من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

أن تطلب زوجا.

وممّا يؤكّد هذه الفكرة الروايات التي بيّنت أنّها تصبح زوجة لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في الجنة ، فقد أثر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه دخل على خديجة ـ عليها السلام ـ وهي في مرض الموت فقال لها : «بالرغم منّا ما نرى يا خديجة ، فإذا قدمت على ضرائرك (أي اللّاتي هنّ أزواج الرسول كما خديجة) فاقرئيهنّ السلام» ، فقالت : من هنّ يا رسول الله؟ فقال : «مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون» ، وتوحي بهذه الحقيقة أيضا بقية الآية :

(وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)

فكانت ترفض البقاء في ظلّه ، ويهدينا قوله سبحانه : «وعمله» إلى فكرة هامة هي أنّ الإنسان المؤمن قد ينجو بالهجرة أو بسقوط النظام الفاسد من أذى الظالمين المباشر ، لكنّه قد لا ينجو من أعمالهم ، فإذا به يصبح ظالما مثلهم ويعمل الفواحش ويقع في الفساد ، لذلك ينبغي الدعاء والعمل للنجاة من الظلمة ومن الظلم.

(وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

أمّا المثل الثاني للمؤمنين فهي مريم ابنة عمران ـ عليها السلام ـ فإنّها رغم انحراف بني إسرائيل بعد موسى وشياع الفاحشة بينهم تحدّت الانحراف فحافظت على عفّتها وطهارتها.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها)

ولا ريب أنّ الأرحام المحصنة والفروج العفيفة والحجور الطيبة الطاهرة ستكون

١٢١

منطلق الأجيال الصالحة ، وموضع تجلّي روح الله.

(فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا)

وبرزت عظمة مريم ـ عليها السلام ـ في تصديقها بكلمات الله وكتبه ، ولعلّ كلمات الله هي أنبياؤه كعيسى بن مريم ، لأنّ الأنبياء لسانه في خلقه وينطقون بوحيه وكلماته ، أو هي البصائر الإلهية البارزة التي من الصعب التصديق بها ، أمّا الكتب فهي الرسالات. ولقد جعلت مريم نفسها مصداقا للحق الذي جاء به الأنبياء وانطوت عليه كتب الله.

(وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)

والقانتون هم المثابرون بالدعاء إلى الله المسلّمون له ممّا يؤكّد روحانيتها وتبتّلها الدائم. ونستوحي من الآية تأكيدا للروايات التي قالت بأنّها تكون من زوجات رسولنا الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله ـ في الآخرة حيث وعده الله فيما وعده بالزوجات القانتات التي هي منهن.

وقد يكون من معاني التصديق بكلمات الله وقنوتها أنّها بلغت مرحلة العصمة ، حيث أنّ الإنسان بين أمرين : بين الاستجابة لنداء الباطل وكلماته ، أو التصديق بالحق واتباع ندائه ومناديه ، وإذا كان الإنسان جادّا في اتباع الحق تمايز في داخله نداء الشيطان المنبعث من شهواته ووساوس نفسه الأمّارة بالسوء وهمزات شيطانه الرجيم تمايز عن نداء الرحمن المنبعث من عقله ووجدان نفسه اللوّامة وإلهامات ربه عبر ملائكته الكرام.

وهذا أحد وسائل الوحي الذي هو نقر في القلب ، والذي من أمثلته ما ألهمت أمّ موسى ـ عليها السلام ـ أن تلقي بولدها في اليمّ.

