من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

والمؤتفكات ماذا حدث بهم حينما اتخذوا موقف اللاهي عن الحق فصارعوه كيف نزلت بهم القوارع فتركتهم صرعى؟!

أو تدري ما الحكمة في ذلك العذاب العريض؟ لكي يذكّرنا (فلا نبقى سادرين في غياهب الغفلة) ولكي تعيه أذن واعية ..

وتتجلّى الحقيقة بكلّ جلالها وعظمتها في يوم القيامة ، وحين نتصور أهوالها نزداد وعيا بها في الدنيا أيضا.

وأصعب المواقف وأشدها جدية وهولا عند استلام الكتاب المصيري ، فمن أوتي كتابه بيمينه فطوبى له ، ومن أوتي بشماله فيقول من فرط حسرته : يا ليتني لم أوت كتابيه ، ويقول : يا ليتها كانت القاضية.

إنّها عاقبة المتهاونين الذين لم يكونوا جدّيّين في وعي الحقيقة ، وفي الإيمان بالله والحض على طعام المساكين.

ويقسم القرآن بكلّ حقيقة نبصرها وكلّ حقيقة قائمة ولكن لا نبصرها بأنّ القرآن حق ، وهو قول رسول كريم.

وإنّه بالتالي ليس خيالات باطلة ولا ظنون كاهن.

وتتجلّى حقّانية الرسالة في شدّة الله الجبّار مع من يخالفها ، بل ومع المرسل بها لو افترض التقوّل عليه ببعض الأقاويل ، فإنّه ليأخذ منه باليمين ثم ليقطع منه الوتين.

ويبدو أنّ من يتهاون في شأن الحق أو يكذّب به أولا يعيه أولا يوقن به حقّ اليقين .. يبدو أنّه لم يعرف ربه الّذي يضمن الحق ويجريه بقوّته الشديدة وقدرته

٢٦١

الواسعة ، لذلك فنحن بحاجة إلى تقديس الله وتنزيهه حتى نقترب من معرفته ومعرفة الحقّ به ، ولعله لذلك اختتمت السورة المباركة بقوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)

٢٦٢

سورة الحاقّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)

___________________

٦ [صرصر] : أي ذات صوت ، وباردة ، لفظه من الصّرّ أي الشدّ ، فالصرصر يرجع إلى الشدّ لما في البرودة من التعقّد ، وقال البعض في الريح الصرصر : كأنّه تصطكّ الأسنان بما يسمع من صوتها لشدّة بردها.

٢٦٣

وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)

___________________

٩ [والمؤتفكات] : المنقلبات بأهلها ، جاء في مفردات الراغب : الإفك كلّ مصروف عن وجهه الّذي يحقّ أن يكون عليه ، وقيل للرياح العادلة عن المهابّ مؤتفكة.

١٠ [رابية] : زائدة في الشدّة ، وقيل : زائدة على عذاب الأمم.

١٦ [واهية] : شديدة الضعف ، وقال الراغب في مفرداته : كلّ شيء استرخى رباطه فقد وهي ، وقيل : إنّ السماء تنشقّ بعد صلابتها فتصير بمنزلة الصوف في الوهي والضعف.

٢٦٤

وتعيها أذن واعية

هدى من الآيات :

الحق والجزاء تومأن لا ينفصل أحدهما عن الآخر ، فإنّما تحكم الحياة مجموعة من القوانين والسنن التي وضعها وأجراها الله فيها فهي مخلوقة بالحق ، ولأنّها كذلك فإنّ الجزاء واقع لأنّه حق ، وإيمان الإنسان بالحق مرهون بمدى إيمانه بالحساب والجزاء ، إذ لا تعني الدعوة للإيمان به شيئا ولا تعكس استجابة في النفس لو لا ذلك ، وهكذا جاء التعبير القرآني عن كفر ثمود وعاد ببيان كفرهم بالجزاء (القارعة) مع أنّهم كذّبوا أيضا بالرسل ، لأنّ الكفر بالجزاء يساوي الكفر بالحق.

وفي هذا المحور تنتظم آيات الفصل الأول من سورة الحاقة في سياق التأكيد على حقيقة الجزاء في الحياة ، كقضية تشريعية وتكوينية ، تتصل بالحق اتصالا متينا ، ففي مطلعها وحتى الآية الثانية عشرة يبيّن لنا صورا من الجزاء الّذي حلّ بالأقوام السالفة نتيجة تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل ، كدلالات واقعية على هذه السنّة الإلهية ، وكآيات هادية إلى الجزاء الأكبر في الآخرة.

