من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

لمسيرة الإنسان نحو الرقي والتحضر الحقيقي ، ومن ضلال كبير في الحياة وبالذات في جانبها الروحي والاخلاقي والثقافي ، مما يجعله عاجزا عن الوصول الى أهدافه وطموحاته الحقيقية التي لا يبلغها أحد الّا بعبادة ربه. الثانية : ان المجتمع يومئذ لم يكن ضالّا عن المبادئ الأولية وحسب ، بل كان بعيدا عن ربه حتى في التفاصيل العملية لمفردات الحياة ، إذ لم يكن يخشى الله ويتقيه ، وذلك يعني انفلاته من كل الضوابط ، واسترساله مع الهوى ، حيث أن ضمانة الالتزام بالقيم الانسانية والدينية على السواء مرهونة بمدى التقوى عند الفرد والمجتمع.

كما تكشف لنا الكلمة الأخيرة (وَأَطِيعُونِ) عن وجود الفساد في النظام السياسي ومن ثم الاجتماعي ، باعتبار أن النظام السياسي إطار للنظام الاجتماعي وسائر النظم ، والمتدبر موضوعيّا فيما ورد عن قوم نوح من آيات القرآن يجد فيها بيانا واضحا لطبيعة القيادة السياسية والاجتماعية ، والتي ترمز بدورها الى الانحراف المبدئي والعملي ، فهي لم تكن قائمة على أساس الكفاءة ، إنما على أساس الأموال والأتباع ، الأمر الذي قسم المجتمع الى طبقتين : الاولى : طبقة المترفين الحاكمين ، والأخرى : طبقة المعدمين (الأراذل بتعبير المترفين) ولا ريب أن القيادة في أيّ مجتمع رمز لقيمة الواقعية ، ومن المعالم الاساسية لمسيرته.

وحيث رأى نوح ـ عليه السلام ـ الوضع المتخلف والفاسد عقد العزم على تغييره ، فجعل خطوته الأولى تشخيص العوامل الأساسية للانحراف باعتباره المصلح وبيانها للناس ، وواضح للمتدبر ، أنه لم تخدعه المظاهر والنتائج ، انما توجه الى الجذور الأولية ، لأن علاجها هو النهج السليم لعلاج الأعراض والظواهر التي لا تعدو كونها مجرد نتائج لها ، وهذه من أهم خصائص الحركات الرسالية.

ومع أننا نقرأ في الآية معالم الوضع القائم إلا أن الظاهر منها هو الإشارة الى

٤٠١

البدائل الحضارية الثلاثة (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) مما يؤكد ان التفكير في البدائل من قبل المصلحين لا يقلّ أهمية عن التفكير في جذور التخلف ، بل إنه الأهمّ ، إذ كيف يعرف الناس أن المسيرة تكون الى الأمام بعد هدم الواقع إذا لم تكن البدائل مطروحة بوضوح كاف؟ ولقد جسّد نوح (ع) هذه القيمة في حركته فأكد : ان تحكيم القانون الالهي (بعبادة الله) والذي لا يتم إلّا (بالتقوى) وتطبيق تفاصيل النظام الاجتماعي من جهة ، والطاعة للقيادة الرسالية من جهة أخرى هو البديل القويم للوضع الفاسد ، ومن ثم السير بالمجتمع نحو الحياة الأفضل.

ونستطيع القول : أن عبادة الله بديل للأصول المنحرفة ، والتقوى بديل للفروع الخاطئة ، والطاعة للقيادة الرسالية من أجل إصلاح الممارسات اليومية السلبية ، وبالتعبير القانوني الحديث تمثل عبادة الله الدستور (الخطط الاصولية العامة) وتمثل التقوى القانون (مجموعة القوانين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية و.. و..) ، وتمثل الطاعة للقيادة اللوائح (مفردات الأمور والتطورات) ومن هنا قال بعض المفسرين : وفي الآية ندب الى أصول الدين الثلاثة : التوحيد المشار اليه بقوله : «اعْبُدُوا اللهَ» والمعاد الذي هو أساس التقوى ، والتصديق بالنبوة المشار اليه بالدعوة الى الطّاعة المطلقة (١).

وفي قول نوح ـ عليه السلام ـ : (وَأَطِيعُونِ) دلالة واضحة واكيدة على ضرورة بل وجوب أن يطرح القائد المصلح نفسه بديلا للقيادة المنحرفة ، لأنه ما دام قادرا على تخليص المجتمع من بليته فهو مسئول عن النهوض بمهمته ودوره ، وفي الإسلام تفريق بين حب الرئاسة الذي يبغضه الله ، وطموح الإمامة الذي يندب اليه

__________________

(١) تفسير الميزان عند الآية.

٤٠٢

ويفرضه على أهل الكفاءة (١).

