من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

تبت وإمّا رحلت ، فقال : يا محمّد بل تجعل لساير قريش شيئا ممّا في يديك فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم ، فقال النبي : ليس ذلك إلي ، ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، فقال : يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة ولكن أرحل عنك ، فدعا براحلته فركبها فلمّا صار بظهر المدينة أتته جندلة (أي حجرة) فرضّت هامته ثم أتى الوحي إلى النبي (ص) فقال : الآيات الاولى من سورة المعارج (١).

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ)

وسؤال السائل يكشف ليس عن شك في وعد الله عزّ وجلّ وحسب ، بل يكشف أيضا حالة من الاستهزاء والتحدي دعته إليهما الثقافة الجاهلية التي جاءت الرسالة لتحرير الإنسان منها ، كما دعته إليهما الضغائن الدفينة على الرسول والرسالة.

والآية الكريمة ـ كسائر آيات القرآن ـ أوسع من حادثة تاريخية ، أو مصداق واحد بذاته ، بل هي شاملة لكلّ موقف استهزاء بالحق ، وتكذيب به. ولا يصف ربّ العزة عظمة العذاب ومدى هوله ، بل يؤكّد واقعيته فيقول : «واقع» ، وذلك يهدينا إلى حقيقة فطرية وعقلية لا يتردّد في قبولها أحد وهي أنّ جهل الإنسان بالحقائق القائمة في الواقع ، أو تجاهله بها (تكذيبه) لا يغيّر من أمرها شيئا. أترى أنّ عقيدة الوجوديين الذين زعموا بأنّ الوجود خيال يتراءى للإنسان كالسراب أعدمت الوجود أو غيّرت من الواقع شيئا؟ هل ينفي عدم رؤية الأعمى لما حوله وجوده؟ كلّا .. وإذا قلنا أنّ كلمة «واقع» تدل على الماضي فإنّها تأتي هنا للتأكيد من حيث أنّه حتمي لا شك فيه ولا تردّد في وقوعه ، لأنّ الله قد قدّره وقضاه تقديرا حتما وقضاء مبرما.

__________________

(١) المصدر / ص ٤١٢ ذكره أبو عبيدة والثعلبي والنقاش وسفيان بن عيينة ، وأشار إليه الرازي والنيسابوري ، ونقل القرطبي نص الرواية في تفسيره والحسكاني في شواهد التنزيل.

٣٤١

ويبدو أنّ السؤال لم يكن سؤال مستفهم ، بل سؤال مكذّب مستهزء ، ولهذا عدّي الفعل بالباء فأعطى معنى التكذيب ، فكأنه قال : سأل سائل مكذّب بعذاب واقع. وهكذا أوحى النص بأنّ الدافع إلى السؤال لم يكن المعرفة وإنّما التشكيك به.

وإذ يقع عذاب الله فإنّه ـ وإن كان ـ يبدّل وجه الكون وعلاقات أجزائه ببعضها فتكون السماء كالمهل والجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما ، إلّا أنّه لا يخرج عن إطار حكمة الله وإرادته إلى حالة الفوضى ، وإنّما يكون بقدر ، ولا يصيب إلّا من يشاء الله ، فإذا بك تراه وقد حان حينه لا يقع إلّا على الكافرين ، الذين لا يجدون ما يدفعونه به عن أنفسهم.

(لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)

يحجزه عنهم ويدفعه عن ساحتهم ، وما عسى أن تبلغ قدرة أحد حتى يكون قادرا على دفع عذاب يصيّر السماء كالمهل والجبال كالعهن ، ويقطع الروابط الحميمة بين الأخلّاء والأنساب لهوله وشدّته! والإنسان هناك لا يفكّر إلّا في خلاص نفسه ، فلا يسأل عن غيره ، فكيف السعي لدفع العذاب عنه؟! بلى. يستطيع الإنسان دفع العذاب عن نفسه يومئذ بفضل الله ورحمته ، وبعمله الصالح ، ولم يترك الكافرون بينهم وبين الله صلة كي يرحمهم ، بل سدّوا عن أنفسهم كلّ أبواب الرحمة بكفرهم وعتوّهم عن الحق والرسل ، ولم يقدّموا لآخرتهم ومستقبلهم عملا صالحا.

