيه صالحاتهم هو جوازهم على الصراط إلى الجنة ، وشهادتهم في الانتماء إلى الصالحين والأبرار ، وتسجيل الله لهذه اللقطة «اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» يأتي للتأكيد على أنّ أحدا لا يدخل الجنة من دون ثمن ، بل إنّ الله خلق كلّ واحد وأعطاه الإرادة والإختيار بأن يكتب بنفسه حياته ومستقبله المصيري ، وصفحات الإنسان التي يتألّف منها كتابه هي ساعات عمره التي يكتب فيها ما يشاء من الأعمال التي تحدّد مصيره في الآخرة ، وفي الخبر النبوي أنّه : «يفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيّام عمره أربعة وعشرون خزانة (عدد ساعات الليل والنهار) فخزانة يجدها مملوءة نورا وسرورا ، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار ، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه ، ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة ، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغّص عليهم نعيمها ، وهي الساعة التي عصى فيها ربه ، ثم يفتح له خزانة

__________________

(١) الإسراء / ٧١.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٠٧.

٢٩٣

أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوؤه ، وهي التي نام فيها ، أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا ، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكّنا من أن يملأها حسنات ما لا يوصف» (١) ، أمّا المتقون الذين لا يفترون عن طاعة الله ويذكرونه دائما وعلى كل حال (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) فإنّ أكثر صفحات كتبهم تتألق بنور الأعمال الصالحة التي يستبشرون بها ، ويدعون الآخرين لقراءتها يوم القيامة.

[٢٠] ويؤكّد الله أنّ الإيمان بالجزاء (الآخرة) أصل كلّ خير ، وأساس كلّ عمل صالح في حياة المؤمنين ، فهو الدافع الذي يقف وراء الصالحات ، والجامع المشترك بينها كلها ، وهذه الحقيقة تتضح لو قمنا بعملية استقراء دقيقة لحياة واحد من أصحاب اليمين ، الذين يعلن الواحد منهم هذه الحقيقة في صفوف المحشر يومئذ.

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)

ولا يقول : سأعرف أو سأعلم حسابيه ، لأنّ الإنسان على نفسه بصيرة فهو الذي يكتب كتابه بنفسه .. إذن فهو يعلم بحسابه ولو بصورة مجملة ، فكيف والمؤمنون يحاسبون أنفسهم؟ إنّما يريد سألاقي من يحاسبني وهو الله وسأجازى ، لأنّ ما بعد الحساب هو المقصود لذاته. والمعنى أنّ كلّ ما تقرؤونه في الكتاب من الصالحات هو ثمرة لشجرة الإيمان بالآخرة ، ونبتة جذرها يعود إلى ذلك.

وفي معنى الظن اختلفت تعابير المفسرين ، فقال الزمخشري وتابعه الفخر الرازي : أي علمت ، وإنّما أجري الظن مجرى العلم لأنّ الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ، ويقال : «أظن ظنّا كاليقين أنّ الأمر كيت

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧ ص ٢٦٢

٢٩٤

وكيت» (١) ، وهو ضعيف ، لأنّ فيه تضعيف لكون الظن هنا بمعنى العلم واليقين الذي ذهب إليه أغلب المفسرين وهو الأقرب ودلّت عليه النصوص ، قال الإمام علي (ع) وقد سأله رجل عما اشتبه عليه في القرآن : «وأمّا قوله : «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» ، وقوله : «وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا» فإنّ قوله : «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» يقول : إنّي ظننت أنّي أبعث فأجاب ، وقوله للمنافقين : «وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا» فهذا الظن ظن شك ، وليس الظن ظن يقين ، والظن ظنان : ظن شك وظن يقين ، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك» (٢).

ويبدو لي أنّ الظن في هذه الآية مرحلة متقدمة من العلم واليقين ، لأنّه بمعنى الاستحضار والتصور ، فإنّ المؤمنين المتقين ليركزون الفكر في أمر الآخرة ويتخيّلون مشاهدها الغيبية قائمة في الشهود أمام أعينهم ، فتارة يتصورون الجنة وما فيها من النعيم ، وأخرى يتصورون النار وما فيها من شديد العذاب ، ممّا يزرع فيهم الخوف والرجاء ، بل ويرون الجنة والنار بكلّ وضوح في الأعمال الدنيوية.

وإنّ يقين المؤمنين بوجوب الحساب يجعلهم يتحركون في الحياة على أساس ذلك ، فإذا بهم يحاسبون أنفسهم ويسعون جهدهم أن تكون صحائفهم منوّرة بالصالحات ، فلغتهم في الحياة لغة رياضية ذات حسابات دقيقة في علاقاتهم ، وأوقاتهم ، وجهودهم ، وإنفاقهم و.. و..

[٢١ ـ ٢٣] ويبيّن الوحي جانبا من نعيم كل صاحب يمين فيقول :

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)

__________________

(١) الكشاف / ج ٤ ص ٦٠٣.