٢٦٥

ولكن تبقى (الواقعة) أجلى آيات الجزاء والحق معا بالنسبة للإنسان ، حيث ينفخ في الصور ، وتحدث التحولات الكونية الهائلة والمفزعة ، وتتجلّى الملائكة المقرّبون يحملون عرش الله ، ويعرض يومئذ الناس بكيانهم وأعمالهم لا تخفى منهم خافية ، ولعله لذلك جاءت تسمية القيامة في هذه السورة بالحاقة .. باعتبارها ذات وجهين : يتصل الأول بالجزاء التي هي عرصته وأعظم آياته ، ويتصل الثاني بالحق ، إذ هي جزء لا ينفك من أعظم حقائق الوجود ، ولقد سمّاها ربنا في نهاية الدرس بالواقعة للمبالغة في التأكيد على أنّها حقيقة واقعية لا بد أن تقع ، ومن ثم فإنّ التكذيب بها لا ينفيها ولا يمنع وقوعها أو حتى يغيّر أجلها.

وتبقى الآية (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) محورا في هذا السياق بل في سياق السورة كلها ، إذ لا تدرك غور الآيات بما تتضمنه الحقائق إلّا تلك القلوب الزاكية التي صيّرها الإيمان والعلم أذنا لوحي الله وآياته.

بينات من الآيات :

[١ ـ ٣] إنّ الايمان بالآخرة ـ وكما أكّدنا مرارا ـ حجر الأساس في الإيمان بسائر القيم والمبادئ ، ولذلك لا تكاد تخلو سورة قرآنية من التأكيد عليها ، بل وإنّ الحديث بشأنها ترهيبا وترغيبا أصبح السمة الأساسية للجزئين الأخيرين (تبارك وعمّ) المكيين في الأغلب عدا سورة (الإنسان الزلزلة والنصر) ، وإذ يوليها الربّ هذا الاهتمام فلعلمه بموقعها في بناء شخصية الإنسان.

والّذي يتتبع حديث القرآن عن الآخرة يجد أنه عبّر عنها بعدة أسماء تختلف في ظاهرها وبعض مضامينها ، كأن يكون كلّ اسم يعبّر عن جانب أو مرحلة زمنية منها ، إلّا أنّ هدفها واحد لا يتجزأ ، وهو زرع الإيمان بالآخرة وتعميقه في النفوس لتتبصر من خلالها بسائر الحقائق. وهنا تطالعنا أولى الآيات باسم من أسماء القيامة

٢٦٦

وعبر بلاغة فائقة ، تهتز لها القلوب ، وتقشعرّ منها جلود المؤمنين.

[الحاقّة]

وللمفسرين أقوال كثيرة في معنى هذه الكلمة ، ولماذا سميت القيامة بها؟ وأبرزها التفسيرات التالية أولا : اللازمة الواجبة الوقوع ، قال تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١) أي وقع فأوجبته ، وقال : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (٢) أي وجب ولزم ، ثانيا : المحيطة ، جاء في المنجد : حاق بهم العذاب : نزل وأحاط ، والحيق : ما يشتمل على الإنسان ويلزمه من مكروه فعله ، قال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣) أي لا يقع ويحيط إلّا بهم ، وقال : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤) يعني وقع وأحاط.

والّذي يبدو لي من معنى الكلمة بالإضافة إلى ما تقدم : أنّها الحق الّذي يقع فيكشف عن الحقائق ويظهرها ، كما قال الله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) (٥) يعني يثبته ويظهره ويجعل الغلبة له على الباطل. ونحن إذا عرفنا بأنّ أكثر الناس محجوبون بألوان الأغطية عن معاينة الحق فسنهتدي بسهولة إلى معنى «الحاقّة» إذ هي التي تكشف عن الإنسان غطاءه ، وتجعل بصره حديدا يرى الحقائق ، حقيقة ما جاءت به الأنبياء والكتب الإلهية ، وحقيقة نفسه وأعماله ، هل هو من أصحاب الحق «اليمين» أم من أصحاب الباطل «الشمال»؟ وحقيقة

__________________

(١) السجدة / ١٣

(٢) الزمر / ١٩

(٣) فاطر / ٤٣

(٤) هود / ٨

(٥) الأنفال / ٧

٢٦٧

مصيره .. والقيامة ليست تجعل الحق حقّا فهي المحقّة ، لأنّ الحق والباطل شيئان واقعيان لا تصنعهما الأحداث ، إنّما دورها الكشف عنه ، وسوق النفوس إلى التسليم له ، حيث تنسف بأحداثها المريعة كل الحجب عن قلبه وعينه ليرى الحق ، كما قلنا في معنى يوم التغابن ، فإنّه ليس بيوم يتغابن فيه الناس ، وإنّما يكشف عنه ، ويؤكد ربّنا عظمة القيامة وهذه الصفة منها إذ يقول :

