من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ

هدى من الآيات :

إنّ الفلسفات الشركية التي تربط ظواهر الكون ونظمه بالقوى المزعومة من دون الله هي المسؤولة عن مشي الإنسان مكبّا على وجهه ، ضالا عن الحقيقة ، وهي التي تحجب عنه نور الخشية من ربّه ، وتصنع في نفسه هالة من الأمن والاطمئنان الكاذب ، الأمر الذي يسوقه نحو ممارسة المعصية ومخالفة النظام الحق دون وازع أو ضابط ، ويسقط من عنده قيم الشرائع والعهود. أو ليست الخشية روح الالتزام بالنظام؟

بلى. إنّ الشرك والإعتقاد بالأنداد هو الذي يترك الإنسان لا مسئولا ، فإذا به لا يخشى من مخالفة الحق ، ولا يرى ضرورة للشكر على النعم ، لأنّه يزعم أنّ الله خلق الوجود وقدّر نظامه ثم فوّض إلى الناس أمورهم ، أو فوّضه إلى الأنداد ثم اعتزل ، أو أنّ هناك قوى الشركاء التي تنصرهم من دونه تعالى فتقاوم قدرته

١٦١

ومشيئته سبحانه ، فإذا منع رزقه عنهم رزقتهم ، وإذا غار ماؤهم جاءتهم بماء معين غيره .. ويعالج القرآن هذا الضلال (الغرور والعتو والنفور) ببصيرتين :

الأولى : بصيرة التوحيد ، وأنّ الله وحده الذي بيده الأمر والقدرة التامة ، ويذكّر القرآن بهذه الحقيقة بصورة تكون فيها آيات الدرس الأخير من سورة الملك تفسيرا لآية محورية في السورة هي الآية الأولى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)».

الثانية : حقيقة البعث والجزاء ، ذلك أنّ جزء كبيرا من شرك الإنسان وعدم إحساسه بالمسؤولية نتيجة لكفره بالآخرة أو شكّه فيها ، فلا بد أن يعلم بأنّه منشور محشور. وعند ما يذكّر القرآن بهذه الحقيقة يعيدنا إلى آية محورية أخرى في السورة هي الآية الثانية : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

بينات من الآيات :

[١٥] لم يكن الناس يعرفون في عصر نزول القرآن أبعاد نعمة الحياة على الأرض كما يعرفون اليوم ، وأنّ الأرض تختلف من جهات كثيرة عن سائر الكواكب الأخرى من حيث القوانين الطبيعية التي تحكمها ، فجاء القرآن ليفتح أفقهم على معرفة هامة وهي : أنّ الكوكب الذي يعيش على وجهه كسائر الكواكب الأخرى يشبه كرة تدور في هذا الفضاء الرحب ولكنّه يختلف عنها في كونه مهيّأ من جميع الجوانب لحياته عليه. وكان حريّ بالإنسان وهو ينشد غزو الفضاء وركوب الكواكب الأخرى أن ينطلق من هذه الآية الكريمة.

أمّا هدف القرآن من بيان هذه الميزة للأرض التي نعيش فوقها فليس أن يضيف إلى العلم معرفة وحسب ، بل هنالك هدف أبعد من ذلك .. ومن دونه لا

١٦٢

تكون معارف البشر ذات قيمة حقيقية ، ألا وهو تعريفه بربه ، فإنّه لو تفكّر مليّا لعرف أنّ توفير الأرض لحياة البشر آية من آياته عزّ وجل. بلى. ربما يفكّر البعض في ذلك ولكنّك تجدهم يضلون بإجابات لا رصيد لها من الصحة فإذا بهم يشركون بالله ، فأمّا القدماء فكانوا يتصوّرون أنّ الأصنام أو الشياطين هي التي صنعت ذلك ، وأمّا المعاصرون فقالوا أنّها الصدفة!! ولكنّ القرآن يذكّر الإنسان بالحقيقة التي أركزت في فطرته ، ويجد أصداءها حينما يستنير عقله ، فينقذه من ضلالات الجهل والشرك ، إذ يقول :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً)

أي مذلّلة ميسّرة لكم كالحصان المستراض أو البقرة المستألفة ، حيث جعل نظامها وما فيها لصالح الإنسان طعما وشرابا وهواء وزينة وما أشبه ممّا يحتاجه وينفعه كالليل والنهار والشمس والقمر .. إلخ.

وتذليل الله للأرض انعكاس لاسم «تبارك» حيث أنّ ذلك من بركته ورحمته.

(فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)

وقوله تعالى : «فامشوا» ليس مجرد أمر تشريعي يوجب السعي ، بل هو أمر تكويني ، إذ لو لم يقدّر الله المشي لما كان أحد يستطيع المشي حتى في مناكب الأرض. والمنكب مفرد مناكب وهو مجتمع رأس الكتف والعضد ، وناحية كلّ شيء وجانبه ، يقال : سرنا في منكب من الأرض أو الجبل أي في ناحيته ، والمنكب من الأرض الطريق (١) وكأنّ القرآن حينما أمر بالمشي في مناكب الأرض شبّهها

__________________

(١) المنجد / مادة نكب.

