من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

والتزام الإنسان بها مؤشّر على عمق إيمانه ، واقتحامه عقبة الشح الكبرى. لذا قال تعالى :

(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ)

أي أنّ الإنفاق يعود على صاحبه بالخير ، فهو يزكّي النفس ويزيد إيمانها ، ويتقدّم بالمجتمع اقتصاديّا لما يسبّبه من نماء في الثروة وتدوير لها. وللآية تفسير آخر هو : أنفقوا خيرا في مقابل الشر ، فإنّ الخير هو الذي يعود للنفس والمجتمع بالنفع.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

وشحّ النفس هو مجموع الصفات السلبية التي تعبّر عن حب الذات وحب الدنيا ، كالبخل والحرص والعنصرية وما أشبه ، وإذا انتصر الإنسان على شح نفسه صار من المصلحين لأنّه جذر كلّ ضلال وانحراف ومعصية في حياة البشر ، ولأنّ الإنتصار عليه يفتح الطريق له نحو كل فضيلة وصلاح ، ولذلك يحدّثنا أبو قرّة فيقول : رأيت أبا عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول : اللهم قني شحّ نفسي ، فقلت : جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء؟! قال : وأيّ شيء أشد من شح النفس ، وإنّ الله يقول : «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١)

والإنفاق من أهم العوامل التي تقضي على شح النفس ، جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «من أدّى الزكاة فقد وقي شح نفسه» (٢)

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٤٦

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٠١

٤١

ما هو القرض هنا؟ قال بعضهم : هو الدين ، وقال البعض : بل هو كل إنفاق ، أو الإنفاق المندوب (بينما الأوّل كان في عموم الإنفاق). وأنّى كان فإنّ لكل هذه المفردات آثارا مباركة في حياة الفرد والمجتمع ، ولها أيضا آثار معنوية تتصل بمصير الإنسان في الآخرة ، إذ تسبّب في غفران الذنوب باعتباره من الحسنات الكبيرة التي تشفع في السيئات.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)

فهو يرد القرض مضاعفا بشكره ، ويغفر الذنوب بحلمه.

[١٨] وكلّما كان الإنفاق أصفى من شوائب الرياء والسمعة والمنّ والاستكبار وابتغاء المصالح المادية كلّما كان أقرب إلى الله وأنفع للنفس وأزكى لها ، وربما لذلك ختمت السورة بالتذكرة بأسماء الله :

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)

يعرف ما ينفق ، ويعرف لماذا وبأيّة نية.

(الْعَزِيزُ)

الذي لا يحتاج إلى إنفاق أحد أو نصر أحد ، قال سبحانه (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

(الْحَكِيمُ)

الذي يثيب من يثيب بقدر طاعته وإخلاصه ، ويعاقب من يعاقب حسب ذنبه وكفره.

نسأل الله أن يجعلنا ممن يتبصر هذه الحقائق حتى لا نكون من المغبونين.

٤٢

سورة الطلاق

٤٣
٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

من كتاب ثواب الأعمال وعقابها للصدوق (رض) بإسناده عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن ، وعوفي من النّار ، وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ، ومحافظته عليهما ؛ لأنّهما للنبيّ صلّى الله عليه وآله»

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٤٦

٤٥

الإطار العام

في بادئ الأمر يتراءى أنّ سورة الطلاق تتحدث عن قانون الطلاق ، ولكن حينما نتدبر في سياقها نجد محور السورة الحديث عن التقوى ، وما الحديث عن قانون الطلاق وسنن الله في الغابرين و.. و.. إلا إطارا لهذا المحور ، والسؤال : ما هو سبب مزج السياق بين الأحكام الشرعية وبين الأوامر المؤكّدة بالتقوى؟ والجواب :

١ ـ إنّ التقوى هي أفضل ضمانة لتنفيذ الأحكام الشرعية ، والتزام الحدود الإلهية ، والإعتبار بالمواعظ ، والعمل بقيم الذكر ، وبالذات في صورتين :

الأولى : القضايا الفردية التي لا تتصل بالنظام السياسي للأمة بقدر اتصالها بالنظام الاجتماعي وبالقرارات الفردية للإنسان.