(مَا الْحَاقَّةُ)

إنّها أمر عظيم ماديّا ، حيث الوقائع الكونية المهولة ، ومعنويا بآثارها في النفوس ـ كل النفوس ـ وكيف لا ترهب الإنسان الضعيف تلك الأحداث الفظيعة التي أشفقت منها السموات والأرض ، وكيف لا يخشى وهو يلاقي ربه ، ويرى عمله ، ويمضي إلى مصيره الأبدي؟!

إنّ الحاقة ليست كلمة تقال ، فهذه الحروف عنوان لأمر عظيم ، تزلزل به الأرض ، وتمور السماء ، وتسجّر البحار ، وتتلاشى الجبال ، و(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). وتساؤل القرآن ب «ما» يأتي في سياق التعظيم والتذكير والتحذير والإلفات ، ولا يقف عند ذلك بل يضيف :

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)

وهذه الآية تفيد التعظيم ، كما تبيّن أنّ أحدا لا يدرك حقيقة القيامة ، وقد يعلم بعض المجملات عنها : بأنّها حق ، وأنّ من أحداثها زلزلة الأرض ، وحشر الناس ، ودكّ الجبال ، ولكنّه لا يعلم ميقاتها ، كما لا يملك أدوات يتمكّن بها وعي أحداثها العظيمة.

٢٦٨

[٤ ـ ٨] إذن فكيف نؤمن بالحاقة؟

إنّنا لسنا مطالبين بمعرفة دقائق القيامة وتفصيلات وقائعها ، فإذا عجزنا عن ذلك كفرنا بها. كلّا .. إنّما يكفي لكي يأخذ الإيمان بها دوره في حياتنا أن نسلّم بأصل وجودها ، وكونها حقّا لازما مفروضا من قبل الله عزّ وجلّ .. وانّ نظرة معتبرة إلى التاريخ تهدينا إلى ذلك ، حيث أنّ كلّ ما حلّ بالأقوام الأولين صورة مصغّرة عن سنّة الجزاء التي تتجلّى بكامل حجمها ومعناها يوم القيامة ، والدراسة الموضوعية لحضاراتهم وبالذات عند منعطف النهاية والدمار تكشف بوضوح أنّ حركة التاريخ ليست عفوية تدور في الفراغ ، بل هي محكومة بقوانين وسنن ومن أبرزها ـ على صعيد الأمم ـ سنّة الجزاء ويضرب القرآن أمثلة على ذلك رابطا بين دمار الأقوام بالعذاب وتكذيبهم بالحق.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ)

وثمود قوم صالح (ع) بينما عاد قوم هود (ع) ، والقارعة التي تقرع الناس ، وأساس القرع في اللغة هو الضرب ، يقال : قرعت الباب إذا دقّت وضربها ضارب ، وقرعته بالعصا : أي ضربته ، وسواء كانت القارعة هي الواقعة التي قرعت حياتهم في الدنيا ، أو الآخرة التي سوف تقرع الدنيا عند الساعة ، فأصلها واحد وهو الجزاء ، وحيث ندرس حياة عاد وثمود نجد أنّهما كذّبوا ليس بالجزاء وحسب ، بل كذّبوا بالرسل والرسالات وسائر آيات الله ، ولكنّهم في الحقيقة إنّما انطلقوا إلى كلّ ذلك التكذيب العريض والشامل من خلال التكذيب بالجزاء وبالذات الآخرة ، الأمر الذي دعاهم بالإضافة إلى التكذيب بالحقائق الأخرى إلى الطغيان في الانحراف ، وممارسة الذنوب ، وهذه نتيجة طبيعية للتكذيب بالجزاء أن يتحلّل البشر من قيود المسؤولية وحدودها.

٢٦٩

ولكن هل بقيت ثمود وعاد على التكذيب بلا رادع؟ كلا ..

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ)

وفي الطاغية قولان قريبان من المعنى :

الأول : أنّها الصيحة التي أرسلها الله عليهم ، فجعلتهم غثاء خامدين ، وسوّى بها بيوتهم ، وسمّيت بالطاغية مبالغة في وصف عظمتها ، وإشارة إلى أنّها جاءت خارج السياق المعتاد للظواهر ، وزائدة عن حدّ القوانين الطبيعية ، فإنّا نقول : طغى الماء : إذا تجاوز الحد ، وفاض به النهر.

