من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

ونسفها.

(وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)

لأنّه تعالى قدير ، فهو ليس كما نحن البشر عاجزا أو محدود القدرة ، بل هو صاحب المشيئة التامّة فلا شيء يمتنع عنه أو يصعب عليه. وقد نتلمّس في الآية إشارة إلى أنّ الكفّار زعموا لله مجموعة من الصفات البشرية التي تجعله عاجزا عن بعث الناس بعد الموت في فكرهم ، وذلك امتداد لتصوراتهم ومقاييسهم البشرية التي دعتهم للكفر والتولي عن بيّنات الله ورسله.

[٨] ولكي يتجنّب الناس وبال الأمر في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة ، ويفوزوا الفوز العظيم ، يرسم القرآن المعالم الأساسية لطريق النجاة والفوز. إنّه في الإيمان بالله ورسوله والنور المنزل من عنده.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)

الإيمان بالله هو الأصل ولكنّه لا يكتمل إلّا بالتسليم لرسوله حتى تتحوّل الرسالة الإلهية إلى واقع حضاري بالانتظام تحت راية القيادة الرسالية ، ولا بد أن تصير واقعا تفصيليّا يضع لمساته على جوانب حياته ومفرداتها المختلفة ، وبعبارة : إنّ الإيمان بالله والرسول ليس عقيدة مجرّدة في القلب ، ولا مظاهر وطقوس فقط ، إنّما هو منهج حياة يجب على الإنسان (فردا وأمّة) ان يلتزم به.

(وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا)

والقرآن نور لأنّه يخرج الإنسان من ظلمات الجهل والكفر ، ويثير دفائن عقله ، وينمّي بواعث الخير في وجدانه ، ويرسم له مناهج الحياة. واي نور أعظم من حبل الله وكتابه الذي يوصل البشرية بالله «نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»؟!

٢١

ولقد مضى القول في سورة النور وفي الصف عن أنّ القيادة الرسالية هي الأخرى مظهر وتجل لنور الله ، لأنّها صورة ناطقة لكتاب الله ومثل أعلى لرسالاته ، وإنّ اتباعها ينير للإنسان دروب الحياة الفرعية المتداخلة ، ومن هنا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ : «لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار» (١).

والإسلام الأصيل لا يرى الإيمان مجرّد الإعتقاد (بالله وبالرسول وبالنور) ، إنّما الإيمان تسليم لله ، واتباع للرسول ، وتطبيق للكتاب ، وبعبارة : الإيمان هو العمل المستمر والمتقن والمخلص الذي يستمد جذوره من اليقين التام بهيمنة الله عزّ وجل ، وهذا ما نفهمه من النصوص الدينية ومن قوله سبحانه في هذه الآية :

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

فالمؤمن يقرأ في هذه الخاتمة أنّ عليه الاستمرار في الإيمان والعمل به ، وأن يخلص فيه لوجهه تعالى ، بل ويتقن أداءه ، لأنّه في حضرة خالقه الذي لا يمكنه خداعه أو التدليس عليه ، فهو الخبير بأعمال الإنسان بأشمل وألطف ممّا عند الإنسان نفسه.

وكلمة أخيرة : كما أنّ الرسالة نور وأنّ الرسول نور فإنّ من يحمل رسالة الرسول اليوم ويكون امتدادا لقيادته الربّانية ونائبا عن خلفائه الأمناء ـ عليهم السلام ـ فإنّه هو الآخر نور. أوليس داعيا إلى الله؟ أوليس يحمل رسالات ربه إلى العباد؟ كذلك كان علماء أمة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ كأنبياء بني إسرائيل. أو ليسوا هم خلفاء الرسول؟ وكذلك نقرأ في حديث النبي يعظ سلمان المحمّدي : «يا سلمان .. وإنّ أكرم العباد إلى الله بعد الأنبياء العلماء ، ثم حملة القرآن ، يخرجون من الدنيا كما يخرج الأنبياء ، ويحشرون من قبورهم مع الأنبياء ، ويمرّون

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٤١

٢٢

على الصراط مع الأنبياء ، ويأخذون ثواب الأنبياء ، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن ممّا لهم عند الله من الكرامة والشرف» (١).

