من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

برجا ، تطلع كلّ يوم من برج ، وتغيب في آخر ، فلا تعود إليه إلّا من قابل في ذلك اليوم (١).

وعن ابن عبّاس قال : «للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه ، ومغرب تغرب فيه ، غير مطلعها وغير مغربها بالأمس» (٢).

والعلاقة واضحة بين إشارة الله إلى آية المشارق والمغارب الكونية ، وبين تأكيده على أنّه قادر على التبديل ، ذلك أنّ تبدّل المشارق والمغارب اليومي ـ هذه الحركة الكونية ـ آية من آيات قدرته تعالى على التبديل ، وأنّ الخلق والأمر إليه ؛ بحيث لو أراد الردّ على تحدي الكفّار بإنزال عذابه لفعل فأهلكهم ، وأتى بغيرهم خيرا منهم ، لا يعجزه شيء أبدا.

والسؤال الثاني : لماذا قال ربنا : «خيرا منهم»؟ لعل الجواب : أنّ سنّة هلاك الأمم الغابرة قائمة على أساس أنّ الأمّة الناشئة البديلة تكون أفضل لقربها من فطرة الخلق ، وعدم تلوّثها بعوامل الفساد والزيغ. لقد أهلك الله قوم نوح ، وطهرت الأرض جميعا من فسادهم وزيفهم ، وأنشأ من بعدهم قوما صالحين (هم ذرية الناجين في السفينة) ، ثم أهلك فرعون وقومه واستعمر بلادهم بنو إسرائيل ، وكانوا أمّة مؤمنة .. وهكذا لا يكون خلق الله إلّا صالحا ، كما قال ربنا سبحانه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)

أي لا يسبقنا شيء ، ولا يعجزنا أحد ، ولم نمارس في أمر الخلق لغوبا ولا

__________________

(١) الإحتجاج / ج ٢ ـ ص ٢٥٩.

(٢) الدر المنثور / ج ٦ ـ ص ٢٦٧.

٣٨١

علاجا ، ولا تعلّمنا التجربة من أحد أو احتجنا إلى شريك أو معين ، سبحان الله .. وإنّما تقتضي حكمته الإمهال. قال شيخ الطائفة مشيرا إلى هذا المقطع من الآية : وقوله : «الآية» عطف على جواب القسم ، ومعناه أنّ هؤلاء الكفّار لا يفوتون بأن يتقدموا على وجه يمنع من إلحاق العذاب بهم ، فلم يكونوا سابقين ، ولا العقاب مسبوقا منهم ، والتقدير : وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إيّاهم (١). ويستشفّ من الكلمة معنى الغلبة لأنّ من دخل السباق وسبق فهو مغلوب ، وتعالى الله أن يغلبه أحد وهو القادر على كل شيء (٢).

وفي الآية (نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) اختلاف في كيفية الإبدال ، فقيل : بالإهلاك وذلك بأن يهلكهم الله ويخلق غيرهم ، وقيل : بأنّه تعالى يبدّل الرسول عنهم ـ وهم المكذّبون المهطعون عن اليمين وعن الشمال عزين رافضين لرسالته ـ يبدّلهم بآخرين قبله يطيعونه ويصدّقون بدعوته. والاثنان صحيحان.

ثم يشير تعالى إلى حقيقة أساسية وهي : أنّ الدنيا وإن كانت تتجلّى فيها سنّة الجزاء إلّا أنّه ليس ضروريّا أن يجازي الله فيها كلّ أحد ، والسبب أنّها دار الابتلاء ، أمّا دار الجزاء فهي الآخرة ، وإنهم ـ أي الكفّار ـ لن يفوتوه ، بل سيلاقون جزاءهم يوم القيامة.

(فَذَرْهُمْ)

في الدنيا.

(يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ـ ص ١٢٩.

(٢) لقد مرّ بيانه في سورة النجم ومواضع أخرى لمعنى (لا أقسم) فراجع.

٣٨٢

فيذهبوا بكلّ خلاقهم ، ويتمادوا في الذنوب حتى يأتوا في الآخرة لا خلاق لهم ، وقد فعلوا ما يستحقّون به المزيد من العقاب والعذاب ، فإنّ فرصتهم أنّى بدت طويلة فهي محدودة بالدنيا.

(حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)

يعني يوم الجزاء عند ما يلاقون الإذلال والعذاب. ومن مصاديقه يوم يتوفّاهم الله.  أوليس إذا مات ابن آدم قامت قيامته؟ أوليس الموت يضع حدّا لخوضهم ولعبهم؟

وأصل الخوض دخول الماء ، يقال : خاض بالفرس إذا أورده الماء ، والغمرات اقتحمها ، وكذا المهالك (١) ، ولعلّه الدخول في الشيء بالكامل ، وخوض الكافرين هو دخولهم في الذنوب واتباعهم الأهواء والشهوات مسترسلين بلا ضوابط أو حدود. واللعب كل ما يقدم عليه الإنسان بأهداف شهوانية تافهة. وقول الله تعالى : «فذرهم» هو تحديد لموقف الرسول ومن يتبعه تجاه الفريق المذكور من الكافرين ، ولا يعني ذلك أن يعتزل الرساليون ساحة الجهاد والعمل في سبيل الله ، بلى. إنّهم من الناحية الدينية العقائدية ليسوا مسئولين عن دعوتهم لقبول الحق والإيمان بالآخرة عن طريق الجبر ، بل يتركونهم فالخيار لهم ، كما لا ينبغي أن يذهبوا أنفسهم حسرات على عدم إيمانهم واختيارهم طريق النار. هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجب أن لا تدعوهم تحديات الأعداء واستفزازاتهم إلى التعجّل بردّات الفعل غير المدروسة ، وإنّما يجب أن يصبروا صبرا جميلا ، في الوقت الذي يواصلون فيه مسيرة الجهاد ، حسبما يوحي إليه السياق العام لهذه السورة الكريمة.

__________________

(١) المنجد مادة خوض بتصرف.

٣٨٣

[٤٣ ـ ٤٤] ويبيّن القرآن صفات اليوم الذي يوعد الكافرون وأعداء الله ، مصوّرا مشاهد منه ، تبعث في القلوب رهبة وتدعوا الإنسان إلى التفكير في اتّقاء سوء عذابه.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً)

بإرادة الله ، فإذا بجسد الإنسان تتصل به روحه ، ويصير بشرا سويّا واعيا في ساعات معدودة ، «سراعا» بحيث لا يحتاج الأمر أن يمرّ كلّ واحد بمراحل خلقه الاولى .. نطفة فعلقة فمضغة .. إلخ. والجدث هو القبر. وإنّ الكافرين الذين تنكّبوا عن الصراط ورفضوا دعوة الله عن طريق رسله في الدنيا لا يملكون يومئذ حيلة ولا قدرة للصدّ عن دعوة الحق ، بل يجيبون دعوة الداعي مسرعين.

(كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)

أي يعدون ويسرعون. وللنصب معان :

الأول : العلامات ، فكلّ ما نصب وجعل علما وعلامة فهو «نصب» وما أشبه إسراعهم يومئذ بإسراع الضائع في الصحراء حينما يقع بصره على العلامات الهادية إلى الطريق!

الثاني : الأصنام ، جاء في المنجد : الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله (١) ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢).

__________________

(١) المصدر / مادة نصب.

(٢) المائدة / ٩٠.

٣٨٤

قال صاحب التبيان : شبّههم في إسراعهم من قبورهم إلى أرض المحشر بمن نصب له علم أو صنم يستبقون إليه (١) ، وقال الفخر الرازي مثله : كما كانوا يستبقون أنصابهم (٢).

الثالث : قصب السبق الذي ينصب حدّا لميدان السباق أو علامة لمعرفة السابق من المسبوق ، وكأنّ أهل النار يومئذ يسرعون سرعة المتسابق الذي يسعى للوصول قبل غيره من المنافسين.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ)

فالموقف منعكس عليهم من الناحية المادية حيث يعلوهم الوجوم ، ولا يرتدّ إليهم الطرف ، وترجف أطرافهم من شدّة الموقف .. ومن الناحية المعنوية أيضا حيث يشملهم الصغار والذل.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ـ ص ١٢٩.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ١٣٣.