ثالثا : التأكيد على المعطيات :

وهذا من الأصول في كلّ دعوة ، أن يبين الداعية المعطيات التي تنبثق عن اتباع دعوته ، ولا ينبغي للرساليين الغفلة عن ذلك ، لأنه يساهم بصورة إيجابية فعالة في دفع المجتمع للالتزام بالمنهج المطروح ، وخلق ديناميكية التطبيق في نفوس أفراده ، ولعل ذلك من دواعي تفصيل القرآن في التشويق الى الجنة كنتيجة للعمل بالحق والتخويف بالنار كعاقبة لا تباع الباطل ، وبذات المنهج والمنطق حدث نوح قومه :

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)

وهذان المعطيان أهم ما تحتاجه الأمم والمجتمعات التي تتجه نحو الهلاك والنهاية حضاريا وماديا ، ذلك أن العذاب الأليم الذي يحل بالأقوام ليس الا نتيجة للذنوب والانحرافات التي يتورطون فيها ، فتكون سببا في هلاكهم ، والسؤال : لماذا قال الله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وليس ذنوبكم ، مع أن من تفيد التبعيض؟

لعل ذلك لأمور ثلاثة :

الأول : أن مجرد العبادة والتقوى والطاعة للرسول لا تجبّ عن الإنسان كل ذنوبه ، لأن منها ما هو متعلق بحقوق الناس ، فلا تغفر إلّا بإرضائهم وأدائها ، ومنها ما لا يغفر الا بالعمل الصالح بعد الايمان ، بلى. إن (العبادة والتقوى والطاعة) تسبب غفران الله لأهم الذنوب ، أي التي تؤدي الى الهلاك ، وهي بعض ذنوب الناس وليس كلها.

__________________

(١) لقد مر الكلام في سورة الفرقان بهذا الشأن عند قول الله (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) فراجع

٤٠٣

الثاني : أنه تعالى لا يريد أن يعطي أحدا صكّ الأمان المطلق حتى لا يغتر بإيمانه وعمله ، إنما يوازن فيه الخوف إذ من الممكن انه لم يغفرها ، والرجاء بما غفر له ، ويعبر القرآن عن هذه المنهجية الالهية بصورة أخرى مثل : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) والتي تفيد الترجي لا القطع.

الثالث : وإذا فسرنا الغفران بأنه محو الآثار السلبية للذنب ، فانه يمكننا القول : بأن لبعض الذنوب آثارا واقعية لا تنمحي بمجرد الإيمان ، بل يمحو الله ما يترتب عليها من الآثار الأخروية وبعض الآثار الدنيوية السيئة.

وقيل المعنى : يغفر لكم ذنوبكم السالفة ، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليهم ، فلما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها مطلقا ، لما في ذلك من الإغراء بالقبيح. (١)

ولأن الأجل الذي ينتظر قوم نوح مترتب على منهجهم الخاطئ في الحياة ، وبالتالي ذنوبهم الفظيعة ، فان عدولهم الى المنهج الرسالي سوف يجنبهم الأخطاء ، ومن ثم يؤخر أجلهم الى مدته الطبيعية أو أكثر وهذا من أعظم الأهداف التي ينشدها الأنبياء باعتبارهم يأتون منقذين.

ومن قوله تعالى : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) نهتدي الى ان للإنسان (فردا أو أمة) اجلين : أجل حتمي وآخر معلق ، فاما الحتمي فهو الأجل الاعتيادي الذي يوافيه كل فرد فرد عند انتهاء مدته المقدرة له بالموت بعد ستين سنة ، أو سبعين أو أقل أو أكثر ، وأما المعلق فهو الأجل الذي يكتب للمجتمعات بسبب من الأسباب سلبا بتقصير الأجل المسمى نتيجة الذنوب ، وإيجابا بمدّه وإطالته نتيجة الأعمال الصالحة جاء في الحديث عن الصادق (ع) في تفسير قوله : «ثم قضى أجلا وأجل

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٣٠ ص ١٣٤

٤٠٤

مسمّى عنده ...» قال : «الأجل الذي غير مسمّى موقوف ، يقدم منه ما شاء ، ويؤخر منه ما شاء ، وأمّا الأجل المسمّى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر ..» (١)

وعنه ـ عليه السلام ـ أنه قال : «الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله وحتمه ، والمسمّى هو الذي فيه البداء ، يقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير» (٢).

والذي يظهر من الآية الاولى والرابعة : أنّ قوم نوح حينما ضلوا وكفروا قدر لهم الهلاك السلبي ، وثمة التقاء بين الأجلين هو أنهما حينما يأتيان لا يمكن دفعهما بشيء أبدا إلّا أن يصلح الناس أمرهم من قبل ان يأتيهم العذاب.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

ويؤكد الله هذه الحقيقة لأن الإيمان بها يزرع الخشية في النفس ، ويدفع الإنسان إلى المزيد من الجد والعزم واستغلال الفرصة.

