من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ)

والقاضية التي ينتهي بها كلّ شيء. وحينما تدقّق النظر في الآيات قد تهتدي إلى حقيقة لطيفة وذلك من تكرار صيغة التمنّي على لسان أصحاب النار (الآيات ٢٥) وهي : أنّ من أهم أسباب الخسران هو التمنّي الذي يعتمد عليه الكافر بدلا عن العمل والسعي ، والذي لا يغيّر في الواقع شيئا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .. وإنّه قادر على النجاة من سوء العاقبة والجزاء والانتقال من أصحاب الشمال إلى أصحاب اليمين ولكن عبر السعي والعمل ، وليس بالتمنيات الخادعة التي يلوكها بلسانه حتى في عرصة القيامة.

[٢٨] وحيث أنّ القيامة ـ كما سبق وبيّنا ـ سمّيت بالحاقة لكونها تحقّ الحق (تظهره وتغلّبه) فإنّ أصحاب الشمال الذين حجبهم ضلالهم عن معرفة الحقائق والتسليم لها في الدنيا تزيل حوادث الآخرة وأهوالها الغشاوة التي على قلوبهم فيرون الحق بكلّ وضوح وجلاء ، ويكتشفون أخطاءهم الفادحة التي طالما أصرّوا عليها وحسبوا أنّهم يحسنون بها صنعا. وتبرز هنا المفارقة الرئيسية بين المؤمن الذي لا يفاجئه البعث والجزاء ، باعتباره كان حاضرا عند هذا الغيب وهو في الدنيا «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» ، وبين الآخر الذي كذّب بالآخرة ، ووجد نفسه أمام حقيقتها يومئذ فاكتشف أخطاءه في وقت لا تنفع المعرفة ولا ينجي الإيمان. ومن أفدح الأخطاء التي يقع فيها الإنسان ، وبالتالي يدخل بسببها أكثر الناس نار جهنم ، هو الاعتماد على المال ، والحال أنّه لا ينفع أحدا في الآخرة ، لأنّ العمل الصالح وحده زاد النجاة والفلاح فيها.

إنّ المال بذاته لا يغني ، وإنّما ينفع إذا عمل به أعمال خير وصلاح بالإنفاق في سبيل الله .. ولم يفعل ذلك أصحاب الشمال لأنّهم كفروا بالحساب والجزاء.

٣٠١

والآية توجّهنا إلى معنى لطيف للغنى فهو لا يتحقق بوجود المال وكثرته ، إنّما بأدائه دوره ، وهدفه في الحياة ، فأصل الغنى من ارتفاع الحاجة ، ومع أنّ المال يقضي للمترفين والمخدوعين بعض الحاجات الظاهرية ، وتستطيل به أيديهم إلى كثير من بهارج الدنيا وزخارفها ، إلّا أنّ ذلك لا يعدّ غنى إنّما الغنى حقّا يكون بانقضاء الحاجات الحقيقية للبشر ، وأهمّها رضى الله والزحزحة عن النار التي لم يوظّف أصحاب الشمال وبالذات المترفون منهم أموالهم من أجل قضائها.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ)

ولقد بيّنت أحاديث أئمة الهدى المعنى الأصيل للغنى ، قال الإمام علي (ع): «الغنى والفقر بعد العرض على الله» (١) ، وجاء رجل إلى الإمام الصادق (ع) فشكا إليه الفقر ، فقال : «ليس الأمر كما ذكرت ، وما أعرفك فقيرا» ، فقال : والله يا سيدي ما اسبنت (ما عرفت) ، وذكر من الفقر قطعة والصادق (ع) يكذّبه ، إلى أن قال (ع) : «خبّرني لو أعطيت بالبراءة منا مائة دينار كنت تأخذ؟» قال : لا ، إلى أن ذكر ألوف الدنانير ، والرجل يحلف أنّه لا يفعل ، فقال له : «من معه سلعة يعطى هذا المال لا يبيعها هو فقير؟» (٢) ، والعمل الصالح والولاية هما اللذان يبقيان مع الإنسان ويغنيانه يوم القيامة ، وليست الأموال التي تفنى أو يرتحل عنها خالي اليدين.