الثانية : غياب النظام الإسلامي المتكامل (المجتمع الإسلامي ، والحكومة الإلهية) إذ مع وجود هذا النظام يصعب على الفرد أن يتجاوز حدود الله ، لأنّه

٤٦

سيجد من يمنعه ويقف في طريقه ، وبالذات في المسائل الاجتماعية ، لذا فقد يلتزم الإنسان بالأحكام خشية الناس والقانون ، أمّا إذا نمت روح التقوى عند أحد فإنّ من ربه ستكون أعظم من كلّ شيء ، وذلك ما يدعوه لاتباع الحق في أيّ مكان وزمان حتى لو لم يكن ثمّة نظام إسلامي قائم ، بل ولو كان وحده لا يراه أحد من الناس.

٢ ـ انّ حقيقة التقوى لا تنمو في القلب إلّا إذا اتصلت بمجمل سلوك الإنسان ، فهي ليست مفهوما ذهنيّا أو مادة للمعرفة ، إنّما هي صبغة حياة ولون سلوك ، ومنهج تكامل ، وموقف من الأحداث المتحركة حول الإنسان ، لذلك يحدّثنا الوحي عنها عبر تيارات الحياة وتطوراتها ، وأمواج ضغوطها المختلفة ، لكي لا نتعامل مع التقوى كقضية مجرّدة ، وبعيدة عن التفاعل في قضايانا اليومية.

وبهذه الطريقة تتصل التقوى بكلّ التعاليم الدينية ، فإذا أمر الله بالتقوى عند الحديث عن قانون الطلاق فإنّ معناها يكون الالتزام بأحكام الله وحدوده فيه.

٤٧
٤٨

سورة الطّلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ

٤٩

بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)

٥٠

وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً

هدى من الآيات :

الأسرة كما يراها الإسلام هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي ، وقد أولاها القرآن اهتماما بالغا باعتبارها حصن الفرد والمجتمع ، والمدرسة التي تتربى فيها الأجيال ، فهو ما يفتأ يعالج القضايا المتصلة بها بين سورة وأخرى ، ليرسم المنهج المتكامل لمسيرة النكاح والمعاشرة والتربية ، ولنظامها الداخلي (الدخول والخروج ، والأكل والنوم) وعلاقاتها المختلفة ، وفيما بينها حالات الشقاق والطلاق.

وبالرغم من أنّ بعضا من المذاهب كالمسيحية الكاثوليكية تحرّم الطلاق البتة ، وبالرغم من أنّه في شريعة الإسلام نفسه أبغض الحلال إلى الله ، فقد جاء الحديث المأثور عن النبي ـ صلّى الله عليّه وآله ـ أنّه قال : «تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ

٥١

الطلاق يهتزّ منه العرش» (١)

وجاء في حديث آخر عنه ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة فإنّ الله لا يحب الذوّاقين والذوّاقات» (٢)

إلّا أنّه تعالى يشرّعه لأنّ الروابط الزوجية في نظر الإسلام إنّما وضعت لأهداف فردية وأسرية واجتماعية وحضارية ، فإذا أصبحت لا تؤدي الأغراض أو أضرّت بها فإنّ الطلاق يصير الأولى منها.

وحيث أنّ الطلاق عملية هدم لكيان الأسرة فقد أسّس الله دينه على الوقاية منه ، وفي هذا السياق تنتظم الكثير من القيود التي وضعت ليصبح الطلاق مشروعا ، كوجوب العدّة ، وبقاء الزوجة في بيت زوجها حينها لا هو يخرجها ولا هي تخرج منه ، وحضور شاهدي عدل حين الطلاق ، وما إلى ذلك.

ولا يعتبر الإسلام الطلاق مسألة شخصيّة يتصرف فيها الرجل كيف يشاء ـ كما يظن البعض ، وكما هي عند بعض المذاهب ـ إنّما هو قضية اجتماعية قس كيان الأسرة بصورة خاصة والمجتمع بصورة عامة. لذا يضع الله حدودا يحذّر من تجاوزها ، بل لا يقع الطلاق من الناحية القانونية والواقعية والشرعية إلّا ضمنها.