[٥ ـ ٧] تلك كانت رسالة شيخ المرسلين ـ عليه السلام ـ التي تصدى لإبلاغها ، وأعمل كل جهده وصبره وحكمته لكي يؤمن قومه بها ، ولكنهم رفضوه ورفضوها إصرارا على اتباع المستكبرين ، وعلى ضلالات الشرك ، بالرغم من أنهم وهم يسيرون الى الهلاك أحوج ما يكونون إليه وإليها.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً)

وهذه من صفات المجاهدين الرساليين أنهم لا يعرفون وقتا مخصوصا يحصرون فيه

__________________

(١ ، ٢) موسوعة بحار الأنوار ج ٥ ص ١٣٩

٤٠٥

دعوتهم وجهادهم ، إنما يسخرون كل طاقاتهم ، ويصرفون كل أوقاتهم من أجل رسالتهم وأهدافهم ، يدفعهم إلى ذلك أمران مهمّان : أحدهما : الرغبة في ثواب الله وخشية عقابه ، والآخر : إحساسهم بعظمة أهدافهم وتطلعاتهم ، وأن بلوغها لا يمكن إلّا بالجد والاجتهاد والمزيد من السعي ، إذ الأهداف كبيرة والإمكانات محدودة ، فلا بدّ من سد النقص الكمي في العدد والعدة بالكيف ، الأمر الذي لا يجعل حتى ليلهم ـ كما يتصور البعض ـ وقت راحة واسترخاء ، فإنهم إن لم يشتغلوا فيه بدعوة الناس والأدوار الاجتماعية المباشرة ، فسيجعلونه فرصة للتفكير في شأن رسالتهم ومسئولياتهم ، والاتصال بربهم تعرّضا لنفحاته ومرضاته ، وتلقّيا لإرادة العمل الدؤوب في سبيله ، وتزودا بالإيمان وروح التسليم.

ولكن جهود نوح ما كانت تنفع قومه لأن بينهم وبين دعوته حجبا سميكة من الإصرار والتحدي الأعمى للحق ، بل كانت تزيدهم فرارا منه ، وبعدا عن الحق ، وهذه من خصائص الصراع بين الحق والباطل ، انه كلما صعدت جبهة الحق من تحركها ونضالها ازدادت جبهة الباطل في عنجهيتها وعنادها.

(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً)

وقد احتار المفسرون بسؤالهم : كيف يعقل أن تكون دعوة نوح سببا لفرار قومه من الحق؟ إلا أن المسألة طبيعية وقد أكدنا في مواضع من تفسيرنا على القول بأن في داخل الإنسان ضميرا يدعوه الى الحق (فطرته ونفسه اللوامة وعقله) وحينما يعقد الكفّار عزمهم على رفض الإيمان فإنهم يواجهون حربا نفسية باطنية مع الضمير ، مما يدعوهم لتحدي عقولهم ووجدانهم ، ومن جملة وسائل التحدي للحق التهرب من مجالس الدعوة والدعاة ، وذلك لإقناع النفس بعزة الإثم ، وفي عالم السياسة لا يخفى على المراقب أن وجود الحركات الرسالية في مجتمع ما تؤثر على النظام القائم

٤٠٦

بصورة معاكسة ، حيث يقوم بالمزيد من القمع والظلم ، وقد سمى دعوته بالدعاء لأنها في حقيقتها طلب لنجاتهم من العذاب الأليم.

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ)

وبالتالي يتأخر عنهم العذاب الأليم ، والأجل المعلق.

(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)

كناية عن الحجب التي تمنعهم عن سماع الدعوة والاستجابة لها ، وربما كان بعضهم يضعها بالفعل.

(وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ)

اي استتروا بها فهي حجاب كالغشاء تمنعهم من الاتصال بالدعوة ، بل حتى من مجرد النظر إلى الداعية ، والى جانب هذه الحجب الظاهرة ، هناك حجب باطنة تغشى قلوبهم أهمّها : الإصرار على الباطل ، والضلال ، والاستكبار عن التسليم للحق.

(وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)

والمفعول المطلق «استكبارا» يفيد التأكيد والتهويل. أي استكبروا أيّما استكبار فاحش ، تحدوا به الحق رمزا وقيما ، وهذا تمهيد لتبرير الحكم الإلهي بعذابهم تبريرا موضوعيا ، فإن من يعرف مدى تودد نوح لهم وتلطفه بهم من جهة ، ومدى عنادهم وجحودهم من جهة أخرى لا يستبعد العذاب عن ساحتهم ، ولا يشك في عدالة الله. وفي الدر المنثور عن قتادة قال : بلغني أنه كان يذهب الرجل بابنه الى نوح فيقول لابنه : احذر هذا لا يغرنك ، فان أبي قد ذهب بي وانا مثلك

٤٠٧

فحذّرني كما حذرتك (١) ومن ظاهر الأخبار أنه ـ عليه السلام ـ عاصر ثلاثة أجيال ، كلها كانت لا تؤمن به إلّا قليل منهم. لأن معدل الأعمار يومئذ كان ثلاثمائة سنة تقريبا. قال الصادق (ع): «كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة» (٢).

