من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

يحجزون عنهم العذاب ، أو يقاومون بهم سلطان الله ومشيئته ، كما يزعم المشركون بعبادتهم الأصنام بشرا أو حجرا أو غيرهما.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)

والديار ـ كما يبدو ـ هو من يسكن الدور والديار ، وإنها حقّا دعوة بعذاب الاستئصال الذي حقت به كلمة الله عليهم ، فما بقي يومئذ أحد إلّا من آمن بنوح وركب السفينة ، ومن هنا نهتدي الى أن عذاب الاستئصال يأتي بهدف تطهير الأرض من العناصر الفاسدة التي لا تنفع معها النصيحة ، وان مبرر وجود الإنسان هو ما يشتمل عليه من الحق في كيانه فإذا صار خلوّا من أيّ حق فقد مبرر الوجود تشريعيا وتكوينيا مما يؤدي به الى الهلاك ، وهذه الحقيقة تنطبق بصورة أجلى على الإنسان (المجتمع) منها على الإنسان (الفرد) ومن هنا نفهم الآية الكريمة : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (١) وكذلك الروايات التي تقول : «ان الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء» (٢) لأنه لو لا وجود المؤمنين من الناس لما بقي مبرر لوجود الآخرين.

[٢٧] ثم يبين شيخ المرسلين الخلفيات والحيثيات وراء دعوته على قومه ، فهو لم يدع عليهم لأنه مل وتعب من الجهاد في سبيل الله ، ولا لأنه يحمل العداء الشخصي ضدهم لما لقيه من الأذى والمعاناة على أيديهم ، إنما كان منطلقه في ذلك رساليا خالصا لوجه ربه.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ)

الموجودين ، فيزيدون الضالين ضلالة ، ويؤثرون على من آمن ليعود كافرا

__________________

(١) البقرة ٢٥١

(٢) موسوعة بحار الأنوار ج ٦٧ ص ١٤٣ عن أبي جعفر (ع)

٤٢١

مشركا مثلهم ، وفي هذه الآية يجب ان نقرأ مدى الضغط الذي يواجهه المؤمنون حينما يستقلون برأيهم ومسيرتهم عن مجتمع الضلال والفساد .. إنه يبلغ حدّا يخشى عليهم من الانحراف بسببه ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّه لا يرتجى خيرا ولا مستقبلا سليما للأجيال التي تنسل منهم ، باعتبارهم قد أحكموا أساليبهم التربوية السيئة التي من شأنها بناء شخصية الأولاد على أساس الباطل والعداء للقيادة الرسالية ولخط المؤمنين.

(وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)

بالوراثة وبالتربية ، والفاجر هو من لا يقف عند حدّ شرع أو عرف ، ولا يقيم وزنا لقيمة لا في نفسه ولا في المجتمع ، إنما يطلق لشهواته العنان ، بينما الكفّار صيغة مبالغة من الكفر وهو خلاف الإيمان ، والكفور خلاف الشكر.

ولقد انتهى نوح الى هذه النتيجة بتجربته المرة الطويلة التي عاصر فيها ثلاثة أجيال على الأقل وخبرهم بتمام المعرفة ، وكذلك بإخبار الله له ، قال الراوي : قلت لابي جعفر الباقر (ع) : ما كان علم نوح حين دعا على قومه انهم : «لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً»؟! قال : أما سمعت قول الله لنوح : «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (١) وقد ذهب أغلب المفسرين الى القول : بان الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا ، وأعقم أرحام نسائهم ، وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة (٢).

والآية تبين بأن الإنسان قد يرحمه الله ليس لذاته بل لآخرين يتعلقون به كالأولاد.

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ عند الآية

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٦٥

٤٢٢

[٢٨] وختاما لهذه السورة المتضمنة للحديث عن المعانات الصعبة ، ودعاء شيخ المرسلين على قومه نجد آثار اللطف وحب الخير يجليها لسان نوح عن قلبه الحنون ، وذلك حتى لا يظن أحد أنه ـ عليه السلام ـ يحمل العداء الشخصي ضد قومه بالذات ، فإنه وازن بين الدعاء سلبا ضد الكفار الفاجرين ، والدعاء ايجابيا لصالح المؤمنين الصالحين.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي)

وهذه قمة العبودية لله والخشية منه ، فبالرغم من الجهاد الطويل في سبيل الحق الذي امتد طيلة حياته إلا أنّه لم يمن على الله بشيء من طاعاته لإيمانه بأنها ما كانت تكون لو لا لطفه وتوفيقه ، وان الخضوع له والاعتراف بالتقصير تجاهه خير وسيلة للمزيد من القرب منه والسعي في خدمته وإنّه حقّا درس يحتاجه كل مجاهد في سبيل الله ليقاوم به الغرور وهمزات الشيطان ، وبالذات أولئك الذين يتطاول بهم العمر في خدمة الرسالة.