ويلاحظ إلى جانب السياق الذي يعالج مشكلة الطلاق من الناحية القانونية تأكيدات متتالية على أهمية التقوى وبصيغ مختلفة ، لأنّها الدرع التي تحصّن المجتمع ضد المشاكل كالطلاق ، ولأنّها الضمانة الحقيقية والأهم لالتزام الإنسان بحدود الله وتنفيذها في كلّ مكان وزمان.

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٠٤.

(٢) المصدر.

٥٢

بينات من الآيات :

[١ ـ ٢] في أوّل آية من السياق يوجّه الله الخطاب إلى رسوله بصورة خاصة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) باعتباره مسئولا عن الأمة وشاهدا عليها ، ثم يعمّ المسلمين ببلاغة فائقة : «طلّقتم» ، وذلك لكي ينسف المزاعم التي تقول بأنّ علاقة الرجل بزوجته وتدبيره لشؤونها أمرا خاصّا به ، ولا يمتّ بصلة إلى الدّين الذي تمثّله القيادة الإسلامية ، ويؤكّد بأنّ هذا الوهم غلط فاضح ، لأنّ علاقة الرجل بزوجته لا تقف عند حدود مصالح الفرد بل تنتشر إلى كلّ امرأة. أو ليست الزوجة عضوة في المجتمع الإسلامي ، وبالتالي لها امتداداتها وعلاقاتها بالمجتمع وبقيادته؟ فلا بد إذا أن يكون التعامل معها ضمن حدود الله وتوجيه القيادة الإلهيّة ، ولذلك بدأ الخطاب بالنبي ثم توسع إلى سائر المسلمين.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)

والملاحظ أنّه تعالى قال : (طَلَّقْتُمُ) بصيغة الماضي ، ثم قال : «فطلّقوهن» ممّا يدل على أنّ للطلاق مرحلتين : المرحلة النفسية الداخلية ، والمرحلة القانونية الظاهرية ، وتلك تسبق هذه إلّا أنّها لا تكفي لتحقّق الطلاق لأنّه يجب إجراء الطلاق وفق حدوده ومنها الصيغة التي تفيد إيقاعه كقول الرجل : زوجتي فلانة طالق ، أو : أنت طالق .. كما يفيد قوله : «طلقتم» الجزم والاستقرار أي جزمتم واستقريتم على هذا القرار في أنفسكم وأردتم إيقاعه.

ولعل كلمة «النساء» تنصرف إلى الزوجات اللاتي تمّ الدخول بهن ، فإنّ غير المدخول بها ليس لها عدّة ، لأنّ الحكمة منها حسب الأخبار منع اختلاف المياه ، وهذا منتف إلّا في المدخول بهن.

٥٣

ولأنّ هناك طلاق الجاهلية وطلاق البدعة لم يدع الوحي الكلمة هكذا إنّما حدّد النوع المشروع والصحيح من الطلاق ، وهو الذي الآيات اللاحقة تأتي على بيان حدوده وشروطه ، ومن شروطه العدة ، وأن يتمّ في طهر لم يواقعها فيه ، لأنّه وحده الذي يدخل في حساب العدة الشرعية (١).

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)

وكلمة «طلّقوهن» من الناحية القانونية تعتبر تشريعا للطلاق ، الأمر الذي يختلف فيه الإسلام عن بعض المذاهب التي حرمته ومنعته فلم تحل المشكلة ، بل تسبب في كثير من المشاكل النفسية والأسرية والاجتماعية. ولم يقل الله للعدة لكونها تختلف عن امرأة لأخرى ، فعدة الحامل تختلف عن غير الحامل ، قالوا في تفسير كلمة «لعدّتهن» أي لزمان عدتهن ، وذلك أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وابن سيرين وقتادة والضحّاك والسدّي ، فهذا هو الطلاق للعدة لأنّها تعتد بذلك الطهر من عدتها ، وتحصل في العدة عقيب الطلاق. فالمعنى فطلقوهن لطهرهن الذي يحصيهن من عدتهن ، ولا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتدون به من قرئهن ، فعلى هذا يكون العدة الطهر (٢).