وعلى ضوء هذه الآية الكريمة ينبغي للإنسان أن يكشف عن نفسه وعقله حجب الضلال والشرك المتمثلة في العقائد السفيهة التي تجنح به نحو الموبقات والشهوات ومخالفة الحق ، ظنّا بأنّ أحدا من الجن أو الإنس أو الأصنام يخلّصه من عذاب الله وسطوته ، أو العقيدة الباطلة بأنّ الله لن يعذّب عباده لأنّه رحيم ودود ، فإذا به يودّ ويطمع أن يدخل الجنة على جناح التمنيات بلا أيّ سعي وعمل!

٣٤٢

ونفهم من قوله «للكافرين» أنّهم ليس لهم يوم يقع العذاب دافع يدفعه عنهم لا من عند أنفسهم أو من أشركوا بهم ولا من عند الله. وأيّ قوّة يمكن أن تتحدى إرادة الله العظيم حتى يتشبّث بها الكفّار؟ إنّ العذاب ليس من بشر مثلهم حتى يقدروا على دفعه ، ولا من مخلوق. إنّه من ربّ العزة المتعال الجبّار.

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ)

قال البعض : إنّ كلمة «ذي المعارج» ليست اسما لله سبحانه ، وجاء في الدر المنثور : أخرج أحمد وابن خزيمة عن سعد بن أبي وقّاص أنّه سمع رجلا يقول : لبيك ذي المعارج ، فقال : إنّه لذو المعارج ، ولكنّا كنّا مع رسول الله (ص) لا يقول ذلك (١) ، ولكنّ الأظهر أنّه اسم لله لوروده في أدعية الحج حيث قالوا : يستحب أن يقول في التلبية : «لبّيك ذا المعارج لبّيك» ، على أنّ نص القرآن ظاهر في ذلك وهو المقياس.

وفي معنى المعارج أقوال منها : الفواضل ، وعليه جلّ المفسرين ، وزاد صاحب المجمع : والدرجات التي يعطيها للأنبياء والأولياء في الجنة ، لأنّه يعطيهم المنازل الرفيعة ، والدرجات الطيبة (٢) ، وفي التبيان قال العلّامة الطوسي : هي معارج أو مراقي السماء (٣) ، وقال صاحب الميزان : وهي مقامات الملكوت ، وقال : الدرجات التي يصعد فيها الإعتقاد الحق والعمل الصالح ، قال تعالى : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (٤) ، وقيل : هي مصاعد الملائكة .. ويمكن أن تكون الأقوال كلها صحيحة ، ويجمعها الأصل اللغوي للكلمة .. فالمعارج مواضع العروج

__________________

(١) الدر المنثور / ج ٦ ص ٢٦٤.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٥٣.

(٣) التبيان / ج ١٠ ص ١١٤.

(٤) الميزان / ج ٢٠ ص ٧.

٣٤٣

وهي مرتبة بعد مرتبة. ويبدو أنّ تأويلها هنا ذات العروج المتواصل ، وذلك يظهر من الآية التالية.

ولكي ينسف السياق أسس التفكير الخاطئ عند أولئك السفهاء الذين استعجلوا عذاب ربهم العظيم ، تلك الأسس القائمة على حسابات قصيرة ، يهدينا القرآن إلى حقائق الزمن اللّامتناهي الذي سوف يعيشه الإنسان ، لكي يمتد وعي الزمن لدينا من مقاييس اللحظات الحاضرة إلى آفاق الآباد المطلقة والمستقبل الذي لا ينتهي ، وهناك نعيش حقيقة أنفسنا وحقيقة الظواهر المحيطة بنا.

إنّ من يتخذ المقاييس الدنيوية معيارا في معادلة الزمن يظنّ أنّ مائة سنة شيئا كثيرا ، ولكنّه حين يطلع على الأفق الواسع للزمن عند الله حيث الحساب بمليارات السنين وحيث الخلود فإنّ المعادلة تختلف بالنسبة إليه لحتى يكاد يرى وعد الله بالآخرة واقعا أمام عينيه .. فهؤلاء الملائكة يسبقهم الروح يعرجون خمسين ألف سنة إلى الله في الآفاق الواسعة ، ولأنّها حسب فهمنا الأرواح النورانية ذات القدرات الهائلة فإنّ عروجها ليس بحسابنا نحن في السرعة ، بل بحساب لا يستوعبه عقل البشر .. ومع ذلك فإنّ خمسين ألف سنة يعرجون فيها ليست عنده تعالى إلّا كيوم واحد لا أكثر!