٣٨٥
٣٨٦

سورة نوح

٣٨٧
٣٨٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «من كان يؤمن بالله ويقرأ كتابه لا يدع قراءة سورة (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه الله تعالى مساكن الأبرار ، وأعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله ، وزوجه مائتي حوراء ، وأربعة آلاف ثيّب إن شاء الله»

تفسير الثقلين ج ٥ ص ٤٢٠

٣٨٩

الإطار العام

في الوقت الذي تبين هذه الآيات من السورة الملامح العامة لرسالة نوح (ع) ومن خلالها للرسالات الالهية جميعا (الآيات ١) كما تشير الى قصته مع قومه والتي انتهت بهلاكهم غرقا بالطوفان (الآيات ٥) ، فإن محورها الأساسي كما يبدو ليس ذلك وانما هو التركيز على أن نوحا ـ عليه السلام ـ ضرب مثلا رائعا للمعاناة في سبيل الله ، والاستقامة على نهج الرسالة رغم التحديات الخطيرة المتمادية ، حيث بقي ـ سلام الله عليه ـ (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (١) يكابد مرارة نفور قومه الذين أصروا على الباطل ، واستكبروا عن الحق ، ومكروا مكرا كبّارا ، لا ينثني عن أهدافه ، ولا يتراجع عن نهجه ، وتلك الاستقامة درس عظيم لنا ، لأنها كانت من الثوابت التي لا تقبل التغيير .. بلى. كان يغيّر من أساليبه فمرّة يدعو جهارا ، وأخرى إعلانا ، وثالثة إسرارا ، لا يدخله ادنى شك في الحق الذي بين يديه بسبب تكذيب قومه ، والبشرية يومئذ معارضة لدعوته ، ولا

__________________

(١) العنكبوت / ١٤

٣٩٠

بسبب تأخر نصر الله عنه ، وانما كان على عكس قومه تماما ، يزداد مضيّا على الحق ، وتسليما لأمر ربه ، ويقينا بنصره.

إن العناد المقدس الذي اتصف به نوح (ع) جعله رمز الرساليين (دعاة وقادة) عبر التاريخ ، ومن ثم واحدا من أولي العزم من الرسل ، وأيّ عزم ذاك الذي واجه به عناد البشرية كلها .. فلله درك يا شيخ المرسلين! ولعمري انك لاية العزم والاستقامة!

٣٩١
٣٩٢

سورة نوح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ

٣٩٣

لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ

___________________

٢٣ [ودّا] : صنم اتخذه قضاعة فعبدوه بدومة الجندل ، ثم توارثوه حتى صار الى كلب حتى جاء الإسلام وهو عندهم ، قال الواقدي : كان ودّا على صورة رجل.

[سواعا] : كان صنما لآل ذي الكلاع ، وقيل : هو صنم لهذيل برهاط ، وقال الواقدي : ان سواعا على صورة امرأة.

[يغوث] : كان يعبده بطنان من طيّ ، فذهبوا الى مراد فعبدوه زمانا ، ثم ان بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم ففروا به الى بني الحرث بن كعب ، وقيل : إن يغوث كان لبني غطيف من مراد ، وقال الواقدي : كان يغوث على صورة أسد.

٣٩٤

وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

___________________

[يعوق] : صنم لكهلان ثم توارثوه حتى صار إلى همدان وقال الواقدي : انه على صورة فرس.

[نسرا] : صنم لخثعم ، وقيل لآل ذي الكلاع من حمير ، وعن الواقدي : أنه على صورة نسر من الطير.

٢٦ [ديارا] : ديار من فيعال ، من الدوران ، ونحوه القيام ، والأصل : قيوام وديوار ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت إحداهما في الأخرى ، قال الزجاج : يقال : ما بالدار ديار : أي ما بها أحد يدور في الأرض ، وقال الراغب : أنه الساكن.

٣٩٥

أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ

بينات من الآيات :

[١] ان اتباع الحق ضرورة حياتية ليس في الأفق المعنوي (الروحي والعلمي) وحسب ، وإنما في الواقع المادي أيضا ، وهذه الحقيقة أعظم تجليا في حياة المجتمع منها في حياة الفرد ، والذي يستقرئ تاريخ البشرية يجد شواهدها ماثلة في الأمم الغابرة ، وهكذا حينما ينظر الى الحياة من حوله.

وحيث تسير البشرية بأقدام الضلال والفساد الى هاوية العذاب الأليم ونهاية الهلاك بين الحين والآخر يعطف الرب عليها بلطفه ورحمته فيبعث الأنبياء برسالاته لإنقاذها قبل أن تحين ساعة الصفر ، وذلك من أظهر آيات رحمته ، والتي تتجلى في الرسالات والرسل الذين هم قمّة الرحمة الإلهية للناس.

