من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

١٠١

لم تحرّم ما أحلّ الله لك

بينات من الآيات :

[١] قالوا : إنّ رسول الله كان في بيت حفصة في يومها ، وعادت وكانت مارية القبطية تخدمه ، فذهبت حفصة في حاجة لها ، فتناول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مارية فعلمت حفصة بذلك فغضبت وأقبلت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقالت : يا رسول الله هذا في يومي ، وفي داري ، وعلى فراشي؟!! فاستحى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ منها فقال : «كفى فقد حرّمت مارية على نفسي ، ولا أطأها بعد هذا أبدا» (١) ، وعلى رواية عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «والله ما أقربها» (٢) ، وتكشف لنا هذه الحادثة التي ذكرها الرواة عن جانب من حياة الرسول مع زوجاته ببيان حقائق ثلاث :

الأولى : ما عليه الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ من عظيم الأخلاق ، إذ

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ عند الآية.

(٢) المصدر

١٠٢

كان يتنازل عن حقوقه الشخصية شريطة ألّا تتعارض من الناحية الشرعية مع حقوق الآخرين ، مع ما في ذلك من الحرمان والمشقة ليعيش الآخرون في راحة ، فهو بأبي ونفسي كما وصف أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، أتعب نفسه لآخرته ، وأراح الناس من نفسه» (١) ، وذلك مما يليق بمقام النبوة.

الثانية : إنّ بعض زوجات النبيّ ـ وبالذات المعنيتين بمطلع سورة التحريم ـ كنّ يمارسن ضغوطا عليه لأغراض لا مبرّر لها ، بل تتعارض الاستجابة لها عمليا مع أحكام الدين فتصيّر الحلال حراما.

الثالثة : وهكذا كان الرسول وحده الأسوة للمؤمنين ، أمّا من حوله فليسوا موضع تأسي إلّا بمقدار تجسيدهم للحق في حياتهم واقتدائهم بشخص الرسول ، وهكذا بالنسبة إلى كل رسول وكل قائد رسالي إنّه وحده المقياس أما من حوله فقد يكونون أبعد الناس عن مثاله ومنهجه ، أليس ابن نوح كان من الهالكين؟ أو ليست زوجة نوح وزوجة لوط دخلتا النار مع الداخلين؟ وهكذا ينبغي أن ندرس التاريخ في ضوء هذه الآية من جديد.

أمّا كيف تدخّل الوحي في حادث التحريم وعالجه؟ فهذا ما يجيب عنه السياق حيث يؤكّد على أنّ تحريم النبي لما قد حرّمه على نفسه (مقاربة مارية ، أو لعق العسل ، أو مقاربة كل نسائه) مما هو حلال في الأصل لم يكن تشريعا إلهيّا تنزل به الوحي ليكون حكما جاريا إنّما هو مبادرة شخصية في حدود الحقوق الشرعية اختارها النبيّ لنفسه ، لحكمة بالغة تمثّلت في ابتغاء مرضاة الأزواج ، ولهذا جاء الخطاب بقوله تعالى :

__________________

(١) نهج خ ١٩٣ ص ٣٠٦

١٠٣

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ)

وربما لم يخاطبه الجليل بصفته رسولا يبلّغ أحكام الله ورسالته بل بصفته نبيّا لكي لا يعدّ إيلاؤه جزء من الرسالة.

(لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)

إنّ التحريم هنا بمعنى الامتناع وليس بمعنى التشريع ، قال الله تعالى في شأن موسى ـ عليه السلام ـ : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) (١) ، ولو كان الرسول بتحريمه مشرّعا لجاء التعبير (لا تحرّم) بالنهي ، لأنه لا مشرّع إلّا الله ولا يجوز لأحد مهما كان أن يشرّع من دونه.

فعن زرارة عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : سألته عن رجل قال لامرأته : أنت عليّ حرام ، فقال لي «لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه وقلت له : الله أحلّها لك فما حرّمها عليك؟ إنّه لم يزد على أن كذب فزعم أنّ ما أحلّ الله له حرام ، ولا يدخل عليه طلاق ولا كفارة» (٢) ولم يحرّم مشرّعا الرسول ، إنّما امتنع عن مقاربة مارية القبطية لغاية هي إرضاء زوجاته اللّاتي أثارتهنّ الغيرة.

(تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)

وفي الآية تحذير للرسول ولكل قائد أن لا يتأثّر بأحد ولو كان أقرب الناس إليه ، لأن الضغوط التي يوجهها المقربون للقيادة ليس بالضرورة آتية من دوافع داخلية وإن كانت تتلبس بهذا الثوب ، إنّما تنتقل عادة إلى بيت القائد من أبعد نقطة ، ولكن عبر حلقات متواصلة حتى تبلغ القائد ، وبالخصوص في هذا العصر الذي

__________________

(١) القصص ١٢

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٦٨ نقلا عن الكافي.

١٠٤

تستهدف الدوائر الاستكبارية فيه محاربته والقضاء على الدين ، فليس من شك أنّ أجهزة المخابرات وشبكات الأحزاب الفاسدة كالشيوعية والماسونية والصهيونية وفروعها المبثوثة في أوساط الأمّة كلّها تسعى للتأثير على القيادات الدينية عبر وسائط عديدة ، وإنّها قد تؤثر حتى في مواقف بعض القيادات وآرائها وفتاويها ، فكيف ينبغي أن يتعامل القائد مع مجاميع الضغط هذه فينفي تأثيراتها السلبية؟ إن للقائد صفتين : إنسانية وقيادية ، وعليه أن يحافظ على توازن حكيم ، ففي الوقت الذي يتعامل مع زوجته وأولاده وذوي قرباه بصفته الإنسانية وبكامل عواطفه وأحاسيسه عليه ألّا يسمح لذوي النفوذ أن يؤثروا عليه من خلالها على مركزه القيادي ، وهذا ما يشير إليه القرآن في آية التحريم.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وينبغي للقائد أن يتحلّى بهاتين الصفتين أيضا ، ففي الوقت الذي لا يتأثر بضغوط الزوجات لا ينال أذاهنّ من حلمه وسعة صدره بل يغفر لهن ويرحمهن تخلّقا بصفات الله وطمعا في غفرانه ورحمته.

[٢] ومن مظاهر غفرانه ورحمته عزّ وجلّ أن جعل للمؤمنين مخرجا يتحللون به من اليمين وآثاره المادية والمعنوية بالكفّارة ، ولو كان الله يجعل تحريم الإنسان على نفسه تشريعا لوقع الكثير من الناس في العسر ولتفككت الكثير من الأسر ، حيث تدعوهم الضغوط وحالات الغضب إلى التحريم باليمين في أحيان كثيرة.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ)

قال الإمام أبو جعفر ـ عليه السلام ـ : «إنّما حرّم عليه الجارية مارية وحلف أن لا يقربها ، فإنّما جعل عليه الكفّارة في الحلف ولم يجعل عليه في

١٠٥

التحريم» (١) ، وهذا واضح في الآية «تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» ، فلو قال أحد فلانة عليّ حرام دون يمين فلا هي تحرم عليه ولا تجب عليه الكفارة بخرقه لكلامه وقراره ، بل لا يكون إيلاء إلّا باليمين ولمدة أربعة أشهر ، فعن أبي جعفر (ع) قال : «لا يكون إيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر» (٢) أي بهذين الشرطين ، والذي يظهر من النصوص أنّ ما كان من رسول الله تحريم بيمين وليس إيلاء ، لأن مارية جارية لا إيلاء فيها ، فعن أبي نصر عن الامام الرضا (ع) قال : سألته عن الرجل يولي من أمته ، فقال : «لا. كيف يولي وليس لها طلاق» (٣) إلّا أن يكون النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ كما قال بعض المفسرين قد حلف بأن لا يقارب أزواجه جميعا بعد تحذير الله له من تحريم ما أحل له ابتغاء مرضاتهن ، والله أعلم.

ولكي يتحلل الرجل من الأيمان بالإيلاء أو مجرّدة فرض الله كفارة كمخرج وكعقوبة حتى لا يعود لها مرّة أخرى ، وهي في صالحه ، وهذا يدل عليه قوله سبحانه «لكم» بالرغم من أنّ البعض يراها كلفة وغرامة لله عليه ، فهي تزكّي النفس ، وتوقف الغضب عند حدّه. وكفّارة نقض اليمين واجبة فرضها الله ، إلّا أن العود إلى ما كان قد حرّمه بها ليس متعلّقا بأدائها ، فلا تتكرر الكفّارة بتكرار العود قبل أدائها كما هو في الظهار ، إنّما تجب مرّة واحدة لكل يمين ، ومقدارها إطعام عشرة مساكين ، فعن أبي حمزة الثمالي قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عمن قال : والله ثم لم يف ، فقال : «كفّارته إطعام عشرة مساكين» (٤).