١٦٣

بالإنسان ، رأسها الجبال ومناكبها السفوح والسهول وما دون القمم العالية الوعرة التي يصعب المشي فيها. وحينما نمشي فإنّنا ليس فقط نحصل على الرزق بل ونزداد معرفة أيضا. وهناك علاقة بين فعلي الأمر «امشوا» و «كلوا» ذلك أنّ رزقنا لا يمكن أن يمشي إلينا بل لا بد أن نسعى إليه بأنفسنا ، وهذه هي القاعدة السليمة التي يجب علينا أن نتبعها في الحياة لنمارس مسئوليتنا فيها ونصل إلى اللقمة الحلال والمرضية عند الله ، إذن فليس في الدين دعوة للخمول والكسل والتّطفل على الآخرين ، كما يصوّره البعض ، إنّما هو صورة لسنن الحياة الواقعية التي لا يمكن لأحد الوصول إلى أهدافه وأغراضه إلّا من خلالها ومن أهمها سنّة السعي والكدح.

ثم تنسف الآية الكريمة في خاتمتها كلّ القيم المادية التي تفسر الحياة تفسيرا شيئيا ، وتحصر مسئولية الإنسان في الوجود في مساحة ضيقة وتافهة ، فإذا بها تنزل به إلى واد سحيق وطموحات ضالة ، وكأنّه يشبه الأنعام خلق ليأكل ليعيش بلا هدف! كلّا .. إنّ الإنسان له أن يتعلّم من الحياة والطبيعة من حوله درسا أساسيا ، فلينظر إلى ما حوله هل يجد شيئا خلق بلا هدف؟ فما هو هدفه؟ دعه يبحث عن هدفه فإنّه سيجد هدفه أعظم من مجرد الأكل والشرب والتلذذ ، كلّا .. إنّ له تطلّعا أسمى وطموحات أكبر .. مثلا يتطلع كلّ إنسان لملك الأرض والخلود في الحياة هل يتحقق له ذلك في هذه الحياة؟ كلّا .. وهكذا يهتدي الإنسان إلى الإيمان بالآخرة ، وبعبارة موجزة : سيواجه الحقيقة التي تطرحها الآية في خاتمتها :

(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)

وتنطوي هاتان الكلمتان على مجمل حقائق الإيمان حيث الإيمان بالآخرة ، والتسليم لله عزّ وجلّ نفسيا بالإيمان وعمليا باتباع رسله ومناهجه. وعند ما نتأمل في

١٦٤

ترابط أجزاء الآية الكريمة ببعضها نكتشف حقيقة هامة وهي أنّ على الإنسان أن يضع هدفه ويفكر في مستقبله الأبدي وهو يمارس الحياة بكلّ صورها ، أكلا وشربا وسعيا في طلب الرزق. ومن ضرورة الأكل والشرب الحياتية يجب عليه أن يتحسس حاجاته وهو يمضي إلى مصيره ، ومن ارتكاز الحصول على الرزق على السعي (أو بتعبير الآية المشي) يجب أن يعرف بأنّ وصوله إلى غاياته في الآخرة هو الآخر يرتكز على السعي ، وإنّ خير الزاد في ذلك السفر الطويل لهو التقوى.

الأكل والرزق في الآية أعمّ من ظاهرها ، فالأكل صورة من صور الاستهلاك ، والرزق هو عموم ما يحتاج الإنسان إليه ، والآية بمجملها توحي بأنّ الأرض خلقت مذلّلة في بعض الجوانب ولكن الله يريد للإنسان أن يذلّلها كلّها بسعيه ، وبالرغم من أنّه لا يقدر على تذليل كلّ شيء فيها لتصبح الأرض جنّة الفردوس لأنّه يتنافى مع حكمة خلق الإنسان فيها ألا وهي الابتلاء ، فإنّه قادر على تطوير حياته إلى الأفضل أبدا.

[١٦ ـ ١٧] وكما ينبغي للإنسان أن ينتفع من تذليل الأرض له ويتحسس اسم «تبارك» من هذه الرحمة الإلهية عليه ، كذلك يجب عليه أن يستشعر قدرة الله على كلّ شيء ، وأنّه لو شاء لسلب تلك البركة منه فإذا بتلك الأرض المذلّلة تصبح كالفرس الجامح تمور مورا ، أو يحدث تغييرا في النظام الكوني فإذا بالسماء التي تحميها تستحيل منطلقا لعذاب مصوب لاطاقة للأرض وسكانها به. وتذكّر هذه الحقيقة مهم لأمرين :

الأول : أنّها إلى جانب تنعّم الإنسان ببركات الله ورحماته التي في الطبيعة تعطيه توازنا نفسيا وعقليا وعمليا يسوقه نحو المسيرة الصحيحة في الحياة ، فلا تبطر به النعم وتضلله عن أهدافه. فإنّه متى وصل الإنسان إلى اليقين بقدرة الله عليه سلّم له

١٦٥

أمره واتصل به وخضع له ، وهذه من أعظم أبعاد الخشية منه تعالى.