[٩] وتأكيد الله على ضرورة الإيمان به وبرسوله وبنوره المنزل باعتبار ذلك هو طريق النجاة يوم القيامة.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ)

أي يجمع أوصالكم التي تفرّقت بعد الموت ويجمعكم إلى بعضكم مؤمنين وكافرين ، وكذلك يجمع الناس مع الرسل ليشهدوا عليهم ، وسمّيت القيامة بيوم الجمع وفي مواضع أخرى بيوم الحشر لأنّها اليوم الذي تجتمع فيه البشرية كلّها من آدم حتى آخر مولود آدمي.

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ)

ماذا يعني التغابن ، ولماذا سمّي يوم القيامة بيوم التغابن؟

الجواب : إنّ الغبن في البيع أو الشراء هو ظهور الخديعة والغلبة ، غبن فلانا نقّصه في الثمن وغيره ، فهو غابن وذاك مغبون (٢) ، والتغابن من التفاعل أي أنّ كل فرد أو طرف يسعى لإيقاع الغبن بالآخر ، وسمّيت الآخرة بذلك لأمور أهمها :

١ ـ إن لكلّ إنسان خلقه الله منزلين في الآخرة ، أحدهما في الجنة والآخر في النار ، فإذا أفلح أن يكون أهلا للجنة ملك قصوره فيها وورث أهل النار منزله فيها ، كما يرث منازل أهل النار التي كانت لهم في الجنة ، وذلك قوله تعالى :

__________________

(١) بح / ج ٩٢ ص ١٨

(٢) المنجد / مادة غبن بتصرف

٢٣

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١) ، ويومئذ يظهر الغبن لدى أهل النار بخسرانهم الجنة ووقوعهم في الخسارة العظمى بدخول جهنم ، ولأنّ المؤمنين يرثون منازلهم في الجنة فكأنّهم أوقعوا بهم الغبن.

٢ ـ إنّ المؤمنين والكافرين في صراع وتحدّ دائمين ، وكلّ فريق يحاول إيقاع الخسارة بالطرف الآخر عبر الإنتصار عليه أو تحطيمه ، وحيث أنّ الدنيا دار الابتلاء لكلا الفريقين فهي للكافرين على المؤمنين تارة ، وتارة للمؤمنين على الكافرين ، والغبن فيها نسبي محدود ، أمّا في الآخرة وهي دار الخلود فإنّها المصداق الأعظم للتغابن ، فالغابن فيها غابن حقّا ، والمغبون فيها خاسر بتمام المعنى. صحيح أنّ أساس الغبن في الدنيا ، لأنّ الدنيا هي دار العمل ، ولكنّ ظهوره لا يكون إلّا في الآخرة ولا يسمّى الغبن غبنا إلّا بعد أن يظهر للناس جليّا.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً)

أي يترجم إيمانه إلى العمل فإنّ الإيمان الحقيقي بالله أصل كلّ خير والباعث على كلّ صلاح.

(يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ)

أي الخطايا الجانبية.

(وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

وهذا مصير الطرف الغابن. وفي الآية إشارة إلى أحد معاني الشفاعة وهي أن

__________________

(١) المؤمنون / ١٠ ـ ١١

٢٤

تكون لدى الإنسان حسنات كبيرة تذهب بالسيئات الصغيرة.

[١٠] وفي نهاية الدرس الأوّل من سورة التغابن يضع القرآن بين أيدينا صورة للفريق المغبون ، وأيّ غبن وخسارة أعظم من الخلود في عذاب النار؟!!

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

إنّ السبيل إلى الفوز كان في الإيمان بالله الذي بيده مصائر الناس ، وفي اتباع رسله والقيادات الرسالية ، وفي العمل بمنهج الفوز الذي تنطوي عليه آيات القرآن ، وقد نبذوها وراء ظهورهم فصاروا إلى الخسران.

٢٥

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

٢٦

إنّما أموالكم وأولادكم فتنة

هدى من الآيات :

كيف نتجنّب الغبن في يوم التغابن؟

١ ـ لنعلم أوّلا : أنّ المصائب أقدار إلهية ، وبالإيمان يهتدي الإنسان كيف يتحصّن ضدّها أو يتعامل معها دون أن ينهار.

٢ ـ الطاعة لله والرسول ، والتوكّل على الله لمقاومة ضغوط الشهوات ونوائب الدهر.

٣ ـ الحذر من الأزواج والأولاد ، لأنّ فيهم من هو عدو لنا ، ثم العفو عما تبدو منهم من إساءة ، ولنعلم أنّهم فتنة ، فلنقاوم الفتنة بابتغاء ما عند الله من أجر عظيم.