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)

والعروج عروجان : عروج مادي في آفاق الوجود ، وعروج معنوي في آفاق القرب من الله ، وليس لله مكان ، تعالى أن يخلو منه مكان أو يحويه مكان ، ومن هنا فإنّ عروج الملائكة والروح إليه عروج في القرب منه ، قرب الفضيلة ، ولا ينفي ذلك حقيقة عروجهم ماديّا في منازل السموات وإلى العرش ، بل هذا العروج بذاته رمز للقرب المعنوي منه سبحانه ، ومن هنا اختلفت الملائكة فمنهم من يعرج إلى السماء

٣٤٤

الرابعة ، ومنهم من يعرج إلى العرش باختلاف فضلهم عند ربّ العالمين.

أما الروح فهو أعظم من الملائكة ، ولعلّه الخلق الذي يؤيّد به الله ملائكته الكرام وأنبياءه وأولياءه الأبرار ، ولعلّه سمّي جبريل ب «الروح الأمين» لكونه مؤيّدا ـ عليه السلام ـ بالروح.

[٥ ـ ٨] ومن فتح آفاق المتدبر على الزمن بالحديث عن العروج يعالج القرآن مسألتين :

الأولى : تتصل بالداعية إلى الله ، وهو يواجه تحديات الكفّار بالرسالة ، وبالضبط يواجه تحدي الزمن في الاستقامة على الحق ، والاستمرار في الطريق حتى يفتح الله. فإنّ أكثر الناس قادرون على اتخاذ قرار الجهاد في سبيل الله ، ولكنّ القليل منهم يقدرون على الاستقامة مع طول الأمد وتراكم التحديات المضادة.

وإنّما يفتح القرآن آفاق المؤمنين على المعادلة الحقيقية للزمن ، ويؤكّد على أنّ الزمن الدنيوي ليس المقياس ، وإنّما معادلة الزمن تقاس باليوم الواحد خمسين ألف سنة ، كل ذلك ليسهّل الاستقامة في أنفسهم ، فلا يعدّ واحدهم حتى الصبر سنيّ عمره مجاهدا في سبيل الله شيئا كثيرا ، بل يعتبر عنده ـ أنّى طال به الزمن وامتد ـ أيّاما قصيرة يصبر فيها على الأذى لتعقبه راحة طويلة ، وهكذا جاء الحديث بعد بيان الزمن عن الصبر فقال ربّنا :

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً)

وهو الصبر الذي يكون لوجه الله ، والبعيد عن أيّ ضعف أو هزيمة ، والذي لا خروج معه عن الحكمة والصواب. قال أكثر المفسرين : هو الصبر الذي لا شكوى فيه على ما يقاسيه الرسول من أذى قومه ، وتكذيبهم إيّاه فيما يخبر به من الآخرة.

٣٤٥

وما أعظم ما تعطيه هذه الآية بسياقها من روح الصبر والاستقامة والمقاومة للمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.

الثانية تتصل بالكافرين الذين يستبعدون عذاب الله ووعده ، وربما إلى حدّ التكذيب البتّه. ولو بحثنا عن السبب وراء هذا الموقف من وعد الله فسنجده اعتمادهم على مقاييس الزمن الدنيوية في التقييم والنظر إلى المستقبل. ويعالج القرآن هذه العقدة بأمرين :

أحدهما : السعي لتوعيتهم بالمقياس الحقيقي للزمان ، حيث مقدار يوم واحد خمسين ألف سنة ، ممّا يغيّر رؤيتهم المحدودة برؤية ربّانية واسعة لو أنّهم آمنوا واتبعوا الآيات.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً)

لمحدودية أفكارهم التي تتصور الزمان محدودا. أرأيت الطفل كيف يستبعد وعدا مدته ساعات؟ كذلك الكفّار يرون وعد الله بعيدا لأنّ منهجية الرؤية ووسيلتها عندهم محدودة. أمّا المنهجية الربّانية التي تتلاشى فيها الأرقام الزمنية لسعتها فإنّ ملايين السنين ليست بذات شأن حتى يكون أمدها بعيدا .. وكيف يكون ذلك والمؤمنون يطّلعون بها على عالم الخلود؟!