ولكنه بأخلاق النبوة التي تدعوه للخروج من قوقعة الذات ، والتفكير في نجاة الآخرين بمقدار التفكير في نجاة نفسه ، لم ينس غيره بالرغم من أن ساعة دعائه كانت صعبة حرجة ، سواء قلنا بأنه دعا ربه قبل الطوفان أو أثنائه أو بعده .. فهذا هو يلتفت لأولي الفضل عليه (أبوه وأمّه) ولشركاء الصف والمسيرة (المؤمنين) لا فرق عنده بين من عاصروه وبين من سبقوه أو يأتون بعده ، ويلتفت مرة مؤكدا براءته من الظلم والظالمين ، كما أكد بسابقتها ولاءه للحق واهله.

(وَلِوالِدَيَ)

إذ لهما الفضل فطريّا وتربويا في وجوده وبناء شخصيته ، وهكذا نتعلم درس

٤٢٣

الوفاء لأول معلم يلتقيه الإنسان في الحياة ، إنه لم ينس عناء والديه ، حيث حملته أمه وهنا على وهن ، ثم سهرت ليلها وتعبت نهارها من أجل راحته ، وحيث أجهد أبوه نفسه في طلب المعاش له وأكله وشربه وكسوته ، وفوق ذلك كله ما تلقاه من تربية طيبة على الإيمان وحب الله.

(وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً)

يعني المؤمنين الذين انتموا الى خطه ومسيرته ممن عاصروه.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)

في كل زمان ومكان لأنهم وإن اختلفت الظروف والازمنة اخوته الذين تجمعه بهم وحدة الهدف والخط والمسيرة.

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً)

أي هلاكا وعذابا وضلالا ، وهذه الجملة تأكيد للبراءة من الباطل قيما وأناسا في مقابل تأكيد الولاء للانتماء للحق الآنف.

٤٢٤

سورة الجنّ

٤٢٥
٤٢٦

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من أكثر قراءة «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ» لم يصبه في الحياة الدنيا من أعين الجن ولا نفثهم ولا سحرهم ولا من كيدهم ، وكان مع محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ فيقول : يا ربّ لا أريد به بدلا ، ولا أبغي عنه حولا»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٣٠

٤٢٧
٤٢٨

الإطار العام

إنّ التخرّصات بوجود قوى غيبية قاهرة تؤثّر في مجريات الحياة من الأفكار التي لا تكاد تخلو منها ثقافة من الثقافات البدائية ، وهي عامل رئيس في الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان ، فالذي يعبد شجرة فإنّما لظنّه بأنّ فيها حلولا من عالم الغيب ، والذي يعبد الحجر لا يعبده بذاته وإنّما يعبد الروح التي يزعم أنّها تحوم حوله.

والجن من بين تلك الأرواح التي أثير ولا يزال حولها الكثير من الجدل إلى حدّ الخرافة والخيال المبالغ ، فقد زعم البعض أنّها أرواح خلقت ذاتيّا من غير خالق ، وقال آخرون أنّها تقوم بدور الخير والشر في الحياة ، وعلى هذا الأساس ارتأوا ضرورة إرضائها فأشركوا بها ..

وقد أفرز الوحي الإلهي الخرافة عن الواقع ، فبيّن الحق ، ونسف الثقافات الباطلة حول الجن ، كما كشف في هذه السورة التي سمّيت باسمهم عن جوانب من حضارتهم اعتمادا على علم الله المحيط بكلّ شيء ، وليس على الظنون والتخرصات ،

٤٢٩

وتحدّثنا آياته بلسانهم : (الآيات ١ ـ ١٤).

والذي يدقّق النظر في آيات هذه السورة يهتدي إلى وجوه تشابه أساسية بين حضارتهم وحضارة البشر :

١ / فهم مخلوقون مكلّفون من قبل الله بالإذعان للحق ، واتباع رسالته المتمثلة في القرآن.

٢ / وإنّ واقعهم الاجتماعي والسياسي يشبه إلى حدّ بعيد واقع المجتمع البشري ، ففيهم الزعماء الذين يتسلّطون على المجتمع ويشطّون طغيانا وسفها .. كطواغيت الناس وحكّامهم الفاسدين.

٣ / كما أنّهم يقعون في ذات الأخطاء التي يتورّط فيها ضلّال الناس كالشرك بالله عز وجل.

