من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

والكيفية.

ثانيا : يبدو أنّ الماء رمز للحضارة حيث الماء عصبها ، فأيّ تقدّم حضاريّ لا غنى له عن الماء.

ثالثا : كما أن اجلى مصاديق الماء ليس ما نشر به ونسقي به الزرع ، إنّما هو العلم الحق الذي تحيا بالاستجابة له النفوس والعقول ، وتنعش به الحياة. قال الإمام الصادق (ع): «يعني لأمددناهم علما كي يتعلّمونه من الأئمة (ع)» (١) وعن بريد العجلي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزّ وجلّ : «وألّو استقاموا على الطريقة»؟ قال : «يعني الولاية» ، «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً»؟ قال : «لأذقناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمة (ع)» (٢) وعن الباقر (ع) قال : «لأشربنا قلوبهم الإيمان ، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء» (٣) .. ولا غرابة في تأويل الآية على هذا النحو ، لأنّ الاستقامة على الطريقة في النفس بالإيمان ، وفي الفكر باتباع آيات الله ورسالته ، وفي المجتمع بالانتماء إلى حزبه واتباع أوليائه.

ومن كلمة «أسقيناهم» يتبيّن أنّهم ظمأى ، وعطشهم إلى الإيمان والمعرفة أشدّ من عطشهم إلى الماء ، والاستقامة ٤٨٢ على الطريقة الآنف ذكرها يؤمّن للبشرية كلّ ذلك ، حيث الإيمان بالله وحيث بصائر الوحي التي تروي القلوب والعقول ، وتبني حضارة السعادة ، ومستقبل الفلاح.

ولأن هدف الحياة الدنيا هو الابتلاء لاستظهار معدن المكلّفين وكوامنهم فإنّ المسألة لا تنتهي عند حدود الاستقامة على الطريقة من قبل المخلوقين وإسقاء الماء

__________________

(١) البصائر / ج ٤٩ ـ ص ٤٢٨.

(٢) المصدر.

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٤٣٨.

٤٦١

الغدق من قبل الله ، بل لا بد من الفتنة ، كقضية أساسية يفرضها هدف الخلق ، وكون الدنيا ليست الدار الأخيرة.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)

بهدف معرفة طبيعتهم ، ومواقفهم العملية من نعم الله عزّ وجلّ ، بالذات وأنّ المسيرة الحضارية للأمم تبدأ بجيل ملتزم مستقيم يشيّد صرح الحضارة ثم ينحرف ببطر النعمة ، أو يرثه من بعده خلف يضيّع القيم ويتبع الأهواء. فأمّا الأمة التي تفلح في الاستقامة على الطريقة قبل الرغد وبعده فإنّها تصبح محلّ عناية الله ، والمزيد من فضله بالزيادة جزاء للشكر ، وعلى عكسها الأمة التي يأخذها الغرور بمنجزاتها ، وتنخدع بزينة الحياة الدنيا ، وفضل الله عليها ، فإنّها تدخل نفق الانحطاط والعذاب.

(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)

قيل : هو العذاب الذي يزداد ويتصاعد بمرور الزمن ، وإنّ الأمة التي تضل عن مسيرة الحق لترى الأهوال وألوان العذاب المتكاثرة في أنواعها ، والمتزايدة في كيفيتها ، وقيل : هو العذاب الأليم الذي يصعد إلى المخ ، وقيل : صعود جبل في جهنم يجبر المجرمون على صعوده محمّلين بالأثقال ، فكلّما بلغوا قمّته أعيدوا للأمر كرّة وأخرى دون استراحة .. وفي الأثناء تضربهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد النارية.

ومن الناحية الواقعية لو أردنا أن نتصوّر مسيرة أمّة خالفت الطريقة السليمة واتبعت السبل المنحرفة فسنجدها كمن يصعد الجبال الوعرة يخالف سنّة الله في الجاذبية ، فيلقى في طريقه العقبات التي لا تطاق. قال ابن عباس : إنّ صعدا جبل في جهنم ، وهو صخرة ملساء فيكلّف الكافر صعودها ، ثم يجذب من أمامه بسلاسل

٤٦٢

ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها ثم يكلّف الصعود مرّة أخرى (١).