[٨ ـ ١٢] وأمام الموقف الصلف الذي اتخذه قوم نوح (ع) ضده وضد رسالته لم يجعل خياره الهزيمة والتراجع ، ولا التوافق والمداهنة ، إنما أصر بعزيمة الإيمان على المضي قدما نحو الهدف ، وأداء الرسالة بأكمل وجه ، فهو متيقن من الحق الذي بين يديه ، ولا يساوره أدنى شكّ فيه ، فالأهداف والقيم بالنسبة اليه ثوابت لا تقبل التبديل أو التحويل ، وهذه من أهم خصائص الخط الرسالي الأصيل. ولذلك عمد شيخ المرسلين الى تغيير أسلوبه.

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً)

اي صارح قومه بأمره ، فبدل أن يطرح أهدافه وقيمه لمن يتصل بهم بصورة غير مباشرة ، خشية ردات الفعل ، أو خشية عدم استيعابها جاهرهم بها.

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً)

ومن الآيتين يتضح لمن يدرس تاريخ الحركة الرسالية في عصر نوح (ع) انها كانت تنتقل بين الحين والآخر من أسلوب الى غيره تبعا لمقتضيات الظروف ، وهذه مسيرة طبيعية عند الحركات الرسالية وبالخصوص تلك التي يمتدّ عمرها اجيالا وتعاصر تطورات كثيرة ، فليست اذن العلنية صحيحة على طول الخط ، كما أن

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٦٨

(٢) موسوعة بحار الأنوار ج ١١ ص ٢٨٩

٤٠٨

التقية ليست أسلوبا ثابتا الى الأبد ؛ لان الحركة الرسالية حركة واقعية ، فقد لا تعلن الدعوة لأن الظروف السياسية والاجتماعية والتربوية لا تسمح بذلك.

وقد احتار المفسرون في التفريق بين الجهار والإعلان ، والذي يبدو : ان الجهار يعني التصريح الواضح والمباشر بأفكار الدعوة وقيمها للناس ، وقد تكون هذه العملية محدودة فيمن يتصل بهم الرساليون اتصالا خاصا ، فالقيم الرسالية كالتغيير الجذري والكفاح المسلح أمر صعب ومستصعب لا يتحمله الناس من البداية مما يضطر الداعية الرسالي الى الارتقاء بهم نفسيا وفكريا حتى يتسنى له مجاهرتهم ببعض الأمور ، فليس صحيح مثلا ان يفهم الفرد أنه في تنظيم ثوري رسالي من أول لقاء بل لا بد من إيصاله الى هذه الحقيقة شيئا فشيئا لكي يمكن مصارحته بها واستيعابه لها. أو أن الجهر مرحلة بين الكتمان والإعلان فليست سرية مائة في المائة ولا العكس ، أما الإعلان فهو أشبه ما يكون بالإعلام ـ حسب المصطلح الحديث ـ أي الطرح الجماهيري السافر للدعوة الرسالية ، وقوله في الأخير : «وأسررت» يدلنا على ان هذه المراحل والتكتيكات ليست ذات مراتب حتمية (اسرار ، ثم إجهار ، ثم إعلان) كلا .. وإنما هي معطيات يمليها الواقع ، فقد ينتقل العمل الرسالي من الإعلان الى الكتمان الشديد مباشرة لسبب من الأسباب.

ومع هذه التغيرات الظاهرية تبقى الاستراتيجيات المحورية واحدة وثابتة ؛ إنها دعوة الناس الى العودة الى الله ، والترغيب في معطيات الإيمان ، واتباع الرسالة ، والتحريض على نبذ الأنداد الموهومين من دونه عز وجل.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)

أي دعاهم الى الاستغفار ، وطمأنهم بأن الغفران صفة الله الرحمن ، ولا ريب ان المعنى من الاستغفار ليس مجرد القول : استغفر الله ، انما هو الندم على الخطايا في

٤٠٩

النفس ، والرجوع منها بالقول والعمل ، واللجوء الى الله استجارة به منها ومن عواقبها ، وبتعبير آخر : إن الاستغفار برنامج متكامل وهذا ما تفصح عنه المعطيات التي يأتي بها.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)

اي مطرا كثيرا متواصلا ، تدرّه السماء كما يدرّ ضرع البقر الحليب ، وقد قدم القرآن ذكر الماء لأنه عصب الحياة والحضارة.

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ)

يعني أن الاستغفار يتسبب في النمو اقتصاديا وبشريا ، وقيل : انهم كانوا قد قحطوا ، وأسنتوا (أجدبوا) وهلكت أموالهم وأولادهم (قبيل العذاب الأليم) ولذلك رغبهم في رد ذلك بالاستغفار مع الإيمان والرجوع الى الله (١) والى ذلك ذهب أكثر المفسرين ، ونهتدي من هذا السياق الى أن الإيمان والاستغفار ليس من شؤون الآخرة وحسب بل هو متصل أيضا بحياة الإنسان في الدنيا. وعن قتادة قال : رأى نوح (ع) قوما تجزعت أعناقهم حرصا على الدنيا ، فقال : هلمّوا الى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا والآخرة (٢) وإلى ذات الحقيقة أشار الإمام علي (ع) في خطبة الاستسقاء حيث قال : «وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ، ورحمة الخلق فقال سبحانه : «الآية» (٣).