ويضيف القرآن على لسان من يؤتى كتابه بشماله قوله :

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)

__________________

(١) نهج البلاغة / حكمة ٤٥٢.

(٢) موسوعة بحار الأنوار / ج ٦٧ ص ١٤٧.

٣٠٢

ولعل من أسباب تقديم الحديث عن المال على الحديث عن السلطان أنّ المال هو طريق الإنسان للسلطة والحكم والهيمنة في أغلب الأحيان. وفي معنى السلطان ذهب أكثر المفسرين القدماء والجدد إلى أنّه الحجّة ، باعتبارها تعطي صاحبها الحق والهيمنة ، وتجعل الآخرين يسلّمون له ، قال القمي : «سلطانية» أي حجته ، ومثله الدر المنثور والكشّاف والتبيان ، وزاد الرازي بقوله : ضلّت عني حجتي حين شهدت عليّ الجوارح بالشرك (١) ، وما أرجحه أن تصرف الكلمة إلى عموم السلطان ، بينما (الحجة) من مصاديقه ، وهناك مصداقان أساسيان آخران نجد الإشارة إليهما :

الأول : السلطان بمعنى الهيمنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عادة ما ترافق المال والثروة عند المترفين ، فتزيدهم بعدا عن الحق وغرورا ببقائها ، فإنّها تسلب بالموت وفي الآخرة بصورة أشمل ، وقد أشار إلى هذا المصداق العلّامة الطبرسي بقوله : «سلطانية» أي ملكي وتسلّطي على الناس (٢) ، وما أحوج الحكّام والمترفين إلى استحضار ذلك المشهد في أذهانهم لعلّه يدعوهم إلى العدل وتوجيه السلطة في مرضاة الله عزّ وجلّ .. وإنّ الآيتين «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» لهما أيضا لسان حال كلّ طاغية وحاكم قرعته يد القدرة والجزاء في الدنيا قبل الآخرة.

الثاني : السلطان بمعنى الإرادة ، إذ أنّ الوجه البارز من الكلمة هو الهيمنة التي تجعل إرادة المتسلّط ماضية ونافذة ، وهذه هي الأخرى تسلب بكلّ ما تؤدي إليه الكلمة من معنى ، لأنّ السلطة هنالك للحق ولمن تمسك به.

__________________

(١) راجع التفاسير المذكورة عند الآية.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٤٨.

٣٠٣

وتؤكّد الآية اللاحقة هذا المعنى حيث يأتي أمر الله لملائكة العذاب بوضع الأغلال على أعدائه كرمز لسلبهم الحرية ، فلا يستطيعون حتى حراكا وهم يعذّبون. وإنّه ليقطع عليهم تمنياتهم وملامتهم لأنفسهم بنقلهم إلى عذاب النار.

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ)

«فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته» ، قال رسول الله (ص): «ثم تجيء صحيفته تطير من خلف ظهره فتقع في شماله ، ثم يأتيه ملك يثقب صدره إلى ظهره ، ثم يفتل شماله ، ثم يقال له : اقرأ كتابك ، قال : فيقول : أيها الملك! كيف أقرأ وجهنم أمامي؟ قال : فيقول الله : دقّ عنقه ، واكسر صلبه ، وشدّ ناصيته إلى قدميه ، ثم يقول خذوه فغلّوه فيبتدره لتعظيم قول الله سبعون ألف ملك غلاظ شداد ، فمنهم من ينتف لحيته ، ومنهم من يحطّم عظامه ، قال : فيقول : أما ترحموني؟ قال : فيقولون : يا شقي كيف نرحمك ولا يرحمك أرحم الرّاحمين؟ أفيؤذيك هذا؟ فيقول : نعم أشدّ الأذى ، قال : فيقولون : يا شقي وكيف لو قد طرحناك في النار؟ قال : فيدفعه الملك في صدره دفعة فيهوي سبعين ألف سنة» (١) ، وقال أمير المؤمنين (ع): «وأمّا أهل المعصية فخذلهم في النار ، وأوثق منهم الأقدام ، وغلّ منهم الأيدي إلى الأعناق ، وألبس أجسادهم سرابيل القطران ، وقطّعت لهم منها مقطّعات من النار» (٢) ، ولعمري إنّ أمر الله بالأخذ ليخصّ بالذات الطغاة من الحكّام الذين تسلّطوا على رقاب الناس فراح ضحية لأوامرهم بالسجن والتعذيب والقتل الكثير من الأبرياء والصالحين .. وقد ذكر صاحب الكشّاف (أنّها نزلت في أبي جهل) لأنّه كان سلطانا يتعظّم على الناس (٣).

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٨ ص ٣٢٠.

(٢) المصدر / ص ٢٩٢.

(٣) الكشّاف / ج ٤ ص ٦٠٤.

٣٠٤

[٣١ ـ ٣٧] وبعد أن يغلّ المجرمون تؤمر الملائكة بواحدهم أن تصليه بالنار.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)

ومن طبيعة الإنسان أنّه يهبّ للدفاع عن نفسه أو الهرب عند مواجهة الخطر ، أمّا المجرمون الذين تغلّ أيديهم وأرجلهم فإنّهم يقاسون عذاب جهنم وعذاب الأغلال في نفس الوقت ، وذلك من أشدّ ألوان العذاب أن يصطلي الواحد بالنار ولا يجد سبيلا للخلاص والمقاومة.

قال الرازي عن المبرّد : أصليته النار إذا أوردته إيّاها (١) ، وقال القمّي : (أي) أسكنوه (٢) ، ويبدو لي أنّ أصل الاصطلاء من الصلة والوصول ، و «صلّوه» ، أي اجعلوا النار واصلة إليه كأكثر ما يكون وصولها لأحد واتصالها به كيفا وزمنا ، وقيل صلة الرحم لأنّ المراد العلاقة الحميمة المتصلة فلا انقطاع فيها.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ)

أي طولها سبعون ذراعا ، والذراع ما يساوي ١٨ بوصة ٧٠ ١٢٦٠ بوصة ، وهذا الطول كاف لتلتف السلسلة على جميع أجزاء البدن ، فكيف وبعض المفسرين يعتبر السبعين للمبالغة ، كقول الله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣)؟!

وقد ذهب البعض إلى أنّها سبعون ذراعا ولكن من أذرع الملائكة الطويلة التي لا نعلم قياسها ، وقيل بأن الحلقة الواحدة منها ما بين الرحبة في الكوفة ومكّة ، ونحن

__________________

(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية.

(٢) القمّي / ج ٢ عند الآية.

(٣) راجع الكشاف والتفسير الكبير / ج ٣٠ عند الآية.

٣٠٥

لا نخوض في هذا الأمر بل نورد حديثا عن السلسلة مرويّا عن الإمام الصادق (ع) قال : «لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها» (١) ، ويحتمل أنّها سلسلة عظيمة تمتد في كلّ جهنم إلّا أنّ لها أذرعا طول الواحد منها سبعون ذراعا يسلك كل مجرم في أحدها (والله العالم). أمّا كيف يسلكون فيها؟ فهناك احتمالان :

الأول : أنّها تخترق أبدانهم ، كأن تدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم وتخرق بها أبدانهم من كل ناحية ، فأصل السلك من إدخال الشيء في الشيء ، كإدخال الإبرة في الخيط ، وكذلك ينظم فيه الخرز ونحوه ، ويقال دخل السلك العسكري أي انسلك في الجندية (٢).