ويأتي هذا الفرض من موقع الولاية الإلهية على المؤمنين.

__________________

(١) المصدر

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٥٣٨

(٣) المصدر ص ٥٣٩

(٤) المصدر ص ٥٧١

١٠٦

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ)

فالذي يفرضه هو الواجب ، ولا يجوز للمؤمنين أن يأخذوا تشريعاتهم من مصدر سواه ، لأنّه حيث يشرّع أهل لذلك ، لاحاطته علما بكلّ شيء ، ولأنه لا يضع حكما إلّا لحكمة بالغة.

(وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

وإيمان الإنسان بهاتين الصفتين لله يبعث فيه روح التسليم والرضى بكل ما يفرضه عليه حيث يشعر بفطرته وعقله أنّه يتلقّى تشريعاته من لدن عليم حكيم ، بل إن ذلك يجعله لا يؤمن إلّا بما يتنزل من عنده ، أمّا ما يضعه البشر من النظم والأحكام فإنّها لا تدعوا إلى الاطمئنان بها ، لأنّ واضعها محدود العلم والحكمة.

[٣] ويكشف لنا الوحي بعد الكلام عن حادث التحريم الذي جاء نتيجة ضغوط بعض أزواج النبي عن صورة أخرى سلبية من تعاملهنّ معه ـ صلّى الله عليه وآله ـ حيث يفشين أسراره إلى الآخرين. الأمر الذي ينطوي على خيانتين : خيانة له كزوج فالزوجة المخلصة يجب أن تكون مستودع سر زوجها ولا يليق بها إشاعته لأحد مهما كان قرابته ومكانته ، وخيانة له كنبي وقائد للأمة.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً)

قيل أنّه تحريم مارية على نفسه ، وقيل أنّه تحدّث عن التيارات السياسية والاجتماعية التي كانت في الأمة ، وعن مستقبل السلطة السياسية فيها ، وهو الأقرب والأهم ، لأن تحريم مارية لم يكن في الخفاء ، ولا يحتاج الكلام عن إفشاء هكذا حديث إلى التأكيد على مظاهرة الله والملائكة وصالح المؤمنين للنبي. وفي مجمع البيان قال العلّامة الطبرسي (رض) : ولمّا حرّم مارية القبطية أخبر حفصة أنّه

١٠٧

يملك من بعده أبو بكر وعمر (١).

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ)

قيل أنّ كلّا من حفصة وعائشة أخبرتا أبواهما بالأمر ، إمّا بسبب العلاقات العاطفية المتينة بين البنت وأبيها ، أو لحب التظاهر بالحضوة عند الرسول ، وهذان من أوسع الأبواب التي تخرج منها أسرار الإنسان إلى الآخرين. وإذا كان الإنباء بأسرار النبي يتمّ بعيدا عن سمعه ونظره فإنّه لن يكون بعيدا عن رقابة الله الذي أخبر رسوله بالأمر.

(وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ)

أي كشف له أنّ هذه الزوجة لم تصن سره.

(عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)

مما يفصح عن معدن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ حيث الأخلاق والحكمة ، فهو لم يعاتبها على كل شيء بل أظهر جانبا من أمرها وكأنّه يجهل الجوانب الأخرى ، ولعل ما أعرض عن ذكره كان يتسبب لو ذكره في حرج عظيم لها ، وآثار سلبية لا تحمد عقباها ، وذلك غاية في الحكمة لكل زوج في أسرته ، ولكل قائد تجاه أمته.

(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا)

ولعلها حينئذ كانت مرتابة في أنّ من أطلعته على السر هو الذي أخبر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وغاب عن بالها وإيمانها أنّه متصل بالوحي ومؤيّد من عند

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ عند الآية.

١٠٨

الله سبحانه ، فأجابها ـ صلّى الله عليه وآله ـ :

(قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)

الذي يحيط بكلّ شيء. وموقف الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ تجاه زوجته التي أذاعت سره ينبغي أن يدرسه كلّ زوج قائد ، ويتخذه منهجا في أمثال تلك المواقف وظروفها.

