من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

رفض لنظام ثقافيّ واجتماعيّ وسياسيّ ثقيل.

وفي كلمة «جدّ» اختلاف بين المفسرين ، ففي البرهان عن أبي جعفر (ع) قال : «إنّما هو شيء قاله الجنّ بجهالة فحكى الله عنهم» (١) ، وعلى هذه الرواية يكون المعنى هو المتعارف أي الجدّ أبو الأب والأم. وقال الرازي : الجدّ الغنى ، ومنه الحديث : «لا ينفع ذا الجد منك الجد» أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وكذلك الحديث الآخر : «قمت على باب الجنة فإذا عامّة من يدخلها الفقراء ، وإذا أصحاب الجدّ محبوسون» يعني أصحاب الغنى والدنيا ، فيكون المعنى : وأنّه تعالى غني عن الاحتياج إلى الصاحبة ، والاستئناس بالولد (٢). ولا نجد في السياق ما يشير إلى أنّ الكلام جاء على سبيل الحكاية ، وإنّما يهدينا السياق إلى أنّه تقرير للحق الذي جرى على ألسن أولئك النفر من الجن. والذي يبدو لي أنّ الجدّ هنا بمعنى العظمة بحيث يمكن أن نجعل الغنى عن الصاحبة والولد في إطارها أيضا ، وقد أشار العلّامة الطبرسي في بيان لغويّ لطيف إلى هذا المعنى فقال : الجدّ أصله القطع ، ومنه : الجد العظمة لانقطاع كلّ عظمة عنها لعلوّها عليه ، ومنه : الجد أبو الأب لانقطاعه بعلوّ أبوّته وكل من فوقه لهذا الولد أجداد ، والجد الحظ لانقطاعه بعلوّ شأنه ، والجد خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف ، ومنه : الجديد لأنه حديث عهد بالقطع في غالب الأمر (٣) ، فالمعنيّ من «تعالى جدّ ربنا» أي سمت عظمته وعلت. والفرق بين هذه الآية وقولنا : (ربنا تعالى) أنّها هنا صرحت بالمتعلّق وهو العظمة (الجدّ) ، بينما نطلق في قولنا بدون المتعلّق علوّ الله على كلّ شيء وعن كلّ ما يصفه المشركون. وقد خصّص القرآن في الآية ذكر العظمة بالذات لأنّ مشركي الجن يعملون من خلال نسبة الشركاء لله على الطعن في عظمته والتقليل من شأنه. وكيف لا تقلّ

__________________

(١) البرهان / ج ٤ ـ ص ٣٩١.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ١٥٠.

(٣) مجمع البيان / ج ١٠ ـ ص ٣٦٧.

٤٤١

عظمة من يحتاج إلى الصاحبة والولد؟ ونفي الصاحبة عن الله هو نفي قاطع لوجود أيّ شريك له عزّ وجل ، لأنّ المزاعم بوجود الشركاء مبنيّة على أساس بنوّتهم له والتي لا تكون إلّا بوجود الصاحبة. أمّا نفي الولد فهو نفي للوالد أيضا لأنّ من يلد فهو مولود مخلوق بالقطع ، قال الإمام علي (ع) في صفة الله : «لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا» (١) ، وقال : «لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا» (٢).

[٤] ويؤكد القرآن على وجود التشابه بين المجتمع البشري ومجتمع الجن من الناحيتين الفردية والاجتماعية ، فهم خلق مكلّفون عاقلون مختارون ، ومحدودة علومهم كما نحن ، ولذلك يقعون في الأخطاء المقاربة لأخطائنا كالشرك ، وهذا يهدينا إلى خطأ الإعتقاد باطّلاعهم على كلّ شيء ، والاعتماد على ما يقولون ، إذ قد يقولون شططا. هذا من الناحية الفردية ، ومن الناحية الاجتماعية يتشابهون معنا في كونهم فرقا مختلفين ، وطبقات مستضعفة ومستكبرة ، بل ويعيشون في ظلّ أنظمة اجتماعية وسياسية متشابهة .. حيث يترأسهم سفهاء منهم ، كما يتزعم المجتمعات البشرية الحكّام والملوك.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً)

والشطط في الأصل : الكلام الذي يبعد عن الحق ، قال الراغب الأصبهاني : الشطط خفّة النفس لنقصان العقل ، والشطط : القول البعيد من الحق (٣). والكلمة تستوعب كلّ قول يحيد عن الصواب إلى الخطأ ، ولكنّ أظهر مصاديقها فيما يتصل بالله عزّ وجل هو قول الشرك ، وإلى ذلك أشار القرآن في قوله على لسان أصحاب

__________________

(١) نهج البلاغة / خ ١٨٦ ـ ص ٢٧٣.

(٢) المصدر / خ ١٨٢ ـ ص ٢٦٠.

(٣) مفردات الراغب / مادة شطط.

٤٤٢

الكهف : (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١).