(وَنَراهُ قَرِيباً)

لا فرق بين أجل الموت ، أو النصر للمؤمنين ، أو عذاب الكافرين في الدنيا ، أو قيام الساعة ووقوع الآخرة.

الثاني : التذكير بالوقائع والمشاهد العظيمة التي ترافق وقوع وعد الله ، الأمر

٣٤٦

الذي يهزّ النفس ، ويلقي عنها حجبها وعقدها ، ويجعلها ماثلة في وعيهم.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ)

قال القمّي : الرصاص الذائب والنحاس (١) ، وقيل : الزيت المغلي ، وفي المنجد : ما كان ذائبا من المعدنيّات (٢).

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ)

أي الصوف المتفرّق ، قال في التبيان : فالعهن الصوف المنفوش ، وذلك أنّ الجبال تقطع حتى تصير بهذه الصفة (٣) ، وزاد صاحب المجمع : وقيل : كالصوف الأحمر ، وقيل : إنّها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع (٤). وعلّق العلّامة الطباطبائي بقوله : في هذه الآية وما قبلها تعليل للصبر ، فإنّ تحمّل الأذى والصبر على المكاره يهوّن على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب (٥).

ولا يحدّثنا القرآن عن صفة الأرض يومئذ ، لأنّ دمار السماء وهي السقف المحفوظ الذي يؤمّن للأرض ولأهلها الحماية ، وكذلك تدمير الجبال التي تحفظ توازنها أن تميد بنا ، هذين الأمرين يهدياننا إلى ما تكون فيه أرضنا يومئذ من الزلزال والخطر العظيم.

وما هو حال الإنسان الضعيف وموقفه حينما يعاصر هذه المشاهد الرهيبة؟ فهذه السماء على عظمتها أصبحت كالمهل ذائبة ، وتلك هي الجبال الراسيات صارت عهنا

__________________

(١) تفسير القمي / ج ٢ ص ٣٨٦.

(٢) المنجد / مادة مهل بتصرف.

(٣) التبيان / ج ١٠ ص ١١٦.

(٤) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٥٣.

(٥) الميزان / ج ٢٠ ص ٩.

٣٤٧

يحرّكها النسيم! إنّه حينئذ يعرف صدق وعد الله ، وتقع من على بصيرته كلّ الحجب .. فيترك الهزل والاستهزاء الذي قاد الكافرين إلى السؤال عن العذاب واستعجاله .. وهل يستعجل عاقل أمرا إرهاصاته تصنع هذا الصنيع بالطبيعة والوجود من حوله؟!

إن العذاب الإلهي إذا وقع يذهل الإنسان عن كلّ شيء ، وتتقطّع به الأسباب والروابط ، فينسى أقرب المقرّبين إليه بحثا عن الخلاص ، فلا يجد فرصة حتى للسؤال عنهم.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)

والحميم هو الأقرب للإنسان ، وعدم سؤاله عنه دليل على شدّة الموقف ، وذلك أنّ نفس الإنسان أقرب إليه من كلّ أحد .. وحيث يهتم بها يغفل عن سواها ولو كان أقرب المقربين كالولد والصاحبة. وفي الروايات أنّ الأم يوم القيامة توزن أعمالها فتنقصها الحسنة الواحدة حتى تدخل الجنة أو تصير إلى النار ، فتذهب إلى ولدها تستعطفه وتطلب منه التنازل لها عن حسنة من حسناته فلا يقبل. وقد جاء في الدعاء (بعد صلاة الليل): «يا من لم أزل أتعرّف منه الحسنى ، يا من يغذّيني بالنعم صباحا ومساء ، ارحمني يوم آتيك فردا شاخصا إليك بصري ، مقلّدا عملي ، قد تبرأ جميع الخلق مني ، نعم. وأبي وأمي ومن كان له كدّي وسعيي» (١).

ومن أهمّ ما يقع يومئذ هو رفع الحجب عن المجرمين حتى يروا الحقائق التي عميت عنها أبصارهم وقلوبهم في الدنيا ، كما يرون أيضا أقرباءهم الذين يتهرّبون منهم.

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء صلاة الليل.