[٤] ويؤكّد القرآن أنّ ما حدث من اثنتين من نسائه كان زيغا عن الحق وميلا إلى الباطل ، وأنّه بالتالي يحتاج إلى الإصلاح والتوبة.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)

أي أنّكما تحتاجان إلى غسل دون الانحراف ، وإصلاح الخطأ بالتوبة إلى الله والاعتذار من الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ لأنّ قلوبكما قد صغت أي مالت ، وأصغى سمعه لفلان أي مال به إلى كلامه. وتأكيد الله على انحراف القلب يبيّن أنّ ما حدث لم يكن خطأ عابرا ، إنّما هو انحراف له جذور تمتد إلى أعماق القلب ، بلى. إنّ كشف أسرار النبي ليس إلّا علامة على انحراف داخلي في الجذور ، وهكذا الكثير من مواقف وسلوكيات الإنسان الخاطئة. إنّها مرة تكون سطحية وأخرى جذرية.

ويحذّر الله الاثنتين من أنّهما لو رفضتا التوبة وتماديا في التظاهر ضد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ فإنّ العاقبة ستكون للخط الرسالي السليم لأنه مدعوم بقوّة لا تقهر.

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)

١٠٩

أي خيرتهم وأفضلهم ، وأفضل كلّ المؤمنين هو الإمام علي ـ عليه السلام ـ الذي نصر الرسول في كل معاركه وحروبه العسكرية والسياسية وغيرهما ، ولذلك جاءت بعض النصوص بهذا التأويل ، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ «صالح المؤمنين هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام» (١).

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)

قال ابن عباس : سألت عمر بن الخطاب عن اللتان تظاهرتا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ؟ فقال : حفصة وعائشة. أورده البخاري في الصحيح (٢).

[٥] ويحذّر الله زوجات الرسول من السلوك السلبي تجاهه بأنّ مصلحة رسالته فوق كل شيء ، وهو مستعد لتطليقهنّ لو عارضن الرسالة دون أن يجعل قيادته وقراراته عرضة للتأثر بالضغوط وتبعا لأهواء الزوجات وميولهنّ. ثم أنّه لو فعل ذلك فلن تتعطل مسيرته بل ستستمر ، وسيجد بين الناس وعند الله من هو خير من زوجاته.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ)

من الجهة المعنوية والمادية. وقد وجّه القرآن الحديث من المثنى إلى الجميع لكي يكون ما حدث عبرة للجميع ، فلا تحدثهن أنفسهن بالسير على خطى الاثنتين. أما الصفات المعنوية التي ينبغي أن تكون في شريكة حياة الإنسان المؤمن فهي التالية :

(مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٧٠

(٢) مجمع البيان ج ١٠ عند الآية.

١١٠

من السياحة وهي الجهاد لقول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «سياحة أمتي الجهاد» ، والهجرة صورة من السياحة بهذا المفهوم ، والصفات الآنفة صفات متدرجة فالإيمان فوق التسليم ، والقنوت فوق الإيمان ، وهكذا .. وهذه الصفات هي الأهم ، وتأتي في الدرجة الثانية الصفات المادية الظاهرة :

(ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)

[٦] وبعد أن بيّن القرآن بأنّ من الممكن للرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ أن يجد في المجتمع زوجات خيرا من زوجاته لو طلقهن ملوّحا لهنّ بالطلاق لو لم يتبن إلى الله ، أمر المؤمنين بتحمل المسؤولية الرسالية في إطار الأسرة ، إذ يجب السعي الحثيث لإنقاذ نفسه وسائر أسرته من نار جهنم ، وهذه أعظم مسئولية للمؤمن تجاه أهله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً)

وإنّها لآية عظيمة ترسم للإنسان المؤمن خطوط مسئوليته لتخرجه من إطار الفردية إلى التطلعات الإنسانية والدينية الواسعة ، حيث التفكير في نجاة الآخرين وفلاحهم كجزء من المسؤولية في الحياة. وعلى هذا أكّد أئمة الهدى في تفسيرهم لهذه الآية الكريمة ، قال سليمان بن خالد : قلت للإمام الصادق ـ عليه السلام ـ إنّ لي أهل بيت وهم يسمعون مني أفأدعوهم إلى هذا الأمر؟ فقال : «نعم. إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه : الآية» (١) ، وعن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن قول الله : الآية ، قلت : هذه نفسي أقيها فكيف أقي أهلي؟ قال : «تأمرهم بما أمرهم الله به ، وتنهاهم عما نهاهم الله عنه ، فإن أطاعوك كنت قد

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٣٧٢ نقلا عن أصول الكافي.