وإنّما يسلك المعرض عن ذكر الله عذابا صعدا لأنّ ذكره تعالى وسيلة الاستقامة على الطريقة ، ولا يقدر الإنسان على الاستقامة من دونها ، فإذا ما أعرض أحد عن الوسيلة لم يبلغ النتائج فإذا بالماء الغدق يصبح عذابا صعدا. ولعمري إنّ الأمة الإسلامية حين استقامت على الطريقة سقيت الماء الغدق ، وصارت إلى السعادة والسلام ، ولكنّها حيث افتتنت بالمعطيات والنعم فشلت في الامتحان ، إذ أعرضت عن ذكر ربها وأوليائه فصارت ولا تزال إلى العذاب الصعد.

[١٨ ـ ٢٠] وفي سياق الحديث عن الجن الذين اتخذهم البعض آلهة فأشركوا بهم ، وعبدوهم من دون الله ، يؤكّد ربنا حقيقة التوحيد كهدف رئيس من وراء نسف المزاعم الموغلة في الخرافة حول هذا الخلق من خلقه تعالى ، ممّا يهدينا إلى كون الآية الثامنة عشر آية محورية في سورة الجن.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)

والأنبياء وكلّ من يسيرون على خطهم ويتبعون منهجهم حيث يقومون لله بالدعوة وينهضون للتغيير يجعلون محورهم توحيده عزّ وجلّ عن أيّ شريك من خلقه ، إلى حدّ التجرد له عن أيّة ذاتية ، يتجرّدون عن الأرض والعشيرة وكلّ قرابة وأيّة علاقة بشيء أو بشخص ، ويسلّمون أنفسهم بصورة مطلقة له ، ويكيّفونها حيث التوافق مع رسالته. وهذا من أهمّ الفوارق بين الدعوات الإلهية الخالصة وبين الدعوات البشرية التي يسعى أصحابها في الغالب إلى الانتفاع منها لصالحهم.

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٢٠ ـ ص ١٦٢.

٤٦٣

إنّك لو درست حركة الكهنة فستجدهم يسعون لجعل أنفسهم محورا من وراء ثقافاتهم ودعوتهم ، فهم دائما يريدون إقناع الناس بأنّهم عظماء ، وأنّ لديهم قبسا من عظمة الله سبحانه وعلما من علمه. أمّا الأنبياء والرسل فإنّهم لا يدعون مع الله أحدا أبدا. ويتفرّع من ذلك أنّ الدعوات البشرية عادة ما تكون وسيلة لارتزاق أصحابها بها. أمّا أولياء الله فإنّهم لا يسألون أحدا أجرا. بل يأتون ليعطوا الناس الأجر والخير.

وقد استفاد أئمة الهدى من هذه الآية حكما شرعيّا جنائيا بحرمة قطع المساجد كالكف في حوادث السرقة مثلا ، وقد جاء في الرواية في قصة سارق أحضر إلى المعتصم العبّاسي فاستفسر : من أيّ حدّ يجب أن يقطع؟ فقال الراوي (وهو ابن أبي داود) : من الكرسوع ، قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : قلت : لأنّ اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع ، لقول الله في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) ، واتفق معي على ذلك قوم. وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق ، قال : وما الدليل على ذلك؟ قالوا : لأنّ الله لمّا قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) في الغسل دلّ على أنّ حدّ اليد هو المرفق.

قال : فالتفت إلى محمد بن علي بن موسى بن جعفر (ع) فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر فقال : «قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين» ، قال دعني ممّا تكلّموا به. أيّ شيء عندك؟ قال : «اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين» ، قال : أقسمت عليك بالله لمّا أخبرت بما عندك فيه؟ فقال : «أمّا إذا أقسمت عليّ بالله إنّي أقول : إنّهم أخطئوا في السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف» قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : قول رسول الله (ص) : السجود على سبعة أعضاء : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تبارك

٤٦٤

وتعالى : «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها «فلا تدعوا مع الله أحدا وما كان لله لم يقطع» قال : فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال ابن أبي داود : قامت قيامتي ، وتمنيت أنّي لم أك حيّا (١).

