من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

ورسالة الله هي أظهر آية على علاقة الرب الخالق بالمخلوق المربوب ، لأنّها وسيلة الله في تأديب خلقه وتربيتهم ، وطريقهم لكلّ خير ونماء وبركة إذا عملوا بها ، كما أنّها علامة حنانه وتلطّفه بهم.

وننقل هنا بعض الأخبار التي وردت في شأن الآيات الأربع (٤٠) فيما يتصل بشأن نزولها عند المفسرين ، من ذلك ما رواه ابن إسحاق عن الوليد ابن المغيرة ، وعن النضر ابن الحارث ، وعن عتبة ابن ربيعة ، وقد جاء في روايته عن الأول :

«ثم إنّ الوليد ابن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش! إنّه قد حضر هذا الموسم ، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ، ويردّ قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقل به ، قال : بل أنتم فقولوا أسمع ، قالوا : نقول : كاهن ، قال : لا والله ، ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ، قالوا : فنقول : مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول : شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول : ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : والله إنّ لقوله لحلاوة ، وإنّ أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلّا عرف أنّه باطل ، وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرّقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس ـ حين قدموا الموسم ـ لا يمرّ

٣٢١

بهم أحد إلّا حذّروه إيّاه ، وذكروا لهم أمره ...» (١)

وحكي عن الثاني (النضر ابن الحارث) قال :

«فقال : يا معشر قريش! إنّه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر! لا والله ، ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم كاهن! لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم ، وقلتم : شاعر! لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلّها هزجه ورجزه ، وقلتم : مجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم ، فإنّه والله قد نزل بكم أمر عظيم ..» (٢)

[٤٤ ـ ٤٧] ونعود للآيات الكريمة حيث تؤكّد أمانة الرسول وصحّة الرسالة ، بنفي أيّ إضافة منه (ص) إليها نفيا قاطعا ، ممّا يهدينا إلى حقّانيّة الحق ، وأنّ الله يفرضه على الإنسان فرضا دون أن يتساهل حتى مع حبيبه وأقرب خلقه إليه النبيّ محمّد (ص).

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ)

قال الزمخشري : التقوّل افتعال القول كأنّ فيه تكلّفا ، من المفتعل ، وسمّيت الأقوال المتقوّلة أقاويل تصغيرا بها وتحقيرا ، كقولك الأعاجيب والأضاحيك ،

__________________

(١) في ظلال القرآن / ج ٨ ص ٢١٦.

(٢) المصدر.

٣٢٢

كأنّها جمع أفعوله من القول (١) ، والمعنى ولو نسب إلينا قولا لم نقله (٢) ، والافتراض هنا افتراض جدلي يفيد أنّ النبي (ص) لم يتقوّل ـ حاشاه ـ إذ لم نر الوعيد الإلهي تحقّق في هذا الشأن. والآية تزكية للرسول ليس فيما يتصل بالقرآن وحسب بل في كلّ نطقه وكلامه. وهذه الشهادة الإلهية البيّنة آية على عصمة نبينا (ص) ، وأنّ سنته كالقرآن ليست من أهوائه إنّما هي بعلم الله وحكمته أجراها على لسانه.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)

معنويّا بسلب سمة النبوة منه ، وماديّا بمجازاته أشد الجزاء ، لأنّ خطأ الإنسان يكون أفظع وأسوأ كلّما كان في موقع أهم ، وهذا ما يجعل ثواب نساء النبي وعقابهنّ مضاعفا عند الله. ولعمري إنّه إنذار ووعيد لكلّ من يخون أمانة الله ، وبالذات أولئك الذين حمّلهم مسئولية الرسالة .. أعني العلماء ، فيا ويل الذين يفترون منهم الكذب ، ويحرّفون الكلم عن مواضعه.

وقد اختلف في الأخذ باليمين ، فقال جماعة : أنّه كناية عن الأخذ الشديد باعتبار اليمين رمز القدرة ، وقال آخرون : أنّه أخذ القوة منه أي سلبنا منه القوة (٣) ، لأنّ القوة في اليمين ، فإذا أخذت انتفت ، وفي المجمع : لأخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الإذلال ، كما يقول السلطان : يا غلام خذ بيده ، فأخذها إهانة ، وقيل : معناه لقطعنا يده اليمنى (٤) ، ويبدو لي أنّه الأخذ الشديد ، وأخذ الله دائما يكون شديدا. أمّا كيف يأخذ الله؟ فذلك من شأنه.