ولقد انحرف قوم نوح (ع) وكان الخط البياني لمسيرتهم يتجه نحو الموت الجماعي ، ولكن الله الرحمن الرحيم ابى إلّا أن يرسل إليهم رسولا منهم رأفة بهم ،

٣٩٦

وإقامة للحجة عليهم ، وإمضاء لسنته في خلقه ، إذ ما كان الله معذّبا قوما حتى يبعث فيهم رسولا ، وعلى هذا الأساس ولهذه الأهداف جاء نوح يحمل رسالة الإنذار الى قومه.

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ)

وقومه يومئذ كل البشر الذين عددهم على بعض الأقوال (٧٠٠) ألفا ، ونهتدي الى ذلك من طبيعة العذاب إذ عم الأرض كلها طوفانه ، وفي الحديث عن الامام الباقر (ع) قال : «كان بين آدم ونوح عشرة آباء كلهم أنبياء ، وإن الأنبياء بعثوا خاصة وعامة ، فأما نوح فانه أرسل الى من في الأرض بنبوة عامة ، ورسالة عامة» (١) .. وفي الأخبار ان اسمه ليس «نوحا» (٢) ، بل «سكن» عن الامام علي (ع) (٣) وقيل «عبد الأعلى وعبد الملك» عن الإمام الصادق (٤) «وانما سمّي نوحا لأنه ناح على قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما» (٥) كما قال أمير المؤمنين (ع) للشامي ، وفي معاني الاخبار : «معنى نوح أنّه كان ينوح على نفسه ، وبكى خمسمائة عام ، ونحى نفسه عما كان فيه قومه من الضلال» (٦) وقال الصادق (ع) عن النبي : «عاش نوح ألفي سنة وأربعمائة وخمسين سنة» (٧) ، وعنه قال : «كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة ، ثلاثمائة سنة» (٨)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٢١ نقلا عن كمال الدين وتمام النعمة

(٢) راجع موسوعة بحار الأنوار ج ١١ ص ٢٨٦ / ٢٨٧

(٣) المصدر ص ٢٨٦

(٤) المصدر ص ٢٨٧

(٥) المصدر ص ٢٨٦

(٦) المصدر ص ٢٨٧

(٧) المصدر ص ٢٩٠

(٨) المصدر ص ٢٨٩

٣٩٧

والآية تشير الى ان الأمم تسير عبر دورة حضارية ، ففي البدء يكونون على فطرة الإيمان والاستقامة ثم ينحرفون ، وعند منعطف خطير من حياتهم وبالضبط عند الانحدار القاتل يبعث الرسل والمصلحون لكي يوقفوا مسيرة السقوط ، ولذلك يبدأ الأنبياء في الغالب بالإنذار باعتبارهم يرسلون الى قوم ضلوا وانحرفوا ليحذرونهم مغبة استمرارهم في الضلال.

(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

لأن العذاب لا يأتي من الفراغ ، بل هو سنّة إلهية وقانون تكويني له أسبابه ومبرراته التي يستطيع الإنسان بإزالتها تلافيه والنجاة منه ، ولهذا فان الاستجابة للإنذار تنفع ما دام العذاب لم يحن أجله ، حيث الفرصة لا تزال قائمة ، يمكن فيها الإصلاح والتغيير.

ومعرفتنا بخلفيات انبعاث الرسل في الأمم المختلفة وأهدافهم .. وبالذات انهم ينهضون للتغيير ويتصدون لقيادة الإصلاح حينما تتردى أوضاع المجتمعات وتسير الى العذاب إنّ ذلك يحملنا بالتأكيد مسئولية التصدي للتغيير إذا كنا نريد اتباع الأنبياء ومواصلة مسيرتهم ، وإذا كنا نريد للناس الخير والصلاح. بلى. ان النبوة سمة غيبية يختص بها الله من يشاء من عباده ، ولكن الرسالة أمانة ومسئولية يمكن لأي إنسان ان يرتفع الى مستوى حملها والتصدي لها ، فيكون قائدا رساليا بالتزام الحق ، واتباع النهج الإلهي الذي مشى على هداه الأنبياء والرسل عليهم السلام.

[٢ ـ ٤] إنّ أحدا لا يستطيع أن يدعي العصمة ، أو حضور جبرئيل عنده ، ولا حتى بلوغ درجة الأنبياء ، ولكن يستطيع أن يحمل رسالة الله الى قومه ، إذن فللرسالة وجهان : وجه خاص يتفرد به من اصطفاهم لوحيه مباشرة ، ووجه عام يتسع لاتباعهم والسائرين على نهجهم وخطاهم ، فما هو نهج الأنبياء في ضلوعهم

٣٩٨

بدورهم الخطير؟ إن حديث القرآن في هذه السورة يبيّن لنا الخطوط العامة للنهج الذي تلتقي عليه كل الرسالات والزعامات الإلهية ، وذلك بعرض قصة نوح عليه السلام.