الثاني : أنّه يطوّق بالسلسلة وتلفّ عليه فكأنّه يسلك فيها ، قال الزمخشري في الكشّاف : أي تلوى عليه حتى تلتف عليه أثناؤها (٣).

وقبل أن ننطلق مع الآيات في بيانها للذنوب الأساسية التي صارت بهم إلى ذلك العذاب المقيم نقف عند اللهجة القرآنية المتفردة بها هذه السورة ، أعني إضافة الهاء في الكلمات : (كتابيه ، حسابيه ، ماليه ، سلطانية) وما هو وزنها من الناحية اللغوية؟

لقد اختلف المفسرون والقرّاء أمام هذه الظاهرة القرآنية فقيل :

١ ـ أنّ الهاء للسكت والاستراحة ومن ثمّ يجب الوقف عندها بين الآيات

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٤٠٩.

(٢) المنجد مادة سلك.

(٣) الكشاف / ج ٤ عند الآية.

٣٠٦

لتصح القراءة ولتثبت الهاء ، ثم ترى البعض قد أوجب الوقف معتبرا الهاء جزء من القرآن لا يجوز حذفه بالوصل عند القراءة ولا بغير ذلك.

٢ ـ وقال البعض : أنّها جعلت لنظم رؤوس الآي ، وذلك ممّا لا يليق نسبته لكلام الله عز وجل ، لأنّه كما تؤكّد الآية (٤١) «وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ» ، لأنّ الشاعر يعتبر القافية أصلا فإذا عجز من نظمها تخبّط في النحو والصرف ، والمعنى من أجل حفظها واحدة ، وحاشا لله أن لو أراد النظم أن تعجزه القوافي ، ثم من قال أنّ القرآن يلتزم بالقافية في سوره وآياته؟ فهذا قوله تعالى : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ* تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً* إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً* يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ* وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ* وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١).

٣ ـ والذي يبدو لي أنّ الهاء ليست زائدة حتى تحذف بالوصل في القراءة ، وأنّها لم توضع لنظم نهايات الآي ، وليست إضافتها خارجة عن لغة القرآن (العربية) التي أنزل بها ، ولقد أخطأ أولئك الذين حاولوا تقييم كلام الله بشعر العرب وكلامهم ، ويجب أن لا يدعونا عجزنا عن إدراك بعض المعاني القرآنية إلى افتراضات بعيدة ، على أنّ للصيغة (كتابيه ، حسابيه) إيحاء نفسيّا قد يبلغه الباحثون في يوم من الأيّام. وما يهمني التأكيد عليه أنّنا لم نؤت من العلم إلّا قليلا ، فالموقف السليم عند العجز عن فهم الآيات هو الاعتراف بالجهل والتواضع للحق لا الخوض فيما لا نعلم أو الطعن في كلام الله.

ونعود إلى الآيات الكريمة ، ونستمع إلى صفات أصحاب الشمال ، فما هي؟ الأولى : عدم الإيمان بالله.

__________________

(١) المعارج / ٢ ـ ١٠.

٣٠٧

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ)

وعند ما كفروا بالله العظيم استحقّوا جزاء الضعف من العذاب. لماذا؟

أولا : لأنّ الله عظيم انتشرت آيات قدرته وجلاله في كلّ شيء ، فكيف جاز لهم الكفر به مع ذلك؟!

ثانيا : إنّ الذنب يزداد قبحا حينما يكون عصيانا لربّ عظيم.

ولقد عبّر أئمة الهدى عن هذه الحقيقة بقول الإمام السجاد ـ عليه السلام ـ : «لا تنظر إلى الذنب ، ولكن أنظر إلى من عصيت» (١) ، فكيف وأنّ عدم الإيمان بالله أصل كلّ خطيئة وذنب؟!