__________________

(١) الكشّاف / ج ٤ ص ٦٠٧.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية.

(٣) التفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية.

(٤) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٥٠.

٣٢٣

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)

في الدر المنثور : عرق القلب (عن ابن عباس) وعن عكرمة قال : نياط القلب (١) ، وفي المنجد : عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق كلّها (٢) ، والمهم أنّه العرق الذي لو قطع لما بقي الإنسان حيّا .. ولو أخذ الله أحدا بيمينه فقطع منه الوتين فمن يستطيع أن يمنع عنه إرادة الله؟

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)

أي ما نعين يمنعون نفاذ أمر الله في شأنه. والآية قمّة في البلاغة إذ تتحدى البشر فرادى «من أحد» ومجتمعين «حاجزين» في آن واحد ، وذلك لكي يمس التحدي أفرادها واحدا واحدا دون استثناء تأكيدا للمراد. وربما يقرأ المتدبر في تضاعيفها أنّ هناك قوى تسعى للضغط على القيادة الرسالية للتغيير من نهجها والتقوّل على الله ، فيجب أن لا تستجيب لها أو تنخدع بما عندها ، لأنّها لا تنفع شيئا ولا تحجز إرادة الربّ عزّ وجلّ. وحيث أنّ الرسول (ص) مطمئن لهذه الحقيقة فإنّه لا يتوكل إلّا على الله ، ولا ينتمي إلّا الى الحق ، ولا يقول إلّا الوحي.

وكفى بقول الرسول (ص) هذه الآيات وإعلانها للناس مع ما فيها من شديد اللهجة دليلا على نقله بأمانة ، إذ لو كان يتقوّل على الله لكان يحذفها أو يعزّز نفسه بصورة مطلقة دون حدّ ولا شرط ، كما يعزّز الكثير من الدعاة والحكّام أنفسهم حتى على الحق ، وما أحوج القادة وكل رسالي إلى هذه الشجاعة تأسيا بسيرة حبيب الله (ص).

__________________

(١) الدر المنثور / ج ٦ ص ٢٦٣.

(٢) المنجد مادة وتن.

٣٢٤

[٤٨ ـ ٥٢] وبعد أن أثبت القرآن بأنّه قول رسول كريم بالمعالجة الموضوعية الدقيقة ، وبالتالي كونه كلام الله عزّ وجلّ ، ينثني لبيان صفة أخرى لنفسه.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)

أو كما قال تعالى في سورة البقرة : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١) ، لأنّ المتقي وحده الذي يرتفع بنفسه وعقله إلى مستوى فهم آياته ، وهو وحده الذي يخشى ربه فيلزم نفسه ما في كتابه من الحدود والأحكام والقيم لكي لا يتعرض لغضبه وعذابه ، وهم وحدهم الذين يملكون الاستعداد للتسليم له ، لأنّهم يحافظون على فطرتهم سليمة كما أودعها الله فيهم ، فإذا بهم يجدون آياته تلتقي بتطلعاتهم السامية في الحياة. ويتأكد لنا بأنّ القرآن تذكرة للمتقين إذا عرفنا أنّ التقوى ليست مجرد الخشية والخوف .. إنّما هي مجموعة من الصفات النفسية والعقلية والاجتماعية التي تجعل الإنسان في مستوى التذكر بالآيات وفهمها .. فالمتقون كما وصفهم ربهم : «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» (٢) ، فالذي لا يؤمن بالغيب كيف يؤمن بالرسالة التي مصدرها غيب السموات والأرض؟ والذي لا يؤمن بالجزاء كيف يلتزم بها؟

إنّ هذه الآية تهدينا إلى إحدى خصائص الوحي الإلهي المتميّز بها عن الأفكار الأخرى والفلسفات ، وهي أنّه لا يستطيع التفاعل معه وفهمه إلّا المتقون فقط ، فإذا به (شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٣) ،

__________________

(١) البقرة / ٣.

(٢) المصدر / ٣ ـ ٤.

(٣) الإسراء / ٨٢.