٤ ـ التقوى حسب المستطاع ، والطاعة للقيادة ، ومواجهة شحّ النفس بأداء

٢٧

الحقوق.

٥ ـ القروض الواجبة والإنفاق المستحب.

بينات من الآيات :

[١١] ليس من تغيّر خيرا كان أو شرا إلّا ويمرّ عبر تدبير الله وإذنه.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

لأنّه تعالى الذي يمدّ كلّ شيء بنور الوجود والاستمرار ، ولأنّه الذي وضع السنن في الخليقة ويجريها بسلطانه وليست من مصيبة إلّا في سياق تلك السنن ، وله الإرادة غير المحدودة بأن يفعل ما يشاء ويغيّر ما يريد. وما دامت المصائب تكون بإذنه تعالى وهو الحميد العادل الحكيم فلن تكون بلا سبب ومن دون حكمة ، بلى. ومن حكمته ولطفه أنّه بيّن في كتابه كيف يتخلّص الإنسان من المصيبة ، ولكن أنّى للإنسان أن يستفيد من كتابه دون أن يؤمن به؟!

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)

ولهداية القلب هنا معان أبرزها :

١ ـ إنّ الإيمان بالله ، وبالتالي معرفة أنّه الفعّال لما يشاء ، وأنّه المهيمن على العالم ، وأنّه لا تقع مصيبة إلّا بإذنه ، معرفة هذه الحقائق جميعا تجعل الإنسان يسمو إلى سماء التسليم لله عزّ وجلّ ، ممّا يجعله قادرا على الاستقامة في طريق الحق رغم التحديات والمشاكل. وتقديم هذا البيان هو تمهيد للأمر القادم بطاعة القيادة الرسالية حيث يواجه المؤمنون في هذا الطريق ألوان الفتن والمصائب ، وإذا كانت المصائب تسبّب للكثير الانحراف عن سواء السبيل فهي لا تزيد المؤمن إلّا إيمانا

٢٨

وتسليما.

المؤمن كما الذهب يزداد صفاء كلّما تعرّض لفتنة النار ، وإنّ إيمانه بالله ليزيده صلة بربه عند المصائب ، لأنّه يعلم بأنّها لا تقع إلّا بإذنه ولا تزول إلّا بإذنه ، وأنّ خير وسيلة لتحدّيها هو المزيد من الاتصال به والتقرّب إليه ، بل يزداد إحساسه بالحاجة إلى الله وضرورة الاستعانة به ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١).

٢ ـ وكما أنّ الإيمان معراج الروح إلى التسليم فهو معراج الفكر إلى الصواب ، فإنّ المصيبة تفقد أكثر الناس توازنهم النفسي لما تحمله من الضغوط ، فتزرع فيهم اليأس من التغيير ، وقد تشلّ عقولهم عن التفكر ، ولكنّ المؤمن يقف أمامها كالجبل الأشم لا تخرجه عن طوره ، وهذا يبقيه مهتديا ، وقادرا على الوصول إلى الصواب حتى في ظروف المصيبة ، بل إنّها تصبح مدخله لكثير من المعارف ، فالمرض يدفعه لمعرفة سنن الله في جسم الإنسان ، وطغيان الظلمة يجعله يعرف سنن الله في المجتمع ، وهكذا ..

٣ ـ أضف إلى ذلك أنّه يجد الحل للمصيبة والموقف السليم منها نتيجة الإيمان ، فالإيمان بالله أكثر من مجرّد الإعتقاد. إنّه منهجيّة حياة شاملة ، والمؤمن عند المصيبة يتذكّر بأنّ الله حكيم لا يفعل شيئا إلّا لسبب فيبحث عن ذلك السبب ، ويتذكّر أنّ الإنسان بأعماله هو السبب الرئيسي لكلّ ما يجري عليه ، تسليما لقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٢) ثم يسعى للتغيير ايمانا بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣) ،

__________________

(١) البقرة / ١٥٦

(٢) الشورى / ٣٠

(٣) الرعد / ١١

٢٩

ويستعين بالله بكلّ ما يستطيع من دعاء وصدقة ، لإيمانه بأنّه على كلّ شيء قدير ، وأنّه يمحو ما يشاء ويثبت ، ولأنّه قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، فالمصيبة إذن تتحوّل عند المؤمن إلى عمل بمناهج الله ، وبالتالي الوصول إلى الحل ، وذلك من مصاديق الهداية.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

وهذه الخاتمة تبني روح التسليم لقضاء الله عند كلّ مؤمن ، حيث تؤكّد له أنّ إذن الله وتدبيره متأسس على علمه ، فهو لحكمة يعرفها ، ولأسباب أحاط بها.