وأمّا السفيه فمعناه لغة الجاهل الذي لا يحسن رأيا ولا تصرفا ، ففي المنجد : سفه سفها : كان عديم الحلم أو جاهلا أو رديء الخلق فهو سفيه ، والسافه الأحمق (٢). ويبدو أنّها كلمة جامعة لمساوئ الصفات والأخلاق. واصطلاحا ـ المعنى الذي يريده الجن من الكلمة ـ هو كلّ زعامة سياسية أو اجتماعية أو علمية شطّت بها الأفكار نحو الباطل ، وسعت في تضليل المجتمع كالحكّام الطغاة وعلماء السوء. وما أكثر ما يقوله سفهاؤنا ـ نحن البشر ـ على ربّ العالمين ، من على منابرهم ، وفي وسائلهم التضليلية ، في كلّ زمان ومكان! فما أحوجنا أن نكون كأولئك النفر من مؤمني الجن ؛ نستمع القرآن ، ونؤمن بما يهدي إليه من الرشد ، ونرفض الشرك بالله بجميع ألوانه وصوره ، وننتفض على سفهائنا تحت راية التوحيد وعلى هدى الوحي!

ونخلص هنا إلى الحقائق التالية :

الأولى : أنّ الجن ليسوا مجرد أرواح شريرة وحسب ، وإنّما فيهم المؤمنون الصالحون ، وبهذا يعالج القرآن مزاعم البشر وتصوراتهم الخاطئة عن طبيعة عالم الجن بأنّه شر محض.

الثانية : أنّ الهداية والرشد لا تتحقق لأحد بمجرد وجود الكتاب الهادي إلى الحق ، بل لا بد من التقاء بين العقل الباطن وبين رسالة الله ، وذلك بحاجة إلى المزيد من الإصغاء للآيات ، واستماعها ، والتدبر في معانيها.

الثالثة : أنّنا إذا فسّرنا الشرك بالتشريع من دون الله فإنّ الآيات تدلّ على أنّ

__________________

(١) الكهف / ١٤.

(٢) المنجد / مادة سفه.

٤٤٣

الجن كما الإنس يبتدعون لهم تشريعات غير هدى الله وآياته ، وأنّ القرآن جاء بديلا عن مناهجهم الضالة ، وعلاجا لكلّ انحراف في حياتهم .. فهو رسالة الله للعالمين إنسا وجنّا.

وإذا فسّرناه بالخضوع لغير حاكمية الله ، فإنّ الآية الرابعة بالذات تدل على أنّ الجن ـ كما نحن ـ مبتلون بالحكّام السفهاء والأنظمة الفاسدة ، وأنّ رسالة الله التي تهدف الهداية إلى الرشد وغايته التوحيد تهدف قبل كلّ شيء إلى تحرير المجتمعات إنسية وجنّيّة من ربقة الطواغيت والحكومات الظالمة (الحاكميات السفيهة).

الرابعة : أنّ أصل أكثر الأفكار الشركية ـ كما تقدّم القول ـ وأصل قبول استعباد السلطات المنحرفة ، وأصل التمييز العنصري وغيره ، يعود إلى الزعم بولادة الله ، ومن ثمّ وجود شيء أو شخص أقرب من شيء أو شخص قربا ذاتيّا إلى الله عزّ وجلّ.

[٥] ويوصل السياق كلام النفر عن طبيعتهم بما يكشف لنا واقع الجن.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً)

ولعلّ الظن هنا يعني العلم ، ولكن ليس العلم القائم على الحجة والبرهان ، وإنّما هو العلم المتأسّس على التصوّر المجرد. والآية تبيّن صفتين سلبيتين كانتا وراء تورّطهم في الضلال :

الأولى : السذاجة المغرقة إلى حدّ الوثوق في الآخرين وتصديقهم فيما يقولون ، بحمل ما يصدر عنهم على محمل الصدق والصواب.

الثانية : التقليد الأعمى للآخرين ، قال العلّامة الطبرسي معلّقا على الآية :

٤٤٤

وفي هذا دلالة على أنّهم كانوا مقلّدة حتى سمعوا الحجة ، وانكشف لهم الحق فرجعوا عمّا كانوا عليه ، وفيه إشارة إلى بطلان التقليد ، ووجوب اتباع الدليل (١).

وكلتا الصفتين نتيجة لإلغاء دور العقل وفقدان الاستقلال بالتوافق مع تيّار المجتمع والتبعية العمياء له. إلّا أنّ القرآن الذي أنزله الله لإثارة دفائن العقول فجّر فيهم لمّا استمعوا آياته كوامن قدراتهم ، العقلية والروحية ، وخلق في أنفسهم إرادة التحرّر من أغلال السذاجة والجهل والتبعية ، وإرادة التحدي للانحراف بكلّ كيانه قيما (السفه) وأشخاصا (السفهاء). إنّ مشكلة الكثير من الإنس والجن أنّهم يتخذون الأشخاص لا القيم مقياسا ، فمتى ما ضلوا أولئك وانحرفوا ضلّوا وانحرفوا معهم ، بينما يجب أن تكون القيم هي المقياس ، لأنّها الضمانة الأصيلة والوحيدة لمعرفة الحق والاستقامة على هداه.

وفيما يتصل بالكذب تهدينا الآية إلى أنّ الإنسان يرفضه ويستقبحه بالفطرة بحيث لا يتصور أنّ أحدا يجرأ على التورّط فيه ، وهذا ما يجعله فريسة للكذّابين المرّة بعد الأخرى.

