من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

(وَلا يَسْتَثْنُونَ)

وتنطوي هذه الآية على معنيين : أحدهما : الاستثناء بمعنى أخذ مشيئة الله والمتغيرات بعين الإعتبار ، فإنّه نهى سبحانه أن لا يعلّق أحد عزمه وقراره بمشيئته فقال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) وهذه حقيقة علمية واقعية أنّ الإنسان العاقل حينما يخطط لأمر ما يجب أن يضع في فكره الاحتمالات الممكنة التي قد يواجهها في المستقبل ، ولقد أثبتت التجارب العلمية ما نعايشه يوميّا من احتمالات الخطأ ومخالفة ما نخططه عمّا يقع فعلا ، مما يكشف أمرين : الأول : جهلنا بكلّ الحقائق التي قد تقع ، والثاني : أنّ هناك إرادة فوق القوانين والأنظمة الواقعية يمكن أن تخرقها وتخرب الحسابات والخطط في أيّة لحظة بحيث لا يملك الإنسان إلّا الاستسلام لها ، أو يكون قد استعد للأمر سابقا ووضع الخطط المناسبة ، وتعرّفنا البصائر الإسلامية بتلك الإرادة أنّها مشيئة الله عزّ وجلّ .. يقول الإمام علي ـ عليه السلام ـ : «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، وحل العقود ، ونقض الهمم» (٢) ، وما أكثر البحوث الفلسفية التي تفتح هذه الآية آفاقها أمام المتدبر ، والتي خاض فيها المفسرون والفلاسفة.

الثاني : الاستثناء بمعنى الاقتطاع والعزل من الثمر للفقراء والمساكين. ولقد أغفل أصحاب الجنة قول «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ» كما عقدوا العزم بالأيمان المغلّظة أن لا يعطوا ولا فقيرا واحدا شيئا مما يصرمون ، ولكن هل أفلحوا في أمرهم؟ كلّا ..

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ)

__________________

(١) الكهف / ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) نهج البلاغة / حكمة ٢٥٠.

٢٢١

قبل حلول موعدهم الذي تعاقدوا على أن يهبّوا فيه للصرم (أول الصباح) ، وما يدريك لعلهم ناموا أول الليل طمعا في الجلوس مبكّرين. بلى. إنّ الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ما كان ليغفل عن تدبير خلقه وإجراء سننه في الحياة ، فقد أراد أن يجعل آية تهديهم إلى الإيمان به والتسليم لأوامره حيث أمر بالاستثناء (إنشاء الله) وبالإنفاق على المساكين ، وأن يعلم الإنسان بأنّ الجزاء حقيقة واقعية وأنّه نتيجة عمله.

والطواف هو المرور بالشيء وحوله ، والطائف الذي يقوم بذلك الفعل ، ولقد قال المفسرون أنّه العذاب ، وقد يكون تأويله بالريح المدمّرة ، أو طوفان الرمل ، أو الماء العاتي ، أو الجراد تأكل الثمر وكأنّها تصرمه ، ولعلّ الأخير أقرب الاحتمالات .. يقال : طاف الجراد إذا ملأ الأرض كالطوفان (١).

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)

وكأن أحدا سبقهم إلى صرمها ، وهكذا يواجه مكر الله مكر الإنسان فيدعه هباء منثورا (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٢) ، وإذا استطاعوا أن يخفوا مكرهم عن المساكين فهل استطاعوا أن يخفوه عن عالم الغيب والشهادة؟ كلّا .. وأرسل الله طائفة ليثبت لهم هذه الحقيقة ، وربما جعله ليلا «وَهُمْ نائِمُونَ» لتكون القضية أعمق أثرا حيث يعلمون أنّ الجزاء من جنس العمل ، فكما أنّهم أخفوا مكرهم عن أولئك كذلك أخفى الله مكره عنهم فما جعلهم يعاينونه.

[٢١ ـ ٢٣] ولأنّ من طبيعة الإنسان أنّه سريع الانتباه من الرقاد عند انتظار أمر هام ، فإنّهم كانوا ـ فيما يبدو ـ أيقاظا قبيل الصبح.

__________________

(١) المنجد / مادة طاف.

(٢) آل عمران / ٥٤.

٢٢٢

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ)

نادى بعضهم بعضا ، وأجمعوا بالفعل على ضرورة التبكير في الذهاب إلى الجنة وصرمها ، واستحثّ بعضهم بعضا.

(أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ)

أي إذا كنتم تريدون الوقت الأنسب للصرم من دون استثناء فلا أنسب من الغدو ، وهو السعي أول الصبح. وأصل الحرث من قلب الأرض بآلة الحراثة ، وحرثكم يعنون الذي أتعبتم أنفسكم حتى حرثتموه ، وفي ذلك استثارة للذات ، بأنّكم الذين أجهدتم أنفسكم وحرثتم الأرض وزرعتموها وناضلتم منذ البداية حتى أثمرت .. فأنتم وحدكم إذن الذين يجب أن يكون لكم النتاج لا يشارككم فيه أحد من الناس.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ)

في سرعة متأنّية محفوفة بالحيطة والحذر من الفضيحة ، لكي ينجزوا المهمة لو أمكنهم قبل استيقاظ المساكين ورواحهم إلى حوائجهم. والتخافت نقيض الجهر والإعلان فهو التّسار ، ويبدو أنّهم يدعون بعضهم إلى المزيد من الكتمان والتخفّي. أو كانوا في أثناء انطلاقهم إلى الصرم يتناجون الحديث والتآمر. وعملوا المستحيل من أجل همّهم الشاغل الذي تخافتوا به طيلة الطريق إلى جنتهم ، وهو إخفاء الأمر على المعوزين حتى لا يسألوهم شيئا ممّا يصرمون.

(أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)

والمسكين هو المعوز الذي لا يملك حتى قوت يومه ، والآية تدل على مدى شحّهم

٢٢٣

إذ لا يريدون أن يتعطفوا ولا على واحد ولو كان من أحوج الناس! وأكّدوا على ذلك اليوم بالذات لأنّه يوم الصرم والقسمة ، فلا يضرهم أن يدخل المساكين بعده إذ لا ثمر ولا قسمة ، والآية تعكس ظاهرة كانت شائعة في ذلك المجتمع وهي أنّ المساكين والمعوزين يدخلون المزارع والبساتين في مواسم الجني والحصاد والصرم ، ولعلهم كانوا يحاولون التعرف على اليوم الذي يبادر فيه الملّاك إلى ذلك فيطوفون عليهم في حقولهم طمعا في المساعدة والإعانة ، ولعل والد الأخوة الخمسة (أصحاب الجنة) الذي توفّى وأورثهم إيّاها كان قد عوّد المساكين على المعونة يوم الصرم من كلّ عام ، وقد أخذ أصحاب الجنة ذلك بعين الإعتبار في خطتهم واحتاطوا للأمر بحيث أنّهم من الناحية الظاهرية ما أغفلوا شيئا.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ)

في ظنّهم إذ أحكموا خططهم وكيدهم من كلّ الجوانب. واختلف في معنى الحرد فقيل : هو القصد (١) ، فالمعنى غدوا على قصدهم الذي قصدوا أي الصرم والمنع قادرين عند أنفسهم ، وقيل : الغضب (٢) ، وقيل : المنع ، وقيل : الجد (٣) ، ويبدو لي أنّه المنع المقصود الجاد والمشرب بالحقد والغضب على المساكين والنفور منهم. وإنّما تصوّروا أنفسهم قادرين على ذلك لأنّهم أخذوا بكلّ الأسباب التي من شأنها إيصالهم إلى الهدف ، وغاب عنهم ـ بسبب ترفهم وضعف إيمانهم ـ أنّ قدرة الله المطلقة فوق كلّ شيء ، وأنّه وحده الذي لا يمنعه مانع. ومشوا نحو جنتهم وكلّهم ثقة بأنّ ما أرادوه سوف يتحقّق.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ)

__________________

(١) في مجمع البيان والكشاف وتفسير البصائر عند الآية.

(٢) المنجد / مادة حرد.

(٣) في الدر المنثور عند الآية.