ونستفيد من الآية بصيرة عملية وهي حرمة جعل المساجد محلّا لدعوة غير الله ، واستخدامها بغير غرض العبادة له عزّ وجلّ ، كالدعوات الانتخابية والتوجهات الحزبية وما أشبه.

ومن الفوارق الأساسية بين دعوة أولياء الله (رسله وأنبياؤه ومن يسير على نهجهم) وبين الدعوات البشرية كالكهانة والسحر والفلسفات المنحرفة أنّهم لا يبحثون عن التيار الاجتماعي ليسبحوا معه ، إنّما يهمّهم العمل بالحق مهما كان ذلك مخالفا لتوجّهات المجتمع ، بينما نجد الكهنة والسحرة ومن أشبه يسيرون في ركاب السلاطين ، وأصحاب النفوذ في المجتمع ، ويخشون من الاصطدام مع الواقع.

فالرساليون لا يعرفون المداهنة والمساومة ، بل يثورون لتغيير الواقع الفاسد ، ويصطدمون مع كلّ قيمة منحرفة بغضّ النظر عن العواقب ما دام الأمر يرضي الله ، فإذا بواحدهم كإبراهيم ـ بل هكذا كل واحد منهم ـ يقف أمّة لوحده في قبالة مجتمع بكامله وقد تظاهر عليه وتلبّد كما تتلبّد الغيوم بعضها مع البعض الآخر.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ)

أي يدعو ربه نابذا كلّ الأفكار والقيم الشركية الضالة.

__________________

(١) العياشي / ج ١ ص ٣١٩.

٤٦٥

(كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)

قال الشيخ الطوسي : جماعات متكاتفات بعضها فوق بعض ، ليزيلوه بذلك عن دعوته بإخلاص الإلهية (١). ولعل في الآية إشارة من بعيد إلى تظاهر المشركين من الإنس ومن الجن مع بعضهم ضد داعية الحق ، ولكنّ ذلك ليس بالذي يثني الأنبياء والرسل ولا بالذي يفلّ عزائمهم وعقائدهم الراسخة ، فقد وقف نبيّ الإسلام (ص) وكما أمره الله متحديا جبهة الضلال المتلبّدة ضده ، ومعلنا بأنّه لن يغيّر مسيرته ، ولن يتنازل عن قيمه وأهدافه.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)

وهذه الآية رمز لتحدي الرساليين لكلّ عامل وأحد يضغط باتجاه المداهنة في قيمة التوحيد أو التنازل عنها. أوليست الاستجابة للضغوط لونا من ألوان الشرك؟!

[٢١ ـ ٢٢] وتمتاز الدعوة الإلهية عن غيرها بأنّها تثير في الإنسان كوامنه ، وتدفعه إلى السعي لا التمنيات ، كما يفعل الكهنة ودعاة الأديان والمذاهب البشرية ، الذين يوزّعون صكوك الجنة والأمان المزعومة على الناس إزاء المال! كلّا .. إنّ أولياء الله يصارحون الناس بأننا لسنا بدائل عنكم ، ولا يغني إيماننا عن سعيكم .. حتى لا يتخذهم الناس أربابا من دونه تعالى ، ولا شفعاء بالطريقة الموجودة في نظرية الفداء عند بعض النصارى.

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً)

وهذه قمّة التجرّد لله وتوحيده ، ودليل إخلاص المساجد له من قبل

__________________

(١) التبيان ج ١٠ ص ١٥٥.

٤٦٦

الرسول (ص). والآية تحريض على التوجّه لله وحده لأنّه الذي يملك الضر والرشد ، كما أنّ فيها تحريضا على الاعتماد على مواهب الله للنفس البشرية والسعي الذاتي كمنهجية سليمة وكجزء من الطريقة. وتلاحظ في السورة تكرّر كلمة الرشد أربع مرات في الآيات (٢ ، ١٠ ، ١٤ ، ٢١) واستخدامها محل النفع الذي يقابل الشر والضر ، ولعلّ السبب يكمن في معالجة السياق لمشكلة الضلال والانحراف التي تسبّبها المزاعم والفلسفات البشرية الباطلة حول الجن وغيرهم ، فأراد تعالى التأكيد على دور الوحي في الهداية والرشد ، بل التأكيد على الرشد بذاته في مقابل علاج مشكلة الضلال.