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٦١

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٦٨

(٣) نهج البلاغة خطبة ١٣٤

٤١٠

تستوعب المياه وتقلّها للشاربين إنسا وحيوانات ، وسقاء للجنات والأشجار والمزارع ، وثابت علميا وعمليا ان وجود الأنهار من العوامل الحضارية الأساسية ، لأنه سبب الزراعة التي هي بدورها من مظاهر الحضارات ومقوماتها ، والجنات والأنهار يشبع كلاهما حاجات مادية ومعنوية عند الإنسان. ولا ريب أن الجعل هنا لا يتم عن طريق المعجزة بحيث تتنزل الجنات من السماء بأشجارها وأثمارها أو تزداد الأموال والأولاد بعوامل غيبية مجردة ، انما تحدث البركة وتكون الحضارة بعاملين (سعي الإنسان الذي قمّته ورمزه الاستغفار+ بركة الله وفضله) ونحن يجب ان نقرأ في ثنايا دعوة نوح ـ عليه السلام ـ حينما قال (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) كل عوامل التقدم والترقي من سعي وإتقان وجد .. أو ليس الاستغفار غاية سعي الإنسان نحو الفضيلة والكرامة؟! أو ليس يعني تجنب الأخطاء ، والسير على المنهج القويم؟ وكما ان الاستغفار يجلب الخير والتقدم للأمم فإن الذنوب تسلبهما ، وتصير بها الى الشر والتخلف ، ويبدو من سياق الآيات ومن الأحاديث : أن قوم نوح أصيبوا بنقص في الأموال والأنفس والثمرات. بل أنضب ماؤهم ، فجاءت دعوة النبي نوح ـ عليه السلام ـ بهدف إصلاح مسيرتهم وانتشالهم من حضيض هذه المشاكل إلى آفاق البركة والرفاه ، قال العلامة الطباطبائي معلقا على هذا السياق : أي أن هناك ارتباطا بين صلاح المجتمع الانساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الانسانية ، وطيب عيشه ونكده (١) والى ذلك أشار الفخر الرازي مستدلا بقول الله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (٢) وبقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣).

__________________

(١) الميزان ج ٢٠ ص ٣٠

(٢) الروم ٤١

(٣) الشورى ٣٠

٤١١

[١٣ ـ ١٤] ويخاطب نوح قومه بلغة الوجدان ، مذكّرا بنعم الله وآياته لعلهم يعودون الى فطرتهم ، فيعبدون الله ويتقونه ، ويطيعونه بدل الطاعة للمترفين.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)

قال ابن عباس : الوقار هو الثبات ، من وقر إذا ثبت واستقر ، ومنه قوله : «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ» فوقاره تعالى ثبوته واستقراره في الربوبية ، المستتبع لألوهيته ومعبوديته (١) وقيل : المعنى ما لكم لا توحدون الله تعالى ؛ لأن من عظّمه فقد وحده ، وعن الحسن : ما لكم لا تعرفون لله حقّا ، ولا تشكرون له نعمة (٢) وقد ذهب أكثر المفسرين الى القول بالعظمة ، ويبدو أننا نهتدي الى معنى الآية لو قارناها بقول الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٣) فان توقير الله بحق هو معرفة قدره بمعرفة أسمائه وصفاته الحسنى ، والعيش في الحياة على ضوء هذه المعرفة ، وذلك لا يمكن الا بعبادته وتقواه واتباع رسله ورسالاته.

وتكشف لنا الآية عن مدى الضلال المتورط فيه أولئك القوم ، ونستوحي ذلك من كلمة (لا تَرْجُونَ) إذ تبيّن أنهم ليس لا يوقرون ربهم وحسب ، بل لا يرجون أن يوقره الآخرون ، ولا أن يأتي يوم يوقرونه في أنفسهم ، فليس ثمة ولا بصيص نور في فكرهم يمكن أن يوقروا ربهم به في المستقبل.

ثم يذكر نوح بعض الآيات والنعم الإلهية الهادية إلى الايمان بالله والتسليم ، ومن ثم توقيره لو أن الإنسان توجه إليها وأراد شكرها ، وأولها خلق الإنسان ونظام خلقته.

__________________

(١) تفسير البصائر ج ٤٩ ص ٢٠١

(٢) راجع المصدر فقد أورد (١٥) رأيا في الآية

(٣) الانعام ٩١

٤١٢

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)

ولهذه الكلمة معان من بينها :

١ ـ المراحل التي يمر بها الإنسان في خلقه ، حيث يبدأ نطفة ثم علقة ثم مضغة ... وهكذا ، حتى يصير شيخا كبيرا ، وان خضوع البشر الحتمي لهذه الأطوار دليل أكيد على أنه لا يملك أمر نفسه في كل شيء ؛ إنما حياته محكومة بالقانون والنظام ، الذي يهديه الى المقنن والمنظم ، كما يدله على الحساب والجزاء ، حيث أن الإخراج من الأرض كما أطوار الخلق حقيقة لا يمكن لأحد أن يرفضها أو يدعي القدرة على مقاومتها.