٣٤٨

(يُبَصَّرُونَهُمْ)

قيل : يرون الملائكة والروح الذين يعرجون إلى الله ، وقيل : أئمة الهدى والحق ، وقيل : الأحماء ، لبيان أنّ عدم سؤالهم عنهم يومئذ ليس لعدم رؤيتهم إيّاهم ، وإنما لانشغال نفوسهم وأفكارهم ، وإلى ذلك ذهب الزمخشري والرازي وصاحب الميزان ، وهذا أقرب إلى السياق. وبني الفعل للمجهول لأنّ المجرمين يحشرون عميانا أعينهم وقلوبهم كما كانوا في الدنيا عميانا لا يرون الحقائق ، وإنّما يبصرهم الله أو ملائكته بأمره .. وهناك تبلغ ندامتهم ذروتها لما يرون من واقع العذاب الذي كذّبوا واستهزءوا به في الدنيا إلى درجة العتوّ والتحدي.

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ)

وهم أقرب الناس إليه ، وأعزّهم لديه.

(وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ)

في الدرجة الثانية.

(وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ)

قيل : هي العشيرة والقبيلة ، وقيل : هي المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوّة خاصة ، في التبيان والمجمع والميزان ، وزاد المجمع والكشّاف : أي عشيرته التي تؤويه في الشدائد وتضمّه ، ويأوي إليها في النسب.

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ)

أمّا المؤمنون فإنّهم على العكس يسألون عن بعضهم ، ويسعون في خلاص

٣٤٩

بعضهم البعض بالشفاعة والسؤال من الله ، وقلوبهم مطمئنة إلى ربّ الأرباب لأنّهم لم يتورّطوا في الجرائم حتى يهولهم الأمر .. إلّا خشية الإيمان.

بلى. إنّهم آمنوا بوعد الله ، فسعوا لخلاص أنفسهم ، أمّا المجرمون الذين كفروا ، وتمادوا في الجريمة بسبب الكفر بالآخرة والجزاء ، فإنّهم يجدون أنفسهم بين يدي عذاب شديد.

(كَلَّا إِنَّها لَظى)

و «لظى» اسم من أسماء جهنم ، وهي النار شديدة التوقد ، وقال في المجمع : هي الدركة الثانية من النار ، وقال الرازي : اللهب الخالص ، يقال : لظّت النار ، وتلظّت تلظّيا ، والمعنى أنّه لا مصير للمجرمين إلّا جهنم والعذاب ، ولا مفرّ لهم .. تشويهم حرقا ، وتنزع ما ينشوي منهم نزعا.

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى)

قيل : الشوى فروة الرأس ، وقيل : محاسن الوجه وعموم الجلد. وقال صاحب التبيان : ومعنى «نزّاعة» كثيرة النزع ، وهو اقتلاع عن شدة ، والاقتلاع أخذ بشدّة اعتماد (١) ، وفي المجمع : تنزع الأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا إلّا أحرقته ، وقيل : تنزع الجلد واللحم عن العظم (٢). ولعلّ الشوى هو عموم ما يعدّ للشواء بالنار ، فيكون المعنى أنّ لظى تجذب المجرمين وتنزعهم نزعا (وهم شواؤها) فتحرقهم.

(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ص ١١٨.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٥٦.

٣٥٠

أدبر عن الحقّ إلى الباطل ، وتولّى عن طاعة القيادة الربّانية إلى طاعة غيرها ، وإنّ النار لتتطاول على المجرمين وتجرّهم إلى قعرها وحريقها مكرهين ، لأنّهم قد رفضوا دعوة الرسول إلى الإيمان فأدبروا وتولّوا.

(وَجَمَعَ)

حطام الدنيا وأموالها حلالا وحراما.

(فَأَوْعى)

وقد قال المفسرون أنّ المعنى : جمع المال ولم يخرج حقّ الله ، فكأنّه جعله في وعاء على منع للحقوق منه ، وقال العلّامة الطبرسي : جمعه من باطل ، ومنعه عن الحق (١).

__________________

(١) المصدر / ص ٣٥٦.

٣٥١

إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ

___________________

١٩ [هلوعا] : شديد الحرص ، شديد الجزع .. وقيل : الهلع هو الخوف وقلق القلب.

٣٥٢

(٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

___________________

٣٦ [مهطعين] : المهطع : المقبل ببصره على الشيء لا يزايله ، وقيل : الإهطاع الإسراع.