٢٢٤

عن الحق ، وإن شيئا لا يصير إلّا أن يشاء الله ، وإنّه يعلم حتى السر ، وإنّ في الإنفاق في سبيل الله خيرا عظيما وبركة ، وقيل : ضالون أي أنّنا ضيّعنا الطريق وصرنا إلى غير جنتنا إذ لم يصدّقوا أنفسهم أنّ الأرض التي تركوها أمس بأفضل حالة قد تحوّلت إلى بلقع فزعموا أنّهم قد ضلوا الطريق إلى أرضهم إلى غيرها ، ولكن كيف يضيّع الإنسان أرضه؟! كلّا .. إنّها أرضهم بعينها ، وإنّهم ضالون عن الحقيقة وليسوا ضالين عن جنتهم ، وإنّهم حرمهم الله بمشيئته وحكمته.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)

وثمّة علاقة بين ضلالهم وحرمانهم وهي أنّ بلوغ الإنسان تطلعاته وأهدافه المعنوية والمادية متصل بالمنهج الذي يتبعه في الحياة ، فحينما يخطئ اختيار المنهج أو يضل عن المنهج الصحيح فإنّه بصورة طبيعية مباشرة سيحرم ليس من معطياته المعنوية بل حتى المادية منها ، وهذا ما وقع فيه أصحاب الجنة ، وفي الحديث قال الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ : «إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق» (١).

ونستوحي من الآية بصيرة أخرى وهي : أنّهم اهتدوا إلى أنّ الحرمان الحقيقي ليس قلّة المال والجاه بالمسكنة ، وإنّما الحرمان والمسكنة قلّة الإيمان والمعرفة بالله بالضلال.

وهكذا أصبح الحادث المريع بمثابة صدمة قويّة أيقظتهم من نومة الضلال والحرمان ، وبداية لرحلة العروج في آفاق التوبة والإنابة ، والتي أوّلها اكتشاف الإنسان لخطئه في الحياة. وهكذا نهتدي إلى أنّ من أهمّ الحكم التي وراء أخذ الله

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣٩٥ نقلا عن الكافي.

٢٢٥

للناس بالبأساء والضراء وألوان من العذاب في الدنيا هي تصحيح مسيرة البشر ، بإحياء ضميره واستثارة عقله من خلال ذلك ، كما قال تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (١) .. فما أحوجنا نحن المسلمين أن نتأمّل قصة هؤلاء الأخوة الذين اعتبروا بآيات الله وراجعوا أنفسهم بحثا عن الحقيقة لمّا رأوا جنتهم وقد أصبحت كالصريم ، فنغيّر من أنفسنا ليغيّر الله ما نحن فيه ، إذ ما أشبه تلك الجنة وقد طاف عليها طائف من الله بحضارتنا التي صرمتها عوامل الانحطاط والتخلف.

ولو أنّهم استمعوا إلى نداء المصلحين لما ابتلوا بتلك النهاية المريعة .. وهكذا كل أمّة لا تفلح إلّا إذا عرفت قيمة المصلحين الثائرين ، فاستمعت إلى نصائحهم ، واستجابت لبلاغهم وإنذارهم. ولهذا الدور تصدّى أوسط أصحاب الجنة ، فعارضهم في البداية حينما أزمعوا وأجمعوا على الخطيئة ، وذكّرهم لمّا أصابهم عذاب الله بالحق ، وحمّلهم كامل المسؤولية ، واستفاد من الصدمة التي أصابتهم في إرشادهم إلى العلاج الناجح.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ)

وهو يذكّرهم ويلومهم ، ويرشدهم في آن واحد :

(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)

أي أنّ التسبيح هو السبيل لعلاج الضلالة والحرمان ، فهو إذن ليس كما يتصوّر البعض مجرد قول الواحد سبحان الله ، إنّما هو شريعة نظام ومنهجية حياة ، تتسع لعلاج كلّ انحراف ومشكلة لدى الإنسان ، وهدايته إلى الحق والصواب في كلّ

__________________

(١) الأنعام / ٤٢.

٢٢٦

ميدان وجانب ، حيث أنّه بالتسبيح يقدس المرء ربه فلا ينسب الذنب إليه وإنّما إلى نفسه ، ولهذا يأتي التسبيح عند الاعتراف بالذنب ، مثل قوله سبحانه في قصة ذي النون وعلى لسانه : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) والذي ذهب إليه البعض من تفسير للتسبيح هنا بأنّه الاستثناء (بالعطاء للمساكين ، وقول إنشاء الله) أو التوبة بعد الذنب صحيح ولكنّه من المصاديق والمفردات التي إلى جانبها الكثير مثيلاتها.