الثاني : ولعلّها اسم لحالة الطغيان ، قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها* إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها* فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها* فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها* وَلا يَخافُ عُقْباها) (١) ، والذي يبدو أنّ الكلمة تعبّر عن المعنيين في آن واحد ، ونهتدي منها أنّ الجزاء الإلهي حكيم للغاية ، فهو من جنس العمل وبحجمه.

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)

أي ريح باردة وذات صوت ، جاء في المنجد : الصرصر من الرياح : الشديدة الهبوب أو البرد ، وصرصر الرجل : صاح شديدا ، وسمّي الصرصور بذلك لأنّه يصيح صياحا رقيقا في الليل (٢).

وأمّا العاتية ففيها أقوال : أحدها أنّها التي خرجت عن أمر الملائكة الموكّلين

__________________

(١) الضحى / ١١ / ١٥.

(٢) المنجد مادة صر.

٢٧٠

بالريح (الخزنة) بأن أوحى الله لها مباشرة أن تهلكهم بلا واسطة ، والآخر : أنّها التي لا قبل لأحد بمواجهتها ومقاومتها ، فهي تعتو على كلّ أحد وكلّ وسيلة ، قال الزمخشري : شديدة العصف والعتو ، أو عتت على عاد فما قدروا على ردّها بحيلة ، من استتار ببناء ، أو التجاء بجبل ، أو اختفاء في حفرة (١). والمعنى الأصيل : أنّها التي بلغت من الشدة ما تجاوزت به القوانين والمقاييس الطبيعية ، وبكيفية لا يمكن البشر تصورها ، لأنّ أصل العتو هو الخروج عن الحد ، قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (٢) ، وقال : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) (٣) ، وإنّما جعل الله الريح عاتية على عاد لكي يعكس عتوّهم عن أمره عزّ وجل ، فإنّه لو أراد أحد تصوّره في عالم التكوين فسيجده تماما كالريح الصرصر حينما تتجاوز الحد المتعارف ، بل هي أعظم من ذلك لأنّ رياح الشهوات العاتية في الحقيقة هي التي دمّرتهم ، ولم تكن الريح الظاهرة إلّا تجسيدا وعاقبة لها.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً)

فهي لم تأتهم صدفة بسبب نحس أو تغيّر كوني خارج عن الحساب والسنن ، إنّما جاءت الريح بإرادة إلهية سخّرتها ، وكذلك ينظر المؤمنون إلى الأحداث ويحلّلونها ، أمّا غيرهم فإنّهم لا تفيدهم عبرة ، لأنّهم يفسرونها بالصدفة أو بتغيّرات مبتورة تعكس جهلهم أو تجاهلهم ، ولا يفكّرون بعقولهم التي لو استثاروها لهدتهم إلى يد التدبير التي تهيمن على الخليقة!

قال الفخر الرازي : وذلك لأنّ من الناس من قال : إنّ تلك الرياح إنّما اشتدت لأنّ اتصالا فلكيّا نجوميّا اقتضى ذلك ، فقوله : «سخّرها» فيه إشارة إلى

__________________

(١) الكشّاف / ج ٤ ص ٥٩٩

(٢) الطلاق / ٨

(٣) الذاريات / ٤٤

٢٧١

نفي ذلك المذهب ، وبيان أنّ ذلك إنّما حصل بتقدير الله وقدرته ، فإنّه لو لا هذه الدقيقة لما حصل التخويف والتحذير عن العقاب (١) ، والكلمة نفسها تنفي الوهم بأن العاتية هي التي خرجت عن التقدير والتدبير ، كذلك تجاوز الخطر عن النبي هود والذين آمنوا معه (حيث كانت تمرّ عليهم كالنسيم) دليل على أنّها كانت مسخّرة مدبّرة.