١٢٢

وهذه الآيات الثلاث تهدينا إلى حقيقة رئيسية هي أنّ الإنسان قادر على الاستقلال بإرادته وقراره وعمله مهما كانت الظروف مساعدة أو معاكسة لما يختاره لنفسه ، فالكفر والإيمان يبدءان من داخل الإنسان وليس من الظروف والعوامل المحيطة ، وبالتالي يمكن القول أنّ هذه الآيات بما ضربته من الأمثال تنسف الفلسفات الضالة القائمة على أساس الإيمان بالحتميات اقتصادية أو اجتماعية أو وراثية أو .. أو .. فيما يتصل بقرار الإيمان والكفر في حياة الإنسان ، فهذه آسية بنت مزاحم ومريم ابنة عمران تحديتا الظروف والضغوط وآمنتا بالله ، بينما كفرت زوجة نوح ولوط رغم العوامل الإيجابية والمساعدة على الإيمان ، وإذا كانت هذه البصيرة صادقة في المرأة فإنّ صدقها بالنسبة إلى الرجل أوضح وأجلى أليست المرأة ضعيفة أمام الرجل؟

١٢٣
١٢٤

سورة الملك

١٢٥
١٢٦

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

في أصول الكافي عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام قال : «سورة الملك هي المانعة تمنع من عذاب القبر ، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك ، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين ، وإني لأركع بها بعد عشاء الآخرة وأنا جالس ، وإنّ والدي ـ عليه السلام ـ كان يقرؤها في يومه وليلته ، ومن قرأها إذا ادخل عليه ناكر ونكير من قبل رجليه قالت رجلاه : ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقوم عليّ فيقرأ سورة الملك في كلّ يوم وليلة ، وإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما : ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد اوعاني سورة الملك ، وإذا أتياه من قبل لسانه قال لهما : ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقرأ بي في كلّ يوم وليلة سورة الملك»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٧٨

١٢٧

الإطار العام

لعلّ زرع الخشية من الله بالغيب هو المحور الذي تتصل به كلّ آيات سورة الملك ، التي هي بداية انعطافة كبيرة في السياق القرآني نحو البصائر التي تنزّل بها الوحي في الجزئين الأخيرين ، واللذان يتألّفان في الأكثر من السورة المكية التي تذكّر بأصول الإسلام كالإيمان بالله ، وبالرسول والرسالة ، وبالآخرة.

١ ـ ففي مطلع السورة يتجلّى الله العظيم بأسمائه الحسنى (تبارك ، الملك ، والقدير ، والخالق ، والعزيز ، والغفور ، والرحمن) لأنّ المعرفة السليمة بالله تضع الإنسان المخلوق بوجدانه وعقله وكلّ حواسه أمام الله الخالق سبحانه ، ممّا تمنحه الخشية منه عزّ وجل. ولا ريب أنّ خشية الإنسان من ربه تكون بقدر معرفته به. أولم يقل تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)؟ (١). ولكي تكون المعرفة بتلك الدرجة نجد السياق يمزج بينهما وبين تعريف الإنسان بأعظم الأهداف التي

__________________

(١) فاطر / ٢٨

١٢٨

خلق من أجلها (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فليس في منهج الإسلام إذن معرفة لا تقود إلى العمل الصالح ، بل إنّ أحسن الناس عملا أكثرهم معرفة بربّه.

ويزداد الإنسان معرفة بربّه كلّما جال ببصره وبصيرته في الآفاق من حوله ، ففيها تتجلّى أسماء الخالق (قدرته وعظمته وتعاليه ..) وبالذات إذا كرّ ببصره مع عقله المرة بعد الأخرى ، في مظهر الخلق وجوهره ، وفي صلة بعضه ببعض ، حيث يتجلّى له ربه وجماله الذي عكس بعض آثاره في الكون بمظهره وجوهره ونظامه المتقن الذي لا يعتوره تفاوت ولا فطور. الآيات (١).

٢ ـ ولأنّ الكفر من الحجب التي تمنع المعرفة بالله ومن ثمّ خشيته بالغيب جاءت الآيات تذكّر الكافرين بعذاب الآخرة ، وتحذّرهم من التكذيب بالنذر ، كوسيلة لهزّ ضمائرهم وإخراجهم من غرور الكفر وغفلته ، إذ تضعهم أمام صور من عذاب الخزي في جهنم التي تكاد تتفجر من الغيظ ، وبصورة تجعل ذلك الغيب المستقبلي شهودا لمن يسمع أو يعقل ، مما يزرع خشية الله في النفس ، فهنالك تحوط الكافرين الحسرة ، ويغمرهم الندم على ما فرّطوا في جنب الله وما صاروا إليه من سوء العاقبة ، ولا يملك أحدهم إلّا الاعتراف بذنوبه دون أن يجد مبرّرا يتملّص به من المسؤولية أو يستر به الفضيحة ، وأنّى له ذلك وشهادة الله محيطة بكل شيء وهو عليم بذات الصدور؟! وكيف لا يعلم اللطيف الخبير بخلقه؟! الآيات (٦).