ونجد في الآية التفاتة لطيفة تتصل بنظرية الجبر التي عالجها كثير من المفسّرين عند هذه الآية ، فقد زعم البعض بأنّ الإنسان ليس له اختيار في الحياة ما دام الله هو الذي يقدّر شؤونها ـ كالمصائب ـ ويجريها كيف يشاء! ولكنّ القرآن يحل هذه الإشكالية باختصار وبأسلوب بليغ حيث يؤكّد دور الإنسان في صنع واقعه ومصيره بالقول : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ). إذن فالهداية التي هي من عند الله لا تحصل إلّا بعد إيمان الإنسان نفسه بالله ، وعلى هذه السنة تمضي الحياة بخيرها وشرها ، بأفراحها وأحزانها ، كما أننا نستطيع أن نفسّر كل الحوادث بهذه البصيرة.

وسؤال أخير في الآية : لماذا قال ربنا : «يَهْدِ قَلْبَهُ» ولم يقل : يهديه ، كما في كثير من الآيات الأخرى؟

والجواب : أوّلا : لبيان أنّ صلاح الإنسان وفساده (هدايته وضلاله) كلّ ذلك متصل بما ينطوي عليه قلبه من الأفكار والمعتقدات ، وبالتالي فإنّ التغيير الحقيقي والجذري يتمّ بتغيير القلب.

__________________

(١) غافر / ٦٠

٣٠

ثانيا : لبيان شمولية الهداية فهداية الله لقلب المؤمن تجعله خالصا من كلّ انحراف وضلالة ، فإنّ القلوب قد تكون مزيجا من الحقّ والباطل إلّا قلب المؤمن حيث يصفو للحقّ دون الباطل وللهدى دون الضلال ، أي أنّ الإيمان صنو لهداية القلب حيث يقوده إلى سائر الحقائق ، ويبصّره في جميع أبعاده وجوانب الحياة ، وكلّما زاد إيمان أحد زاد هدى قلبه.

[١٢] وأعظم مصيبة تصيب البشر هي التخلّف في الدنيا ودخول النار والتعرّض لسخط الله في الآخرة ، ولكي يتجنّبها الإنسان يجب أن يطيع الله ، ويتبع القيادة الشرعية ، ويعمل بمناهج الحق التي بلّغها الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ وفصّلها أئمة الهدى والعلماء الصالحون. وهكذا يوصل القرآن حقيقة الإيمان بالله وبالآخرة بحقيقة الإيمان بالرسول (القيادة الإلهية). ولقد مهّد السياق للحديث عن طاعة القيادة بما تضمّنته الآية السالفة من بيان عن المصاعب ، وانطوت عليه من دعوة للتسليم لله فيها ، لأنّ الطاعة لله واتباع القيادة الرسالية التي تنشد التغيير سوف يتسبب بلا شك في كثير من المشاكل والضغوط التي ينبغي تحدّيها بروح التسليم لله عزّ وجل ، ولكنّها تقضي على مشاكل أكبر بصورة جذرية.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)

ونقف هنا عند تعبير القرآن الكريم ، فهو تارة يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وأخرى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، بإضافة فعل الأمر (أَطِيعُوا) ، كما في هذه الآية. أوليس العطف بالواو وحده كاف لتأدية نفس المعنى؟

والجواب : إنّ لكلا التعبيرين ظلاله الخاص في المعنى والنفس ، ولعل العطف بالواو وحدها يبيّن أنّ طاعة الرسول هي امتداد لطاعة الله ، بينما العطف بها مع الفعل : (أَطِيعُوا) يؤكّد استحالة الفصل بين طاعة الله وطاعة القيادة الرسالية ،

٣١

بأن يزعم البعض بأنّه يكتفي بالقرآن طاعة لله وبعدها لا داعي لطاعة أحد رسولا أو إماما أو عالما .. واللطيف أنّ هذا التعبير ورد في سياق سورة التغابن التي تعرّضت لإشكاليّة الفصل بين طاعة الله وطاعة رسوله حيث قال الكفّار : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) (الآية ٦) محاولة للفصل بين الطاعتين. ويحذّر الله من عصيانه ورسوله والتولّي لغيرهما إذ يقول :

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

وكفى بهذه الآية تحذيرا للناس وتهديدا للكفّار.