٣٧ [عزين] : أي جماعات متفرّقين ، عصبة عصبة وجماعة جماعة. وجاء في المفردات : أصله من عزوته فاعتزى أي نسبته فانتسب فكأنّهم الجماعة المنتسب بعضهم إلى بعض إمّا في الولادة أو في المظاهرة ، وقيل : عزين من عزا عزاء فهو عز إذا تصبّر وتعزّى أي تصبّر وتأسّى فكأنّها اسم للجماعة التي يتأسّى بعضهم ببعض.

٤٣ [الأجداث] : القبور.

٣٥٣

الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ

هدى من الآيات :

نستوحي من القرآن أنّ الشخصية البشرية نوعان :

الأول : الشخصية المتقلّبة التي تتأثّر بالظروف المحيطة ، وتنعكس عليها كلّ الظواهر ، لا فرق بين ما يسرّو ما يحزن ، أو بين الخير والشر. وهذه طبيعة السواد الأعظم من الناس.

الثانية : الشخصية المستقرة التي تصوغها الصلاة (والصلة الوثيقة بربّ الكائنات) ويستمدّ أصحابها استقامتهم في الحياة من الإيمان بربّ العالمين ، الأمر الذي يجعلهم يتسامون على المؤثرات السلبية ، ذلك لأنّ الصلاة في بصائر القرآن ليست الركوع والسجود فقط ، بل هي منهج شامل يستوعب كلّ بعد من حياة الإنسان ، وهكذا ترى المصلّي هو المنفق في سبيل الله ، والمصدّق بالآخرة ، والخائف من عذاب ربه ، والحافظ لفرجه ، والراعي لعهده وأماناته ، والقائم بالشهادة

٣٥٤

الحقّ على نفسه وفي المجتمع ، وبالتالي المحافظ على صلاته (أوقاتها ومظاهرها وجوهرها) ، وبهذه الصورة ينبغي أن نعي الصلاة ، ونعرف المصلّين ، ونسعى لكي نكون منهم.

إنّ الصلاة الحقيقية ثمن الجنة والكرامة عند الله ، لأنّها كما بيّنت الآيات مجمع كلّ صفة حسنة ، وسعي صالح. ومن أراد الجنة والكرامة فإنّها شرطهما ، أمّا التمنّيات التي تفرغ حياة الإنسان من أيّ سعي وفضيلة ، وتسوقه إلى الخوض واللعب ـ غفلة عن الآخرة ـ فإنّها تجعل أصحابها خاشعة أبصارهم ، ترهقهم ذلّة في يوم القيامة!

بينات من الآيات :

[١٩ ـ ٢١] لأنّ القرآن رسالة الله وعهده إلى الإنسان فإنّه أودع تبيانا لكلّ شيء حتى لا تكون لأحد حجة على ربه في الإدبار عنه إلى غيره من السبل والمناهج ، ففيه يقرأ الإنسان سنن الخالق في الحياة ، ويقرأ الخير والشر ، والحق والباطل ، والجنة والنار ، والدنيا والآخرة ..

ومن أبرز ما في القرآن تعريف الإنسان بنفسه ، ذلك أنّ الإنسان قد خلق جهولا ، يجهل أقرب الأشياء إليه (وهي نفسه) وفي ذلك خطر عظيم عليه ، فقد يدعوه الجهل بالنفس إلى الشرك بالله ، وقد يدعوه إلى ممارسة الأخطاء الفظيعة في قيادتها وتربيتها .. ومن هنا وجد توجّها أساسيّا في القرآن اختص بمعالجة موضوع الذات الإنسانية ، وبيان أهمّ صفاتها وطبائعها ، كما الآيات التالية من هذه السورة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً)

٣٥٥

قيل الهلع شدّة الحرص ، وقلّة الصبر ، وقيل : الهلوع الضجور (١) ، وفي البصائر : أي البخل والحرص ، أو الخوف وقلق القلب ، واضطرابه من كلّ صوت وحدوث أمر (٢) ، والذي يبدو أنّ أصل الهلع هو الخوف ، فالهلوع يخاف عند الشر فيجزع ، ويخاف عند الخير من نفاذه وانتقاله إلى غيره من يديه فيمنع ، وهي الصفة التي تفقد الإنسان توازنه وثباته أمام الظروف والعوامل والحوادث المحيطة.