الثاني : أنّها تجتث من نفس الإنسان جذور الشرك ، لكي لا يأمن مكر الله ثم يعصيه اعتمادا على الشركاء المزعومين (كالشياطين والأصنام والملائكة بأنّهم قادرون على مقاومة قدرة الله ومنع مشيئته) أو استرسالا مع رحمته تعالى.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ)

أي تموج وتضطرب كما يمور البحر ، وذلك بإحداث انهيارات أرضية وزلازل ، أو بتغيير النظام الأرضي مرّة واحدة مما يفقدها توازنها بصورة رهيبة ، وفي الآية إشارة إلى ذلك بكلمة الخسف التي تعني التغيير والتبديل باتجاه سلبي.

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً)

وفي التساؤل ب «أم» تلويح بالنهي عن أن يأمن أحد مكر الله لما فيه ذلك من دواعي المعصية والاسترسال ، والحاصب حجارة العذاب المتقدة نارا ، وقوله تعالى «مَنْ فِي السَّماءِ» في الآيتين محمول على أحد وجوه ثلاثة : فإمّا هو كناية عن تعاليه سبحانه ، وإمّا لأنّ في السماء عرشه الذي تصدر منه أوامره عزّ وجل ، وإمّا يكون إشارة إلى الملائكة التي تنفّذ أمر الله ومشيئته في الحياة.

ونتساءل : ما هي العلاقة بين تحذير الله للناس من الكفر به وتهديده بتحطيم النظام الكوني لو كفروا؟ والجواب : لأنّه تعالى (كما بيّن في الآية الثانية) إنّما خلق الوجود الحي والميت لأجل الإنسان ، فإذا أفسد البشر حكمة وجوده بطلت حكمة الوجود الذي حوله أيضا.

وما تحمله آيات الله من الإنذار لا تستوعبه إلّا قلوب المؤمنين فإذا هم يخشون

١٦٦

ربّهم بالغيب ، أمّا الكافرون والمشركون فهم في غفلة عنه لأنهم محجوبون بالجهل والشرك عنه ، وذلك لأنّهم ماديون لا يرون إلّا الأمور الظاهرة ، ذلك لأنّ العقل هو الذي يهدي الإنسان إلى الباطن من خلال الظاهر ، وإلى الغيب عبر الشهود ، وهو معطّل لديهم ، كما أنّهم لا يسمعون الموعظة من العقلاء ، هكذا تراهم يعترفون في الآخرة ، وإليهم يوجّه القرآن هذا التحذير المبطّن :

(فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)

حينما تخسف بهم الأرض ويحلّ عليهم العذاب في الدنيا ، أو في الآخرة حيث العذاب المقيم والأليم ، هنالك يعرفون حقيقة النذير.

[١٨] ولكنّ القرآن لا يكتفي بالمستقبل الغائب دليلا على حقائقه بل ويستدل عليها بالشواهد الظاهرة ، لكي لا يبقى لبشر ما يبرّر له الكفر والزيغ ، ولتكون له الحجة البالغة ، فما هو الدليل على عذاب الله وقدرته على صنع ما يشاء؟

لندرس التاريخ البشري فهو خير معلّم للإنسان ، حيث يهديه إلى سنن الله وآيات معرفته ، ونحن حينما نتتبع حوادثه فسنجد الكثير من الأمم والمجتمعات التي ذهبت ضحية كفرها وفسوقها عن أمر الله ، فذاقت ألوانا من العذاب لا يستوعبها فكر بشر لهولها وفظاعتها.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

فأين قرى لوط المؤتفكة؟ وأين فرعون وقومه؟ إنّك لن تجد غير إجابة واحدة : إنّهم دحروا وبادت حضاراتهم لأنّهم لم يخشوا ربهم ويتبعوا رسالاته ورسله.

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)

١٦٧

فكيف كان العذاب المنكر الذي لم يكونوا يحتسبوه والذي نزل بساحتهم من عند الله سبحانه؟!!