[١٣] ولما انتقد القرآن موقف الكفر والتولّي من قبل الكفّار تجاه رسلهم لكونهم بشر أمثالهم ، وبالتالي التقليل من شأنهم وتبرير عصيانهم ، أكّد هنا في سياق أمره بطاعة الرسول (القائد الربّاني) وانطلاقا من منهجيته المتوازنة على حقيقة التوحيد كحدّ لتقديس الرسل والأولياء القادة ، فإنّه لا يجوز بحال من الأحوال اعتبارهم شركاء لله أو أنصاف آلهة ، كما صنع بعض النصارى واليهود بالنسبة لعيسى وعزير ـ عليه السلام ـ ، فالطاعة للقيادة والعبادة لله وحده.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

وقد أكّد القرآن على ضرورة التوحيد والتوكّل في سياق أمره بطاعته وطاعة رسوله لأنّ هناك سببين يدعوان الإنسان للتخلف عن الطاعة لهما :

الأوّل : الشرك بالله سبحانه شركا مبدئيّا باتباع الأفكار والفلسفات الضالة ، أو عمليّا بالخضوع للإرادات الأخرى من دون الله لمجاراة الشهوات والمصالح ، أو اتباع الطواغيت والركوع إليهم. ولكي يسمو الإنسان إلى آفاق الطاعة والتسليم لله ولقيادة الحق يجب أوّلا أن يتطهّر من رواسب الشرك ، ويتخلّص من أغلاله ،

٣٢

ويتحدّى الأنداد المزعومة.

الثاني : الضعف والانهزام أمام الضغوط والتحدّيات المضادة لخط الرسول والقيادة الإلهية ، فإن أجلى صور التحدي والضغوط تبرز في مواجهة النظام الاجتماعي بكلّ أبعاده سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وأخلاقيّا ويجب على المؤمن أن يستقيم في خطّ التوحيد رغم ذلك ، وهذا بحاجة إلى إرادة صلبة تجعله أشد من الجبال ، وهذه يستمدها من الاستعانة بصاحب القدرة الواسعة والتوكل عليه. وما أحوج الحركات الرسالية والمجاهدين للصمود في مسيرة التغيير عبر التوكل على خالق السماوات والأرض ، والالتجاء إلى حصن ولايته وعزّته وقدرته.

[١٤] ويذكّرنا الوحي بأحد أقوى وأخطر التحديات التي يواجهها المؤمنون في طريق الجهاد والطاعة لله وللقيادة الرسالية وهو تحدي الأسرة ، ذلك لأنّ الأسرة هي حلقة الوصل الأساسية بين الإنسان ومحيطه الثقافي والسياسي ، ولذلك فهي أقرب تأثيرا وأبلغ نفاذا في إرادة المجاهد.

ثم إنّ مقاومة المؤمنين للطاغوت تنعكس بصورة حادّة وسريعة على أسرهم ، فإذا بها كلّها أو بعضها تقف عقبة في طريق الجهاد ، فينهاروا نتيجة الصلات التي تربطهم بها. ولكي يستقيم المؤمن لا بد أن يتذكّر هذه الحقيقة ، ويحرق سفن العودة إلى الشرك ، ويتحصّن ضد وسائل الضغوط ، ومن أبرزها الأسرة ، وذلك عبر تحدّيها بصلابة التقوى والإيمان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)

قال الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ : «وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ تعلّق به ابنه وامرأته ، وقالوا : ننشدك الله أن تذهب عنّا وتدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذّرهم الله

٣٣

أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا» (١).

وفي توجيه القرآن الخطاب للمؤمنين بالذات في هذه الآية بيان لحقيقة واقعية وهي : أنّ المؤمن الحقيقي مجاهد بطبعه ، لذلك تتوالى عليه الضغوط والتحديات ، ولأنّه من دون سائر الناس يتحمّل المسؤولية الرسالية ، وبالتالي فإنّه الأولى بمثل هذا الخطاب ، والأقرب لفهم معانيه ، فهو هنا ذلك الإنسان الذي آمن بربه وحده ، وأطاع قيادة الحق متوكّلا على الله. وكيف يدرك المتقاعسون معنى التحديات الأسرية والاجتماعية والسياسية وهم يسبحون مع تيّارها وليس ضده كما يفعل المؤمنون الصادقون؟!