١١١

وقيتهم ، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك» (١) ، وهذه الرواية تؤكد بأنّ الدعوة لله مسئولية مفروضة على المؤمن في أوساط الأسرة (الزوجة والأولاد) ، وأنه يجب عليه أن يكون رسولا لربه فيها يدعوهم إلى الحق وينهاهم عن الباطل.

ولا يسقط المسؤولية عدم استجابتهم للدعوة ، فقد سئل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ عن الآية فقيل : كيف نقيهن؟ قال : «تأمروهن وتنهونهن» ، قيل له : إنّا نأمرهن وننهاهن فلا يقبلن؟ قال : «إذا أمرتموهن ونهيتموهن فقد قضيتم ما عليكم» (٢) ، ولعل الوقاية من النار تمر من خلال اجتناب السيئات وتركيز الصفات المشار إليها في الآية اللاحقة في النفس والأهل. وأيّ نار تلك التي يدعونا الله للوقاية منها؟

أوّلا : إنّها تشتعل باحتراق الناس والحجارة.

(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)

فليس الناس هناك يحترقون بالنار بل يتحوّلون نيرانا ، لأنّ كل شيء في جهنم ذو طبيعة نارية ، فهل يتم الاحتراق بتفاعلات ذرية في الجسم لذلك لا يتحولون رمادا بسرعة ، بل يبدّل الله جلودهم كلّما نضجت ليذوقوا عذاب الهون ، أم بطريقة أخرى؟ لا نعلم ، إنّما يكفينا أن نتصوّر ذلك المنظر الرهيب فنخشى ونتقي.

وقالوا عن الحجارة أنّها حجارة الكبريت ، ولكن يمكن أن يكون عموم الحجارة ويكون احتراقها بتفاعلات ذرية.

ثانيا :

__________________

(١) المصدر.

(٢) المصدر ص ٣٧٣.

١١٢

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ)

فهم قساة التعامل مع أهل النار ، فلا ترى في شخصيتهم البشاشة واللطف ، كما أنّهم أقوياء فتعذيبهم وأخذهم لا يكون إلّا بالشدة.

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)

من قبل في تعذيب أهل النار.

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)

في كلّ زمان وعلى كلّ حال ، فلا يتصور الإنسان أنّه قادر على إقامة علاقات خاصة معهم تثنيهم عن أمر الله تجاهه ، فإنّهم عباد مأمورون لله وليسوا شركاء ، وطاعتهم له عزّ وجلّ ليس فيها ثغرة يهرب عبرها المعذّب من عذاب الله. وإذا كان ثمّة طريق لاتقاء غلظتهم وشدتهم وعذاب النار فهو الالتجاء إلى سيّدهم والتحبّب إليه بالإيمان والطاعة ، ولا يتمّ ذلك إلّا في الدنيا ، فلما ذا يضع البعض حجبا بينه وبين ربه باتباع الفلسفات البشرية الشركية كعبادة الأصنام والملائكة؟!

[٧] هنا في الدنيا عند ما يواجه الإنسان حقيقة رهيبة أو مسئولية ثقيلة يحاول أن يتهرب منها بالخداع الذاتي ، فتراه يلتمس الأعذار والتبريرات ، ويتحصن وراء الأوهام والظنون ، كلّا .. إنّها لا تفيده هنالك في الآخرة شيئا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

وما دام جزاء الآخرة هو ذات عمل الإنسان في الدنيا فلا معنى للعذر إذا ، وكيف يتخلّص الإنسان مما هو جزء ذاته؟ وفي الآية إيحاء بأنّ عدم استعداد الكفّار للآخرة ولقاء الله نتيجة طبيعية لكفرهم بها.