(٢) التوحيد للصدوق / ص ٢٦٧.

٢٩٥

أي كاملة لا يعتريها نقص ولا عيب ، فإنّ الرضى لا يحصل إلّا إذا وجد الإحساس بالكمال وعدم النقص ، وكون المؤمن في عيشة راضية دليل على بلوغه قمة الرضى لأنّ رضى المحيط والعيشة جزء من رضاه ويعزّزه ، فليس ثمّة في محيطه شيء ولا أحد غير راض يبعث في نفسه عدم الرضى والراحة النفسية ، فنعيم الجنة وحورها وكل شيء فيها ليفرح بالمؤمن ويرضى به.

وفي الآية فكرة عميقة وهي : أنّ المؤمن أين ما حلّ يحبّه المحيط ، وتستأنس به الحياة ، لأنّه مبارك أين ما كان ، يرضى عنه الناس والحيوان والنبات وحتى الأرض والجمادات التي تربطه بها رابطة ، فهو يخدم الناس ويتعب نفسه من أجلهم ، ويرفق بالحيوان ، ويرعى النبات ، ويصلح الأرض ، ويستخدم كلّ شيء في طاعة ربه ولأهدافه المحدّدة ، ممّا يسبب شعورا داخله بالرضى ، ويضفي جوّ الرضا على ما حوله ، بينما الكافر العكس من ذلك تماما ، نفسه ساخطة ، وكل شيء ساخط منه ، لأنّ علاقته ليست سليمة بما حوله.

قال الرسول (ص): «الناس اثنان : واحد أراح ، وآخر استراح ، فأمّا الذي استراح فالمؤمن إذا مات استراح من الدنيا وبلائها ، وأمّا الذي أراح فالكافر إذا مات أراح الشجر والدواب وكثيرا من الناس» (١) ، فهم غير راضين به ، ولا مستأنسين لوجوده ، بعكس المؤمن الذي ترضى به عيشته حتى إذا مات تأثّر له وحزن عليه كل شيء ، حتى جاء في الأخبار أنّه : «ما من مؤمن يموت في غربة من الأرض فيغيب عنه بواكيه ، إلّا بكته بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها ، وبكته أثوابه ، وبكته أبواب السماء التي يصعد بها عمله ، وبكاه الملكان الموكّلان به» (٢) ، هذا في الدنيا ، أمّا في الآخرة فالنصوص كثيرة ومستفيضة تحدثنا عن

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٦ ص ١٥١.

(٢) المصدر / ج ٦٧ ص ٦٦.

٢٩٦

رضى الجنة ونعيمها حتى الفاكهة والطير والقصور بسكّانها من المؤمنين ، فقد جاء في الروايات أنّ الفاكهة تخاطب ولي الله أن كلني قبل هذه وتلك ، وأنّ الطير بعد أن يأكله يعود سويّا فيطير في الجنة فرحا يفتخر على سائر الطيور قائلا : من مثلي وقد أكل مني وليّ الله؟ (١).

وفكرة أخرى نفهمها من الآية وهي : أنّ المؤمن لفي عيشة راضية حتى في الدنيا بسبب تسليمه لما يقسمه ربه له فيها ، وبسبب تطلعه إلى الآخرة ونعيمها ، فلا يسأم من فقر ، ولا تعكّر صفو عيشه مصيبة ، قال الإمام الصادق (ع): «ما من مؤمن إلّا وقد جعل الله له من إيمانه أنسا يسكن إليه ، حتى لو كان على قمة جبل» ولرضاه في الدنيا لله فإنّه يجعله في كمال الرضى معنويا وماديا في الآخرة.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ)

في درجتها ومقامها المعنوي ، وفي ارتفاعها فإنّ خير الجنان منظرا وثمرا ما نبت على الروابي وما كان شجرها عاليا رفيعا ممّا يزيدها روعة وظلالا ، ولكنّ علوّ الجنة ليس بالذي يجعل ثمارها لا تطالها الأيدي ، كلّا .. إنّما هي أقرب ما تكون ثمرة من قاطفها وجانيها.

(قُطُوفُها دانِيَةٌ)

بحيث لا يحتاج المؤمنون لبذل جهد وعناء من أجل جنيها وأكلها ، وللدانية بالإضافة إلى معنى القرب (من الدنو) معنى النضج والبلوغ ، فهي مقتربة من حين قطافها وقطعها من شجرتها.

__________________

(١) المصدر راجع المجلد الثامن عن الجنة ونعيمها.

٢٩٧

قال رسول الله (ص): «من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكئ ، وإنّ الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا وليّ الله كلني قبل أن تأكل هذا قبلي» (١).