ولا تعني الآية من الأزواج النساء وفقط ، فقد تكون الزوجة مؤمنة مجاهدة ويكون العدو هم الزوج والأولاد فهي مسئولة أيضا. وما أروع موقف وهب الأنصاري حينما تحدّى تثبيط زوجته إذ تعلّقت به لتردعه عن خوض القتال دفاعا عن الإسلام بين يدي الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ ولكنّه اندفع إلى الشهادة ، لأنّ حبّ الله كان أنفذ بقلبه من عاطفته تجاه زوجته الشابّة! وما أعظم موقف آسية بنت مزاحم وهي تتحدى طغيان زوجها فرعون حتى استشهدت موثّقة بالأوتاد! ولعمري إنّ التاريخ الرسالي لحافل بمواقف البطولة للنساء والرجال على سواء ، الذين فكّوا حلقة الأسرة ، وانطلقوا في رحاب الدفاع عن القيم السامية.

وكما أنّ العداوة تتخذ ألوانا فإنّ عداوة الأزواج والأولاد قد لا تظهر على شفرة سيف ، ولا سنان رمح ، ولكنّها تتمثل في مظاهر أخرى عاطفية واجتماعية واقتصادية ، فحينما يكون المؤمن متفانيا لقضيته منصهرا في بوتقة أهدافه فإنّ معاداة

__________________

(١) تفسير القمّي / ج ٢ ص ٣٧٢

٣٤

أسرته للقضية والأهداف هي في الواقع معاداة له ذاته ، ولو جاءت تلك المعادات في صورة قشيبة من جهة التظاهر بحبّه.

وإذا لم يحذر المؤمن هذه العداوة فإنّ عاقبته الخسران ، ذلك أنّ الطغاة والمترفين والكسالى والرجعيين يحسنون استخدام سلاح الأسرة ضد المؤمن الرسالي ، لذلك تراهم ما يبرحون يسعون بشتى الأساليب ترغيبا وترهيبا وتضليلا لإدخالها في معادلة الصراع ضد الرساليين.

(فَاحْذَرُوهُمْ)

أي خذوا الحيطة المسبقة ، وتحصّنوا ضد عداوتهم. وأمره تعالى بالاحتياط هنا ثم دعوته إلى الصفح والتسامح بعدئذ يدلّ على أنّ العداوة المعنيّة ليست التي تصل إلى حدّ القتال بل هي العداوة الخفية ، كالتي تستهدف التثبيط والنيل من عزيمة الجهاد لدى الإنسان المؤمن.

وثمّة ملاحظة جديرة بالانتباه تجدها في وزن كلمات الآية من الزاوية البلاغية ، فقد قال تعالى : «عدوّا» بالإفراد ، ثم قال : «فاحذروهم» بالجمع ، لأنّ العدو قد يكون واحدا منهم ولكنّه مندسّ بين أبناء العائلة ومؤثّر فيهم فلا بد أن يحذر المؤمن الجميع ويتوجّس خيفة من أيّ كلمة تثبيط تتغلّف بالودّ والعاطفة ، سواء صدرت من أمه وأبيه أو زوجته وبنيه أو أخته وأخيه ، وبهذا الحذر وحده يستطيع أن يتجنّب الفضل الذي وقع فيه الكثير من الناس ، فما أكثر القرارات الصائبة التي ضربت عرض الحائط بسبب دمعة تحلّقت في جفون الزوجات أو كلمة عاطفية صدرت من أم أو أب؟!!

وليست الدعوة إلى الحذر تعني المقاطعة التامّة مع الأسرة ، كلّا .. بل لا بد أن يتحرك في علاقاته ضمن معادلة متوازنة إحدى كفّتيها الاحتياط والحذر ، والأخرى

٣٥

العفو والصفح والغفران.

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا)

وهذه ثلاث درجات لصفة واحدة هي التنازل عن الحقوق الشخصية بالسماحة وسعة الصدر لصالح الأسرة. وينبغي للمؤمن أن يسمو بنفسه إلى آفاق الحلم والسماحة تخلّقا بأخلاق الله ، ويتحمّل بعض الإساءات من أجل جذب أسرته إلى الرسالة.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

يغفر للمتسامحين ويرحمهم ، وهي أعلى درجات التسامح. وتحسس المؤمن بحاجته إلى غفران الله ورحمته لا شك يدعوه للتلطّف بمن هو تحت يده وقدرته.