ونتساءل : لماذا لم يجعل الله الريح لحظة واحدة وهو قادر على إهلاكهم بها؟ ربما صيّرها الله سبع ليال وثمانية أيام (قالوا : من صباح الأربعاء إلى مساء مثله من قابل) (٢) لأنّه أبلغ أثرا في نفوس المعذّبين حيث المدة أطول ، كما أنّه أفضل موعظة في قلوب المؤمنين والمعاصرين لهم ، وأشد تحذيرا للّاحقين ، ولعل في ذلك إشارة عبر التاريخ إلى مدى تحصّنهم وأسباب البقاء التي كانت في حضارتهم ، قال الطبرسي في مجمع البيان : الحسوم : المتوالية ، مأخوذة من حسم الداء بمتابعة الكي عليه ، فكأنّه تتابع الشر عليهم حتى استأصلهم ، وقيل : هو من القطع ، فكأنّها حسمتهم حسوما ، أي أذهبتهم وأفنتهم ، وقطعت دابرهم (٣) ، وسمّي السيف حاسما لأنه يحسم الأمر ويقطعه (ويقطع المضروب به) (٤).

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ)

أي في تلك الأيام والليالي ، أو في قراهم ، وحيث وقعوا صرعى فهم أشبه ما يكون بجذوع النخل المنتشرة على الأرض والخالية بالنخر من داخلها فهي لا تنفع

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ١٠٤.

(٢) كذلك في النصوص.

(٣) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٤٤

(٤) التحقيق في كلمات القرآن / مادة حسم.

٢٧٢

لبناء ولا لغيره (١) والمنظر صورة للحديث الشريف : «من أبدى صفحته للحق هلك» (٢) ، والآخر «من صارع الحقّ صرع» (٣) ، وإنّها لعاقبة كل من يكذّب بالحق ويتنكّب عن طريقه.

واللطيف في تعبير القرآن مخاطبته المباشرة «فترى» للرسول (ص) ومن خلاله كل تال للآيات ، وذلك أنّ الله لا يريد من نقل القصص مجرد المعرفة أو التسلية ، بل يريد من سامعها الاتعاظ والإعتبار ، والذي يتم بتخيّل القصص ومشاهدها والحضور في أحداثها وخلفيّاتها ، وبعبارة أخرى : أن يكون نفسه شاهدا عليها ، ولا شك أنّ القلب والعقل أعظم شهادة وحضورا ، والإنسان قادر على الحضور بهما ، ورؤية حتى الماضي والمستقبل ، فالخطاب هنا موجّه للأذن الواعية ، ثم يؤكّد ربنا بالتساؤل : أن قوم عاد أهلكوا جميعا ، فلم يبق منهم أحد.

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)

قيل : لم يبق لهم أثر من نفس وغيرها ، وقيل : بل المعنى لا ترى من نفس باقية فقط (٤) وهكذا حصروا الهلاك في النفوس لقوله تعالى عن قوم عاد : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) (٥) ، وهذا هو الأقرب.

إذن فتكذيبهم بالقارعة لم يغيّر من الحقائق الواقعية شيئا ، بل قرعتهم في الدنيا قبل الآخرة ، ونحن الذين نقف على أخبار الأقدمين يجب أن نتخذها حاقّة تكشف لنا عن سنّة الجزاء ، ومن ثم حقيقة الساعة والقيامة والبعث (الآخرة).

__________________

(١) مرّ بيان مفصل في معنى (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) في الآية ٢٠ من سورة القمر فراجع.

(٢) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧٠ ص ١٠٧ عن الإمام علي (ع)

(٣) المصدر / ج ٧٧ ص ٤٢٠.

(٤) الدر المنثور والكشاف والرازي.

(٥) الأحقاف / ٢٥

٢٧٣

[٩ ـ ١٠] ويضع السياق صورا أخرى تكشف عن ذات الحقائق : هيمنة الله على الحياة ، وسنّة الجزاء ، والآخرة .. وإنّما يكثر القرآن الأمثال لكي لا تبقى عندنا ذرّة شك أو شبهة أنّ تلك الحوادث كانت صدفة ، وبالتالي لكي يتعمّق في نفوسنا الإيمان بالله والجزاء.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ)

أي بالقيم والأعمال البعيدة عن الحق والصواب ، كالظلم والعلو والشرك وادّعاء الربوبية ، وقد اختلف في الذين قبل فرعون إلى قولين : أحدهما : أنّهم الأمم والقرون التي سبقته وأهلكها الله ، والآخر ـ وهو صحيح أيضا ـ : أنّ فرعون كان حلقة من نظام سياسي كان يحكم مصر ، والذين قبله يعني الحلقات الأخرى منه ، قال الإمام الباقر (ع) في قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ) : «يعني الثالث ومن قبله الأولين» (١) ، وإلى ذلك تشير الآثار والدراسات العلمية للتاريخ السياسي لمصر (٢) ، وربما الأولى الجمع بين الرأيين ، والقول بأنّ «من قبله» تشمل كلّ من كان قبل فرعون من ملوك مصر وغيرهم.