وتتساءل : من هو أوسطهم؟

قال أكثر المفسرين أنّه أوسطهم في السن ، وذلك ممكن إلّا أنّ الأقرب للمعنى أنّه أعدلهم وأرجحهم عقلا ، ذلك أنّ السن في مثل هذه القضية ليس بذي أهمية حتى يذكر ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس وقد سأله سائل : يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال : لا بل كان أصغر القوم سنّا وكان أكبرهم عقلا ، وأوسط القوم خير القوم ، والدليل عليه في القرآن أنّكم يا أمّة محمّد خير الأمم ، قال الله : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (١) ، وإنّما يكتشف الإنسان الطريق السوي باعتداله في العقل والبصيرة لا بمقدار عمره ، وحيث كان أخوهم هذا صاحب بصيرة نافذة فقد سبقهم إلى معرفة الحق ونصحهم ، وقرأ النتائج المستقبلية قبل وقوعها ، وكذلك يكون أولوا الألباب من القادة الصالحين.

ومن موقف أوسط أصحاب الجنة نهتدي إلى بصيرة هامة ينبغي لطلائع التغيير الحضاري وقادته أن يدركوها ويأخذوا بها في تحركهم إلى ذلك الهدف العظيم ، وهي : أنّ المجتمعات والأمم حينما تضل عن الحق وتتبع النظم البشرية المنحرفة تصير إلى الحرمان ، وتحدث في داخلها هزّة عنيفة (صحوة) ذات وجهين : أحدهما :

__________________

(١) تفسير القمّي / ج ٢ ـ ص ٣٨١.

٢٢٧

القناعة بخطإ المسيرة السابقة ، والآخر : البحث عن المنهج الصالح ، وهذه خير فرصة لهم يطرحوا فيها الرؤى والأفكار الرسالية ويوجهوا الناس إليها. وإنّها لظروف أمتنا الإسلامية التي جرّبت اليمين واليسار وتعيش الآن مخاض العودة إلى الخيار الإلهي الأول بروح عطشة لتلقّي الرسالة والطاعة لحملتها والقادة إليها. وكذلك وقف أصحاب الجنة من أوسطهم ودعوته للعودة إلى الحق :

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)

فالقيم الإلهية إذن صحيحة لا خطأ فيها لأنّها تتنزل من عند الله صاحب الكمال المطلق ، إنّما الخطأ والداء في الإنسان الذي يظلم نفسه بالانحراف عن الحق. وكذلك ينبغي للأمة الإسلامية أن تقيّم واقعها وهي تبحث عمّن هو المسؤول عن تخلّفها ، هل الإسلام أم المسلمين؟

وهكذا سبّحوا ربهم لكي لا يلقوا بمسؤولية خطئهم على الأقدار ، لأنّ ذلك كان يعيق انطلاقتهم نحو التغيير والإصلاح.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ)

يلقي كلّ واحد المسؤولية على غيره ، وهذه من الطبائع البشرية أن يدّعي الإنسان المكاسب ويتهرّب من التبعات والنكسات ، وعلى ذلك مضى المثل : «الهزيمة يتيمة وللانتصار ألف أب» ، ولكنّ أصحاب الجنة تجاوزوا هذه العقبة أيضا ، واعترفوا جميعهم بالمسؤولية إيمانا منهم بأنّها الحقيقة الواقعية ، والسبيل النافع الوحيد للتغيير الجذري الشامل.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ)

٢٢٨

أي الويل (العذاب) لنا وبسببنا إذ طغينا ، والطغيان أعظم من الظلم لأنّه تجاوز الحد فيه ، وهكذا يجب أن يعترف الإنسان (فردا وأمة) بحجم الخطيئة الواقعي دون تصغير يدعو إلى التبرير ، ولا تضخيم يبعث روح اليأس من الإصلاح ، بل اعتراف الشجعان الذي ينفخ في النفوس روح التوبة النصوح إلى الله ، ورجاء المتطلعين إلى الإصلاح والخير.

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها)

في الدنيا والآخرة.

(إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ)

وبالرغبة إلى الله يتجاوز الإنسان فتنة الدنيا وأسرها الذي يقع فيه بالرغبة الطاغية إليها.

وفي نهاية القصة يضع القرآن أمامنا أعظم المواعظ والعبر التي تهدي إليها وهي : ضرورة أن يتخذ الإنسان حوادث الدنيا وأحداثها علامة وآية هادية لما في الآخرة.

(كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

قيل : يعني لو كانوا يعلمون عذاب الآخرة ، وهو صحيح ، والأقرب منه أنّ صاحب البصيرة والعلم يعرف وهو في الدنيا بإيمانه وبصيرته أنّ ما في الآخرة أعظم حينما يرى العذاب في الدنيا. وهنا يتضح الفرق بين صاحب البصيرة الذي يرى الحقائق بعقله (كأوسط أصحاب الجنة) وبين أصحاب الجنة الذين اهتدوا لعظمة عذاب الآخرة بما وقعوا فيه من الويل الدنيوي ، أو يكون ضالا فلا يهتدي

٢٢٩

رغم الآيات والمواعظ.