والرسول ليس لا يملك للآخرين ضرا ولا رشدا ، بل لا يملك حتى لنفسه شيئا من ذلك ، إنّما الله وحده منه النفع والضر والإجارة ، فخطأ إذن أن يعوذ أحد بغيره جنّا أو إنسا أو سواهما.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)

وهذه العقيدة من أهمّ دواعي التسليم له عزّ وجلّ وتوحيده ، وبها يقاوم المؤمنون عوامل الهزيمة والخوف حيث التوكل على ربّ العزة والاستجارة به من سواه ، لا كما يفعل السفهاء فيستعيذون بالأنداد والشركاء من تقدير الله وأمره وعذابه!

والملتحد الملجأ الصغير بقدر اللحد ، وإنّ من يجيره الله فلا خوف عليه ، وإنّ من يريده عزّ وجلّ بسوء فلن يجد ملجأ ولا بمقدار اللحد يفرّ إليه منه وقد وسعت قدرته كلّ شيء.

[٢٣ ـ ٢٨] ويبيّن النبي (ص) كنه دوره ومهمته في الحياة ، فهو لم يأت ليعطي الناس صكوك الأمان ، ولا ليكون شريكا لله في ملكوته ، إنّما جاء عبدا لله

٤٦٧

ورسولا من الله يبلّغ رسالته إلى الناس.

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ)

و «إلّا» تفيد هنا الاستثناء الحصري ، وقال : (وَرِسالاتِهِ) بالجمع وليس رسالته بالافراد لبيان أنّه امتداد برسالته لكلّ رسالات الله السابقة ، وأنّ خطّ الأنبياء واحد يكمل بعضه (أفراد ورسالات) بعضا.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)

ولا تكون معصية الرسول إلّا باتباع هوى النفس وسفهاء الأمم من القادة المنحرفين الذين يقولون على الله شططا. وإدخال القرآن لعنصر التخويف بالنار في الحديث عن معصية الله والرسول لأنّ ذلك ينمّي الحذر من الله في النفس ، ويضمن طاعة المؤمنين لله والرسول. والآية هذه توازن الموقف من الرسول القائد ، فصحيح أنّه لا يملك لأحد ضرا ولا رشدا ، إنّما يملك الناس أنفسهم ضر أنفسهم ورشدها ، ولكنّه حيث تجرّد لله يعتبر مقياسا ، ويتحوّل بشخصيته وموقعه إلى ميزان وقيمة في المجتمع ، بحيث يقرن الله رضاه وغضبه وطاعته ومعصيته برضى الرسول (ص) وغضبه وطاعته ومعصيته. وهكذا يصير كلّ قائد واحد ميزانا بمقدار ما يجسده من قيم الحقّ في حياته.

ولأنّ العصاة إنّما يتمرّدون على أوامر الله ورسوله اغترارا بما لديهم من القوة ، وبمن حولهم من الأنصار ، فإنّ الله يذكّرهم بأنّهما لا يغنيان عنهم شيئا في تحدّيهم لرسوله وللحق ، باعتبارهما الأقوى ناصرا والأكثر جندا .. الأقوى لأن الله ناصرهم ، والأكثر لأنّ الملائكة وقوى الطبيعة تقف إلى جانب الحق ، ومهما تأخر وعد الله بدحرهم والإنتصار لحزبه ورسالاته في الدنيا والآخرة فإنّه آت لا ريب فيه.

٤٦٨

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ)

من الهزيمة في الدنيا أمام المؤمنين ، أو الوعد بالبعث والجزاء الذي راح يشكّك فيه ضلّال الإنس والجن.