٣ ـ ثم يأتي السياق على الأفكار الشركية فينسفها نسفا ، لأنّها تدعوا الإنسان الاعتماد على الأنداد المزعومين ، والإعتقاد بأنّهم قادرون على تأمينه وحمايته ورزقه من دون الله ، باعتبارهم شركاء أو شفعاء أو أنصاف آلهة يؤثّرون على مشيئته سبحانه ، الأمر الذي يجعله لا يخشى ربه عزّ وجل. الآيات (١٥).

وبناء على الحقائق الثلاث المتقدمة يمكن القول بأنّ قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ

١٢٩

يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) .. هي الآية التي تفصح بجلاء عن المحور الأساسي في هذه السورة المباركة.

١٣٠

سورة الملك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ

___________________

١ [تبارك] : من برك أي دام في خير ، ومنه البركة.

٣ [طباقا] : أي واحدة فوق الأخرى ، وقيل المراد بالمطابقة المشابهة أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان والإحكام والاتساق والانتظام.

[تفاوت] : اختلاف وتناقض.

[فطور] : شقوق وفتوق.

١٣١

يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ

___________________

٤ [خاسئا] : مطرودا مبعدا ، أي أنّ البصر سوف يعود متعبا دون أن يعثر على عيب في خلق الله.

[حسير] : هو العاري من الحسّر وهم الرّجالة في الحرب يحسرون عن وجوههم ورؤوسهم أو يكونون لا درع عليهم ، ويقال : أرض عارية المحاسر ، فالبصر يعود وهو عار من أيّ دلالة ونتيجة تثبت التفاوت أو الفطور في خلق الله.

٧ [شهيقا] : في مفردات الراغب : الشهيق طول الزفير وهو ردّ النفس ، وأصله من جبل شاهق ـ أي متناهي الطول.

٨ [تميّز] : تتقطّع وتتفرّق.

١٣٢

السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)

___________________

١١ [فسحقا] : أي بعدا ، وهو دعاء عليهم أي اسحقهم الله وأبعدهم عن النجاة.

١٣٣

تبارك الذي بيده الملك

هدى من الآيات :

لكي يزرع القرآن خشية الله في القلوب يذكّرنا بآيات الله وأسمائه ، لأنّ المعرفة أساس الخشية ، فهي التي تظهر للإنسان عظمة ربه وأنّه أهل التقوى ، وتجعله يراه ببصائر قلبه عبر آياته وأفعاله ، فمن خلال سنّة الموت والحياة يتحسس خلقه الأشياء ، وملكه لها ، وقهره إيّاها ، ومن خلال النظر في أنظمة الكائنات يتجلّى له قدرته وحكمته ، وإنّه ليكلّ بصره فيعود خاسئا حسيرا دون أن يرى ثغرة في خلق الله وتدبيره ، ممّا يعزّز لديه الإيمان به عزّ وجلّ كلّما كرّ ببصره وبصيرته في الكائنات. وحيث يسمو البشر بنفسه وعقله إلى آفاق المعرفة يحضر ذلك الغيب أمامه حضورا يبعثه على الخشية.

ثم يذكّرنا الله بجهنم التي أعدّها للكافرين وكيف أنّها من شدة حرارتها ذات شهيق ، بل تكاد تتفجر من الغيظ غضبا على أعداء الله ، وأنّ الوسيلة للخلاص منها

١٣٤

هو سماع النذر والآيات واستثارة العقل على أثرهما في الدنيا ، لأنّ تقصير الإنسان في ذلك هو أعظم الذنوب التي لا يجد مفرّا دون الاعتراف بها في الآخرة ، وكيف لا يعترف وتحوطه شهادة الله النافذة؟!