ونعود الآن إلى معنى الكلمات الثلاث : (العفو ، الصفح ، الغفران) ، فالعفو هو التنازل عن حقّ الانتقام والمماثلة في القصاص وبالذّات عند المقدرة ، والصفح درجة أرفع ، إذ قد يتنازل الإنسان عن حقّه في الاقتصاص مثلا ولكنّ علاقته مع الطرف الآخر تبقى كدرة بسبب الإساءة ، أمّا إذا صفح عنه فهو يطوي صفحة الماضي ويفتح صفحة جديدة فتعود علاقته الظاهرة به علاقة طبيعية ، وليس بالضرورة أن تزول الآثار النفسية الداخلية بذلك ، بلى. إذا غفر أزال حتى هذه الآثار ، بل وتنازل عن طلب الانتقام من الله عزّ وجل. وهذه الصفات ينبغي أن يتحلّى بها المؤمن تجاه أسرته والآخرين على كلّ حال وفي كل الظروف ، وبالذّات عند ما يحتدم الصراع المبدئي بينه وبينهم ، فإنّ هذا الصراع ينبغي أن يبقى في حدود المبدء ولا يتحوّل إلى صراع شخصي مستمر ، فإذا عادت زوجته التي كانت تمنعه من العمل في سبيل الله إلى رشدها أو اقتنع أبواه وسائر أسرته فإنّ عليه أن ينسى الإساءات التي صدرت منهم تجاهه ، ولا يذكّرهم بها ، ولا يحمل في نفسه

٣٦

غضاضة ، ولا يطالبهم بالغرامة ، وما أشبه.

[١٥] وقد لا تبدر العداوة من قبل الأسرة تجاه المؤمن ، ولكنّه يفتتن بهم أو بماله ، ولربما نجد البعض تحرّضه زوجته أو أسرته على الجهاد ولكنّ تفكيره في مستقبلها بعده يمنعه من الإقدام عليه ، لذلك حذّرنا الله عن ذلك بقوله :

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)

قد ينجح المؤمن في مواجهتها وقد يفشل ولكنّها كلّها بالحصر ودون استثناء فتنة ، أي أنّها تضعه أمام مفترق طريقين : أحدهما الحق والآخر الباطل ، وتثير فيه نفسه الأمارة والأخرى اللوامة ، ليختار بعقله ويمشي بإرادته في أيّهما شاء.

(وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

وإنّما يذكّر ربنا بهذه الحقيقة لأنّ الإيمان الصادق بها كفيل بأن يدفع الإنسان لتجاوز الفتنة بنجاح فيختار ما عند الله على ما في الدنيا ، كما أنّ هذه البصيرة ترغّب المؤمن ليسخّر الأموال والأولاد في سبيل الحصول على ما عنده تعالى ، وليس جعلها عقبة دون ذلك ، وفرق بين الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ الذي جعل أولاده وأصحابه وأهل بيته وأمواله وسيلة للتقرّب من الله وبين الزبير الذي أدخله افتتانه بولده عبد الله في حرب مع وليّ الله وحزبه في موقعة الجمل ، فقال عنه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يصف عامل الانحراف في حياته : «ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله» (١) ، لأنّه الذي دفعه الى حب الدنيا والرئاسة ، وحرّضه على الحرب ضد الإمام ـ عليه السلام ـ. وهذه البصيرة تجعل المؤمن يتصرّف تصرّفا معتدلا مع أمواله وأولاده ، فلا يفرط في حقّ أبنائه ، ولا يبذّر في صرف أمواله ، إنّما يتبع طريقا وسطا يزن كلّ موقف منه

__________________

(١) نهج / حكمة ٤٥٣

٣٧

تجاههما بدقة ، ويتصرّف بحكمة ، ويتجنّب الاسترسال في موقف إيجابي أو سلبي.

وهكذا روى المفسرون حديثا عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ نستلهم منه معنى إيجابيا للفتنة ، وأنّها لا تعني طرد الأولاد أو نبذ الأموال ، بل التصرّف الحكيم معها. الحديث كما يلي :

روى عبد الله بن يزيد عن أبيه قال : كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر ، وقال : «صدق الله عزّ وجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ، ثم أخذ في خطبته (١).