[٦ ـ ١٠] ثم يحدّثنا النفر بآية محورية عن التظاهر بين بعض الإنس وبعض الجن على الباطل ، كصورة من صور الشرك لدى بعض أبناء حوّاء ، حيث الهالة الكبيرة من الأساطير والأوهام تدعوا البعض إلى الإعتقاد بأنّ الجن قوى خارقة لديها العلم والقدرة المطلقين ، مما يحدو بهم إلى الاتصال بالجن وطلب العون منهم. ويجهلون أنّ الأمر على العكس ، يضيف جهلا إلى جهلهم وتعبا إلى تعبهم ، إلى حدّ الرهق الشديد.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً)

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ـ ص ٣٦٥.

٤٤٥

والرهق : الغشاوة ، وقيل للتعب الشديد إرهاق لانّه يعلو المرهق كالغشاوة فلا يكاد يبصر بقلب ولا بعين. وإذا كان المعنيّون بالآية كلّ من غرّتهم خرافة الاستعاذة بالجن وتعظيمهم فإنّ الكهنة والسحرة ومن يتصل مباشرة بالجن مخصوصون بقول «رجال من الإنس» أو ليسوا يستعينون بهم في الشعوذة وسحر أعين الناس والكهانة؟!

ولأنّ الجن ليسوا ـ كما يتوهّم هؤلاء الرجال ـ يعلمون كلّ شيء ، ويقدرون على صنع المستحيل ، فإنّهم يزيدونهم رهقا في أبدانهم وأنفسهم ، وضلالا عن الحق باتباع أخبارهم الكاذبة ، وخوض اللجج اعتمادا على وعودهم التي يعجزون عن الوفاء بها. أمّا من جانب الجن فلعلّهم كانوا كرجال الإنس يتمادون في الغيّ والضلالة ، حيث يكبرون أنفسهم ، ويتوهّمون أنّهم أنصاف آلهة نتيجة تقديس رجال الإنس لهم واستعاذتهم بهم.

والكهنة والسحرة بدورهم كانوا يضللون من حولهم من الناس ، قال الإمام الباقر (ع): «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول : قل لشيطانك فلان قد عاذ بك» (١).

والعياذ الاعتصام وهو الامتناع بالشيء من لحاق الشر (٢) ، وللاستعاذة هنا أحد معنيين :

الأول : أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ الجن قوى شر في الطبيعة ، وبالتالي يجب إرضاؤها للتخلّص من شرها وأذاها.

__________________

(١) البرهان / ج ٤ ـ ص ٣٩١.

(٢) التبيان / ج ١٠ ـ ص ١٤٨.

٤٤٦

الثاني : أنّهم كانوا يعتمدون على الجن في مواجهة الأخطار والمشاكل ، أو في مقاومة القوى التي يخشونها ، ظنّا منهم بأنّهم ينفعونهم أو يضرونهم .. فبدل أن يفكّروا في حلّ مشاكلهم من خلال العقل والسعي تراهم يلجأون للخرافة والأساطير ، وبدل أن يتقرّبوا إلى الله عزّ وجلّ بالطاعة تراهم يعوذون بالجن ، ظنّا بأنّهم قادرون على صدّ غضب الله أو التأثير على أمره سبحانه وتعالى. وهكذا عوض أن يشحذوا إرادتهم ويعملوا فكرهم لمواجهة العدو عسكريّا يتوسّلون بهذه الثقافة الميتة والمضللة .. فلا يصلون إلّا إلى الشر والرهق.

ومن وجوه التلاقي بين الإنس والجن ـ بالإضافة إلى التعاون على الباطل ـ تشابه وجوه الانحراف والضلال في الأفكار والثقافات ، ومن بين ذلك الكفر بالآخرة كنتيجة للثقافة القائمة على الظنون والتصورات ، لا على الوعي بالواقع والمنهجية العلمية المعتمدة على الدليل والحجّة.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)

في المجمع : أن لن يبعث الله رسولا بعد موسى وعيسى (١) ، وفي التفسير الكبير : ويحتمل أن يكون المراد أنّه لن يبعث أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة (٢) ، ومع إمكانية صحة هذا الرأي إلّا أنّ الأقرب بعث الناس للحساب والجزاء ، وهذا هو جذر كلّ انحراف وفرار من إطار المسؤولية. والآية تنسف الإعتقاد الواهي بأنّ الجن آلهة خلقوا ذاتيّا ولا يموتون ، كلّا .. إنّهم يموتون ـ كما يموت بنو آدم ـ ويبعثون كما يبعث البشر ، بلى. وبعضهم يشك في البعث ممّا يدعوه إلى الشرك والمزيد من الزيغ.

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ـ ص ٣٦٩.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ١٥٧.

٤٤٧

وقد جرى جدل بين المفسرين حول هذه الآية هل هي من جملة ما حكاه النفر من الجن ، أم هي قول الله؟ فقال بعضهم : أنّها قول من الله ، وقال آخرون ـ وهو الأقرب ـ : أنّها قول الجن ، قال الفخر الرازي : واعلم أنّ حمله على كلام الجن أولى لأنّ ما قبله وما بعده كلام الجن ، فإلقاء كلام أجنبيّ عن كلام الجن في البين غير لائق (١). ولعل التعبير اختلف من المتكلم «وإنّا» إلى الضمير الغائب «وأنّهم» لأنّ المتكلم نفر من المؤمنين ، وهم ليسوا من جملة الكافرين بالبعث ، ممّا دعاهم إلى نسب الأمر إلى غيرهم.