ولعلّنا نستوحي من عموم القصة أنّ بعضا من المكذّبين والمترفين الذين كانوا في محيط الرسول آنذاك ترجى لهم التوبة والهداية كأصحاب الجنة ، بالذات وأنّ الله في الآيات القادمة يدعو النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن لا يتعجّل كصاحب الحوت في الحكم على قومه بل يصبر لحكم الله الذي سيظهر في المستقبل فقد يتوبون كما تاب قوم يونس ـ عليه السلام ـ ومن هذه الفكرة يجب على الدعاة أن يستمدوا سعة الصدر وكظم الغيظ إذ يواجهون الرفض والعناد في طريق نشر الرسالة بين الناس.

٢٣٠

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ

___________________

٤٣ [ترهقهم] : الرهق لحاق الأمر ، ومنه : راهق الغلام إذا لحق بالرجال ، وقال البعض : الرهق اسم من الإرهاق وهو أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه ، ومنه : «سأرهقه صعودا».

٢٣١

مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

___________________

٤٦ [مغرم] : ما يلزم من الدين الذي يلح في اقتضائه ، وأصله من اللزوم بالإلحاح ، ومنه قوله : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي لازما ملحّا.

٤٨ [مكظوم] : المكظوم هو المحبوس عن التصرّف في الأمور ، ومنه : كظمت رأس القربة إذا شددته ، وكظم غيظه إذا حبسه بقطعه عمّا يدعو إليه ، وكظم خصمه إذا أجابه بالمسكت.

٢٣٢

فاصبر لحكم ربّك

هدى من الآيات :

في هذا الدرس تعالج الآيات أسباب التكذيب بالرسالة والتهرب من مسئولياتها ، وهي :

أولا : الأمنيات الباطلة التي تحلم بتساوي الناس في الجزاء ، الأمر الذي يبرر للمترفين عدم التصديق بالرسالة والعمل بمضامينها وتحمل المسؤولية في الحياة ، ولماذا يكلّف الإنسان نفسه ما دام الجزاء واحدا؟

والقرآن بعد أن يؤكّد على عظيم ثواب المتقين وشديد عذاب المجرمين ، يسفّه الحكم الباطل لدى البعض بتساوي الفريقين عند الله ، وذلك بأدلة وجدانية لا بد للإنسان السويّ من التسليم لها.

ثم تبيّن الآيات بأنّ جزاء الآخرة ليس إلّا تجسدات واقعية لأعمال الإنسان

٢٣٣

التي اختارها بتمام وعيه وإرادته في الدنيا ، لذلك لا يستطيع أحد سجودا يوم يكشف عن ساق الجد رغم الدعوة الإلهية له إلى ذلك ، وتغطّي وجهه الذلة. لماذا؟ لأنّه أعرض عن السجود وقد كان في سلامة مادية ومعنوية في الدنيا ، وإنّ هذه الحقيقة تبعث في وجدان المؤمنين روح المسؤولية التي يعمّقها الوحي بتحذير الإنسان من أنّه لو كذّب بهذا الحديث فسوف يستدرجه من حيث لا يعلم ، الأمر الذي يصير به إلى سوء العذاب ، ولا يكون له في الآخرة من خلاق ، وذلك من متين كيده عزّ وجلّ الذي يحسبه المترفون خيرا.

ثانيا : الموقف الخاطئ من الرسالة والإعتقاد بأنّها مغرم ، لما فيها من مسئولية وبالذات واجب الإنفاق المفروض على أصحاب الثروة ، وإنّها لكبيرة على المترفين الذين أسرتهم الأموال ويتضاعف حرصهم كلّما فتح الله لهم أبوابا من الدنيا وأملى لهم.

ثالثا : البطر الذي يجعل الإنسان لا يشعر بالحاجة إلى الرسول والرسالة ، بل قد تراه يزعم أنّه قد أعطي الغيب بيده! الآية (٤٧).