[١٦ ـ ١٧] وليس من درع يتحصّن به المؤمنون ضد الفتن أفضل من تقوى الله ، لأنّها الحبل المتين الذي يوصل الإنسان بربه في كل مكان وفي كل لحظة من عمره ، وفي كل سعي وقول يصدر عنه. هذا أوّلا ، وثانيا : السماع لله ولرسوله والطاعة لهما ، وثالثا : الإنفاق في سبيل الله والتضحية بكل ما يملكه الإنسان ، فإنّ ذلك هو السبيل المستقيم لنيل ما عنده تعالى من الأجر ، والإنتصار على شح النفس الذي هو أساس كل انحراف في حياة البشر ، وبالتالي الفلاح الحقيقي في الدنيا والآخرة.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)

وهذه الآية بيان لقول الله في موضع آخر : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٢) ، وذلك

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٠١

(٢) آل عمران / ١٠٢

٣٨

من وجهين :

الأوّل : أنّ الله سبحانه حينما فرض التقوى على الإنسان أعطاه من الاستطاعة ما يمكنه بها إحرازها كما يريدها منه تعالى ، قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «ما كلّف الله العباد كلفة فعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم ونهاهم» (١)

وقال ـ عليه السلام ـ : «وإنما وقع التكليف من الله تبارك وتعالى بعد الاستطاعة ، ولا يكون مكلّفا للفعل إلّا مستطيعا» (٢) كما قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣). إذن فتقوى الله بقدر ما يستطيع الإنسان هي نفس حقّ التقاة.

الثاني : أنّ تقوى الله حقّ تقاته تختلف من إنسان إلى آخر باختلاف الظروف والإمكانات الذاتية ، فتقوى الأعرج والأعمى والمريض تختلف عن تقوى السليم في بدنه ، وتقوى العالم تختلف عن تقوى الجاهل ، وتقوى السجين تختلف عن تقوى الحر ، وهكذا .. فإذا ما بذل الإنسان كلّ ذرّة من جهد يستطيعه فقد اتقى ربه حقّ تقاته عمليّا. ولذلك فرّق تعالى في الكم بين إنفاق الموسع والمقتر فقال : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (٤).

ونستوحي من الآية : أنّ المؤمن يجب أن يكون واقعيّا في نظرته إلى الدين ، فيتقي الله حسب استطاعته ومكنته ، وإذا لم يستطع فلا يؤنّب نفسه ولا يقنط من

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٤٣

(٢) المصدر

(٣) البقرة / ٢٨٦

(٤) الطلاق / ٧

٣٩

رحمة الله ، بل يفعل بقدر وسعه. مثلا : من لم يستطع طولا أن يصلّي قائما فلا يترك صلاته رأسا ، بل يصلّيها عن جلوس ، ومن لم يستطع أن يعارض حاكم السوء فلا يجاريه بقلبه بل يتقيه ظاهرا ويستمر في مقاومته في السر ، وهكذا ..

قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (١) ، وقال : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢) .. والحاصل : أنّ الإنسان حينما يضطر إلى التقوى الممكنة عمليّا لسبب مشروع فهو في الواقع صار إلى التقوى المأمور بها ، لأنّ تقوى الله حقّ تقاته تكون بالتزام أحكامه سواء كانت أحكاما أوّلية أو ثانوية ، وقد لا تحرز التقوى بحق إلّا بشرب الخمر وأكل الميتة والعمل ظاهريا في جهاز الحاكم الجائر ، كما أكّد ذلك الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ لصاحبه علي بن يقطين الذي أراد الاستقالة من رئاسة الوزراء في عهد هارون حيث منعه وبيّن له بأنّ بقاءه هو الواجب المطلوب شرعا.

والآية الكريمة التي نحن بصددها تعبير عن النظرة الواقعية في الإسلام ، وينبغي للحركات الرسالية اعتبارها أصلا من أصول التحرك حيث أنّ النظرة المثالية إلى الشريعة تجعل الأولويات ضحيّة للأمور الثانوية والأصول ضحيّة للفروع.

(وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)

فالمهم إذن ليس الاستماع إلى كلام الله وتوجيهات القيادة الرسالية فقط ، إنّما الأهم هو الطاعة والإتباع ، لأنّ التوجيه لا يؤثّر في الواقع إلّا إذا سلّمنا له وعملنا بمضامينه ، وبالذات تلك التي تتطلب من الإنسان التضحية لأنّها الأصعب ،

__________________

(١) آل عمران / ٢٨

(٢) النحل / ١٠٦

٤٠