ثم يعود السياق إلى مجراه (ضمير المتكلم) باعتبار أنّ ما يأتي أمر عام وشامل حتى للنفر الذين آمنوا من الجن ، باعتبارهم كسائر الجن سعوا لاستراق السمع ، إلّا أنّهم حيث احتجبوا عن ذلك تحسسوا قدرة ربهم ، وآمنوا به تائبين.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً)

والحرس هم الملائكة ، بينما الشهب أسلحتهم التي يرمون بها كلّ من يحاول استراق السمع ، فهي مشحونة جنودا وعتادا إلى حدّ الامتلاء ، بحيث لا يجد مسترق ثغرة ينفذ منها إلى الملأ الأعلى. وقال : «لمسنا» ولم يقل : (رأينا) لأنّ اللمس صفة مادية ممّا يؤكّد المعنى ويقرّبه. وحقّا : إنّهم لمسوا السماء وعرفوا تلك الحقيقة من خلال التجربة العملية .. إذ هلك الكثير منهم بالشهب وهم في مهمة الاستراق.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ)

سابقا قبل أن يشاء الله منعهم تماما.

(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)

__________________

(١) المصدر.

٤٤٨

ومن كلمة «مقاعد» نستفيد أنّهم كانوا يسترقون السمع من ثغرات معينة يقعدون فيها. ويشير أئمة الهدى إلى الحكمة التي أغلق الله أبواب الاستراق بسببها عن الشياطين والجن ، يقول الإمام الصادق (ع): «وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك ، وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وإنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء ، ويبلس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله ، لإثبات الحجة ونفي الشبهة» (١).

إذن فالجن لا يعلمون الغيب حتى يعوذ بهم الناس. قال صاحب البصائر بتعبير لطيف عن صلة هذه الآية بما قبلها من الآيات : فالإنس كانوا يعوذون بالجن لأنّهم يعلمون الغيب أو خبر السماء فجاءت هذه الآية لتقول : أنّهم «لا يعلمون الغيب ، وأنّ السماء ممنوعة عنهم» (٢).

واختلف في حراسة السماء ، فمن قائل أنّها لم تكن قبل بعث النبي (ص) ومن قائل غير ذلك ، وظاهر الآية يشير إلى ما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي إذ قال : إنّ الحادث هو المليء وكثرة الحرس لا أصل الحرس ، وظهور قوله : «نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ» في أنّا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلّها ، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٣). وفي الأحاديث : أنّهم كانوا يحجبون عن سماء بعد أخرى حتى ولد خاتم المرسلين فحجبوا تماما ، وعن الإمام علي ـ عليه السلام ـ قال : «ولقد همّ إبليس بالظعن في السماء لمّا رأى من الأعاجيب تلك الليلة ـ التي ولد فيها رسول الله ـ وكان له مقعد في السماء

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣٦٩.

(٢) تفسير البصائر / ج ٤٩ ـ ص ٣٧٦.

(٣) الميزان / ج ٢٠ ـ ص ٤٣.

٤٤٩

الثالثة ، والشياطين يسترقون السمع ، فلمّا رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع فإذا بهم قد حجبوا عن السموات كلّها» (١) إذن فمن يدّعي معرفة الغيب من الكهنة والمنجّمين باعتبارهم يتصلون بالجن فإنّما يزعمون باطلا حيث حجبوا باعترافهم أنفسهم.

والسورة الكريمة تهدينا إلى طبيعة المنهج القرآني الواقعية ، فآياته لا تدور في الفراغ ، ولا تطرح الأساطير كما يقول الكفّار والمشركون ، وإنّما يعالج قضايا ومشاكل نفسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية حقيقية ، وحيث تنزّلت سورة الجن فمن أجل اجتثاث جذور الكهانة والشرك بالجن والشياطين ، وهكذا يعالج القرآن تلك النظريات الشائعة في المجتمعات. ولعل سائلا يقول : وهل عالج القرآن المذهب الوجودي والماركسي وغيرهما من الفلسفات التي تجدّدت في القرون الأخيرة؟ ونقول : بلى. لأنّ هذه المذاهب ليست إلّا تطويرات للنظريات القديمة ، فقد كانت الوجودية موجودة تاريخيّا وإن كانت بصورة أخرى مبثوثة في الأفكار اليونانية التي دعت الإنسان لإثبات وجوده والالتذاذ الدائم ، وهي مشابهة لدعوة سارتر وتلامذته الآن ، كما كانت الفلسفة الاشتراكية حاضرة في عهد من عهود إيران تحت عنوان (المزدكية) وهي اشتراكية بلغت حدّ الشيوعية والإباحية.

وتخصيص القرآن سورة باسم الجن صورة حيّة لواقعيته ، لأنّ استعاذة رجال من الإنس بهم وتلقّيهم لهمزاتهم كان ولا يزال من الأسباب الرئيسية لانحراف البشر وضلالهم عن الحق ، حيث الخلط بين تلك الإلقاءات وبين الوحي. وما فلم (الوساوس الأخيرة للسيد المسيح) وكتاب (الآيات الشيطانية) إلّا دليل على الجهل بالوحي ، ومن ثمّ الخوض في شأنه بغير علم.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ٤٣٦ عن الإحتجاج عن الإمام علي (ع).