ويحتمل هذا المقطع معنى آخر غير المنكر الفظيع إذا تصوّرنا القرآن يتساءل : كيف إذن تنكرون ، والشواهد ظاهرة ، والآيات قائمة؟

[١٩] ويلفت القرآن الأنظار والأفكار إلى مشهد الطيور وهي تطير في الفضاء ، ليثير عقولنا نحو دراسة هذه الظاهرة التي تحكي تذليل الله السماء للطيور برحمته ، وتكشف عن مئات القوانين العلمية التي تفيد الإنسان في حياته وحضارته. فلما ذا لا يتساءل ما هي القوانين الفيزيائية التي يمكن في ضوئها الطيران؟ ولماذا لا يبحث عن الأسباب والعوامل التي تجعل الطائر يسبح في الفضاء دون أن يقع على الأرض؟ وأهمّ من ذلك كلّه لماذا لا يحاول أن يتصل قلبه بروح هذا العالم ليراه آية واضحة من آيات ربه العظيم؟

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ)

والصف هو بسط الجناحين بينما القبض هو جمعهما إلى الجسم ، ولعل في الآية إشارة بهاتين الكلمتين إلى نوعين من الطيور : أحدهما صفّه أكثر من قبضه ، والآخر العكس ، وإلى أيّهما نظر الإنسان تجلّت آيات رحمة الله ، ولكنّها أظهر عند رؤية ما يصفّ منها ، وربما لذلك تقدّم ذكره على الذي يقبض .. وإنّما يكون طيران الطيور مظهر لرحمة الله لأنّه تعالى لو لم يذلّل لها الفضاء بالنظام الذي يسمح لها بالطيران لما كانت تجد سبيلا إلى ذلك فهو الذي يمسكها ، ولأنّها بالطيران تستطيع الهرب من الأخطار.

ولعلّ كلمة «فوقهم» في الآية تثير الإنسان نحو التحدي فيسعى ليكون قادرا

١٦٨

على الطيران ، وما كان الإنسان ليكتشف أسرار الطيران لو لم يكن يدرس هذه الظاهرة الكونية ويطّلع على قوانينها فإذا به يصنع مختلف وسائل الطيران.

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)

فهو يعطي كلّ خلق من خلقه القدرات والصفات ما يتناسب معه ومع دوره في الحياة ، حتى يكون كل شيء في نفسه وحسب هدفه كاملا قد منحه ربه كل ما يحتاج ، وذلك يؤكد الحقيقة التي تعلنها الآية : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يتبصر حقيقته ودوره والهدف من خلقه وتناسب هذا الخلق مع سائر خلقه سبحانه.

ونحن يجب أن نهتدي إليها حينما نشاهد طائرا يطير وقد جعل كلّ شيء مناسبا لحركته في الفضاء : حجمه ، أجنحته ، تركيبة بدنه ، طعامه وشرابه ، وتوالده وتكاثره ، هذا ما نعرفه وسائر البشر ، أمّا العلماء والمتخصصون الذين يدرسون حياة مخلوقات الله جامدة أو متحركة فهم كلّما ازدادوا معرفة بها ازدادوا إيمانا بدقة صنعه عزّ وجل.

تعالوا نستمع إلى الإمام جعفر بن محمّد الصادق ـ عليه السلام ـ يحدّث رجلا من شيعته (المفضل بن عمر) عن الدقة في خلقة الطير والحكمة في صنعه :

«تأمّل يا مفضّل الطائر وخلقته فإنه حين قدّر أن يكون طائرا في الجوّ خفّف جسمه وادمج خلقه ، فاقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ، ومن الأصابع الخمس على أربع ، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ، ثمّ خلق ذا جؤجؤ محدّد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه ، كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشقّ الماء وتنفذ فيه ، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران ، وكسي كلّه الريش ليداخله الهواء فيقلّه ، ولما قدّر أن يكون طعمه الحبّ واللّحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان ، وخلق له منقار

١٦٩

صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ، ولا يتقصف من نهش اللّحم ، ولّما عدم الأسنان وصار يزدرد الحب (أي يبتلعه ويسرع الطيران) صحيحا واللّحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ ؛ واعتبر ذلك بأن عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا ، ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ، ثمّ جعل مما يبيض بيضا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فانّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران ، فجعل كلّ شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدّر أن يكون عليه ..»

تأمل ريش الطير كيف هو؟ فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ، ثمّ ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا ولا ينشقّ لتداخله الريح فيقلّ الطائر إذا طار ، وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو القصبة التي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر ولا يعوقه عن الطيران (١)

[٢٠] ولا شك أنّ ذلك الجهل بواقع الحياة هو جهل بآيات الله سبحانه ، ممّا يدعو الإنسان إلى التكذيب بالحق والكفر بربه ، وبالتالي أن يشرك به الأنداد المزعومين ، ظنّا منه بأنّه قادر بواسطتهم على الفرار من سلطان الله القاهر وعلى التهرب من مسئولية الحق ، الأمر الذي يجعله يعيش في الحياة من دون قيد أو ضابط ، ولكنّ القرآن ينسف هذه الأفكار والمزاعم من جذورها مبيّنا بأنّها ليست سوى نشوة من الغرور الجامح.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ)

__________________

(١) بحار الأنوار / توحيد المفضّل / ج ٣ ص ١٠٣.

١٧٠

و «من دون الرحمن» تتسع إلى معنيين هما :

١ ـ الضد .. وعليه تنصرف الآية إلى الشركاء الموهومين والقوى التي يغتر بها الكافرون كالمال والسلطة فإنّها كلّها لا تنصرهم ضد الله ، ولو نصرتهم جدلا فهي لا تنفعهم شيئا.