بينات من الآيات :

[١] في أوّل كلمة من سورة الملك يطالعنا اسم من أعظم أسماء الله وهو تبارك ، والذي يقول عنه (وعن اسمين آخرين يماثلانه في العظمة) الحديث المأثور عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير متجسد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفي عنه الأقطار ، مبعد عنه الحدود ، محجوب عنه حس كلّ متوهم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحدا قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها ، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت ، فالظاهر هو : الله ، وتبارك ، وسبحان (وفي رواية : وتعالى) لكلّ اسم من هذه أربعة أركان ، فذلك اثنى عشر ركنا ، ثم خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها» (١).

وربما بسبب عظمة الأسماء الثلاثة التي أظهرها الله لخلقه نجد أئمة الهدى ينعتون عادة ربهم بها ، فما تكاد تقرأ حديثا عن الله إلّا يقولون فيه : قال الله تبارك وتعالى .. فما هو معنى «تبارك»؟

إنّ أهم وأظهر معاني هذا الاسم العظيم الخير الكثير المستمر الذي يتصل في مقام الخالق بتواتر نعمه على الكائنات وتتابع آلائه ، التي لولاها ما استمرت ولزالت

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٤ ـ ص ١٦٦.

١٣٥

وتلاشت السموات والأرض وما بينهما ، كما يتصل في مقام الخليقة بأنّها في حالة نموّ وتكامل مستمر ، لأنّ خالقها يعطيها بركة تلو أخرى ، ممّا يدلّ على أنّ مسيرة الخلق تصاعدية. وما التوسعة التي يضيفها الخالق للسموات حينا بعد آخر والتي أشار إليها بقوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (١) إلّا مظهر لبركات الله ، وفي القرآن إشارات إلى هذا المعنى إليك بعضها : قال تعالى وهو يتحدث عن الرسالة ، (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٢) ذلك لأنّ الفرقان نعمة تتواصل وخير يستمر وعطاء لا ينقطع من الدنيا وإلى الآخرة. إذا فهو تجعلّ لاسم ربّنا «تبارك» ، وقال في معرض حديثه عن إنشاء الإنسان من طور إلى آخر حتى سوّاه كاملا بنعمة العقل : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٣) ، وقال في سياق بيانه لنعمه التي في السماء وبركاته : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٤).

وهكذا يكون اسم «تبارك» الركن الأخير من أربعة أركان جعلها الله لاسمه الأعظم ، وهو يشير إلى صفات فعله ، الفعّال لما يريد ، الجواد ، الكريم ، المنّان ، المتفضّل ، الوهّاب ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، وهو صانع كلّ مصنوع ، وخالق كلّ مخلوق ، ورازق كلّ مرزوق ، ومالك كلّ مملوك ، وراحم كلّ مرحوم ، و.. و..

أمّا الأركان الثلاثة فإنّ واحدا منها مخزون عند ربّ العزة ، بينما الثاني هو : (الله) الذي يشير إلى صفات الذات ، والثالث هو : (تعالى أو سبحان) الذي يشير إلى صفات الجلال.

__________________

(١) الذاريات / ٤٧.

(٢) الفرقان / ١.

(٣) المؤمنون / ١٤.

(٤) الفرقان / ٦١ (ولقد مرّ في مطلع سورة الفرقان تفصيل في بيان هذا المعنى من تبارك فراجع).

١٣٦

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)

فالملك الحقيقي بيده وحده تعالى ، لأنّه الباقي بعد فناء كلّ شيء ، ولأنّه وحده القادر على التصرف في ملكه بصورة مطلقة ، أمّا ما يملكه الخلق فمالكيتهم له محدودة بقدر ما منحهم الله ، فمتى شاء زاده أو نقص منه أو سلبه وحوّله إلى غيرهم.