٤٥٠

والتطلع إلى معرفة الغيب من الدوافع الملحّة للإنسان نحو الاتصال بأيّ جهة يتوقّع معرفتها به لعلّه يعلم بعضه ، ولكنّ قسما من الناس يخطئون إذ يعوذون بالجن بدل أن يربطوا أنفسهم بوحي الله ، مع أنّهم لا يعلمون من الغيب شيئا ، وما أدلّ على ذلك من اعترافهم أنفسهم بهذه الحقيقة.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)

إنّهم بهتوا بالإرهاصات والتحوّلات الكونية التي رافقت بعث خاتم الأنبياء ، كامتلاء السماء حرسا وشهبا ، وعجزهم عن استراق السمع بعدئذ ، فلم يستوعبوا الأمر ، وتخبّطوا في تفسير تلك الظواهر هل هي شر لّسكّان الأرض كأن تكون من أشراط الساعة أم خير أراده الله؟! وهذا يؤكّد قصورهم عن علم الغيب ، وجهلهم بتفسير الظواهر الكونية المتجدّدة كما يجهلون كثيرا من تلك الظواهر ، فلا ينبغي التعويل عليهم في تفسير شيء من الظواهر كالمرض والفقر والهزيمة وما أشبه مثلما هو شأن بعض المستعيذين بهم. ولا ريب أنّ بعث الرسول (ص) خير عظيم لمن في الأرض ، حيث ينقذهم برسالته وقيادته من ظلام الباطل والضلال والجهل ، إلى نور الحق والهدى والعلم ، وهكذا منع الشياطين من الاستراق نعمة عظيمة لهم حيث يزول السبب الذي تتشاكل به حقائق الوحي وتتشابه مع أباطيل الجن. قال ابن جريح : قالوا : لا ندري لم بعث هذا النبي ، لأن يؤمنوا به ويتبعوه فيرشدوا ، أو لأن يكفروا به ويكذّبوه فيهلكوا كما هلك من قبلهم من الأمم؟ (١) ، وقيل معناه : أنّ هذا المنع لا يدرى العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبيّ يبعث ويهدي إلى الرشد ، فإنّ مثل هذا لا يكون إلّا لأحد هذين الأمرين (٢). قال العلامة الطباطبائى : وقد صرّحوا بالفاعل لإرادة الرشد وحذفوه في جانب الشر أدبا ، ولا يراد شر من جانبه

__________________

(١) الدر المنثور / ج ٦ ـ ص ٢٧٣.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ـ ص ٣٦٩

٤٥١

تعالى إلّا لمن استحقّه (١). ولقد قال الله : «رشدا» ولم يقل (خيرا) في مقابل الشر إشارة للرسالة التي تعطي الهدى ، ولأنّ الرشد سبب كلّ خير وسنامه ، بل هو المصداق الأعظم للخير.

[١١ ـ ١٢] وينسف ربّنا نظرة التقديس المطلق للجنّ ببيان اختلافهم ، وأنّ فيهم من لا يستحق الاحترام لتخلّفه عن الصلاح وتورّطه في الفساد العريض.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ)

أقلّ مرتبة. وكلمة «دون ذلك» تتسع لدرجات مختلفة يلي بعضها بعضا في التسافل حتى آخر درك من الانحراف والضلال ، ويعلوا بعضها فوق بعض حتى درجة الصلاح. ثم يضيفون :

(كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)

أي مذاهب وجماعات مختلفة متفرقة ، من قدّ الثوب يقدّه إذا شقّه وقطعه ، ففرّقه خرقا بعد أن كان قطعة واحدة. ومن الآية نهتدي إلى أنّ الاختلاف في مدى الصلاح بين الجن أفرادا وجماعات راجع إلى اختلاف مذاهبهم ، وأنّهم كالبشر مختلفون في توجّهاتهم ونظراتهم إلى الحياة. ولعل تأكيد القرآن على التشابه بين الخلقين (الإنس والجن) يأتي لبيان أنّهم خلق من خلقه تعالى يتعرّضون لما يتعرض له الناس ، وليسوا آلهة كما يزعم البعض فيعبدهم ويشرك بهم من دون الله.

وما دام الجن صالحين ودون ذلك فإنّ الاتصال بهم قد يعود إلى الإنس بالخير لو كان طرفه الصالحين ، وقد يعود عليهم بالشر العظيم إذا كان طرفه الضالين الفاسدين

__________________

(١) الميزان / ج ٢٠ ـ ص ٤٤.

٤٥٢

منهم ، وهذا ما يجعل الاعتماد على قول الكهنة وأخبارهم محلّ إشكال وشك ، باعتبار مصادره تحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : على مذاهب مختلفة ، مسلم وكافر ، وصالح ودون الصالح. وقال شيخ الطائفة : والطرائق جمع طريقة ، وهي الجهة المستمرة مرتبة بعد مرتبة ، والمعنى : إنّا كنّا على طرائق متباينة ، كل فرقة يتباين صاحبها كما بين المقدود بعضه من بعض (١). وخلاصة القول : أنّهم مختلفون في مذاهبهم وتوجهاتهم ، وفي كلّ فرقة يختلف الأفراد عن بعضهم صلاحا وانحرافا.