٣٢٥

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (١) ، ولذلك خاطب الله رسوله فقال : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً* وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (٢) ، ولقد اعترف بهذه الحقيقة الكافرون والمشركون منذ قبل : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٣) ، وهذه الخصيصة في الرسالة تفسر ظاهرة التكذيب بها من قبل بعض الإنس والجن ، لأنّ الرسالة في مرتبة عالية قلّ أن يسموا إليها البشر ، والله يعلم بأنّ جبلا كثيرا منهم سوف يكذّبون بها.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)

بتأكيدات لفظية ثلاثة «إنّ» واللام في «لنعلم» و «أنّ» ، وإذ يكذّبون فلأنّهم لم يسموا إلى درجة المتقين الذين يتذكرون بالوحي ويسلمون لآياته ويستوعبون حقائقه الكبيرة ، وليس لعيب في القرآن.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ)

والحسرة بنت الخسارة ، والأثر المعنوي المترتب عليها ، وبذلك يكون القرآن قد أشار إلى الأمرين معا ، وإنّما يكون كذلك لأنّه الحق الذي يدمغ باطلهم فإذا هو زاهق في الدنيا ، كما أنّه ميزان لأعمال الخلق في الآخرة ، والشافع المشفّع والماحل المصدّق ، وحيث كذّبوا به يريهم أعمالهم حسرات عليهم يوم القيامة ، ولا يشفع لهم ، بل يمحلهم بالشهادة عند الله ضدهم.

__________________

(١) فصّلت / ٤٤.

(٢) الإسراء / ٤٦.

(٣) فصّلت / ٥.

٣٢٦

ومن هنا نكتشف خلفية تأويل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ للآية في الإمام علي بن أبي طالب أنّه الذي يكون حسرة على الكافرين بقوله : «يعني عليّا» (١) ، فإنّ إمام الحق في كلّ أمّة جنبا إلى جنب القيم الإلهية حجّة الله على خلقه عند الحساب والجزاء حين يحشر كل أناس بإمامهم ، ممّا يجعله هو الآخر حسرة على الكافرين إذ يكون شاهدا وحجّة عليهم.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ)

أي حق يفرض نفسه على الإنسان فيصبح موقنا به ، فهو حق في عالم الواقع ويقين في عالم النفس. قال صاحب الكشّاف : إنّ القرآن اليقين حق اليقين ، كقولك هو العالم حق العالم ، وحدّ العالم ، والمعنى لعين اليقين ومحض اليقين (٢) ، وقال الرازي : أي حق لا بطلان فيه ، ويقين لا ريب فيه (٣) ، ويأتي التأكيد على هذه الصفة القرآنية في سياق نفي الشعر والكهانة عن آياته كتعريض من طرف خفيّ بالإثنين الأخيرين اللذين ملؤهما الخيال والكذب والرجم بالغيب ، وهذه من المفارقات الأساسية بين رسالة الله وثقافة الشعراء والكهنة ، أنّها تحتوي على الحق والعلم بأعلى درجاته (اليقين) من دونهما حيث ينطويان على التناقض والباطل وحيث يعتريهما الخواء الفكري والعلمي.

ونهتدي من نعت القرآن بأنّه «لَحَقُّ الْيَقِينِ» أنّ انتهاج القرآن هو الشرط الأساسي في مسيرة الإنسان نحو اليقين إيمانا وعلما ، وأنّه الواجب الذي يفرض نفسه على العقل حينما يتطلع إلى الكمال المعنوي والمادي باليقين ، أي أنّ الإنسان يبقى في حيرة وشك لا يصل إلى الإيمان التام ليس بالحقائق العلمية والحياتية وحسب ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤١٠.

(٢) الكشّاف / ج ٤ ص ٦٠٧.

(٣) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ١٢٠.

٣٢٧

بل بأصل الوجود ، وجود نفسه والكون من حوله بكلّ مفرداته ، حتى يكتمل نور عقله بنور وحي الله ، لأنّه الذي يعرّفه بالخالق الموجد ، ويرتقي به إلى آفاق اليقين به ، فتنكشف عن بصره وبصيرته الحجب والأغطية ، وتنزاح الغشاوة .. إذ لا معنى للإيمان بالمخلوق (ماديّا كالإنسان والطبيعة ، أو معنويّا كالحقائق والقوانين) إلّا بعد الإيمان بالخالق ، وذلك ما يحقّقه اتّباع القرآن.

ونقف قليلا ننعم الفكر في حكمة الحديث عن القرآن بهذا التعبير : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) في سياق سورة الحاقة التي تحدّثنا عن الجزاء.

إنّ نقطة التلاقي بين الحاقة والقرآن تكمن في أنّ كلّا منهما يحقّ الحقّ ويظهره ، ويهدي الإنسان إليه ، ويرفعه إلى أعلى درجات الإيمان والتسليم (حقّ اليقين) ، ولكن يبقى القرآن هو الوسيلة العظمى والأقوم للهداية ، أعظم حتى من الحاقة نفسها ، لأنّه يهدينا في الدنيا والآخرة حيث تنفع الهداية ، بل هو طريقنا للإيمان بالساعة والقيامة (الحاقة).