٢ ـ أو تكون الآية منصرفة إلى الشفعاء فإنّهم كذلك لا يمكن أن يشفعوا لأحد من دون إذن الله ورحمته ، فلما ذا يجعل الإنسان بينه وبين ربه حجبا ووسائط ، وهو قادر على الاتصال بمصدر الرحمة والنصر؟!

إنّ الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء ليسوا بدائل عن طاعة الله ، وعن الدعاء إليه مباشرة ، بل هم وسائل وسبل إلى الرحمن سبحانه.

(إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)

والغرور هو الوهم. أترى كم هو مغرور ذلك الغبي الذي يزعم أنّه قادر على مقاومة الإنفجار النووي بيمينه؟! بلى. قد يزخرف القول ويخادع نفسه ولكنّه عند مواجهة الحقيقة يكتشف أنّه إنّما كان في غرور محيط ، وإنّنا نرى اليوم مدى الغرور الذي فيه قوى الاستكبار العالمي ، لما تملك من ترسانات الأسلحة ، والقدرة الاقتصادية ، ولكن أين هذا كلّه من قدرة الله المطلقة حتى يبارزونه عزّ وجل ويدّعون أنّهم سوف ينتصرون على الحق؟!

وعادة لا يكتشف الغرور إلّا بعد فوات الأوان عند ما يصطدم الإنسان بالحقيقة المرة حيث لا ينفعه شيئا.

ونتسائل : ألم يكن من الأنسب أن يذكر هنا أسماء العزة والقوة بدل اسم

١٧١

«الرحمن» حيث أنّ السياق سياق التحدي ، ولكنّنا عند التدبر نهتدي إلى إشارة لطيفة في ذكر اسم «الرحمن» فكأنّ القرآن يقول للإنسان بأنّ مصالحك الحقيقة تجدها عند صاحب الرحمة ، فلما ذا تتخذ الشركاء من دونه؟!

عند ما تضيق مذاهب الحياة أين نلجأ. أو ليس إلى رحاب رحمة الله؟ وحينما تتوالى المصائب والنكبات إلى من نجأر. أو ليس إلى حصن الرحمن؟

[٢١] وإنّه لثابت فطريّا وعمليا لذوي العقول أنّهم إنّما ينتصرون على المشاكل والتحديات بفضل الله ، ولا يلمسون أثرا لقوى أخرى تنصرهم ويستعينون بها عند الشدائد سواه سبحانه ، وعند ما تحبس السماء غيثها هل يقدر الشركاء المزعومون أن ينزلوه؟ كلّا .. ألا ترى كيف يجار الإنسان عند ما يحبس رزقه إلى ربه ، تبعه إلى ذك الفطرة ، ويحثّه العقل؟!

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)

ويبدو أنّ الرزق هو أرضية الاكتساب ، فلو لا أنّ الأرض خصبة والمياه متوفّرة هل يمكن للزارع أن يكتسب منها شيئا؟! ولو لا أنّ البلد يكون فيه معادن ومنابع هل يمكن للصناعي أن يطوّر صناعته أو يستخرج نفطا أو ذهبا أو حجرا كريما؟!

وهكذا يتقلب البشر في رزق الله يكتسب منه معاشه فإن انعدم الرزق لم يبق معاش ، ولكن بالرغم من وضوح هذه الحقيقة ترى الكفّار يصرّون على الكفر والغرور.

(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)

لجّ ولجاجة : عند في الخصومة ، وتمادي في العناد إلى الفعل المزجور عنه ، ولجّ

١٧٢

في الأمر : لازمه وأبى أن ينصرف عنه (١) إصرارا ، والعتو : الاستكبار الذي يجاوز الحد ، والقلب يقسو فلا يلين ، والظالم يطغى ويتجبر (٢) ، والنفور : يعني التباعد ونفر الظبي وغيره شرد وابتعد ، والإنسان أعرض عن الشيء وصدّ (٣) ، وفي كلمة «نفور» تشبيه للكفّار بالحمير والدواب (٤) إذ تمادوا في معاندة الحق مع وضوحه ، وأصروا على لزوم الباطل مع زهوقه ، وتجاوزوا الحد في الاستكبار ، وركبوا التباعد عن الحق شرودا وإعراضا وصدودا.

[٢٢ ـ ٢٣] وكيف لنا أن نتصور مسيرة من كان في غرور ولجاجة من العتو والنفور عن الهدى والحق ، إلّا كمن يمشي مرسلا نظره إلى الأرض لا يرى أمامه ، أو كمن على بصره غشاوة يتخبط ولا يهتدي سبيلا أفهل يستوي هو ومن يبصر أمامه وينتفع بجميع حواسه وهو على صراط مستقيم؟!