وأمّا «المؤتفكات» فهي قرى لوط التي جعل الله عاليها سافلها جزاء شذوذهم الجنسي ، ومشيتهم المقلوبة في الحياة ، حيث كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وإنّما خصّ الله قوم لوط بالذكر مع شمول «من قبله» لهم لأنّهم من أظهر شواهد الانحراف ، ولعلّ أعظم الخطيئات التي جاءت بها تلك الأقوام هي اتباع المناهج والقيادات المنحرفة ، ومن ثمّ التكذيب برسالات الله ورسله.

__________________

(١) البرهان / ج ٤ ص ٣٧٥.

(٢) راجع كتاب (مدخل في علم السياسة) لمؤلفه بطرس غالي وزير داخلية مصر الأسبق ، ومدرس العلوم السياسية في جامعة القاهرة.

٢٧٤

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)

كنتيجة مباشرة لذلك. وماذا يعني عصيان الرسول؟ إنّه الانحراف عن الحق والسنن الطبيعية في الحياة ، ومحاربة الله .. وهل ينتهي ذلك إلّا إلى الانحطاط والهلاك؟!

(فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً)

وأصل الرابية : الزيادة ، ويسمّى ما ارتفع من الأرض رابية لأنّه في حقيقته زيادة فيها بالارتفاع ، وأمّا الأخذة الرابية فهي : إمّا التي زادت على غيرها من عذاب الله وأخذه ، أو التي نمت وتعاظمت بسبب تراكم الخطيئات ، وهذا قريب ، وفيه دلالة على أنّه تعالى أملى لهم وأمهلهم ليزدادوا إثما ، فيزيدوا بأنفسهم غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة.

[١١] ويذكّرنا القرآن بأعظم ما شهده تاريخ البشرية من الجزاء الإلهي ، وهو ذلك الطوفان الذي تفجّرت به ينابيع الأرض ، وانفتحت أبواب السماء بماء منهمر ، فابتلع اليابسة كلّها في عصر نوح (ع) ، ولكنّه في نفس الوقت يوجّهنا إلى لطف الله بالبشرية كلّها حين حفظ وجودها بحملها في السفينة ، هذه الآية التي يهدينا التفكير فيها وبصورة مسلّمة إلى أنّ سنة الجزاء ليست صدفة ، إنّما هي تحت هيمنة الله الحكيم في تدبيره.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ)

أي السفينة التي تجري على الماء ، وطغيان الماء : زيادته عن المعتاد وعن حاجة الناس والنبات إليه ، ويقال للبحر : طغى : إذا تجاوز على اليابسة ، وفي الدر المنثور عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، قال : طغى على خزّانه فنزل ، ولم ينزل من

٢٧٥

السماء ماء إلّا بمكيال أو ميزان إلّا زمن نوح (ع) فإنّه طغى على خزّانه ، فنزل من غير كيل ولا وزن (١) ، وأخرج بن جرير عن الإمام علي (ع) قال : «لم تنزل قطرة من ماء إلّا بمكيال على يدي ملك ، إلّا يوم نوح فإنّه أذن للماء دون الخزّان فطغى على الخزّان فخرج» (٢) ، ولا يعني ذلك أنّه لا مكيال ولا وزن معلوم له عند الله ، كلا .. وإنّما المعنى أنّ الله لا ينزل الأمطار إلّا عبر حسابات دقيقة ، تتناسب مع حاجات الخلق ، أمّا في الطوفان فقد أمر السماء والأرض أن تتفجّر ماء مّا تستطيعان.

ولم يقل الله : (حملناهم) يعني الذين ركبوا السفينة مع نوح ، بل قال : «حملناكم» موجّها الخطاب للبشرية جمعاء ، لأنّها يوم الطوفان كانت منحصرة فيهم ، وليس الناس بعدها إلّا نسل أولئك ، فنحن معنيّون بالحمل أيضا ، إذ لو لا السفينة لما كنّا الآن موجودين.