(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)

ومما يزيد في ضلال العصاة لله ولرسوله بالإضافة إلى الاغترار بالقوة والعدد هو تشكيكهم في صحّة وعد الله بالجزاء ، ولذلك تراهم لا يفترون يسألون مجادلين عن أجل الوعد. وهنا يتدخّل الوحي يسدّد المؤمنين في مواجهتهم لتلك التشكيكات والجدليّات ، بأمرهم أن لا يخوضوا معهم حيثما شاؤوا فيكون زمام الحوار بأيدي أولئك ، وإنّما إدارته حيث تقتضي القيم والإستراتيجيات الرسالية ، فإنّ الجدليات التي تصبح هدفا بذاتها كجدلية السؤال عن الساعة لا تنتهي عند حد كما أنّ الرساليين ليسوا مكلّفين بالإجابة على كلّ سؤال يطرحه الآخرون إلّا في حدود المصلحة الرسالية وحدود ما أوتوا من العلم.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً)

وإنّما ترك الرسول الإجابة على ذلك بالكيفية التي يريدها المجادلون اتباعا للمصلحة الحكيمة ، ولأنّ علم الساعة ممّا يختص به الله وله فيه البداء ، فقد يكون موعدها قريبا ، وقد يعطي الله للناس فرصة لمراجعة الذات بتمديد أجلها لعلّهم يتذكّرون ويتوبون. والآية إشارة إلى فكرة البداء من حيث أنّه تعالى مختار في تحديد وقت الساعة متى شاء ، فقد يكون لها في علمه زمن معيّن ثم يبدو له فيجعل لها أجلا آخر قريبا أو بعيدا.

وكفى بجهل الإنس والجن بميقات الساعة وبالمستقبل دليلا على قصورهم عن

٤٦٩

علم الغيب ، وانحصار معرفته برب العالمين ، وذلك مما يميز الخالق عن المخلوق.

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً)

وهذه الآية تنفي المزاعم والأباطيل حول علم الجن والكهّان بالغيب. بلى. قد يظهر الله بعض أوليائه من الرسل على ما يريد من علم الغيب ، وهم بدورهم يحفظون سره تعالى ، إذ يعلم أين يضع رسالته ، ومن يختار لأمانته ، ومع ذلك يحفظهم تماما كما حفظ السماء من استراق السمع.

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)

فلا أحد يفرض على ربنا أن يظهره على غيبه ، إنّما هو الذي يتفضّل برضاه وحكمته على من يشاء فيطلعه على بعض الغيب ومع ذلك لا يدع غيبه يتسرب من مخازنه إلى من لا يستحقه.

(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)

يحفظونه ويسدّدون خطاه ، ويراقبون حركاته وتصرفاته ، برصد ما يصدر منه في الحاضر والمستقبل (بَيْنِ يَدَيْهِ) وما صدر عنه في الماضي (مِنْ خَلْفِهِ). وكيف يطّلع المنجّمون والسحرة والكهّان على الغيب وهم مغضوب عليهم عند الله؟! أم كيف تصل معرفة الشياطين به وهم أعداؤه الذين أعدّ لهم الحرس الشديد والشهب حربا عليهم؟! وفي هذا جاءت أحاديث أئمة الهدى كالتالي :

قال الإمام الباقر (ع) لحمران : «فإنّ الله عزّ وجلّ عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدّر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يقضيه إلى الملائكة ، فلذلك يا حمران! علم هو موقوف عنده إليه في المشيئة ، فيقضيه إذا أراد ، ويبدو له فلا

٤٧٠

يمضيه ، فأمّا الذي يقدّره عزّ وجلّ ويقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله (ص) ثم إلينا» (١) ، وعن الإمام الصادق (ع) قال : «إنّ لله عزّ وجلّ علمين : علما عنده لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، وعلما نبذه إلى ملائكته ورسله ، فما نبذه إلى ملائكته ورسله فقد انتهى إلينا» (٢).

وتهدينا الآية إلى أمرين :

الأول : إذا كان ثمّة سبيل للمخلوقين يطلعون بسببه على الغيب فإنّه ليس الجن ولا غيرهم لأنّهم لا يعلمونه ، إنّما ينبغي لهم الاستعاذة بالله وطلبه عند رسله وأوصيائه المرضيين عنده.