وهذه الأسباب الثلاثة ذاتها تجعل الحركة التغييرية في أوساط المترفين وفي ظلّ هيمنتهم حركة بطيئة وصعبة مما يوجب على كلّ مصلح رسالي أخذها بعين الإعتبار ، فيصبر لحكم ربه ، مستقيما على رسالته لا يتراجع عنها ، ولا يصاب بردّة فعل سلبيّة قد تقوده إلى تكفير مجتمعة أو هجرته ، كما فعل النبي يونس بن متى ـ عليه السلام ـ الذي يئس من التغيير فدعى على قومه فابتلي بالسجن في بطن الحوت ، فإنّه يجب على كلّ رسالي الصبر في طريق الرسالة وإن كان المكذّبون يكادون من الحقد والبغض يزلقونه بأبصارهم ، ويمارسون ضده حربا إعلامية شعواء سلاحها الشائعات والتهم والدعايات المغرضة ، الآيات (٤٨).

٢٣٤

وكما يجب أن يستقيم الداعية على أهدافه الربانية دون يئس من إصلاح الناس ، كذلك يجب أن لا يفقد ثقته برسالته فيشكك نفسه في قيمها لعدم تجاوب الناس معه أو لإعلام المترفين والمتسلطين ضدها.

بينات من الآيات :

[٣٤ ـ ٣٨] بعد التحذير من العذاب في الدنيا ومن العذاب الأكبر في الآخرة يرغّبنا السياق في الجزاء الحسن الذي أعدّ للمتقين دون سواهم ، وذلك بالتأكيد على أنّه لا يشمل كلّ من هبّ ودبّ ، لأنّ للجزاء الإلهي مقاييس دقيقة حيث يتناسب بنوعه وقدره ودرجات الناس الإيمانية وأعمالهم الصالحة.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

ولم يقل (جنات نعيم) لأنّ الألف واللام يجعلان الكلمة أوسع معنى ، فبينما يدل قولنا : (نعيم) على جزء منه يتسع النعيم لتمام المعنى مما يتناسب ومعالجة السياق لموضوع الترف حيث يسمو بالمؤمنين عن فتن الدنيا ويفتح أمامهم أفقا من النعيم الذي لا ينتهي عند حدّ ولا زمان فتتصاغر عنده الدنيا ، فلا يجدون ضيرا لأنّها زويت عنهم ، لأنّ الآخرة خالصة لهم ، كما قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) ، وبهذا تتعادل الصورة في أذهان المتقين بأنّهم إن لم يملكوا في الدنيا من متاعها فالآخرة خالصة لهم.

وببيان هذه الحقيقة أنّ الجنات للمتقين يمهّد القرآن لإبطال أماني المجرمين بتساويهم مع المؤمنين في الجزاء ، وتلك الأماني عامل من عوامل تكذيب المترفين

__________________

(١) الأعراف ٣٢.

٢٣٥

الرسالة يعالجها القرآن الكريم في هذا السياق ، وهي التالية :

أولا : الأمنيات الباطلة بالتساوي في الجزاء مع المؤمنين.

هل يتساوى الصالح والطالح؟ كلّا .. إنّه مرفوض عند كل عاقل.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)

والمسلم هو الذي سلّم نفسه لله بتطويعها وفق أوامره. والسؤال : لماذا قدّم المسلمين على المجرمين بينما يفترض العكس باعتبار السياق ينفي مزاعم المجرمين بأنّهم متساوون مع المتقين في الثواب؟ ولكنّ المتدبر حينما يمعن النظر يهتدي إلى لطائف بلاغية لترتيب الكلمات في الآية :

١ ـ أنّه تعالى في نهاية قصة أصحاب الجنة أكّد حقيقة العذاب وأنّه في الآخرة أكبر ، ممّا يرجّح كفّة الرهبة في النفس ، فجاءت الآيتان (٣٤) لتحقيق المعادلة عند المؤمنين بالتأكيد على أن لهم جنات النعيم ، وأنّهم لا يعذّبون كالمجرمين ، ويرفع الله رجاء المتقين إلى أقصاه حينما ينفي تساوي المجرمين مع المسلمين الذين هم أقل شأنا من المؤمنين فكيف بالمتقين الأرفع درجة حتى من المؤمنين؟ ومن جانب آخر يزيد من يأس المجرمين من الثواب حينما لا يفسح مجالا حتى لمجرد الاحتمال بأنّهم يمكن أن يتساووا مع المسلمين بتقديمهم في الآية (المجرمين كالمسلمين) وجعل مدارها حول الثواب بدل العقاب ، فإنّ الآية على حالها تجعل العذاب مسلّما به للمجرمين ويبقى التساؤل عن مصير المسلمين هل يتبعونهم فيه أم لا؟