وتهدينا الآية إلى أنّ المرأة لا تنفصل كلّيا عن زوجها بمجرد أن تنطلق من لسانه صيغة الطلاق الأولى ، لتكون حرّة في اختيار غيره مثلا ، إنّما تبقى في بيته وتحت مسئوليته أثناء عدتها ، فإذا انتهت العدة سرى مفعول الطلاق عمليا فتنفصل المرأة عن زوجها تماما لتصبح في غير عهدته إلّا أن يرجع إليها وترجع إليه ، لذلك قال تعالى :

__________________

(١) قال الامام الصادق (ع) «لا طلاق إلّا على طهر من غير جماع» نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٤٧ نقلا عن أصول الكافي.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٠٣.

٥٤

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ)

وقد أمر الرجل بالذات بالإحصاء لأنّ الطلاق بيده ولأنّه المسؤول عن المرأة في سكنها ونفقتها وحمايتها ، فلا بد أن يحصي لكي يعرف بالضبط متى يمكنه التحلل من هذه المسؤولية الشرعية. والتأكيد على التقوى بعد الأمر بإحصاء العدّة يهدينا إلى ضرورة الدقة في الحساب ، لأنّ التقوى هي التي تمنع الكذب والتلاعب. وفي الآية تحذير للزوجين بأنّ الله رقيب وشاهد لا يمكن مخادعته أبدا ، وينبغي اتقاء سخطه وعذابه. ولان فترة العدة مصيرية بالنسبة لعلاقة الطرفين ففيها يراجع الرجل نفسه ويقيّم زوجته من جديد ليقرر الرجوع إليها أو الانفصال عنها فيجب عليه أن يراقب الله من كلّ ذلك ويكون منصفا. ولعل الرجل بالذات يستطيع مضارّة زوجته فيتلاعب بالمدة بعيدا عن علم أيّ أحد ، وحيث لا يوجد النظام الإسلامي المتكامل فهو قادر على صنع ما يشاء دون أن يواجه أيّ إجراءات قضائية وقانونية تخالف هواه ، لذا فهو محتاج إلى مراقبة الله قبل كل شيء وتقواه (باعتبارها أهم الضمانات التنفيذية للحدود والشرائع).

ويوصل القرآن الدعوة للتقوى بالنهي عن إخراج المطلقات من بيوت الزوجية قبل العدة ، وهكذا نهيهن عن الخروج ، لأنّ ذلك هو الآخر يحتاج إلى المزيد من خشية الله وتقواه.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ)

إذن فقول الرجل لامرأته : أنت طالق لا يخرجها من مسئوليته ، ولا يبرّر لها التمرد عليه .. فإنّ البيت يبقى بيتها لا يجوز له إخراجها منه ، وهي تبقى في عهدته لا يحق لها الخروج من تحت يده ما دامت العدة لم تنقض «ثلاثة قروء وهي ثلاث حيضات ، وإن لم تكن تحيض ثلاثة أشهر ، وإن كان بها حمل فإذا وضعت

٥٥

انقضى أجلها» (١) كما يقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ.

ولعل بقاء المرأة في بيت زوجها أثناء العدة ـ بالذات مع ملاحظة ما ندب إليه الإسلام من التبرج والتزين لزوجها ـ صلاح كبير ، باعتباره يشدهما لبعضهما ، ويعيد الرجل إلى زوجته من زوايا إنسانية عاطفية وجنسية حيث يرى ضعفها وانكسارها بين يديه وحيث يرى الزينة والجمال ، ومن زاوية دينية باستشعار التقوى إن كان ثمّة طريق للرجعة والانسجام. قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «المطلّقة تكتحل وتختضب وتطّيّب وتلبس ما شاءت من الثياب لأنّ الله عزّ وجلّ يقول : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) لعلها أن تقع في نفسه فيراجعها» (٢)

ويستثني القرآن مبرّرا واحدا تبين بسببه الزوجة من زوجها مباشرة بحيث يجوز له إخراجها من بيته فلا يكون بيتها ولا يتحمل مسئولية الإنفاق وما أشبه في العدة ، وهو أن تأتي بفاحشة.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)

الأقرب أنّ الفاحشة هي المعاصي الجنسية وأظهرها الزنا والسحاق ، لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣) ، وفي ذلك جاء الحديث المأثور عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ حيث قال في تفسير الآية : إلا أن تزني فتخرج ويقام عليها الحد (٤) ..