وهذه الآية تفتح آفاقنا على وجود أوسع من الأرقام الفرضية التي يقدّرها العلماء والفلكيون ، بل أوسع ممّا للإنسان المقدرة على تخيّله مهما ذهب بعيدا ، وأنّى له تصوّر ملك الله وهو بيّد قادرة على كلّ شيء وتمدّه بالبركة بعد البركة؟!

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

وكفى دلالة على أنّ الملك بيده تعالى وأنّه صاحب القدرة المطلقة أن ينظر الإنسان إلى الوجود من حوله وما فيه من آيات القدرة والعظمة ، وكيف أنّه مسيّر وفق نظام دقيق وضعه الله له لا يخرج عنه ، ولا ترى فيه ثغرة أو نقصا أو فطورا.

ولقد وردت رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ في بيان جوانب من معاني أسماء الله الحسنى نذكر بعضها للفائدة : ولمّا تسمّى بالملك أراد تصحيح معنى الاسم لمقتضى الحكمة ، فخلق الخلق وأمرهم ونهاهم ليتحقق حقيقة الاسم ومعنى الملك (ويظهر من هذه الكلمات أنّ الشرائع من مظاهر اسم الملك الإلهي) والملك له وجوه أربعة : القدرة (على التصرف في الملك بمطلق التصرف) ، والهيبة (وهي انعكاس لقدرة المالك على المملوك) ، والسطوة (بأخذ المملوكين بالقوة والبطش حين المخالفة. فسبحان من لا يعتدي على أهل مملكته بسطوته) ، والأمر والنهي (تشريعيّا وتكوينيّا) (١).

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٩٣ ـ ص (٤١ ـ ٤٢).

١٣٧

[٢] ومن أظهر آيات ملك الله ، وأظهر آيات قدرته : الموت والحياة ، وقد اختلف في معناهما هنا إلى رأيين : أحدهما : أنّهما ظاهرتا الموت والحياة اللتان تطبعان آثارهما على كلّ شيء ، سواء الماديتين كموت الإنسان وحياة الأرض بالزرع ، أو المعنويتين كالهدى والصلاح في مقابل الضلال والفساد ، والآخر : أنّهما إشارة إلى تقسيم الكائنات إلى أشياء جامدة وذات حياة.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ)

وقد أشار الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ إلى المعنيين فقال : «الحياة والموت خلقان (من) خلق الله ، فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان لم يدخل في شيء إلّا وخرجت منه الحياة» (١) والذي يظهر لي أنّ الموت هنا بمعنى انفصال الحياة من كائن حي كما تفيد الرواية ، وبما أنّ معرفة الحياة بصورة أجلى تتحقّق بمعرفة الموت فإنّه قدّم الموت على الحياة ، ولا أعتقد أنّ ما قاله بعض المفسرين والفلاسفة من أنّ الموت سابق للحياة صحيحا ، لأنّ الإنسان قبل خلقه ووجوده لا يقال له ميت ، وكيف يقال للعدم ميّت؟! من هنا جاء في الحديث المروي عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ : «وانّ الله عزّ وجلّ خلق الحياة قبل الموت» (٢) وقد يكون تقديم الموت على الحياة في الآية لحكمة أخرى هي أنّ قدرة الله تتجلّى بالموت حيث لا يجد سبيلا لتحدّيه ولا مفرّا من سطوته.

كذلك جاء في الدعاء المأثور : «وقهر عبادة بالموت والفناء» (٣).

ويضع الله الإنسان أمام سنّة الموت الحتمية ، وفرصة الحياة ، ويذكّره في نفس

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣٧٩.

(٢) المصدر نقلا عن أصول الكافي.

(٣) مفاتيح الجنان / دعاء الصباح.

١٣٨

الوقت بالهدف الذي خلق هو كما خلقا من أجله ، ألا وهو الابتلاء لاستخراج معدن كلّ فرد واستظهار خبايا شخصيته ، ومع أنّ الموت من مفردات الابتلاء الا أنّ الابتلاء أكثر وأعظم تجلّيا بالحياة .. بل لا يكون إلّا أثناء الحياة ، ولذلك تأخّر ذكر الحياة على الموت لتكون هذه الكلمة لصيقة بكلمة الابتلاء.