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

وللكبّ معنيان ـ حسبما قالوا ـ : أحدهما الذي ينظر إلى الأرض وهو يمشي ، والثاني من لف على وجهه شيئا يقال تكبكب في ثيابه إذا تلفف بها ، والمكب على وجهه الذي لفّ عليه شيئا ، والسوي الذي يمشي بكامل حواسه وإمكاناته ووعيه فهو السويّ ، قال تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (٥) أي كاملة ، وقال : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (٦) أي الصراط

__________________

(١) المنجد مادة لج.

(٢) المصدر مادة نفر بتصرف.

(٣) المصدر بتصرف.

(٤) قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) المدثر ٥٠ / ٥١.

(٥) مريم ١٠.

(٦) طه ١٣٥.

١٧٣

السليم ، وإنّ الكافرين لا يمشون في الحياة بكامل حواسهم ووعيهم ، وليس أدل على ذلك من أنّهم معطّلة أسماعهم عن تلقّى المواعظ ، وعقولهم عن وعي الحق واستيعابه كما وصفوا أنفسهم وكما وصفهم ربهم في قوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) (١) ويؤكد هذه الحقيقة قوله تعالى في الآية اللاحقة مفسرا معنى المكب :

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)

قيل : إنكم لا تشكرون إلّا قليلا ، وقيل : إنّ المعنى لا يشكرون منكم إلّا قليل ، وكلا المعنيين صحيح. وإنّ للشكر بالنعم جانبين :

الأول : أن لا يستخدم الإنسان نعم الله عليه في معصيته ، فيسمع باذنه ما حرّمه عليه كالغيبة والكذب والغناء ، أو ينظر بعينه ما هو محضور كأعراض الناس وعوراتهم ، أو يجعل فؤاده عشّا للشيطان فيملؤه بالظنون والنوايا السيئة والأفكار الضالة .. وهكذا.

قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «شكر النعمة اجتناب المحارم» (٢) ، وقال الإمام علي ـ عليه السلام ـ : «شكر كل نعمة الورع عمّا حرّم الله» (٣).

الثاني : أن يسخر ما أنعم الله به عليه في طاعته وإعلاء كلمته ، بأن يجعله وجوده وكيانه في طاعته وخدمة الحق واهله ، ومحاربة الباطل وأعداء الله ، فيستمع بإذنه علوم الحق ومواعظ الصدق ، ويوظف بصره في النظر إلى آيات ربه وكتابه ،

__________________

(١) الأعراف ١٧٩.

(٢) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧١ ص ٤٠.

(٣) المصدر ص ٤٢.

١٧٤

ويصيّر فؤاده وسيلة لمعرفة الحق والتفكر فيما ينفع به رسالته ونفسه والناس ، وهكذا سائر النعم والهبات الإلهية.

وإذا فعل الإنسان ذلك يكون شاكرا ، ولا يتم الشكر إلّا بمعرفة المنعم والتوجه إليه به ، فإنّ الإنسان عرضة للشرك في الشكر أيضا ، لذلك جاءت بداية الآية توجهنا إلى المنعم وأنه أهل الشكر ، وعلى هذه الحقيقة أكدت النصوص المستفيضة عن أئمة الهدى ، قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ : الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه لم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حودود الإنسانية إلى حدّ البهيمة ، فكانوا كما وصف في كتابه : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (١) وقال الإمام الحسن العسكري ـ عليه السلام ـ : «لا يعرف النعمة إلّا الشاكر ، ولا يشكر النعمة إلّا العارف» (٢) وأوحى الله تعالى إلى موسى ـ عليه السلام ـ : «يا موسى اشكرني حق شكري ، فقال : يا ربّ كيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكر به إلّا وأنت أنعمت به علي؟! فقال يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أنّ ذلك مني». (٣)

[٢٤ ـ ٢٧] وعند التفكير في الآية (٢٣) والآية (٢٤) نجدهما تجيبان على أهمّ الأسئلة المصيرية التي تخطر على بال كلّ إنسان : من الذي أوجدني ووهبني ما أنا فيه من النعم؟ ومن الذي ذرأنا في الأرض؟ ثم ماذا بعد الدنيا ، وإلى أين تسير بنا الأقدار؟ هذه الأسئلة وأمثالها تؤكّد أنّ معرفة الخالق مسألة فطرية ملحّة عند كلّ إنسان ، وهي إن لم يجب عليها الإجابة السليمة فسوف يظل الإنسان حائرا لأنها

__________________

(١) الصحيفة السجادية الدعاء الأول.

(٢) موسوعة بحار الأنوار ج ٧٨ ص ٣٧٨.

(٣) المصدر ج ١٣ ص ٣٥١.

١٧٥

أسئلة مصيرية ترسم إجابة كلّ واحد عليها شخصيته (فكره وسلوكه وعلاقاته) كما تحدّد مستقبله.