ولكي نفهم القرآن فهما صحيحا ، فنؤمن به ، ويكون لنا تذكرة وسبيلا إلى اليقين الخالص ، يجب أن نتطهر من الشرك بالله عبر تسبيحه ، لأنّ كلّ انحراف في حياة الإنسان مظهر من مظاهر الشرك وظلال له ، وكلّما سبّح ربه أكثر فأكثر تسبيحا سليما كلّما تميّزت في نفسه وفكره حقائق الوحي عن وساوس النفس ، وإلقاءات الشيطان ، ثم أنّ التسبيح هو الوسيلة لاجتناب القوارع الإلهية في الدنيا والابتعاد عن أصحاب الشمال في الآخرة.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)

وقال «بِاسْمِ رَبِّكَ» لأنّه السبيل لتسبيحه تعالى ، إذ لا يجد الإنسان وسيلة للاتصال بربه لو لا أسماؤه. وقال : «العظيم» بالذات لأسباب منها :

٣٢٨

١ ـ أنّه رمز التسبيح الصحيح ، حيث معرفة عظمة الله شرط رئيسي في تقديره حقّ قدره. أوليست مشكلة كلّ صاحب شمال «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ»؟ بلى. ولو أنّنا فتّشنا في أي إنسان لما وجدناه خاليا من الإيمان بربه ، ولكن أصحاب الشمال (مشركين وكافرين) لا يؤمنون بالله كما هو عظيما منزّها عن كلّ ما لا يليق بمقامه ، مما يدعوهم لاتخاذ الأنداد له من خلقه الذين يجدون فيهم بعض العظمة أو يظنونهم عظماء .. وهذا هو مكمن الداء الذي انطلقت منه الفلسفات البشرية الضالة .. تجسيدية تشبيهية وشركية وما إلى ذلك .. ولعلّه من هنا أصبح تسبيح الله بذكر عظمته في الركوع وعلوّه في السجود (سبحان ربي العظيم وبحمده ، سبحان ربي الأعلى وبحمده) فرضا واجبا في الصلوات ، بل أصبحت الصلاة من بدايتها حتى نهايتها تسبيحا لله عزّ وجلّ.

٢ ـ لأنّ السياق يدور حول القرآن وهو أظهر آيات عظمة الله على الإطلاق ، ففيه تتجلّى عظمته تعالى .. أوضح وأوسع وأعظم من تجلّيها في الطبيعة وفي النفس وفي كلّ شيء آخر.

٣٢٩
٣٣٠

سورة المعارج

٣٣١
٣٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «أكثروا من قراءة «سأل سائل» فإنّ من أكثر قراءتها لم يسأل الله تعالى يوم القيامة عن ذنب عمله ، وأسكنه الجنّة مع محمّد إنشاء الله»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٤١١

٣٣٣

الإطار العام

كما هو سياق غالب السور المكية تعالج سورة المعارج الأمراض القلبية التي تمنع الإيمان ، كما ترسم منهاجا لبناء الشخصية الربّانية ، ففي الثلث الأول حتى الآية (١٨) يحدّثنا السياق عن مشاهد من الآخرة حيث الأحداث الكونية المريعة ، وما تخلّفه من الآثار على نفوس المجرمين ، فإذا بواحدهم يتمنّى النجاة ولو يفتدي بأعزّ الناس وأقربهم إليه ، بل بهم جميعا.

ومن خلال الحديث تعالج مرض التسويف بتصحيح رؤية الإنسان إلى الزمن عبر وعي الزمن الأبدي الذي لا بد أن يعايشه البشر.

وانطلاقا من ذلك يشير القرآن إلى صفة الهلع لدى الإنسان ، والتي تبعثه على الجزع حين الشر والمنع عند الخير ، فتجعله متقلّب الشخصية ، متغيّرا حسب المحيط والظروف ، مؤكّدا بأنّها ليست في المصلّين بحق ، لأنّهم تساموا إلى أفق الخلود فلم يعيشوا لحظتهم الراهنة فقط ، ولم يتأثّروا بعواملها فحسب.