[٢٤] وهنالك يدعى المؤمنون إلى مأدبة الله ، والمشتملة على ما لذّ وطاب من أنواع الأكل والشراب التي لا يعلمها إلّا هو عزّ وجلّ.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً)

لا ينغّصه عيب فيه ولا سبب خارجه ، وإنّما يبعث الهناء بمنظره (هو وآنيته ومائدته) وبطعمه اللذيذ وفوائده الجمّة. وفي الدعوة بفعل الأمر «كُلُوا وَاشْرَبُوا» إشارة إلى فكرتين : الأولى : الإباحة ، فكلّ شيء هناك مأكول ومشروب حلال مباح للمؤمنين لا حرام فيه ، والثانية : أنّ الله يعطي أصحاب الجنة القدرة الواسعة على الاستلذاذ بنعيمها فهم يستطيعون الأكل والشرب كلّما شاؤوا لا يمنعهم مانع ، قال رسول الله (ص): «والذي نفسي بيده إنّ الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع» (٢)

ولأنّ منهج الرسالة يهدف إصلاح الإنسان فهو لا يذكر قصص التاريخ ولا مشاهد القيامة إلّا ويوجد رابطا بينه وبينها ، ليحدّد لنا الموقف السليم تجاه ما يذكره ، كما سبق وأن قلنا : بأنّ القرآن يريدنا أن لا نعيش اللحظة الراهنة فقط ، إنّما نعيش الحاضر على ضوء الماضي والمستقبل .. كذلك يبيّن الوحي أنّ نعيم الجنة نتيجة للعمل الصالح في الدنيا.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢١٦.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٤٦.

٢٩٨

(بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)

وبهذا ينسف الأماني والظنون الكاذبة ، ويضع الإنسان أمام المسؤولية. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى القول بأنّ «أسلفتم» تعني الصيام ، واستشهد الدر المنثور بقول الله في حديث قدسي : «يا أوليائي! طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم ، وجفّت بطونكم ، كونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية» (١) ، والتفت الفخر الرازي إلى معنى لطيف للكلمة فقال : والاسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالإقراض ، ومنه يقال : أسلف في كذا إذا قدّم فيه ماله (٢).

والذي أراه أنّ الصيام أحد مفردات الاسلاف ، أمّا الكلمة فهي عامة تتسع لكل الصالحات كالإنفاق والجهاد والصلاة و.. التي هي ثمن الجنة بعد فضل الله و: «شتّان ما بين عملين : عمل تذهب لذته وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره» (٣) ، وذلك هو الفرق بين أصحاب النار وأصحاب الجنة.

[٢٥ ـ ٢٧] ويمضي السياق قدما في تصوير جزاء الكفار الذين تعطى كتبهم في شمالهم دلالة على الشؤم وسوء المصير ، وذلك لتتوازن معادلة الخوف والرجاء في ذهن الإنسان ويسمو بنفسه في آفاق القرب من الله ، يدفعه الرجاء للمزيد من العمل الصالح ، ويردعه الخوف عن محارم الله واقتراف السيئات.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ)

__________________

(١) الدر المنثور / ج ٦ ص ٢٦٢

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية.

(٣) نهج البلاغة / حكمة ١٢١.

٢٩٩

الذي اختطّه وألّف ما فيه بنفسه.

(بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ)

وتعكس هذه الآية مدى الفارق بين الإثنين : الأول الذي يكاد يطير فرحا بكتابه ، ويدعو الآخرين لقراءته حتى يشاركوه السرور ، والآخر الذي ليس لا يدعو الآخرين لقراءة كتابه بل يتعذّب هو خجلا وحسرة ممّا فيه ، إلى حدّ يتمنّى لو ذهب به إلى العذاب دون أن يقرأ كتابه.

قال الفخر الرازي : واعلم أنّه لمّا نظر في كتابه يذكر قبائح أفعاله خجل منها ، وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار ، فقال : يا ليتهم عذّبوني بالنار وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكّرني قبائح أفعالي ، حتى لا أدفع هذه الخجالة ، وهذا ينبّهك على أنّ العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني (١) ، وإلى مثل هذا ذهب أكثر المفسرين. ثم يضيف القرآن بلسان حال أصحاب الشمال قائلا :

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ)

ممّا يدل على وجود ثلاثة أنواع من العذاب : عذاب الفضيحة بين الناس والذي يحلّ بأصحاب الجحيم فور إعطائهم كتبهم بشمالهم ممّا يعرفهم لأهل المحشر بأنّهم من الخاسرين المعذّبين ، والعذاب النفسي (بالخجل والندم) الذي يحلّ بالنظر في صحائفهم المسودّة بالقبائح والسيئات التي اكتتبوها لأنفسهم ، والعذاب الذي يتلقّونه عند ورودهم النار ، ولذلك فإنّهم يتمنّون لو أنّ موتتهم الدنيوية كانت النهاية ، فلا بعث ولا حساب ولا جزاء بعدها.

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية

٣٠٠