وحيث أنّ القرآن متنزل من ربّ الإنسان الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه وذات صدره ، فإنّ آياته جاءت واقعية وشفاء لما في صدره ، وعلاجا لكلّ قضاياه ومسائله ، وإنّ هذه الآيات بحق تعبر عمّا في ضمير كلّ بشر وحاشا لله وهو الرحمن اللطيف بعباده أن يدعهم في حيرة من هذه الأسئلة الخطيرة فيضلون كفرا وشركا ، وهكذا قال ربنا سبحانه :

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

وليست الصدفة أو الطبيعة أو القوى المزعومة من دونه سبحانه ، والذرأ هنا بمعنى الخلق والنشر ، فإنّه تعالى خلقنا في الأرض ونشرنا في أقطارها ، قال الله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) (١) أي ممّا خلق وبث ، وقال : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) (٢) أي خلق ووزع ، وذرأ الحبوب في الأرض فرقها وبذرها. والحشر هو الجمع ، والسؤال : هل خلق الإنسان في الأرض ليعود إليها بعد الموت دون هدف ومسئولية؟ كلّا .. إنّما هي مرحلة في دورته الحياتية التي لا تنتهي ، فقبل أن يذرأ في الأرض في عالم الذر ، وبعد هذه الدنيا يبدأ رحلة إلى عالم البرزخ ثم عالم الحشر والجزاء حيث يلاقي مصيره الأبدي ، وما دامت بداية الإنسان من الله ونهايته إليه ومصيره بيده فما أحوجه أن يوظّف وجوده في هذه الأرض ونعم الله عليه من أجل حشر سعيد في الآخرة.

وما أعظم ذكر الآخرة والحشر في قلوب الصالحين ، وحسب ما يقول الإمام علي

__________________

(١) الانعام ١٣٦.

(٢) النحل ١٣.

١٧٦

ـ عليه السلام ـ : «ولو لا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين أبدا» (١) ، ولكنك ترى الضالين الذين حجبهم الكفر والشرك عن رؤية هذه الحقيقة يستهزءون بها فيذهبون فرصتهم الوحيدة في بحوث عقيمة تافهة ، فيتساءلون ـ مثلا ـ عن موعد الساعة.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

وأسئلة أخرى تافهة كقولهم : كيف يحي الله الموتى؟ وإنّك حين تدرس خلفياتها وأهدافها في نفوسهم تجد أنّهم لا يريدون بها معرفة الحقيقة ، إنّما مجرد الجدل والعناد. أو ليسوا يبحثون عن تبرير للتملص من مسئولية الالتزام بالحق ، واتباع القيادة الرسالية في الحياة ، والهرب من وخز الضمير ونداء الفطرة؟ إذن لا بد أن يكفروا بالآخرة لأنّ الإيمان بها قمة الشعور بالمسؤولية ، ولكن هل يغيّر إنكارهم للحقيقة الواقعية شيئا ، فلا تقع الساعة ويصبح الداعية إليها كاذبا لو كفروا بها؟ كلّا .. فلينكر أحد حقيقة الموت ، وليكذّب من يذكّره بها ، فهل يبقى خالدا إلى الأبد ويصير المذكّر كاذبا؟ وسؤال آخر : هل انّ عدم علم الإنسان بلحظة موته ـ مثلا ـ ينفي حقيقة الموت؟ فلما ذا يعتبر الجاحدون عدم إخبار الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ لهم بموعد الساعة دليلا على انتفائها وكذب المؤمنين بها؟

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ)

وهنا نتساءل : لماذا تأتي هذه الإجابة كلّما تحدّى الكفّار الرسول بالسؤال عن موعد الساعة ، أو ليس الأفضل أن يطلعه الله عليها فيجيبهم وينتصر عليهم في الجدال؟

__________________

(١) هكذا وصفهم إمام المتقين علي بن أبي طالب في الخطبة ١٩٣ من نهج البلاغة.

١٧٧

والجواب : هنا أسباب تكشف عن جانب من الحكمة الإلهية ، تبرّر عدم الإجابة على سؤالهم تبريرا موضوعيا واقعيا ، هي :

أوّلا : لأنّ من عظمة الساعة (ساعة الموت والقيامة) وأثرها في الإنسان يكمن في أنّها مستورة ، ممّا يدعوه لاجتناب الباطل واتباع الحق في كلّ لحظة من حياته خشية أن تحلّ به الساعة فيها فيلقى ربه على معصية. وإلّا لكان الناس يسترسلون في الباطل ويزعمون أنّهم سوف يتوبون قبل موتهم بساعة!

وقد أشار الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ إلى ذلك بقوله : «ثم (لو) عرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي ، وعمل على أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره ، وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله» (١)

ثانيا : أنّ الكافر الذي أركس في الغرور والعتو والنفور عن الحق لا يغيّر فيه إخبار أحد له بموعد الساعة ، بل لا يصدق أحدا لو أخبره ولو كان مصيبا ، لأنّ مشكلته أنّه لا يؤمن بالأساس وهو الساعة. فهب أنّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال له أنّك تموت بعد خمسين يوما ، أو أنّ الساعة تقع بعد ألف عام ، فهل يصبح من المتقين؟ كلا .. إذ أنّ سؤاله ليس بهدف معرفة الحق والتسليم له عند ظهوره ، إنّما لمجرد الجدال والمعاندة.