٤ / وبالتالي فإنّ فيهم الصالحين ودون ذلك والمسلمين والقاسطين كما هو حال البشر.

وفي البين يشير القرآن إلى أنّ الالتقاء بين حضارتي الإنس والجن القائم على الشرك بالله وزيادة الانحراف والرهق فإنّه منبوذ ومحرّم في شرع الله .. ومنه استعاذة السحرة والمشعوذين بالجن ، مما يزيدهم بعدا عن الحقّ وتوغّلا في الباطل.

ويفضح الوحي مجموعة التخرصات والخرافات التي صوّرت الجنّ قوى خارقة ، ورفعتهم إلى مستوى الربوبية ، ممّا دعا بعض جهّال الناس لعبادتهم والشرك بهم ، فيؤكّد :

أولا : أنّهم لا يحوزون على العلم الحقّ المطلق ، فلا يصح الاعتماد على ما يلقونه

٤٣٠

من ثقافتهم وأفكارهم في روع من يعوذ بهم ، لأنّ علمهم محدود إذ يجهلون الكثير من الأمور .. وواضح تأكيد القرآن على أنّ كثيرا من تصوّراتهم وثقافاتهم قائمة على الظن لا على العلم الواقعي القاطع (يلاحظ تكرار كلمة «ظننا» بلسان حال الجن مرّات عديدة) ، كما أنّهم لا يدرون بمصير من في الأرض أريد بهم شرا أم أراد بهم ربّهم رشدا. وحيث جاء القرآن كشف لهم عن مدى ضلالتهم وجهلهم بجملة من أهمّ الأمور وأوضحها .. أعني الإيمان بالله وتوحيده.

ثانيا : وأنّهم ليسوا قوى ذات قدرات خارقة حتى يخشى منهم البشر أو يعوذون بهم طمعا في نيل القدرة ، ودليل ذلك اعترافهم أنفسهم بعجزهم عن اختراق الحجب واستراق السمع من الملأ الأعلى ، وعجزهم عن مقاومة إرادة الله ، أو حتى الهرب من حكومته وسلطانه.

وحيث تتمحور السورة حول الحديث عن الجن الذين أشرك بهم ولا يزال بعض الإنس تؤكّد الآيات الأخيرة على حقيقة التوحيد ، وأنّه تعالى الذي يملك الضرر والرشد ، وهو أهل الاستعاذة به ، وعالم الغيب لا يشاطره أحد فيه إلّا من ارتضى من رسله .. مما يعطي الشرعية لخطّ الأنبياء فقط ، أمّا الجن ومن يتصل بهم ـ سواء كانوا كهنة وسحرة ومنجّمين ـ فلا يجوز إتباعهم أبدا.

٤٣١

سورة الجنّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ

___________________

٣ [جدّ] : الجدّ العظمة ، قال الطبرسي في مجمع البيان : الجد أصله القطع ، ومنه : الجد العظمة لانقطاع كلّ عظمة عنها لعلوّها عليه.

٤ [شططا] : أي قولا بعيدا عن الحق ، جاء في مفردات.

الراغب : الشطط الإفراط في البعد ، يقال شطّت الدّار ، وأشطّ يقال في المكان وفي الحكم وفي السّوم ، وشطّ النهر حيث يبعد عن الماء من حافته.

٤٣٢

وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)

___________________

٦ [رهقا] : تعبا شديدا ، وسمّي بذلك لأنّه يعلو المرهق كالغشاوة ، وقال البعض : رهقا أي طغيانا حيث أنّهم رأوا الجنّ ظهيرا لهم ، أو زاد الإنس الجنّ طغيانا حيث أنّهم ظنوا أنّ لهم مدخلا في الأمور الكونية حتى استعاذ بهم الإنس ، وأصل الرهق اللحوق ، ومنه غلام مراهق ، فكأنّ الإثم والطغيان يلحق الإنسان.

١١ [قددا] : جمع قدّة وهي القطعة ، فالجنّ على مذاهب مختلفة وقطع متعدّدة ، وكلّ قطعة مخالفة للأخرى.

٤٣٣

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ

___________________

١٤ [تحرّوا] : التحرّي تعمّد إصابة الحق ، وأصله طلب الشيء والقصد له.

١٦ [غدقا] : كثيرا ، وغدق الماء يغدق غدقا كثر فيه الماء.

١٧ [صعدا] : شاقّا شديدا غليظا متصعدا في العظم ومنه التنفّس الصعداء ، وقال البعض : (عَذاباً صَعَداً) أي عذابا يصعد عليه ويعلو بحيث يشمل جميع جسمه من قرنه إلى قدمه.