اولا : التصدي لقيادة التغيير :

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)

ان نوحا لم ينظر للأوضاع نظرة لا أباليّة ـ كما هو شأن الكثير من الناس الذين لا يهمّهم سوى أنفسهم ومصالحهم ـ إنّما تحسس الانحراف بكل أبعاده (الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والاخلاقية) ولم ينتظر من الأقدار ان تغيّر أحوال الناس ، ولم يلق بالمسؤولية على غيره ، بل كان متيقّنا بأن الواقع رهن إرادة الإنسان ذاته ، ولا يتغير سلبا أو إيجابا إلّا تبعا لتغييره ما بنفسه ، فبدأ بتغيير ذاته وانطلق منها لإصلاح المجتمع ، متحملا من أجل ذلك كامل المسؤولية ، ومتحديا كل العقبات والضغوط مع إصرار على إبلاغ الرسالة ، والاستقامة في طريق ذات الشوكة.

ومن هنا طرح نفسه كقائد ورمز للتغيير ، وقبلها بالعمل الدؤوب المبرمج ، والمخلص لوجه الله. اعتقادا منه بأن القيادة أمانة ومسئولية قبل ان تكون منصبا وشهرة ، وعملا وتحدّيا ، فكان أول طريقه مصارحة المجتمع بالحقيقة ، وتوجيهه الى وجود الانحراف ، باعتبار أن وضع اليد على الداء ، والقناعة بأصل الخطأ أول خطوة في طريق الإصلاح ، فإن الأمّة التي يأخذها الغرور ، ولا تنتهج النقد الذاتي تبقى إلى الأبد في انحرافها وأخطائها وتخلفها.

ولم يكن نوح عند ما طرح نفسه جاهلا بمدى التحديات التي سيواجهها ، ولكنه

٣٩٩

تحمل ذلك استجابة للمسؤولية الإلهية ، إذ أمره الله بإنذار قومه ، وإذ يدعوه ضميره الى القيام بذلك الدور الحضاري الهام ، وحيث نهض ينذر قومه اعتمد الأسلوب الواضح والبليغ ، إيمانا منه بأن حقانية الدعوة وحدها لا تكفي بل لا بد حتى يستجيب الناس لها ان يكون الإنذار بها بيّنا ، يمتاز به الحق عن الباطل وتقوم الحجة ، وقد اعطى ذلك بصيرة واضحة لمن قد يطلع على عاقبة قومه بان عدم استجابتهم لم يكن بسبب الغموض في البيان ، ومن ثم فإنهم لا يستحقون ما حل بساحتهم من العذاب.

ومن تكرار كلمة القوم ثلاث مرات في هاتين الآيتين الى قومه ، انذر قومك ، يا قوم» نهتدي إلى فكرة مهمة وهي : أن الإنسان الفرد مسئول عن قومه ومجتمعة ، كما أنهم مسئولون عنه ، ولا يجوز لأحد أن يعيش فردا لا يبالي بغيره ، وأنّ الفرد قادر على الخروج عن سياق المجتمع الفاسد وتحدي الانحراف ، وأنّ نوحا بوقفته الرسالية الشجاعة لآية على بطلان حتمية التوافق الاجتماعي.

ثانيا : تشخيص أسس الواقع المنحرف وطرح البدائل الصالحة :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ)

وبهذه الجملة حدد نوح عليه السلام معالم النظام القائم والنظام البديل معا (ثقافيا واجتماعيا وسياسيا) فإن الآية تهدينا إلى البصائر التالية : الاولى : الى انحراف المجتمع (كفرا وشركا وفسادا) ومشكلة الإنسان (فردا ومجتمعا) ليست الجهل بالخالق من الأساس ، بل هي في الدرجة الأولى عدم الخضوع لإرادته ، وتلقي القيم من لدنه ، ولقد كان مجتمع النبي نوح (ع) متورطا بالفعل في الوثنية والشرك بتصريح الآية الكريمة : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وما أكثر ما يؤدي اليه الانحراف المبدئي عن عبادة الله والتوحيد من تعويق

٤٠٠