وإلى جانب بيان القرآن تصوّر الجن عن علم الغيب ، ممّا ينفي المزاعم بأنّهم آلهة أو انصاف آلهة ، يبيّن ضعفهم وعجزهم باعتبارهم مخلوقين عن مقاومة إرادة الله ، بل عجزهم حتى عن الهرب من سلطانه وحكومته ، الأمر الذي يهدم ثقافة الشرك بهم من أساسها.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ)

بصورة مباشرة من خلال مواجهة إرادته ، أو بصورة غير مباشرة من خلال القفز على سننه أو خرقها ، ولو كانت هذه القدرة موجودة عند الجن لأظهرها شياطينهم ، ولخرّبوا كثيرا من قوانين الطبيعة ونظمها ، ولكنّهم عاجزون عن ذلك .. ممّا يهدينا إلى أنّهم محكومون مثلنا بإرادة الله وسننه ، فخطأ إذن أن يعتمد بعض الإنس عليهم ويعوذ بهم زعما بأنّه يحتمي بهم عن مشيئة الله ، على أساس أنّهم قوى قاهرة وضاغطة تعالى الله عمّا يصفون ، فإنّ وجودهم كسائر المخلوقين مرتكز في الضعف والعجز ، فهم لا يستطيعون أن يدفعوا عن أحد إرادة الله ، ولا يجدون أنفسهم سبيلا للهرب منه.

__________________

(١) التبيان / ج ١٠ ـ ص ١٥١.

٤٥٣

(وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)

لأن إرادته تعالى ليست محدودة بالأرض حتى يفلت من يطير إلى غيرها من إرادته ، ويعجزه سبحانه ، إنّما هيمنته شاملة للوجود كلّه دون استثناء أو فرق بين كوكب وآخر ، ولا بقعة وبقعة أخرى. قال الزمخشري : أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنّا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء (١).

والظن في الآية ليس بمعنى الشك ، فإنّ الجن على يقين تامّ علميّا بأنّهم لا يعجزون ربّ العزة ، بل هو بمعنى اليقين الذي يصل إلى حدّ التصور والاستحضار للحقيقة بالظن وكأنّها حقيقة مادية قائمة ، أي تركيز قوة التخيّل والتصور بصورة شديدة.

[١٣] ولقد عرف النفر من الجن أنفسهم المحدودة بالجهل والعجز فتحسسوا الحاجة الفطرية الملحّة بضرورة الاستعاذة بالخالق المتعالي عن أيّ عجز أو حدّ فعرفوا ربهم فاتخذوا معرفة النفس وسيلة لمعرفة الرب. أوليس من عرف نفسه فقد عرف ربه كما في الحديث؟ فآمنوا به ، وراحوا يعوذون به إيمانا منهم بأنّ الاطمئنان والسعادة لا يوجدان إلّا عنده عزّ وجلّ.

وحيث سمعوا آيات الذكر الحكيم وهم في مخاض الشك المنهجي والبحث عن سبيل الرشاد أصغوا لها مسامع قلوبهم ، وسلّمت لحقائقها أفئدتهم ، فآمنوا به.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ)

ولعلنا نستشف من هذا المقطع أنّ المتكلمين كانوا يعانون من مشكلة التعتيم

__________________

(١) الكشاف / ج ٤ ـ ص ٦٢٧.

٤٥٤

والتضليل ، لأنّهم كانوا في بيئة جاهلية كجاهلية البشر قبيل بزوغ فجر الرسالة.

ويشير النفر إلى الخلفية التي دعتهم الى اختيار الهدى بالإيمان بالله ، ألا وهي كون الإيمان سبيل السعادة.

(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)

وعلى عكس ذلك الشرك بالقوى المخلوقة كالجن والأوثان التي لا تزيد المشرك بها سوى الخسارة بعد الخسارة ، لأنّها محدودة وعاجزة عن تحقيق الضر والنفع لنفسها فكيف للآخرين؟!

إنّ البعض كالفرقة اليزيدية قدّسوا الشيطان ، وفلسفوا موقفهم على أساس أنّه رمز قوى الشر الذي ينبغي اتقاؤه بعبادته وكسب رضاه ، بينما تركوا عبادة الله لأنّه كما يزعمون ربّ الرحمة الذي لا خوف من جانبه .. وراحوا يعظّمون الطاووس لأنّه في معتقدهم مسكون بالشيطان! والحال أنّ الإيمان بغير الله لا يؤمّن للإنسان الاطمئنان ، بل يضاعف خسارته وتعبه. بلى. إنّ الإيمان بالله وحده الذي يملأ القلب بالاطمئنان إلى حسن الجزاء ونعم العاقبة ، فلا بخس ولا رهق.

قال صاحب المجمع : البخس النقصان ، والرهق العدوان (١) ، ورافقه التفسير الكبير إلّا أنّه أضاف : والرهق الظلم ، ثم فيه وجهان : الأول : لا يخاف جزاء بخس ولا رهق ، لأنّه لم يبخس أحدا حقّا ولا ظلم أحدا فيخاف جزاءهما ، والثاني : لا يخاف أن يبخس ، بل يقطع بأنّه يجزي الجزاء الأوفى ، ولا يخاف أن ترهقه ذلّة ، من قوله «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» (٢) ، وأصل البخس القلة ، قال تعالى (وَشَرَوْهُ

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ـ ص ٣٧١.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ ـ ص ١٥٩.