٢ ـ التنوع البشري الذي يؤدي الى التكامل ، فقد خلق الله الناس مختلفين في مواهبهم وقدراتهم وتوجهاتهم ، مما يكامل مسيرتهم في الحياة ، فلم يخلقهم كلهم أمراء ولا أطباء. وذلك من عظيم نعم الله ، وإلا أصبحت الحياة قسرية ، وذات لون واحد مما يؤدي الى فشلها قال تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (١) (سخريّا : أي سخرة) ، وثابت بالتجربة أن النظريات القسرية نظريات خاطئة فاشلة ، فقد خطط ماوتسي تونغ وسعى لجعل المجتمع الصيني على نمط واحد ، وغفل عن أن المجتمع بحاجة الى التنوع لكي يتقدم ويتطور ، ولذلك وجدنا كيف ان من خلفه خطّأه وخطّط للتغيير. قال الامام الباقر (ع) في معنى الأطوار : «وقد خلقكم على اختلاف الأهواء والإرادات والمشيئات» (٢).

[١٥ ـ ٢٠] وينطلق السياق بنا يعرفنا ببعض نعم الله ومننه علينا في الآفاق ،

__________________

(١) الزخرف / ٣٢

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٨٧

٤١٣

وذلك ليطمئن الإنسان بأنّه مهما جال ببصره وفتش في الوجود فإنها تهديه ايات الخلق الى ربه ، حيث آثار قدرته وحكمته ورحمته مطبوعة على كل جزء جزء فيه.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)

انها سبع سموات ولكنك لا تجد فيها فطورا ولا تناقضا ، انما هي منسجمة يكمل بعضها بعضا ، كما الأطوار في الخلق والناس ، والآية تهدينا إلى أن من بين المقصود بالسموات السبع تلك التي تظل الأقاليم السبعة وذلك بدلالتين ، الاولى : انه قال : (أَلَمْ تَرَوْا) مما يعني ان المقصود مما يراه الإنسان ويشاهده وذلك لا يمكن لو قصدت السموات التي تنقل بينها النبي (ص) في رحلة المعراج لأنها طبق فوق أخر وليس ظاهرا منها سوى الأولى.

والثانية : ان التعبير في الآية اللّاحقة جعل القمر نورا فيها كلها ، بينما أطلق سراجية الشمس ، لأن دور القمر محدود في أفاق الأرض فقط ، بينما دور الشمس يشمل كواكب وآفاقا أخرى فكلمة «فيهن» إذن إشارة الى سماوات الأقاليم وليست السموات التي بعضها فوق بعض حسب الظاهر ، إذ القمر في واحدة منهن وليس فيهن جميعا.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)

وبهذه الآية كشف القرآن للبشرية جانبا من أسرار الكون في وقت ما كانت تحلم بالتطلع الى معرفة طبيعة الأرض فكيف بالاجرام التي حولها كالقمر والشمس؟ إن القمر يختلف عن الشمس في خلقته ودوره ، فبينما خلقت من كتل النيران حتى توفر الطّاقة الحرارية ، والإضاءة فيها ذاتية ، نجد القمر كالمرآة التي تعكس أشعة الضوء الساقطة من الشمس ، وكما أنه تعالى لم يترك الأرض

٤١٤

والسماء تكوينيا مظلمتين من دون نور وسراج ، كذلك لن يدع المجتمع البشري من دون إمام ونهج يهتدى بضوئه ، فلا غرابة اذن ان نجد بعض الروايات تأول القمر والشمس في أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ وكل امام حق .. قال أبو ذر ـ عليه السلام ـ : «ان أهل بيت النبوة فينا كالقمر الساري» (١)

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)

قال شيخ الطائفة ابو جعفر الطوسي : فالانبات إخراج النبات من الأرض حالا بعد حال ، والنبات هو الخارج بالنوى حالا بعد حال ، والتقدير في «أنبتكم نباتا» اي فنبتم نباتا ، لأن «أنبت» يدل على نبت من جهة انه متضمن له (٢) وعلق صاحب المجمع فقال : يعني مبدأ خلق آدم ، وآدم من الأرض والناس ولده ، وهذا كقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) وقيل : أنبت جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ، وقيل معناه : أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر (٣).

فالإنسان اذن ابن الأرض ، لا فرق بين آدم وبين كل فرد فرد من أبنائه ، فمع أنه ـ عليه السلام ـ خلق مباشرة من التراب إلّا أننا عند التحليل العلمي الواقعي نهتدي الى أن كل ذرأت الجسم أصلها الأرض.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها)

كما أنبتكم منها حيث يذوب البدن بالموت وتتحلل أعضاؤه في التراب.