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

إذن يجب على الإنسان وهو يعيش فرصة الحياة أن لا يضل عن هذا الهدف الكبير ، بل يقاوم كلّ عوامل الانحراف والغفلة عنه ، ويسخّر كلّ قدراته المعنوية والمادية للفلاح والفوز فيه ، بأن يجعل عمره مزرعة لأحسن العمل.

فما هو أحسن العمل؟ إنّه ما أخلص فيه الإنسان النية ، وأتقن الأداء ، وتحدّى به هوى نفسه وأهواء القوى الشيطانية في مجتمعة ، وكان العمل نفسه من أشرف الطاعات وأعظمها ثوابا عند الله ، هكذا روي عن النبي (ص) أنّه قال في تفسير الآية : «أيّكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله» (١) ، وقال : «أتمّكم عقلا ، وأشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله ونهى عنه نظرا» (٢) ، وقال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «ليس يعني أكثركم عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنّما الإصابة خشية الله ، والنيّة الصادقة» (٣).

وقوله : «ليبلوكم» لا يعني أنّه تعالى لا يعلم بخلقه ، بل ليتحقّق ذلك العلم في عالم التكوين ويطّلع الناس أنفسهم على معادنهم ، ويعقلون جزاء الله أنّه بعدل لا بظلم ، قال الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه السلام ـ : «خلق خلقه ليبلوهم

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٣٨٠.

(٢) المصدر

(٣) تفسير البرهان عند الآية.

١٣٩

بتكليف طاعته وعبادته لا على سبيل الامتحان والتجربة لأنّه لم يزل عليما بكلّ شيء» (١)

ولعلّ أظهر تأويل لهذه الآية هم الأنبياء والرسل وأئمة الهدى من أهل بيت الرسول ، حيث أنّهم جميعا كانوا الأحسن عملا بين خلق الله ، فهم ـ على هذا ـ أبرز الحكم الإلهية للخلق. أليس قد أظهرت البلايا أنّهم القمم المضيئة ، والذري المتسامية؟ وانّ الله ما اختارهم ولا اصطفاهم إلّا بعلم وحكمة ، وما جعلهم سادات البشر وأمراء الصالحين من عباده إلّا لأنّهم السابقون في طاعة الله.

وقد قدّر بعضهم في الآية كلمة فقالوا : الأصل هو : ليبلوكم فينظر أيكم ، ولا أرى لهذا الافتراض وأشباهه مبرّرا في كتاب الله ، فالآية أعمق بلاغة بوضعها ممّا لو أضفنا إليها شيئا ، لأنّنا نفهم منها أنّه تعالى يصنع الصالحين في رحم الابتلاء ، بل إنّ خلق الإنسان يكون ناقصا لو لم يأت إلى الدنيا ويبتلى فيها. وهكذا تكون الآية مظهر من مظاهر اسم «تبارك» حيث تظهر بركة الله بأجلى صورها وشواهدها في الصفوة من عبادة المؤمنين الصالحين ، الذي يتجاوزون في سبيله كلّ الجاذبيات السلبية والعقبات الكأداء ، ويسمون بأنفسهم إلى آفاق الفضيلة ببركة الإيمان به عزّ وجل وبنعمة العقل التي وهبها لهم ، ولذلك جاء في الأخبار عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : «أحسن عقلا» (٢).

ولأنّ الإنسان يفلح تارة ويخطئ أخرى وهو يواجه الابتلاءات ، أو يتعنّت أحيانا على الحق ، جاءت خاتمة الآية لتسوقه نحو أهدافه في مسيرة العمل بمعادلة متوازنة كفّتها الأولى الخوف وكفّتها الأخرى رجاء رحمة الله وغفرانه ، وذلك من

__________________

(١) المصدر.

(٢) المصدر.

١٤٠