ثالثا : انّ الرسول وكل داعية إلى الحق ليس مسئولا أن يجاري الناس وبالذات الملحدين منهم في كل شيء ، ويجيب على كل سؤال ، فإنّ الأسئلة لا تنتهي ، ولو أنّه ينصب نفسه للرد والمجادلة فسوف يضيع الكثير من وقته وجهوده في أمور لا طائل منها ولا فائدة دون أن يصل إلى ما يريد ، وبالخصوص أنّ من بين

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٦ ص ٣٨.

١٧٨

الناس من هو بارع في صناعة السؤال والذي لا يهدف من ورائه إلّا الجدل الفارغ ، إنّما مسئولية المؤمن الرسالي إبلاغ رسالة الله إلى الناس بأمانة ووضوح.

(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

وتهدينا خاتمة الآية إلى حقيقتين في منهجية الدعوة السليمة إلى الله :

الأولى : أنّ على الفرد الرسالي التحرك وفق ما ترسمه له رسالته وتوحي به أهدافه في الحياة ، دون أن يلتفت كثيرا إلى ما يثيره الآخرون أعداء ومنافسين وجاهلين من إشكالات وأسئلة وملاحظات تافهة ، لأنّه لو التفت إلى ذلك فلن يصل إلى أهدافه.

الثانية : أنّ التواضع للحق مسألة مهمة في الدعوة ، فإذا سئل عمّا لا يعلم يجب أن يقول لا أعلم .. وإلّا أصيبت مقاتله كما يقول الإمام علي عليه السلام ، فليس العيب أن يعترف الإنسان بالجهل إنما العيب الكبير أن يقول ما لا يعلم. فهذا سيد البشر على عظمته يجيب وقد سئل عن الساعة التي لا يعلم ميعادها : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) وإنّما للحصر ، فليس من أحد يعلم بميقات وعد الله غيره ، ولا يكتفي القرآن بهذه الإجابة بل يضع الكافرين أمام آثاره المريعة عند ما يحين أجله فتساء وجوههم ، ويعلمون إلى حدّ اليقين حقّا بالآخرة وصدق الرسول ، ويشهدون وقوعه الرهيب ، يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً)

أي وقد اقترب منه الموت ، أو عند ما تظهر للناس علامات الساعة وآياتها كزلزلة الأرض ، هنالك يكتشفون فظاعة خطئهم ، فيتحسرون ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله في أنفسهم ، ولكنّ الأمر لا ينتهي عند هذا والحد إنّما تعلوهم آثار الهوان والعذاب حتى تظهر على وجوههم التي طالما صدّوا بها عن الحق.

١٧٩

(سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

أي أساءها شيء أو أحد كالملائكة الذين هم خزنة جهنم ، ولا ريب أنّ تلك الآثار التي تظهر على وجوههم يومئذ وتسوؤهم هي بأعمالهم السيئة وعقائدهم الخاطئة. قال في المنجد : ساء الأمر فلانا أحزنه ، أو فعل به ما يكرهه (١) وكذلك يصنع بالكافرين.

(وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ)

ولكلمة «تدّعون» في هذه الآية معنيان :

الأول : الادّعاء بمعنى الزعم والتكذيب ، أي تتحدثون بشأنه مما لم يكن في قلوبكم ، قال ابن عبّاس : أي تدّعون الأباطيل به ، ولا ريب أنّ الكافرون حينما كانوا يستعجلون وعد الله ما كان هدفهم البحث عن الحقيقة بل كان مجرد الإنكار والجدال ، ولعلّ في الآية إشارة إلى حقيقة واقعية وهي أنّ كثيرا من عقائد الكفّار ومواقفهم الضالة وهكذا أعمالهم السيئة كانت متأسسة على جحود الآخرة (وعد الله) ، فكأنّ إنكارها وسيلة مزاعمهم وادعاءاتهم.

الثاني : الادّعاء بمعنى المبالغة في الدعاء ، حيث يقال لهم من قبل الله أنّ هذه الساعة هي الوعد الذي كنتم تكفرون به ، وتطالبون مستعجلين وقوعه. ممّا يكشف عن مدى جحودهم واستبعادهم للساعة.

وهذا القيل وأمثاله عذاب نفسي إلى جانب العذاب المادي ، وقد يكون أشد أثرا منه ، لما ينطوي عليه من الاستهزاء والتبكيت وإثارة للحسرة في نفوسهم.

[٢٨] وبعد حديث الآخرة بأمر الله رسوله أن يبيّن للكافرين خاصة وللناس

__________________

(١) المنجد مادة ساء.

١٨٠