[١٢] وبعد العرض الموجز لقصة الطوفان في آية واحدة يوجّهنا القرآن إلى العبرة الهامّة منها ، والتي يقتضي الإشارة إليها ، وهي : أنّ بقاء السفينة ونجاة ركّابها في ذلك الطوفان المروّع آية إلهية عظيمة ، تذكّرنا بكثير من الحقائق الإيمانية ، إذا كانت ثمّة أذن واعية تستوعب ما تذكّر به.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً)

وإنّ مرورا سريعا بآية (الجارية) يذكّرنا بهيمنة الله على الوجود ، وسنّة الجزاء ، ولطف ربّنا ، ودور الإيمان به ، واتباع رسله ورسالاته في نجاة الإنسان ، وفضل الأنبياء على البشرية .. وهكذا الكثير من الحقائق التي من شأنها زراعة تقوى الله

__________________

(١) الدر المنثور / ج ٦ ص ٢٦٠

(٢) المصدر / ص ٢٥٩

٢٧٦

وتعميقها في النفس ، وما أحوج البشرية أن تدرس هذه الآية لتتذكّر بها لتتجنّب الأخطاء ، وتبني الحياة السعيدة ، إلّا أنّنا لا نعيرها اهتماما ولا جزء من تفكيرنا ، بل نمرّ عليها مرور الغافلين اللّاأباليين ، وكأنّها مجرد قصة خياليّة أو قصة تروى للتسلية.

بلى. إنّ الآيات والحقائق كما الماء والكائنات الأخرى تحتاج إلى وعاء يستوعبها ، ولكن من جنس آخر. إنّه القلب المزكّى بالإيمان والعرفان هو وحده وعاؤها ، وإنّ في قصة الإعدام الجماعي للبشرية بالطوفان لدرسا يجب أن يبقى نصب أعين الناجين ، يعمّق فيهم الخشية من ربهم ، ويحيي ضمائرهم ، ويستثير عقولهم باتجاه الحق أبد الدهر.

(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)

أي تعي التذكرة. ومن وصل هذه النهاية بالشطر السابق للآية نهتدي إلى أنّ المسيرة الطبيعية للبشرية هي مسيرة التقدم ، حيث تتراكم خبراتها وتجاربها عبر الزمن ، ممّا يزيد وعيها ومعارفها وإيمانها ، هذا إذا كانت من الناحية المعنوية سليمة وذات أذن واعية ، أمّا إذا لم تصل بنفسها إلى مستوى القدرة على عقل الحقائق واستيعابها فإنّها لن تتقدم إلى الامام ، بل ستهوي في ذات المزالق التي دفع فيها السابقون ، وستواجه ذات المصير. بلى. إنّ تلك القصص نداءات موجّهة إلينا لا يسمعها الصمّ ، وقال تعالى «أذن» لأن السمع هو نافذة المعرفة الإنسانية على التاريخ ، ووصفها ب «واعية» لكي يهدينا بأنّ منهج القرآن في بيان الحق والتذكير به منهج كامل لا نقص فيه ، فإذا لم يستوعبه الإنسان أو لم يقبله فإن الإشكال فيه ، لأنّ أذنه غير واعية ، وليس في رسالة الله ، ولا شك أنّ المقصود هو ما وراء الأذن وليست الأذن بذاتها ، لأنّها ليست وعاء للعلم بل وسيلة موصلة إلى وعائه وهو

٢٧٧

القلب ، ومن أهم شروط استيعاب الحق :

أـ جعله هدفا ومحورا ، مقدّما على كلّ اعتبار آخر ، فمتى وجده سلّم له.

ب ـ الطهارة من الحجب التي تمنع اتصال القلب به كالغفلة والجحود ، ومن أبرزها الأفكار والمواقف المسبقة ، وذلك أنّ القلب لا يمكن أن يستوعب الحق والباطل معا ، فهو إمّا يكون وعاء للحق وإمّا يكون وعاء للباطل ، ولا بد أن يطرد الباطل من القلب حتى يستوعب الحق.

د ـ أن تكون قدرة الإستيعاب كبيرة ، وذلك أنّ بعض الحقائق عظيمة لا يستوعبها كلّ قلب ، بل تختلف درجات المعرفة بالحقائق باختلاف القدرات العلمية والإيمانية عند الإنسان .. وجاء في الحديث الشريف عن الإمام علي (ع): «اعلموا أنّ الله سبحانه لم يمدح من القلوب إلّا أوعاها للحكمة ، ومن الناس إلّا أسرعهم إلى الحق» (١) ، وقال (ع): «إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها» (٢)

ولقد اجتمعت هذه الشروط وغيرها في شخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فاستوعب رسالة الله ، وأصبح أعرف الناس بعد النبيّ بها ، ولذلك أجمع الرواة والمفسرون على تأويلها فيه (ع) كأعظم مصداق للأذن الواعية .. قال الإمام علي (ع) يخاطب أصحابه وخاصته : «ألا وإني مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم ـ الى أن قال ـ : وأنا الأذن الواعية» (٣) ، وقال النبي (ص) يخاطب عليّا (ع) : «دعوت الله ـ عزّ وجلّ ـ

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) نهج حكمة / ١٤٧.