١١٣

[٨] وينبغي أن تكون هذه التذكرة باعثا نحو المبادرة إلى التوبة في الدنيا قبل فوات الأوان ، توبة صادقة كأروع ما تكون التوبة ، فإن ذلك وحده الاعتذار الذي يقبله الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)

بالندم على ما فات ، والعزم على ترك الذنب ، وإصلاح آثاره السلبية نفسية واجتماعية واقتصادية و.. ، والاجتهاد في الصالحات ، هكذا سأل أحمد بن هلال الإمام الهادي ـ عليه السلام ـ عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب عليه السلام : «أن يكون الباطن كالظاهر وأفضل من ذلك» (١) ، وقال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «هو صوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة» (٢) ، لأنّ العمل الصالح جزء من التوبة ، وقال الإمام أبو الحسن ـ عليه السلام ـ : «يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه» (٣) ،وقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن التوبة النصوح : «أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع» (٤).

وهذه التوبة هي التي يقبلها الله فيعفو عن سيئات الإنسان بها ويدخله جنات النعيم يوم القيامة.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)

حقا : إنّ التائب عن صدق يرجى له أن تتحوّل ذنوبه من عقدة سيئة تعيق

__________________

(١) المصدر ص ٣٧٣.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر ص ٣٧٤.

(٤) عن مجمع البيان ج ١ ص ٣١٨ والقرطبي ج ١٨ ص ١٩٧.

١١٤

مسيرته نحو التكامل إلى دافع قوي نحو الخير والفضيلة ، كما أنّ الله سبحانه يمحو من ديوانه السيئات فلا يطلع عليها أحدا حتى أقرب المقربين إليه ، قال معاوية بن وهب : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ (الإمام الصادق) يقول : «إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة» ، فقلت : كيف يستر عليه؟ قال : «ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ، ويوحي إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، ويوحي إلى بقاع الأرض : اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب ، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب» (١) ، فلا يبقى سبب يدخل به النار ، وفوق هذا كله يدخله إلى رضوانه ونعيمه في الجنان.

(وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

وتأكيد الله على الجنات يزرع في الإنسان المؤمن إرادة التحدي للشهوات ولزخارف الدنيا الزائلة حيث يتطلع إلى النعيم الأعظم كمّا ونوعا في الآخرة.

(يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)

بالعذاب والمذلّة بين الناس ، ولعلّ في الآية إشارة إلى أنّ الله يمضي شفاعة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ والمؤمنين معه من أئمة الهدى والصالحين.

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ)

التي كدحت في سبيل الله ، أمّا عن النور فالأظهر فيما قيل ثلاثة آراء لا تناقض بينها ، أحدها : أنّه العمل الصالح والإيمان يظهر في صورة نور يوم القيامة ، والثاني : أنّه القرآن الذي مشى على هداه المؤمنون فهو يقودهم إلى الجنة كما قادهم في الدنيا إلى الصواب والسعادة ، والثالث : أنّه أئمة الهدى والقادة الصالحون الذين

__________________

(١) المصدر.

١١٥

اتبعوهم في الدنيا ، فهم يقودونهم إلى الجنان كما قادوهم إلى الحق والعمل الصالح في دار الدنيا ، قال الإمام أبو عبد الله (ع): «أئمة المؤمنين نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم حتى ينزلوا منازلهم» (١).

وعند ما نبحث عن الأسباب التي نجى بها المؤمنون من الخزي يوم القيامة ، وسعى لأجلها نورهم بين أيديهم ، نجد من أهمها طموحهم الكبير للكمال ، وتوكّلهم على ربهم ، ودعاؤهم إليه أن يغفر لهم .. هكذا يدعون ربهم :

(يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا)

ومن تمام النور كمال الوعي واصابة الحق في كل جوانب الحياة وأبعادها المختلفة ، وهناك علاقة بين دعاء المؤمنين بتمام النور وغفران الذنوب فإنّ الخطايا في الحقيقة ظلمات معنوية تتمثل يوم القيامة ، الظلم ظلمات ، والغش ظلمات وهكذا الكذب والإسراف و.. ، فهم من جهة يسألون ربهم تمام النور ، ومن جهة أخرى يطمحون إلى النجاة من ظلمات الذنوب والخطايا. ودون هاتين الغايتين تقف التحديات الصعبة التي تحتاج إلى عزم الإرادة ، واستقامة الإيمان ، اللذان يستمدهما المؤمنون من ذي القوة المطلقة بالدعاء والتوكل ، إذ يعلمون أنّ بلوغ الغايات السامية (تمام النور ، والغفران) يحتاج إلى توفيق الله وأن تجانب سعيهم قدرته ، وهذا ما تشير إليه الخاتمة :

(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

وكلمة أخيرة : إنّ الله سبحانه بعد الأمر بالتوبة النصوح والدعوة إليها لم يقل جزما : (يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) .. إنّما أضاف (عسى) التي تفيد الترجّي ..