٣٣٤

ثم تعالج الآيات حالة التمنّي التي يعيشها الإنسان فيطمع أن يدخل الجنة بلا إيمان أو سعي ، كلّا .. إنّ النجاة من العذاب لا تحصل بالتمنّي والودّ ، إنّما بالعمل الصالح والسعي ، وإنّ الصلاة لهي سفينة نجاة المؤمنين ، وهي مفتاح شخصيتهم الإلهية التي تتسم بالإنفاق والصدقة وخشية العذاب ورعاية الأمانة والعهد وحفظ الفروج إلّا من حلال والقيام بالشهادة والمحافظة على الصلوات ، وهذا في الواقع البرنامج المستوحى من الصلاة لبناء شخصية الإنسان الربّانية.

وفي الخاتمة (الآيات ٣٦ ـ ٤٤) ينسف الوحي مركب الأحلام والتمنّيات الذي يركبه الهلكى من المجرمين والكافرين ، فلا يرسو بهم إلّا في بحر لجّيّ من عذاب الله وغضبه ، وخسران الدنيا والآخرة .. لأنّ التمنّيات تدخل أصحابها في نفق الخوض واللعب ، فإذا بهم وقد حان اليوم الذي يوعدون ، ولم يستعدوا للقاء الله ، ولم يمهّدوا للمستقبل عملا وزادا. وإنّها لعاقبة كلّ منهج يعتمد التمنّيات بديلا عن السعي والعمل.

٣٣٥
٣٣٦

سورة المعارج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠)

___________________

٨ [كالمهل] : قيل : هو الزيت المغلي ، وجاء في مفردات الراغب : درديّ الزيت.

٩ [كالعهن] : هو الصوف المنفوش ، وقال الراغب في مفرداته : العهن الصوف المصبوغ ، قال : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) ، وتخصيص العهن لما فيه من اللون ، كما ذكر في قوله : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ)

٣٣٧

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)

٣٣٨

فاصبر صبرا جميلا

هدى من الآيات :

يعايش الكافرون لحظتهم الزمنية الراهنة معايشة حادّة ، لأنّهم لا يعون الماضي بتجاربه ولا المستقبل بتطلعاته ، ولا يؤمنون بالآخرة. أمّا المؤمن الذي يعيها حيث الزمن هناك طويل طويل لا ينتهي ، ويعي حقيقة الخلود ، فإنّه يعيش في عقله ونفسه وعمليّا توازنا زمنيّا .. فلا ينهزم أمام التحديات والمشاكل إنّما يصبر صبرا جميلا ، لأنّها وإن استوعبت كلّ عمره الدنيوي فهي أقل من ساعة من ساعات الآخرة ، التي مقدار يوم واحد منها خمسون ألف سنة ، ولأنّه لا يدع لحظة تمرّ عليه إلّا ويملأها بالعمل الصالح ، ويستغلّها في سبيل مستقبل سعيد ، ليوازن بين فرصة السعي والعمل القصيرة (أعني الدنيا) ، وبين مستقبل الجزاء والحصاد الخالد (أعني الآخرة) ، فإنّك حيث تراه وتدرس حياته تجده شعلة من النشاط والسعي المتواصل ، ومهما فتّشت في سنيّ حياته فلن تجد إلّا شذرا تلك الساعات الضائعة التي تملأ

٣٣٩

عادة حياة سائر الناس. وكيف يسمحون لأنفسهم بالخوض واللعب وكل لحظة من عمرهم هي خطوة إلى اللقاء مع الله؟! إنّهم لا يحتملون غضب الله عليهم ، ولا أن ترهقهم ذلة عند لقائه ، ولذلك تركوا التمنّيات والأحلام إلى السعي الدؤوب ، لأنّه ليس في أنفسهم ذرّة من شك في حقيقة الآخرة وعذابها الواقع حتى يطلقوا لشهواتهم العنان ، أو يعيشوا عيشة الهازل!!

بينات من الآيات :

[١ ـ ٤] قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : لمّا نصب رسول الله (ص) عليّا يوم غدير خم قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي (ص) النعمان بن الحارث الزهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه؟! فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟! فقال : لا والله الذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله ، فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ، فرماه الله بحجر في رأسه فقتله (١) ، وفي رواية أخرى قال أبو بصير عن الصادق (ع): بينما رسول الله (ص) جالسا إذ أقبل أمير المؤمنين (ع) فقال له رسول الله (ص) : إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم .. قال : فغضب الحارث بن عمرو الفهدي فقال : «(اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) أنّ بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل (اسم ملك الروم أراد بني هاشم يتوارثون ملكا بعد ملك) فأرسل علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» فأنزل الله عليه مقالة الحارث ونزلت هذه الآية : «وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» ثم قال له : يا عمرو إمّا

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤١١.

٣٤٠