٢ ـ إنّ الجزاء في واقعه ذات العمل الذي يقوم به كل إنسان خيرا أو شرا ، ولو أنّه سبحانه أعطى للمجرمين جنات النعيم كما يعطي المسلّمين له لكان الأمر من

٢٣٦

أحد جهاته جعلا لهم كالمجرمين ، وكأنّهم لم يعملوا ما يتميّزون به عنهم ، بل وكأنّهم عملوا أعمالهم الإجرامية التي ساوت المصير والجزاء بين الفريقين ، وهذا ما ينكره كلّ عاقل سليم ، ويستنكره السياق :

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)

يعني على أيّ أساس ومنهج؟ ولا يملك المترفون المجرمون أمام هذا المنطق إلّا التسليم له ونبذ الأمنيات الباطلة بالعودة إلى الحق وتحمل المسؤولية في الحياة كضرورة وجدانية وعقلية. وإنّه ليضعهم أمام واحدة من إجابتين : فإما أن يحكموا بالتساوي ، وهذا ما يرفضه كل عاقل ، وإمّا أن يحكموا بالاختلاف وأنّ الثواب للمسلم والعذاب للمجرم (كما يحكم العقلاء) فلا بد إذن أن يضربوا بظنونهم عرض الحائط ، ثم كيف يتمنون على ربهم ذلك الحكم الجائر وهو المنزّه عن الظلم والجهل؟ وما أظهر تسفيه هاتين الآيتين لبعض الفلسفات الصوفية المفرطة في الرجاء ، التي يستبعد دعاتها أن يعذّب الله أحدا من الناس وهو الرؤوف الرحيم ، بل ويفسرون آيات العذاب القرآنية على أنّها لمجرد التخويف وسوق الناس نحو العمل بالحق ليس إلّا!!

إنّ أماني المترفين بالتساوي مع المؤمنين عند ربهم من العوامل الخطرة التي تدعوهم إلى التكذيب بالحق والحياة اللامسؤولة ، والتي تعيق فيهم أيّ سعي جاد ، بل وتبعث فيهم أسباب الاجرام. وأيّ قيمة تبقى للأحكام والحدود الإلهية إذا كفر الإنسان بحقيقة الجزاء وبأنّه من جنس العمل؟! وأيّ حافز للالتزام بأوامر الله ، والارتداع عن نواهيه يظلّ إذا كفرنا بالآخرة أو فصلنا بينهما وبين الدنيا؟! ولذلك يتصدى السياق حتى الآية (٤٥) للرد على تلك الأماني والظنون .. وهكذا بعد أن أوضح بأنّها لا تستند إلى أيّ دليل وجداني ولا عقلي ينفي استنادها إلى الوحي

٢٣٧

المصدر الثاني للعلم الحق ، بل حتى إلى كتاب معتبر لدى العقلاء.

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ* إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ)

والكتاب الذي يدرسه الإنسان هو العلم الثابت الذي يعتمده منهجا في الحياة فيعكف على دراسته بالبحث لفهمه وتطبيق ما فيه ، وليس ثمّة كتاب إلهي ولا حتى بشري معتبر لدى الناس يساوي في قوانينه وقيمه بين البريء والمجرم مهما اختلفت الكتب البشرية والقوانين الوضعية في تحديد مصاديق المجرم ، لأنّ الكتاب الذي يخالف كلّ قيم العرف لن يكون مقبولا عند الناس ، وإذا يحكم المترفون بالتساوي عند الله بين المجرم والمسلم فإنّما ينطقون من الأهواء والأماني التي لا اعتبار لها عند العرف العام.

وهذه الآية تستثير فطرة الإنسان ووجدانه وتستشهد بما تعارف عليه الناس على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم ، كما الآيات القرآنية الأخرى التي تفرّق بين المسلمين والمجرمين كالآية (٣٥) ، وبين الجاهل والعالم (١) ، وبين الأعمى والبصير (٢) ، وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار (٣).

والآية (٣٨) تكشف عن حقيقة يمكن لكلّ إنسان أن يلمسها في واقع المترفين المستكبرين السياسي والاجتماعي ، وهي أنّهم لا يريدون أن تحكم شريعة أو نظام قانون أنّى كان نوعها ، فحتى الدستور الذي يضعونه بأنفسهم ، وحسب القياسات التي يختارونها لحكمهم تراهم يتهربون منه ، ولا يرضون به حكما بينهم وبين الناس. لماذا؟ لأنّ ذلك الدستور مهما كان ظالما ومنحرفا لا بد أن ينطوي على نسبة

__________________

(١) الزمر ٩ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

(٢) فاطر ١٩ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ).