__________________

(١) المصدر ص ٣٧٥.

١١٦

فالنتيجة المترتبة قد تكون وقد لا تكون حسب المفهوم الظاهر للكلمة ، وذلك لكي لا يتسرب إلى أفئدة المؤمنين الغرور والعجب فيكون الاعتماد منهم على التمنيات بغفران الله بدل السعي والعمل.

[٩] وبعد أن أمر الله بوقاية النفس والأهل من النار ، والتوبة النصوح إليه عزّ وجل ، وبالتالي السعي للكمال ، أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بجهاد الكفار والمنافقين كضرورة لتهيئة الظروف والأسباب من أجل الوقاية والتوبة والكمال ، وذلك أنّ كثيرا من أسباب الانحراف والنقص التي يتعرض لها المؤمنون تأتي نتيجة تحرك الكفار من الخارج والمنافقين من الداخل ضد الحق وأتباعه ، فلا بد إذن من مواجهة بؤرة الفساد هذه والقضاء عليها بالجهاد لتكون الظروف ملائمة لبناء المجتمع النموذجي (المتقي ، والتائب ، والتام). لذلك جاء الأمر للنبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بمواجهة الكفار والمنافقين.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)

أي جهادا لا هوادة فيه ، باعتبار القائد الرسالي ليس مسئولا عن أسرته وحسب بل هو في المجتمع كالأب مسئول أن يقي نفسه ويقيه من النار والضلال ، فلا بد أن يعمد إلى اجتثاث بؤر الانحراف عنه ومما حوله مهما كان ذلك الكافر أو هذا المنافق بعيدا أو قريبا.

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

ففي الدنيا يلقون جزاءهم بمجاهدة المؤمنين لهم ، وفي الآخرة الجزاء الأوفى حيث الخلود في أسوء ما يصير إليه مخلوق من عاقبة.

[١٠] وبمناسبة الحديث عن زوجات الرسول الذي يحدد لنا سياق هذه السورة

١١٧

الموقف السليم منهن تأتي الآيات الثلاث الأخيرة لتؤكد على حقيقة هامة يجب الالتفات إليها في تقييم الناس ، وهي أنّ قيمة كل إنسان بأعماله ومواقفه هو صالحة أو فاسدة ، بغض النظر عمن حوله ومن ينتمي إليه. إذن لا يصح أن نفسر التاريخ والقرآن والمواقف تفسيرا تبريريا توفيقيا عند الحديث عن أخطاء أقرباء الأنبياء نسبا أو صحابة أو زواجا لأنّ ذلك يجعلنا في غموض ، فقد يكون أقرب الناس إلى نبيّ من الأنبياء مثلا للكفار كزوجتي نوح ولوط ـ عليهما السلام ـ ، بينما يصبح أقرب الناس إلى بؤر الانحراف أمثال فرعون والبيئات الفاسدة مثلا للمؤمنين كآسية بنت مزاحم ومريم ابنة عمران ، دون أن يكون في ذلك إساءة إلى الأنبياء والصالحين ولا إحسان إلى المنحرفين اللذين ينتمي إليهم كلا المثلين.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً)

لأن الشفيع الحقيقي للإنسان عمله الصالح لا القرابات ولو كانت من الأنبياء والأولياء ، وأعمالهما كانت سيئة لما انطوت عليه من خيانة لزوجيهما بإذاعة السر والتظاهر لجبهة الكفر (١) وخيانة للرسالة والقيم التي جاءا بهما ، فما نفعتهما القرابات وما بقي لهما شيء يتميزان به عن الناس ، فالقرابة وحدها ليست ذات قيمة عند الله إنّما العمل ، بل إنّ انتماء الإنسان إلى أيّ شخص أو أيّة جبهة لا يقاس بالحسابات المادية كالمسافة والنسب إنما بنوع العمل ، وانتماء هاتين الزوجتين كان إلى جبهة الكفار في الدنيا وأهل النار في الآخرة لتجانس الأعمال لذلك لم يغني عنهما نوح ولوط شيئا.

__________________

(١) في المجمع ج ١٠ قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه.