__________________

(١) البرهان ج ٤ ص ٢٧٠

(٢) التبيان ج ١٠ ص ١٣٨

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٦٣

٤١٥

(وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً)

بالبعث والنشور ، وإننا نعرف بأن هناك تشابها بين الإنسان والنبات في أطواره ، حتى في الإخراج من الأرض التي تصير يوم البعث كما رحم الأم يمطرها الله أربعين صباحا ، فاذا بك ترى الأرض تنشق عن الناس سراعا.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً)

نفترشها ونمشي على ظهرها ، والجعل يعني التمهيد الذي تم بلطف الله ورحمته من خلال القوانين الطبيعية ، وخلق الأرض بالكيفية التي تجعل الحياة عليها ممكنة وميسرة.

(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)

اي طرقا كثيرة واسعة ، وقيل : طرقا مختلفة ، والفج المسلك بين الجبلين (١) وهذه الآية تأكيد على انه تعالى بسط الأرض لنا ، إذ لو لم يبسطها ما كنا نجد لنا طرقا للمشي فيها والتنقل بين بقعها المختلفة ، ومن الآيات الالهية انه لا توجد بقعة الا وفيها سبلا يستطيع البشر ان يسلكها ، وقوله : «سبلا» بالجمع يهدي الى الكثرة والتنوع في نفس الوقت ، فبسط الله للأرض يعم اليابسة والماء والهواء.

وإذا قلنا : ان الفجاج هي الطرق بين الجبال فانه ثابت عمليا بأن أغلب الطرق البرية بين البلدان تمر من خلال السلاسل الجبلية ، وذكر الله للطرق التي بين الجبال بالذات لأنها أظهر آية ودلالة من التي في السهوب والصحاري.

[٢١] وهكذا ذكرنا سبحانه بتلك النعم لعلنا نعرف عظيم منّه علينا فلا نعبد

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ١٣٧

٤١٦

سواه ، وتذكير نوح ـ عليه السلام ـ لقومه بمنائح الله ونعمه يأتي في سياق استثارة عقولهم وضمائرهم التي حجبها الضلال لعلهم يتذكرون الحق ويتبعونه ويعرفون ان تلك النعم من عند الله رب العالمين ، وأنها تدعوا الإنسان الى التسليم بالحق قيما وقيادة ، وبعبارة أخرى : تفرض القيم الأساسية التي تتضمنها رسالات الأنبياء على البشر (عبادة الله وتقواه والطاعة للقيادة الرسالية) الا ان قوم نوح بلغوا من الانحراف عن الحق والجحود ما لا تنفع معهم الموعظة.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي)

وهذا لوحده ذنب عظيم ان يرفض الإنسان التسليم لقيادة الحق ، ولأن أحدا لا يستطيع ان يعيش فراغا قياديا فإنهم اتبعوا قيادات الباطل والضلال.

(وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً)

ونستوحي من الآية : انهم كانت تحكمهم طبقة الأغنياء المترفين ، ومن الطبيعي ان يقف هؤلاء ضد دعوة الأنبياء والقيادات الرسالية وطرحهم القيادي لأنهم حريصون على رئاسة المجتمعات والسيطرة على افرادها وخيراتها ومقدراتها ، قال العلامة الطبرسي : اي اتبعوا أغنياء قومهم اغترارا بما أتاهم الله من المال ، فقالوا : لو كان هذا رسولا لكان له ثروة وغنى ، وقيل : اتبع الفقراء السفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والأولاد الا هلاكا في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة (١) وذلك مما يدلنا الى مدى ارتكاسهم في المادية والشيئية ، إذ اعتبروا الأموال والأولاد مقياسا لاختيار القائد وليس الحق ، وهنا نصل الى فكرة هامة وهي : ان الخطأ الفظيع الذي وقع فيه قوم نوح (ع) أنهم لم يسلكوا السبيل القويم في الحياة مما أدى

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ١٣٧

٤١٧

بهم الى الخسران العظيم ، مع انه تعالى فرض على الإنسان ان يختار طريقه تشريعيا وفي الحياة المعنوية والاجتماعية كما يختار طريقه بين فجاج الأرض ومناكبها.

وقد أكد نوح ذنب معصيتهم له بالذات ، فلم يقل مثلا : أنهم لم يعبدوا الله أو لم يتقوه لأن معصية القيادة الالهية في الواقع معصية لله وعنوان كل انحراف وفساد ، وإنما لم يعبدوا ربهم ولم يتقوه لأنهم لا يريدون الطاعة للرسول واتباعه ، بل إن العصيان هنا شامل لعدم استجابتهم للاهداف الثلاثة كلها (عبادة الله وتقواه واتباع القيادة الرسالية) لأنه هنا يعني رفض الدعوة والداعية كلّا وتفصيلا.