٤٣٤

يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)

___________________

١٩ [لبدا] : متكاثرين عليه ليمنعوه عن الدعوة. الواحدة لبدة كاللّبد المتلبّد أي المجتمع ، وجمع اللّبد ألباد ولبود ، وقد ألبدت السرج جعلت له لبدا ، وألبدت الفرس ألقيت عليه اللّبد نحو أسرجته وألجمته وألببته ، وألبد البعير صار ذا لبد من الثّلط ، وقد يكنّى بذلك عن حسنه لدلالة ذلك منه على خصبه وسمنه.

٢٥ [إن أدري] : ما أدري.

٤٣٥

إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً

بينات من الآيات :

[١ ـ ٣] إنّ علاج القرآن لموضوع الجن ليس ترفا فكريّا يهدف إعطاءنا مجرد رؤية عن خلق غريب ، بل هو علاج لمشكلة حقيقية موجودة في ثقافات الناس ، ومنعكسة على واقع بعضهم بصورة خطيرة ، حيث الخرافات والأساطير ، وحيث الشرك بالله عزّ وجلّ. ومع أنّ القرآن كلّه موحى به من عند الله إلى رسوله إلّا أنّ مطلع هذه السورة المباركة يؤكّد بأنّ الحديث عن الجن والذي تتضمّنه الآيات ليس حديثا من الرسول عن تجربة شخصية حدثت له ، ولا كسائر كلام البشر عن الجن الذي لا يتأسس إلّا على الخيال والظنون ، بل هو حديث لعالم الغيب والشهادة أطلع عليه رسوله ـ صلّى الله عليه وآله ـ عبر الوحي الذي لا ريب فيه.

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ)

قال ابن عباس : انطلق رسول الله (ص) في طائفة من أصحابه عامدين إلى

٤٣٦

سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : مالكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلّا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي (ص) وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر ، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم وقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) ... حتى نهاية الآية الثانية فأوحى إلى نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «الآية الأولى». ورواه البخاري ومسلم في الصحيح أيضا (١). قال الزمخشري في النفر : جماعة منهم ما بين الثلاثة والعشرة (٢).

والاستماع على الأظهر هو مرحلة متقدمة من السماع حيث يعني التركيز والتدقيق فيما يسمع ، ولقد انبهر النفر من الجن بإعجاز القرآن وعظمة آياته ، انبهارا قادهم إلى التسليم له ، واكتشاف ما هم فيه من الضلال والباطل بنور آياته البينات. وهكذا يجلي الاستماع والتدبّر عظمة القرآن لقارئه. أمّا الذي يهذّه هذّ الشعر ، وينثره نثر الرمل ، أو يكون همّه آخر السورة ، فإنّه لا يتجاوز الحروف والكلمات إلى المعاني المعجزة ، كما تجاوز إليها أولئك الجن.

(فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)

وهذا الإعجاب يشبه إلى حدّ بعيد إعجاب السحرة بمعجزات موسى ـ عليه السلام ـ ومن ثمّ إيمانهم به ونبذهم للسحر. وحريّ بالإنسان أن يبحث عمّا حملهم على ذلك من القرآن ، وأن يعجب إذا عجب به وليس بهم.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٤٣٠

(٢) الكشاف / ج ٤ ـ ص ٦٢٣.

٤٣٧

إنّ الجن كما الإنس لديهم ثقافات ، وبينهم دعاة العلم (السفهاء بحدّ تعبيرهم) وهم يضلونهم دائما عن الحق ، ولكنّهم حينما استمعوا للقرآن وأنصتوا بدا لهم الفرق واضحا بين رسالة الله التي تحمل العلم والهدى ، وبين الثقافات الشائعة عندهم والتي لا تنطوي إلّا على الجهل والضلال. ولعل هذه المفارقة من أهم عوامل الإعجاب بالقرآن إذ استمعوا له.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)

أي يعرّف بالحق ، ويرسم للإنسان المنهج السليم الذي يوصله إليه. وإنّ القرآن ليعلّمنا الحق ، وينمّي فينا العقل والضمير وسائر حوافز الخير ، ممّا يدفعنا إلى تطبيق الحقّ بالصورة الأكمل ، وأين تجد هذه في غير كتاب الله؟ هل تجدها في أفكار الفلاسفة الغامضة التي تحتجب وراء الكلمات الكلّيّة لإخفاء الجهل والتناقض ، أم في ثقافة البدائيين والشعراء؟ كلّا ... وهذا ما دفع النفر من الجن إلى الإيمان بالقرآن ونبذ كلّ الأفكار والثقافات الأخرى ، فهم وجدوه وحده الذي يهدي إلى الرشد.