ويبقى بيان القرآن لمعنى الهلع أجلى وأبلغ من بيان كلّ مفسّر وأديب حيث يقول تعالى :

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً)

فإذا به يصبح طعمة لحالات الخوف النفسية ، فيفقد توازنه النفسي والفكري والسلوكي ، إلى حدّ الهزيمة واليأس. و «الشر» الذي تقصده الآية شامل لكلّ الحوادث السلبية معنوية ومادية ، فالخسارة الاقتصادية شر ، وفقدان الأحبة شر ، والمرض شر ، و.. و..

ولو أنّنا حقّقنا في حوادث الانتحار والحالات النفسية في العالم فسنجد أنّ معظمها عائدة إلى صفة الهلع (الجزع) عند الإنسان. ويقول الله «مسّه» لأنّ المس أدنى ما يصيب الإنسان من الشر أو الخير.

(وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)

والسبب حبّه المفرط لذاته ، وشح النفس الذي يجعله يريد الخير لنفسه فقط ،

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ٦١٢.

(٢) تفسير البصائر / ج ٤٩ ـ ص ١٢٠.

٣٥٦

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (١) وحقّ ما جاء في الرواية : «ما فتح الله على عبد بابا من أمر الدنيا إلا وفتح الله عليه من الحرص مثله» (٢) ، وفي الآية بصيرتان :

الأولى : إنّ المتتبع لكلمة الإنسان في استخدام القرآن يجدها ترد دائما عند الحديث عن الصفات السلبية فيه ، قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٣) (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) (٤) (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٥) (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (٦) (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٧) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٨) .. وهكذا ترد الكلمة عند الحديث عن الصفات الذاتية للإنسان.

الثانية : إنّ المفسرين اختلفوا في معنى الخلق ، وجرى بينهم بحث كلامي وفلسفي حول صفة الهلع كيف خلقها الله وهي ذميمة أم هي صفة يوجدها الإنسان في شخصيته بنفسه؟ فصاحب التبيان أكّد كونها من فعله تعالى فقال : وإنّما جاز أن يخلق الإنسان على هذه الصفة المذمومة لأنّها تجري مجرى خلق شهوة القبيح ليجتنب المشتهى ، لأنّ المحنة في التكليف لا تتم إلّا بمنازعة النفس إلى القبيح ليجتنب على وجه الطاعة لله تعالى ، كما لا يتم إلّا بتعريف الحسن من القبيح في العقل ليجتنب

__________________

(١) العاديات / ٨.

(٢) أصول الكافي / ج ٢ ـ ص ٣١٩.

(٣) النساء / ٢٨.

(٤) هود / ٩.

(٥) إبراهيم / ٢٤.

(٦) الإسراء / ١١.

(٧) الكهف / ٥٤.

(٨) الأحزاب / ٧٢.

٣٥٧

أحدهما ويفعل الآخر (١).

وفي التفسير الكبير : قال القاضي قوله تعالى : «الآية» نظير لقوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) وليس المراد أنّه مخلوق على هذا الوصف ، والدليل عليه أنّ تعالى ذمّه عليه ، والله تعالى لا يذم فعله ، ولأنّه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة المذمومة ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها (٢) ، وعلّق الفخر الرازي مفصّلا بأنّ الهلع واقع على أمرين : أحدهما نفسي باطن ، والآخر فعلي ظاهر ، وهو يدل على ما خفي .. وقال : أمّا تلك الحالة النفسانية فلا شك أنّها تحدث بخلق الله تعالى ، فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار (والجبر) ، والأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها ، فهي أمور اختيارية (٣).

والظاهر أنّ صفة الهلع صفة ذاتية مركوزة في الطبائع الأولية للإنسان ، وإنّما يبيّنها الله ويذمّها لكي يعرّفنا بها ويحذّرنا منها فنجتنبها ، وليس في ذلك شيء من الجبر لأنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان في أحسن تقويم إلّا أنّ ذاته المرتكزة في الجهل والجهالة والضعف والعجلة وما أشبه لم تتغيّر. أرأيت الذي يشعل شمعة في الليل فتضيء ما حولها يحمد عليها ولا يذمّ على الظلام المحيط لأنّه ليس من صنعه ، وهكذا تركّب الإنسان من صنفين : النور (من الله) والظلام (من نفسه) ، قال ربنا سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٤) ، وسائر ما في الإنسان من جوانب القوة والضعف والخير والشر فإنّما هي ظلال لهذين

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ـ ص ١٢١.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٣) المصدر / ١٢٩ بتصرف.

(٤) النساء / ٧٩.