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٠٢ نقلا عن معاني الاخبار.

٢٧٨

أن يجعلها أذنك يا علي» (١) وفي تفسير القرطبي روى مكحول : أنّ النبي (ص) قال عند نزول هذه الآية : «سألت ربّي أن يجعلها أذن علي» قال مكحول : فكان علي (رض) يقول : «ما سمعت من رسول الله (ص) شيئا قطّ فنسيته إلّا وحفظته» (٢) أي ما كنت أنساه وما كنت إلّا أحفظه. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي ، قال : لمّا نزلت «الآية» قال النبي (ص) : «سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي» قال علي : «فما نسيت شيئا بعد وما كان لي أن أنسى» (٣) ، وإنّما طلب النبي ذلك من الله لأنّه يعلم بأنّ عليّا هو الامتداد الحقيقي له ولحظة ، فلا بد أن يستوعب رسالته .. وتتسع الآية لمصاديق أخرى وبدرجات متفاوتة ، إذ أنّ كلّ أذن واعية هي مصداق لها.

إنّ التاريخ معلّم للبشرية ، ويجب أن تتلمذ في مدرسته ، لأنّ ذلك هو السبيل للتقدم والسعادة في الدارين ، فهي لو درست تاريخها وتفكرت في حوادثه ومنعطفاته فسوف تهتدي إلى الحق في كلّ صعيد وجانب من الحياة .. تهتدي إلى ربها لأنّ التاريخ كله آيات موصلة إلى الإيمان به ، وتهتدي إلى الكثير من السنن والقوانين والحقائق الحضارية التي من شأنها لو وعتها أن تتجنب الأخطاء والأخطار ، وتجد طريقها إلى المجد والفلاح.

[١٣ ـ ١٤] ثم ينعطف السياق للحديث عن الآخرة لأنّها الحاقة العظمى ، وأجلى صورة لسنّة الجزاء في الوجود .. وإنّ الأذن الواعية ليتذكر صاحبها بحوادث التاريخ ، وما لقيته الأقوام في الدنيا عن الجزاء الإلهي فيعي بذلك حقيقة الآخرة ،

__________________

(١) المصدر

(٢) القرطبي / ج ١٨ ص ٢٦٤.

(٣) المصدر ذكر ذلك وذكره الكشاف ، الرازي ، فتح القدير ، الدر المنثور ، شواهد التنزيل للحسكاني ، أسباب النزول للنيسابوري / عند تفسير الآية فراجع.

٢٧٩

وإنّها حقّا لأذن واعية تلك التي تعاين الغيب من خلال الشهود ، وتتسع آفاقها لرؤية المستقبل عبر الحاضر ، فلا تفاجأ بالواقعة ، إنّما تأتي مستعدة لتجاوز عقبتها بزاد التقوى وذخيرة العمل الصالح. بلى. إنّ الواعين يعيشون في الدنيا ولكنّ أرواحهم في الآخرة ، بل إنّ حضورها في قلوبهم أعظم من حضور الدنيا ، فتراهم لا يغفلون عنها لحظة واحدة ، وحيث ينقل لهم القرآن مشاهد منها فكأنّها قائمة بين أعينهم وقلوبهم ، كما وصفهم صاحب الأذن الواعية الإمام علي (ع) بقوله : فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم (١) ، وكل ذلك ينعكس على سلوكهم في الحياة.

ولقد جاءت الآية (١٢) مؤكّدة على دور الآذان الواعية بين الحديث عن تاريخ الأقوام السالفة (الآيات) ، والحديث عن الآخرة (الآيات ١٣) في هذا الدرس وامتدادها حتى الآية (٣٧) في الدرس اللاحق ، لأنّها وحدها القادرة على استيعاب مواعظ التاريخ وآياته ، والإيمان بحديث الوحي عن الآخرة ووعيه ، فحقائق الغيب ـ سواء غيب التاريخ أو غيب الآخرة ـ حقائق كبيرة ، بحاجة إلى أذن مرهفة تنفذ بسمعها من الآيات إلى ما تهدي إليه ، وقلب واسع كبير يحتمل أن يكون وعاء لها.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)

ويبدو أنّها النفخة الثانية لأنّها التي يقوم فيها الناس للحساب والجزاء ، قال

__________________

(١) نهج البلاغة / ج ١٩٣ ص ٣٠٤

٢٨٠