والسؤال لماذا يتبع الإنسان المترفين؟ ونجيب : لأنه ينبهر بالمال أو القدرة فيلهث وراء من يملكهما ، لعله يحصل على بعض الفتات من الخبز ، أو تصيبه عزة من عزته ، ولكن الأمر على العكس من ذلك بالضبط إذ المجتمع الذي تشيع فيه هذه الثقافة سوف يصبح فريسة ميسرة للمترفين ، فيمتصون جهوده ويستغلونه استغلالا بشعا ، ولو أننا حققنا في ظاهرة تسلط المستكبرين من أصحاب الثروة والقدرة على المجتمعات والشعوب المستضعفة لوجدناها متأسسة على هزيمة المحكوم نفسيا أمامهم ، ولا يزيد المستضعفين ذلك الا خسارة ، لأنه كلما زاد الانبهار زاد المستكبر استكبارا ، واستغلالا لجهود المستضعفين ، وقمعا لتطلعاتهم المشروعة ، وطبيعي أن من لا يسخر المال من أجل مصالحه الحقيقية سوف يزداد خسارة كلما ازداد مالا ، من هنا قال ربنا سبحانه : (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) لأن المعنى هنا شامل لخسارة الطرفين التابع والمتبوع ، بينما قد لا يشملهما لو جاء التعبير بما هو مفترض (لم يزدهم) ذلك أنه إذا خسر المتبوع فستنجر الخسارة نفسها على التابع الذي يلحق به في كل شيء.

[٢٢] في قلب الإنسان عقل يتوهج بقيم الصدق والصلاح ، ووجدان يقظ

٤١٨

يحاكم صاحبه عند كل انحراف ، وفي المجتمع الانساني عرف عام يلاحق المجرم باللّائمة واللعنة .. كل ذلك يدعوا المجرم الى صنع ثقافة تبريرية للتهرب من وخز الضمير ومحاكمة الفطرة كما يدعوه الى مقاومة المصلحين وإسكات أصواتهم المعارضة ، لعلهم ينجون من لومهم وادانتهم ولعل هذا هو السبب في أن الإنسان كلما ازداد إجراما كلما ازداد مكرا وكيدا لأنه تزداد حاجته الى الفرار من لوم ذاته وإدانة العرف العام.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً)

بنسبة عصيانهم وضلالهم ، وهذا ما يفسر مدى اهتمام المستكبرين وأذنابهم في هذا العصر الذي تزداد فيه الجريمة ، ويطغى فيه المستكبرون بأجهزة الاعلام ووسائله ، حتى تكاد الميزانية الإعلامية تضاهي أحيانا الميزانية العسكرية.

[٢٣ ـ ٢٦] ومن عظيم مكرهم تواصيهم بالباطل وتضليلهم لبعضهم ، إبقاء على الانحراف وإصرارا على الضلال.

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)

وقد اختلف المفسرون في هذه الأسماء ، وأقرب الآراء : أنها ترمز الى رجال عظماء من أبناء آدم ، أوحى إبليس الى تابعيهم باتخاذ تماثيل لهم ، ثم أمرهم بعبادتهم ، وبهذا وردت بعض النصوص.

وقولهم : «لا تذرن» حتى نهاية الآية (٢٣) مما لاكته ألسن المترفين الذين أحسوا بخطر الرسالة على زعامتهم ومصالحهم ، وهم لا يدعون الناس للتمسك بتلك الأصنام ايمانا بها انما لأنها رمز للثقافة التي تمكنهم من السيطرة على المجتمع ، كما تنفخ دعاة العنصرية فيها وفي رموزها لمواجهة الحركات التحررية.

٤١٩

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً)

بهذه الدعوات الباطلة ، حيث وجدوا بين الناس من اتبعهم بسبب الجهل أو انسياقا وراء المصلحة الدنيوية.

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً)

قيل : ان الضمير في «تزد» راجع الى الأصنام ، فالمعنى أنها لا تزيد الظالمين باتباعها الا ضلالا ، وقيل : ان الجملة استئنافية ، وهي دعوة من نوح على قومه بأن لا يزيدهم الله إلّا ضلالا ، وهي دعوة عليهم بكل شرّ مستطير ، أو ليس الضلال أصل كل شر ، وقد استجاب الله دعاء نبيه الذي أيقن بأن الحياة لا تصلح لهم ، وان الموت أولى لهم ، وكذلك اوحى اليه ربه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١) فأهلكهم غرقا بالطوفان ، وهنا يلفتنا السياق الى حقيقة أساسية ، وهي أن سنة الجزاء مرهونة بالإنسان نفسه ، فهي تجري في سياق العدالة الإلهية ، وان كانت مظهرا لقدرة الله أيضا ، ولو أننا فتشنا في الأسباب لهلاك أي قوم لوجدناها أعمالهم ومساعيهم لا غير ، وهذه بالضبط قصة قوم نوح مع الطوفان.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً)

أصابهم الغرق في الدنيا ، ونقلهم الموت إلى سوء العذاب في الآخرة ، حيث نار جهنم التي تنتظر كل كافر ومشرك ، وما كان موتهم في لجّة الأمواج ينجيهم من نيران جهنم في البرزخ ، لأن تلك النار تكمن في وجودهم.

(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً)

__________________

(١) هود / ٣٦

٤٢٠