__________________

(١) تفسير القمي / ج ٢ عند الآية الرابعة.

(٢) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٣٥٢.

(٣) الإسراء / ٣٢.

(٤) تفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٣٥٠.

٥٦

ولكنّ الفاحشة المبيّنة تعم حتى سائر الذنوب الكبيرة ، وبالذات تلك التي تؤثر في العلاقات الزوجية ، كما جاء في عدة نصوص منها المروي عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ في تفسير الآية «أنّها الإيذاء» (١) ، ومنها المأثور عن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ قال : «الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبهم» (٢).

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ)

وما دامت حدود الله فهي مفروضة وواجب مراعاتها بالسير على هداها والخريطة التي ترسمها ، لما فيها من صلاح للفرد وللأسرة والمجتمع ، ولا يجوز للإنسان أن يصطنع لنسفه حدودا غيرها ويتبعها باللف والدوران ، أو بادّعاء أنّ القضية شخصية ، كلّا ... إنّما التشريع لله وحده.

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)

لأنّه لا تبقى سعادة ولا قيمة في العلاقات الزوجية التي لا تحكمها الضوابط ، ولأنّ المجتمع الذي لا يحترم النظام يحطم بعضه بعضا ويسوده الظلم والتبادل ، ولكنّ أجلى صورة لظلم الإنسان نفسه بتعدي حدود الله العذاب الذي يلقاه في الآخرة جزاء انتهاكه حرمة أحكام الله وشرائعه.

ويبيّن الله الحكمة الأساسية التي جعلت من أجلها العدة ، ووجب بقاء المرأة في بيت زوجها أثنائها ، وهي رجاء تغيّر المواقف وعودة العلاقة إلى حالها الطبيعي حيث الوئام والمحبة ، فلا يصح إذن أن يحكم الإنسان في لحظة غضب وانتقام وردّة فعل حكم يأس على علاقته مع شريكة حياته بأنّها لا تصلح أبدا ، فإنّ الأمور بيد الله يبدّل فيها كيف يشاء ، فربما عطف القلوب على بعضها ، وألفها بعد الفرقة

__________________

(١) المصدر ص ٣٥١.

(٢) المصدر.

٥٧

برحمته.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)

ولعلّنا نهتدي هنا إلى فكرة تشريعية هامة هي : أنّ تشريع الطلاق من قبل الله عزّ وجل ينبغي أن لا يتنكر له البشر ، أو يلغوه من قائمة القوانين الاجتماعية ، لأنّه إذا يرى في موارده الموضوعية وضمن الحدود الإلهية فإنّه يعود على المجتمع بالنفع ، فإذا بتلك الروابط الضعيفة تصير متينة جدا ، وتنتهي المشاجرات وأسباب الخلاف ، ويزداد الحب بين الطرفين فلا يفكّرا إلّا في المزيد من التلاحم بعد أن ذاقا طعم الفراق بينهما ، وبعبارة : يحدث تحوّل إيجابي في الروابط الزوجية والأسرية بسببه. ومعرفة الإنسان أنّه مكره على قبول زوجته لا يبعث فيه التطلع إلى تطوير علاقته معها وتنمية حبه لها بل يجعلها وكأنّها شر لا بد منها.