ومع أنّ للرشد معنى عامّا يتسع لكثير من المفردات ، فالقرآن يهدي إلى معرفة الحقائق العلمية ، والسنن الطبيعية ، والأنظمة الحكيمة التي أجراها الله في سائر الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .. إلّا أنّ أعظم الرشد الذي يهدي إليه هو التوحيد باعتباره سنام الهدى وقمّة الرشد.

وقد أشار بعض من المفسرين إلى ذلك ، قال الفخر الرازي : «يهدي إلى الرشد» إلى الصواب ، وقيل إلى التوحيد ، (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به ، وهذا يدل على أنّ أولئك الجن كانوا

٤٣٨

مشركين (١).

ولأنّ الهداية لا تتمّ بمجرد معرفة الحق بالضمير والعقل ، بل لا بد من الشجاعة الكافية لنقد الذات ، وتحدي الواقع المنحرف ، وبالتالي تحمّل مسئولية الصراع ضد كلّ باطل ، لذلك بادر الجن إلى الإيمان بالحق من جهة ، ونبذ الباطل بعزيمة الإيمان من جهة ثانية.

(فَآمَنَّا بِهِ)

والإيمان بالقرآن يعني رفضا قاطعا للقوى الأخرى غير الله ، وعزما على المضيّ قدما في طريق التوحيد أنّى كانت التحديات .. وقد فهم النفر من الجن الإيمان بهذه الكيفية وعزموا على رفض الأنداد المزعومين فقالوا :

(وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً)

وهذا يعني الاستعداد لدخول الصراع ، والاستقامة على الحق ، وتقديم التضحيات من أجل الإيمان وقيمة التوحيد ، وكذلك ينبغي أن يكون كلّ من يختار الحق ، فالرشد غاية يجب أن يسترخص المؤمنون في سبيلها كلّ شيء ، كما فعل السحرة (عند مواجهة عصا موسى) إذ ألقوا ساجدين ، وتوجّهوا إلى فرعون بخطاب الرفض والتحدي : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢) ، وقدّموا أنفسهم قرابين في طريق ذات الشوكة ، حيث قطع فرعون أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلبهم في جذوع النخل صبرا.

ونفي الجن القاطع المؤبّد بأنّهم لن يشركوا ربما يهدينا إلى وجود قوى تضغط

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ١٥٤.

(٢) طه / ٧٢.

٤٣٩

عليهم باتجاه الشرك بالله بما قد يصل إلى حدّ الإكراه ، مثلما أكره فرعون السحرة على السحر ، وكما يكره الطغاة اليوم جنودهم عسكريين وإعلاميين ومخابرات على ممارسة الظلم ضد الشعوب. ولأنّ أعظم الضغوط التي تمارس وأخطرها هو ضغط التضليل عن الحق ، والإيحاء بالشرك من خلال التربية الفاسدة والاعلام المضلّل ، فقد أعلن أولئك النفر المؤمنون أنّهم لن يقبلوا التغرير بوجود الشركاء أو التشكيك في عظمة الله.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً)

وفكرة الصاحبة والولد آتية من تصوّر المخلوق المحدود للخالق العظيم تصوّرا معتمدا على مقايسته بذاته ، وهذا بالضبط العامل الفكري الرئيس الذي تقوم على أساسه النظريات والفلسفات البشرية التي خاض أصحابها في الحديث عن ذات الله وصفاته فشبّهوه بخلقه سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

إنّ الجاهل ينكر وجود آفاق متسامية لا يبلغها علمه ، فيريد تشبيه كلّ شيء بما يعرفه ، فإذا به يتخيّل أمورا لا واقع لها ، ويصبح هذا التخيل ـ بدوره ـ حاجزا بينه وبين معرفة الحقائق. لذلك ينبغي تسبيح الله وتقديسه عن الشبه ، لأنّ ذلك السبيل الوحيد لمعرفته سبحانه.

وهناك عامل نفسي للشرك يتمثّل في أنّ المشركين يريدون الزعم بأنّهم أبناء الله ، كما قالت اليهود والنصارى «نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» .. فلا بد من التأكيد على وجود الصاحبة باعتبار الأبناء نتيجة للعلاقة بين الطرفين ، تعالى الله علوّا كبيرا. ولا ريب أنّ دعاة هذه الفلسفة هم أوّل من يريد تعريف نفسه ابنا للربّ حتى يعطي لنفسه شرعية خضوع الناس وتقديسهم وطاعتهم له أو ربط نفسه بابن الله حتى يخلّصها من المسؤولية. مما يعني أنّ نفي الشرك ليس رفضا لفكرة مجردة ، بل هو

٤٤٠