إنّ عدم الإيمان جذر كلّ فساد وضلال وفاحشة وزيغ ، فمن كفر بالله أشرك به ، لأنّ من لا يؤمن بالله سيتبع غيره ويتألّه إليه بشرا أو حجرا أو هوى نفس ، ومن لم يؤمن بالله ضلّ ضلالا بعيدا ، لأنّه لم يتبع رسالته فتراه يتخبّط في ظلمات الباطل ، ومن كفر بالله أوغل في الفواحش بغير حساب حيث أنّ الإيمان هو الذي يحجز البشر عن الزيغ ويردعه عن المعاصي.

وقد وصف القرآن ربنا بالعظمة هنا لأمرين : أحدهما : لكي لا يظن أحدا بأنّه تعالى حينما يعذّب المجرمين بذلك العذاب الغليظ الذي وصف آنفا في الآيات (٣٠ ـ ٣٢) أو ما سيأتي بيانه في الآيات (٣٥ ـ ٣٦) فإنّه يظلمهم ، كلّا .. إنّ الجزاء يبقى أبدا أقل من الذنب ، الثاني : ربما لكي نهتدي إلى أنّ مشكلة الكثير من أصحاب الشمال وربما كلهم ليس محض الكفر بالله ، ولكنّ مشكلتهم عدم الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى ، كما قال تعالى : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧٣ ص ١٥٤.

٣٠٨

لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (١) ، فأشركوا بالله أو آمنوا بصفات تعالى ربنا عنها : جسّدوه أو زعموا انه مغلول اليدين أو أنّه ـ سبحانه ـ ظالم للعبيد أو هازل في الوعيد أو ما أشبه وكان ذلك مساوقا لعدم الإيمان به رأسا ، وهذه كلّها جرّتهم إلى واد سحيق من الانحراف والضلال في الدنيا والعذاب في الآخرة.

من هنا نستطيع القول بأنّ حقيقة التسليم والعبودية لله عزّ وجلّ تتأسس بصورتها السليمة على المعرفة بعظمته من خلال آياته وأسمائه الحسنى ومن ثمّ استشعار عظمته في القلب.

الثانية : وثمّة صفة سيئة أخرى عند أصحاب الشمال تتصل بعلاقتهم مع عباد الله ، وهي عدم قضاء حوائجهم بل عدم الحث على قضائها.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)

فهو يرتكب ذنبين عظيمين : أحدهما : الامتناع عن الإنفاق على المحتاجين الذين فرض الله لهم حقّا في أموال الناس ، والآخر : تركه لواجب الأمر بالمعروف ، والأخير نتيجة طبيعية للأوّل ، ذلك أنّ الذين يبخلون بأموالهم على الناس يتمنّون أن يكون المجتمع مثلهم حتى يبرّروا موقفهم.

وللمتدبّر أن يتصور مدى صلافة من لا يحض على طعام المسكين وانعدام العاطفة والوجدان عنده ، حيث يرى مسّ الجوع والحاجة عند أضعف طبقة اجتماعية ثم لا يبالي بالأمر ، ولا يتحمّل المسؤولية ، مع وجود أمر الله بالإنفاق ، وكون ما عنده من نعمه وفضله الذي يأتمن عليه خلقه.

ولقد ربط الإسلام بين الإيمان بالله والنفع لعباده وكأنّهما صنوان لا ينفكّان ،

__________________

(١) الحج / ٧٤.

٣٠٩

قال رسول الله (ص): «أحب عباد الله إلى الله جلّ جلاله أنفعهم لعباده ، وأقومهم بحقّه» (١) ، جاء في حديث قدسي أنّ الله عزّ وجلّ قال : «الخلق عيالي ، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم ، وأسعاهم في حوائجهم» (٢) ، وحيث ننعم الفكر في العلاقة بين الكفر بالله وعدم الحض على طعام المسكين نهتدي إلى أنّ المعنيّين بالآيتين لا خلاق لهم في الآخرة ، ولذلك يعذّبون دون رحمة ، لأنّهم لا إيمان لهم بالله يدعوهم إلى العمل الصالح من الزاوية الدينية ، ولا إنسانية تدعوهم إلى الإحسان ، فقد يكون الإنسان كافرا بالله أو مشركا ولكن تبقى فيه بقيّة من الإنسانية تحثّه على بعض الخير ، فهو إن لم يخفّف عنه العذاب لإيمانه فسوف يخفّف عنه لإنسانيته ، حيث لا يضيع الله أجر المحسنين.