وإذا انقضت العدة هنالك لا يسمح له بأن يذرها كالمعلّقة انتقاما كما يفعل أهل الجاهلية الذين لا يؤمنون بحدّ ولا قيمة في العلاقة الزوجية سوى الهوى والشهوة ، كلّا .. إنّه مخيّر بين أمرين لا ثالث لهما ، فأمّا أن يرجع إلى العلاقة الطبيعية مع أهله والتي شعارها المعروف (الحب والاحترام والعقلانية) ، وأمّا الفراق والانفصال بالمعروف (بعيدا عن التشفّي والأذى وسوء الخلق). ويقدّم القرآن خيار الرجوع ترجيحا له على الفراق لأنّ الله يريد خير الأسرة والمجتمع والحفاظ على كيانهما بالحفاظ على تماسكهما من خلال العلاقات الوطيدة التي منها العلاقات الزوجية.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)

واستخدام القرآن تعبير أمسكوا يؤكد على أنّ الطلاق في الإسلام قبل انتهاء العدة لا يعني إنهاء العلاقة الزوجية وطرد الزوجة من أسرتها ، إنما يبقى كل شيء

٥٨

على طبيعته ، فالزوج لا يزال زوجها والقائم عليها (ممسك بها) إلّا أن يختار الفراق فهنالك تتغيّر الأمور ، فتطلق من زوجها بالمفهوم العرفي.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)

على الطلاق إذا كان هو الخيار لا الرجعة ، لأنّها لا تحتاج إلى شهود بل يكفي التصريح بإرادتها أو مقاربة الزوجة ، فقد جاء في كتاب الكافي قال أبو الحسن موسى الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ «إنّ الله تعالى أمر في كتابه في الطلاق وأكد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلّا عدلين» (١) وأهمية الشهود في الطلاق لأمور منها وضع النقاط على الحروف في الإرث وفي حرية المرأة بعد فراق زوجها. فلو لا الشهود لكانت المطلقة تدعي في الإرث ما ليس لها ، ولكان الرجل يمنع مطلقته من الزواج بادعاء أنّها لا تزال في عصمته مثلا.

ولكنّ الشهادة العظمى التي يجب على المؤمن اعتبارها وإقامتها هي الشهادة لله.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ)

ولا تقوم الشهادة لله إلّا بشروطها التي تتوافر عند المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، لأنّ الله لا يحضر عند العيون والأسماع إنما يحضر عند القلوب المؤمنة به عزّ وجل. وكذلك الآخرة ليست شيئا محسوسا في الدنيا إنّما يؤمن بها المؤمنون بالغيب.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)

أي يؤمن بعلم الله بالحقائق كما تكون ، ويؤمن بالجزاء بعد البعث على كلّ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٥٢.

٥٩

خير وشر ، وشهادة الله لمن يؤمن بذلك أعظم واعظ له عن مخالفة أمره وحدوده علنا أو بما يسمّى بالحيل الشرعية.

وقد أورد الدكتور بدران أبو العينين أستاذ الشريعة الإسلامية في كلّية الحقوق بجامعتي الإسكندرية وبيروت الغربية بحثا حول الشهادة على الطلاق ودورها في تقليل نسبة الطلاق ، هذا نصها من كتابه : الفقه المقارن للأحوال الشخصية :

(ذهب أكثر الفقهاء على أنه لا يشترط الإشهاد على الطلاق ، بل استحبوه فقط استنادا إلى أنّه لم يؤثر عن الرسول ولا صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ اشتراط الشهود في الطلاق ، وحملوا الأمر الوارد في قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الندب كما في : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ، واشترط الإمامية والظاهرية لوقوع الطلاق إشهاد عدلين ، لقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق فالله سبحانه طلب الإشهاد على الطلاق الذي سيق الكلام لبيان أحكامه ، ومن المستهجن أن يعود طلب الإشهاد إلى الرجعة ، لأنّها إنّما ذكرت تبعا واستطرادا ، كما قالوا إنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى الله من الطلاق ، فالدين الإسلامي لا يرغب في أيّ نوع من أنواع الفرقة ، ولا سيما في العائلة والأسرة ، وعلى الأخص في الزوجية بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى. فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة ، بتكثير قيوده وشروطه بناء على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده عز ، أو قلّ وجوده. فلهذا اعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلا ، وللتأخير والأناة ثانيا ، عسى إلى أن يحضر الشاهدان ، أو يحضر الزوجان ، أو أحدهما عندها يحصل الندم ، ويعودان إلى الألفة ، يشير إلى هذا قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وأيضا قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، فهذا الأمر

٦٠