٤٥٥

بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (١) ، وإنّما قيل كذلك لأنّ ما دفعوه ثمنا ليوسف أقل من ثمنه حتى في السوق لو كان عبدا يباع. وسمي البخس بخسا لأنّه في حقيقته الأخذ من مال الناس بما هو تقليل لحقوقهم الواقعية (٢). وما تنفيه هذه السورة (البخس والرهق) بالنسبة للمؤمنين بالله على عكس ما أثبتته الآية السادسة في شأن المستعيذين بالجن من الإنس.

[١٤ ـ ١٥] ويعود النفر المؤمنون من الجن للتأكيد بما يشبه الآية الحادية عشر على أنّهم مختلفون.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ)

والمسلم هو الذي يسلم نفسه بكلّ كيانها للحق ، فيكيّفها معه معنويّا وعمليّا ، وأمّا القاسط فهو الظالم الذي يضمّ قسط الآخرين إلى نفسه بغير حق ، على خلاف المقسط الذي يعطي حق الآخرين ، وإنّما قابل القرآن كلمة المسلم بالقاسط مع أنّها تقابل الكافر عادة لأنّ من أظهر معاني الإسلام هو العدل ، ولأنّ التسليم للحق هو العامل الرئيسي في تجسيد قيمة العدالة في الواقع ، ولأنّ المطلوب من الإسلام ليس مجرد التسليم اللفظي بل كبح جماح النفس الأمّارة بالسوء.

(فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)

قال الراغب : حرى الشيء يحري ، أي قصد حراه ، أي جانبه وتحرّاه (٣) ، وفي تفسير البصائر تحرّى تحرّيا : طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن ، وطلب أحرى الأمرين وأولاهما ، وتحرّى الأمر توخّاه وقصده ، والتحرّي هو الاجتهاد في

__________________

(١) يوسف / ٢٠.

(٢) لقد مرّ بيان لمعنى الإرهاق عند الآية (٤٣) من سورة القلم فراجع.

(٣) مفردات الراغب مادة حري.

٤٥٦

تعرّف ما هو أولى وحق ، وفي الحديث : «تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر» أي تعمّدوا طلبها فيها (١).

وعلى هذا التفسير للكلمة يكون المعنى أنّ من اختار الإسلام وسلّم له فقد جانب الرشد والهدى ، وهذا مسلّم به لأنّه حينئذ سيهديه الله بنور الوحي وآيات الرسالة ، ممّا يكمل عقله وعلمه فيجعله راشدا. والآية تأكيد على أنّ الإسلام ليس مجرد تسليم النفس للحق ، بل هو إضافة إلى ذلك وعي الحق بعد البحث عنه طلبا للرشد.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)

ومن هنا نهتدي إلى أنّ أظهر معاني (تحرّي الرشد) طلب النجاة من النار ومن غضب الله ، بمعرفة طريق الهدى بالنفس والعقل ، وكذلك بتجنّب الذنوب والخطايا والقيام بالصالحات ، وذلك ما لم يفعله القاسطون ممّا أدّى بهم إلى العذاب. ولا يقول القرآن أنّهم سيكونون حطبا لجهنّم ، بل قال «كانوا» بصيغة الماضي ، والسبب أنّ مرتكب الذنوب والفواحش قد جعل نفسه وقودا للنار لحظة اقتحامها بالفعل. قال الزمخشري : القاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، ونقل طريفة عن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ : أنّ الحجاج قال حين أراد قتله : ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال! حسبوا أنّه يصفه بالقسط والعدل ، فقال الحجّاج : يا جهلة! إنّه سمّاني ظالما مشركا ، وتلا قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) وقوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (٢).

وجرى جدل بين المفسرين في عذاب الجن ، فقد أجمعوا على إمكان تعذيب

__________________

(١) تفسير البصائر ج ٤٩ ص ٣٢٠ / ٣٢١.

(٢) الكشاف ج ٤ ص ٦٢٨.

٤٥٧

القاسطين من الإنس بجعلهم حطبا لجهنم ، ولكنّهم اختلفوا في كيفية تعذب الجن بالنار وهم من جنسها ، فقال بعضهم كالفخر الرازي : إنّهم وإن خلقوا من النار لكنّهم تغيّروا عن تلك الكيفية وصاروا لحما ودما هكذا (١) ، ومن أطرف ما قرأته في هذا الشأن : أنّ بهلول أتى إلى المسجد يوما وأبو حنيفة يقرّر للناس علومه ، فقال في جملة كلامه : إنّ جعفر بن محمد تكلّم في مسائل ما يعجبني كلامه فيها : الأولى : يقول : إنّ الله سبحانه موجود ولكنّه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهل يكون موجود ولا يرى؟ ما هذا إلّا تناقض! الثانية : إنّه يقول : إنّ الشيطان يعذّب في النار مع أنّ الشيطان خلق من النار ، فكيف يعذّب الشيء بما خلق منه؟! الثالثة : إنّه يقول : إنّ أفعال العباد مستندة إليهم ، مع أنّ الآيات دالة على أنّه تعالى فاعل كلّ شيء!