الثاني : خطأ ما زعمه البعض من أنّ أحدا لا يعلم الغيب البته ، فإنّه يعلمه من ارتضاه الله لغيبه وبقدر ما يعلّمه الله بصريح النص. قال الإمام علي (ع) وهو يتحدّث عن الناس : وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطابا يدلّ على انفراده وتوحيده ، وبأنّ لهم أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله ، وعرّف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله : «عالِمُ الْغَيْبِ ..» قال السائل : من هؤلاء الحجج؟ قال : هم رسول الله (ص) ومن حلّ محله من أصفياء الله الذين قال : «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله ، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها (من الطاعة) لنفسه (٣).

ويبيّن الله الهدف من اطلاع رسله المرضيين على الغيب ، وسلك الرصد من بين أيديهم ومن خلفهم ، ألا وهو كونه ممّا يقتضي تبليغ الرسالة ويخدم مصلحتها.

__________________

(١) البرهان ج ٤ ـ ص ٣٩٥.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٤٤٢.

(٣) المصدر ص ٤٤٤ نقلا عن الإحتجاج.

٤٧١

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ)

والآية تهدينا إلى أنّ الرسالة جزء من ذلك الغيب الذي يظهر عليه من يرسلهم بها ، وإنّ اطلاعهم على بعض الغيب لدليل على كونهم رسل ربّ العالمين ، ممّا يقيم الحجة على العقلاء ويفرض إتباعهم عليهم ، فذلك إذن ممّا يعينهم في إبلاغ الرسالة من جهة ، وإقامة الحجة الداعية إلى تبليغها على الأنبياء أنفسهم بحيث لا يبقى لهم عذر لو قصّروا حاشاهم.

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ)

إحاطة عامة شاملة.

(وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)

أي إحاطة مفصّلة بالأرقام والدقائق ، وحيث يفعل الله شيئا فإنّ فعله يرتكز على العلم والحكمة ، وإنّما يطلع بعض رسله على الغيب لإحاطته بهم ومعرفته بصلاح ذلك وضرورته.

٤٧٢

الفهرست

سورة التغابن

فضل السورة............................................................ ٥

الإطار العام............................................................ ٦

ذلك يوم التغابن....................................................... ١١

إنما أموالكم وأولادكم فتنة.............................................. ٢٧

سورة الطلاق

فضل السورة.......................................................... ٤٥

الإطار العام........................................................... ٤٦

ومن يتق الله يجعل له مخرجا............................................. ٥١

فاتقوا الله يا أولي الالباب............................................... ٧٢

سورة التحريم

الإطار العام........................................................... ٩٣

تحرم ما أحل الله لك.................................................. ١٠٢

سورة الملك

فضل السورة........................................................ ١٢٧

الإطار العام......................................................... ١٢٨

تبارك الذي بيده الملك................................................ ١٣٤

إن الكافرون إلا في غرور.............................................. ١٦١

٤٧٣

سورة القلم

فضل السورة........................................................ ١٨٧

الإطار العام......................................................... ١٨٨

ولا تطع كل حلاف مهين............................................ ١٩٤

فاصبر لحكم ربك.................................................... ٢٣٣

سورة الحاقة

فضل السورة........................................................ ٢٥٩

الإطار العام......................................................... ٢٦٠

وتعيها أذن واعية..................................................... ٢٦٥

وانه لحق اليقين...................................................... ٢٩١

سورة المعارج

فضل السورة........................................................ ٣٣٣

الإطار العام......................................................... ٣٣٤

فاصبر صبرا جميلا.................................................... ٣٣٩

الذين هم على صلاتهم دائمون........................................ ٣٥٤

سورة نوح

فضل السورة........................................................ ٣٨٩

الإطار العام......................................................... ٣٩٠

أن اعبدوا الله واتقوه واطيعون.......................................... ٣٩٦

سورة الجن

فضل السورة........................................................ ٤٢٧

الإطار العام......................................................... ٤٢٩

إنا سمعنا قرآنا عجبا.................................................. ٤٣٦

الفهرست........................................................... ٤٧٣

٤٧٤