١١٨

(وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)

وقد اعتبر الله هاتين المرأتين مثلا للذين كفروا لأنهما كان يفترض أن تكونا قمة في الإيمان حيث كانتا تحت عبدين صالحين من الأنبياء ، إلّا أنّهما اختارتا الكفر بدل الإيمان رغم الظروف المساعدة ، وهذا المثل يهدينا إلى أنّ سعي المؤمنين لوقاية أهليهم من النار ليس بالضرورة أن يؤدي إلى نتيجة إيجابية ، وأنّه من الخطأ تقييم أحد كالأنبياء من خلال زوجاتهم ومن حولهم ، إنّما التقييم السليم يكون عبر أعمالهم ورسالتهم.

ولنا في الآية وقفة عند كلمة الخيانة فهي ـ كما أعتقد ـ خيانة بالمقياس الرسالي أي خيانة لحركة الرسول ومبادئه ، وليس كما قد يتقوّل البعض لما فيه من عقد جنسية أو لاعتماده على الإسرائيليات بأنّها خيانة جنسية ، كلّا .. إنّها خيانة في رسالة النبي بدليلين

الأول : بدلالة السياق ، فقد وقع الحديث عن الخيانة في سياق الحديث عن إفشاء السر من قبل زوجات النبي ، وحينما تكلم عن زوجتي نوح ولوط ضربهما مثلا للجبهة المضادة للحق «لِلَّذِينَ كَفَرُوا» ، ولو كانت الخيانة جنسية لضربهم مثلا للذين فسدوا مثلا أو للزناة.

الثاني : لأنّ تفسير الخيانة هنا بالخيانة الزوجية ليس يمس زوجات الأنبياء وحسب بل يمس الأنبياء أنفسهم ويصوّر بيوتهم محلا للفاحشة والدعارة ، حاشا الأنبياء ـ عليهم السلام ـ (١).

[١١ ـ ١٢] ويضرب الله مثلا معاكسا للذين آمنوا ، أحدهما من بيت فرعون

__________________

(١) وهذا ما سعى إليه الكاتب الضال سلمان رشدي في أحد فصول كتابه : (الآيات الشيطانية).

١١٩

الطاغية ، والآخر من بيئة بني إسرائيل المنحرفة حيث مريم بنت عمران.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ)

التي آمنت بنبيّ الله ، وتحدّت إغراءات السلطة وضغوط الطاغية زوجها في سبيل الله ، رغم تظافر العوامل المادية التي يعتبرها البعض من الحتميات ، حيث كان فرعون زوجها وكانت في ذات الوقت من رعاياه. كانت تنتمي إلى بني إسرائيل الطبقة المستضعفة والمعدمة بينما كان فرعون قائد المستكبرين والمترفين ، وكانت مصالحها المادية مؤمّنة عند فرعون ، فما الذي جعلها تتحداه وتواجه جبروته وسلطانه؟! إنّه الإيمان الذي جعلها تتحدى كل الظروف لتكون مثلا رفيعا يقتدي به المؤمنون عبر التاريخ ، وجبلا لا تتأثر بإغراء ولا بإرهاب أو تضليل.

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)

وهنا إشارتان لطيفتان نستوحيهما من الآية :

الأولى : أنّ أعظم سبب للانحراف كانت تواجهه آسية هو غرور السلطان والملك ، فلقد كانت زوجة لأعظم الملوك الذين عرفهم تاريخ البشرية ، إلّا أنها انتصرت على قمة تحدي الدنيا للإنسان بالرغبة في نعيم الآخرة الذي يتصاغر أمامه كل نعيم ، ولقد جاء في الأخبار أنّها كانت ترى قصورها في الجنة وهي موتّدة تصبّ عليها ألوان التعذيب.

الثانية : أنّ هذه المرأة الشريفة لم يحالفها الحظ في الزوج الذي ترغب إليه أمثالها من المؤمنات فطلبت من الله أن تصير إلى نعم بيت الزوجية ، وكان طلب البيت بمثابة طلب من فيه ، وماذا يطيب من البيت للمرأة من دون زوج كريم؟ وإذا كان دعاؤها بهذا المعنى فلما ذا لم يصرّح به في القرآن؟ لعلّ ذلك لأنّ الآداب الاجتماعية عند العرب (وربما عند غيرهم أيضا) ما كانت تستسيغ للمرأة العفيفة

١٢٠