فلمّا سمعه البهلول أخذ مدرة وضرب بها رأسه وشجّه ، وصار الدم يسيل على وجهه ولحيته ، فبادر إلى الخليفة يشكو من بهلول ، فلمّا أحضروا بهلول وسئل عن السبب قال للخليفة : إنّ هذا الرجل غلّط جعفر بن محمد (ع) في ثلاث مسائل : الأولى : أنّ أبا حنيفة يزعم أنّ الأفعال كلّها لا فاعل لها إلّا الله ، فهذه الشجة من الله تعالى وما تقصيري؟! الثانية : أنّه يقول : كلّ شيء موجود لا بد أن يرى ، فهذا الوجع في رأسه موجود مع أنّه لا يراه أحد ، الثالثة : أنّه مخلوق من التراب وهذه المدرة من التراب وهو يقول : إنّ الجنس لا يتعذّب بجنسه ، فكيف يتألّم من المدرة؟! فأعجب الخليفة كلامه ، وتخلّص من شجّة أبي حنيفة (٢).

[١٦ ـ ١٧] ويستثير الواحد إنسيّا أو جنيّا فكره بحثا عن الأسباب التي أدّت إلى انحطاط حضارته ، وتخلّفه عن ركب التقدم ، فلا يجد مهما أنعم الفكر والنظر

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ١٦٠.

(٢) شجرة طوبى / ج ١ ص ٤٩.

٤٥٨

سوى إجابة واحدة هي الانحراف عن النهج السليم والتفرق بالسبل الملتوية ، وبتعبير القرآن : الانحراف عن الطريقة لأنّها وحدها التي تأخذ الإنسان إلى السعادة.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)

أي كثيرا فراتا. فما هي تلك الطريقة؟

إنّ تعريف القرآن لها بألف ولام العهد والجنس يهدينا إلى أنّها طريقة معينة للإنس والجن ، وليس سواها طريقة حتى يستراب فيها ذهن السامع أو ينصرف عنها. ولقد كثرت الأقوال في بيان المقصود بالطريقة إلّا أنّ أقربها ـ كما يبدو لي ـ الحق المتمثل في :

١ ـ الفطرة التي أركزها الله في خلقه ، حيث الإيمان والتسليم للحق .. فإنّ الاستقامة عليها هي السبيل إلى كلّ خير وسعادة.

٢ ـ خط الرسالات الإلهية والأنبياء ، قال العلّامة الطبرسي : لو استقاموا على طريقة الهدى بدلالة قوله : «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (١) ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وقوله : «وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» (٢). والفطرة والرسالات مع الأنبياء يكمل واحدهما الآخر في هداية الإنسان إلى الطريقة السليمة ويثبّتانه عليها لو اتبعهما ، وهي ـ أي الطريقة ـ واضحة عند كلّ مكلّف بالاستقامة عليها ، إلّا أنّ القليل هم الذين يلتزمون بها كما يريد الله ، ويستقيمون

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٧١.

(٢) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ١٦٠ / ١٦١.

٤٥٩

عليها حتى النهاية رغم المصاعب والعقبات. بلى. إنّ النتائج الحضارية للرسالة قد لا تظهر في اللحظة الأولى التي يقرر المجتمع فيها الالتزام بقيمها والاستقامة عليها ، لأنّ القيم الرسالية تشبه إلى حدّ بعيد البذرة التي يزرعها الفلّاح في الأرض .. لا بد من الصبر عليها حتى تؤتي أكلها ورعايتها في الأثناء ، ممّا يفرض الاستقامة كأساس في السعي الحضاري ، ووعي هذه القيمة الواقعية من شأنه تثبيت الإنسان على الهدى ، ودفع روح القنوط واليأس من الرسالة عن فكره ونفسه. أترى لو يئس الرعيل الأول من الإسلام حيث لم يكونوا يرون منه سوى التضحيات تلو التضحيات فهل كانوا يبنون حضارته على امتداد المعمورة؟ أو هل كانوا يحقّقون تلك الأهداف والمنجزات العظيمة التي وصلوا إليها بفضل الصبر والاستقامة؟ كلّا .. وما أحوج الأمة الإسلامية وهي تعيش مخاض الصحوة والعودة إلى رسالتها أن تلتفت إلى هذه الحقيقة ، وتعزم السير إليها قدما مهما حاول الأعداء ثنيها عن الطريقة بتهويل التضحيات والمشاكل التي تواجهها كل أمّة ناهضة في السنين الأولى للنهضة ، فإن الاستقامة وحدها التي توصل الأمم إلى موسم الحصاد حيث يكسبون المعطيات بكلّ شموخ واقتدار ، فلا يطعم الماء الغدق إلّا من تذوّق مرارة الاستقامة وتحمّل تحدياتها وجراحاتها.

ولقد توقّف المفسرون عند الشطر الثاني من الآية (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) متسائلين : كيف يعد الله الجن والإنس بالماء الغدق كنتيجة للاستقامة على الطريقة والحال أنّ الجن ليسوا ذوي أبدان إنسية أو يحتاجون إلى الماء فيكون الوعد به مغريا عندهم؟ والجواب :

أولا : إنّنا نفهم من عموم القرآن بأنّ الحاجة إلى الماء مرتكزة في كلّ كائن حي ، لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (١) بغضّ النظر عن المقدار

__________________

(١) الأنبياء ٣٠.

٤٦٠