(٣) الحشر ٢٠ (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ).

٢٣٨

من القيم حتى يكون مقبولا عند العرف العام ، وتلك النسبة تدين طائفة من تصرفاتهم فلا يريدونها ، وهكذا كانت مخالفة حكم العقل والقانون من أظهر سمات المجرمين ، كما أنّ تحكيم الهوى والشهوات من أعظم بواعث الجريمة.

ولعلنا نهتدي من ذلك إلى أنّ من عظمة الإسلام أنّ فيه قيما أساسية ثابتة لا يمكن تبديلها وتحويلها ، بل أن تبقى هي الميزان في المجتمع ، وهذه القيم لا يعطي الله لأحد (من رسول وإمام أو حاكم شرعي أو دولة) الحقّ في خرقها تحت أيّ عنوان ، ولأيّ سبب بالغ ما بلغ ، والحكمة في ذلك أنّها فوقهم جميعا ، وأنّ دورهم هو التنفيذ وليس التشريع ، كما أنّ الرسالة تفقد مصداقيتها وقيمتها لو بدّلت فيها هذه القيم ، بلى. إنّ المصلحة العامة قد تقتضي تغيير بعض القوانين ولكن ضمن إطار قانوني معيّن.

[٣٩ ـ ٤٣] وبعد أن نفى السياق أيّ شاهد من عقل أو نقل (كتاب) يؤيد مساواة المسلمين والمجرمين ، ينفي أن تكون للمجرمين أيمان على الله تقتضي براءتهم من النار وتحللهم عن أيّة مسئولية تجاه أعمالهم.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ)

والأيمان البالغة إمّا بمعنى التامة من جميع جهاتها وشروطها ، نقول : بلغ الصبي إذا تمّت رجولته واستوى ، أو بمعنى الأيمان التي لا تنقض والتي تتصل ..

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)

وتقضي أن يكون الأمر كما يقولون بضرس قاطع أنّ لهم براءة من العذاب.

(إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ)

٢٣٩

فأنتم مفوّضون من قبل الله؟! وهذا لا دليل عليه ، فلو كانت ثمّة يمين حلف بها الله فإنّها ستكون في رسالته والحال أنّ فيها أيمان مناقضة بأن يملأ جهنم من المجرمين ، ولعل قوله تعالى (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يهدينا إلى أنّهم في الظاهر يحكمون رقاب الناس في الدنيا ولكنّ الوضع يختلف تماما في الآخرة إذ لا تبقى لهم أيّة سلطة ، فهنالك الولاية لله الحق وله الحكم ، بل في الدنيا أيضا ليس بالضرورة أن يكون لهم ما يتمنون ويحكمون ، لأنّهم لا يقدرون على شيء إلّا بإذن الله القاهر فوق عباده.

بلى. هناك وعد عند الله للمؤمنين بالمغفرة والجزاء الحسن إذا ماتوا مؤمنين ، وليس إلى يوم القيامة دون شرط أو قيد. وما يتوهّمه بعضهم من أنّ السلطان ظل الله في الأرض ، أو أنّه يعفى عن مسئوليات أفعاله ، لا يعدو مجرد تمنيات تفرزها الأهواء ، وهي تتبخر عند الحجة العقلية. من هنا يتحدى السياق أن يملك أحد الشجاعة على تبنّي ذلك القول والدفاع عنه والمجادلة بشأنه.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ)

والزعيم : الكفيل الذي يقوم بالأمر ويتصدى له ، ومنه زعيم القوم ، ولا أحد يتكفّل هذا الأمر لأنّه لا يعتمد على دليل منطقي ، إنّما ينطلق من الخيال والظن ، وهذه الآية تتشابه وقوله تعالى : (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١).

ويمضي السياق قدما في تسفيه الزعم الواهي بتساوي المجرمين مع المسلمين ، حيث ترى كثيرا من المجرمين والمذنبين يتّكلون على الشركاء والأنداد ، ويزعمون بأنّهم ينقذونهم من جزاء أفعالهم المنكرة ، ويزعمون بأنّهم يستطيعون التأثير على

__________________

(١) النساء ١٠٩.

٢٤٠