٣٥٨

الصنفين ، إلّا أنّ على الإنسان أن يسعى جاهدا للتغلّب على الظلام وظلاله في نفسه ، وتنمية النور ، وإشعاعاته ، والهلع واحد من ظلال الظلام الذي يجب أن يتغلّب عليه بسعيه وعزم إرادته.

والله تعالى عرّف البشر كوامن نفسه شرها وخيرها ، وأعطاه إرادة الإختيار التي يتجاوز بها صفات السوء وطبائعه إن شاء أو يسترسل معها ، ورسم له المنهج الذي يسلم بتطبيقه منها. فما هو المنهج القرآني لعلاج صفة الهلع عند الإنسان؟

أولا : حضور الآخرة في وعيه نفسيّا وفكريّا ، فإنّ من يتذكر أهوالها ومشاهدها لا يجزعه من الدنيا شر بالغ ما بلغ ، لأنّه يكون أبدا مشغولا عنه بذلك الشرّ المستطير ، بل تراه يعيش السكينة والاطمئنان كالمؤمنين : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، كما لا يبطره خير فيمنع خشية العذاب وطمعا في الثواب .. ولعل هذه الفكرة تفسر لنا العلاقة بين الحديث عن مشاهد القيامة (الآيات ٨) وبين الحديث عن الإنسان (١٩ ـ ٢١). والمستقرئ للآيات القرآنية يجد أنّ الوحي ما يكاد يحدّثنا عن صفات الإنسان السلبية إلّا ويمهّد لذلك بالحديث عن الآخرة ، أو يلحقه بالتذكير بها ، لأنّه علاج ناجح لها.

[٢٢ ـ ٣٥] ثانيا : الصلاة التي هي معراج المؤمنين إلى الفضيلة ، ووسيلتهم للتزكية والتربية الذاتية. أوليست هي الوسيلة التي دعانا الله أن نبتغيها إليه؟ أوليست هي حبل الله وسفينة نجاة الإنسان من الباطل والشر؟ .. بلى. ولكن يجب أن نفهم الصلاة ونقيمها بشروطها كما يبيّنها القرآن حتى نخلص من صفة الهلع وسائر الصفات السيئة ، ونعرج بأنفسنا روحيّا وسلوكيّا إلى آفاق الكمال والفضيلة ، فإنّ الإنسان كإنسان متورّط في الهلع.

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ)

٣٥٩

الذين عرفوا الصلاة على حقيقتها فأقاموها في حياتهم .. عرفوا الصلاة بأنّها الاتصال الدائم بلا انقطاع مع الله ، والكون في طاعته كلّ ساعة ولحظة .. عرفوا الصلاة برنامجا متكاملا يتصل بكلّ شؤون الحياة ومفرداتها الخاصة والعامة ، الفردية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية والأخلاقية والقضائية و.. و.. ، لا صلاة القشور المحصورة في الركوع والسجود وبعض المظاهر. فما هي الصلاة الحقيقية في مفهوم القرآن؟!

إنّ القرآن لا يفصّل لنا في كيفية الصلاة ولا عدد ركعاتها وسجداتها ، وإنّما يعرفنا الصلاة الربّانية ببيان صفات المصلّين الواقعيين عند الله ، وهي :

الأولى : الدوام على الصلاة.

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)

قال الزمخشري : يواظبون على أدائها ، ولا يخلّون بها ، ولا يشغلون عنها بشيء من الشواغل (١) ، وفي الدر المنثور عن ابن مسعود قال : على مراقبتها ، وعن عقبة بن عامر قال : الذين إذا صلّوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال (٢) ، وكلّ ذلك صحيح ، إلّا أنّ الآية جاءت لتعطي البعد الأشمل والأصح للصلاة كما يراها الإسلام ويلتزم بها المصلّون الحقيقيّون ، وهي الصلاة الدائمة التي تورث الصلة المستمرة مع ربّ الكائنات في القيام والقعود في آناء الليل وأطراف النهار.

إنّ البعض فهم الصلاة فهما خاطئا على أنّها مجرد عدد من الركعات والأذكار التي يؤدّيها المسلم في وقت مخصوص ، وقطعوها ـ وهي عمود الدين ـ عن الاتصال

__________________

(١) الكشاف / ج ٤ ـ ص ٦١٢.

(٢) الدر المنثور / ص ٢٦٦.

٣٦٠