وإذا آمنّا بهذه الفكرة في ضوء الإيمان بأنّ الجزاء الأخروي صورة لعمل الإنسان واختياره في الدنيا فإنّ تعامل أصحاب الشمال الصلف مع عيال الله المساكين فيها هو الذي يحدّد نوع تعامل الله معهم يوم الجزاء. قال الزمخشري : دليلان قويّان على عظم الجرم في حرمان المسكين : أحدهما : عطفه على الكفر وجعله قرينة له ، والثاني : ذكر الحض دون الفعل ، ليعلم أنّ تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟ (٣).

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ)

وهو القريب الذي يهتم بالإنسان ويحامي عنه ، فأمثاله من المجرمين مشغولون بأنفسهم عن غيرهم ، وأمّا المؤمنون فإنّه عدوّهم وهم أعداؤه لكفره بالله ، ومن يجرأ

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧٧ ص ١٥٢.

(٢) أصول الكافي / ج ٢ ص ١٩٩.

(٣) الكشّاف / ج ٤ ص ٦٠٥.

٣١٠

على الشفاعة لمن غضب الله العظيم عليه؟ ولعلّ للآية ظلالا يتصل بعلاقات الإنسان الاجتماعية ، وأنّه ينبغي أن يبحث عمّا يدوم منها وينفعه في الدّارين ، فإنّ لأصحاب الشمال أخلّاء كثيرين وأصدقاء بالخصوص المترفين وأصحاب السلطة منهم ولكنّهم لا يحمونهم ولا حتى يسألون عنهم يوم القيامة ، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (١).

أمّا طعامهم فإنّ المجرمين يكادون يموتون جوعا لأنّهم لا يجدون طعاما ، وحيث يمضّ بهم الجوع ويطلبون ما يأكلونه يؤتى لهم بطعام هو لون من أشدّ العذاب.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)

قال القميّ : عرق الكفار (٢) لأنّه غسالة أبدانهم ، وفي الدر المنثور عن ابن عباس : أظنّه الزقوم ، وفي خبر آخر : (هو) الدم والماء الذي يسيل من لحومهم (٣) إثر التعذيب ، وفي التبيان : وقال قطرب يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين ، فعبّر عنه بعبارتين (٤) ، ولعل أقرب المعاني ما يخرج من أبدانهم من جراحة أو أنّه يتصف بمجموعة الصفات السيئة التي يمكن أن يحويها الطعام الرديء لونا ورائحة ومذاقا ، ولعل النفي ب «لا» يوحي بأنّ أصحاب الشمال لا يجدون الطعام بسهولة ، بل يبقون مدة طويلة يتضوّرون جوعا ، وإذا جيء لهم بطعام فإنّه لا يكون إلّا من «غسلين» ، وهذا يتناسب مع موقفهم من المساكين في الدنيا ، حيث كانوا لا يشعرون بجوعهم وعوزهم ، فهم بذلك يذاقون عذاب الجوع مما يكشف لهم مدى قبحهم إذ لم يطعموا المساكين ولم يحضّوا على إطعامهم.

__________________

(١) الزخرف / ٦٧.

(٢) تفسير القمّي / ج ٢ عند الآية.

(٣) الدر المنثور / ج ٦ ص ٢٦٣.

(٤) التبيان / ج ١٠ ص ١٠٦.

٣١١

إنّ الجزاء في الآخرة هو الصورة الحقيقية لعمل كلّ إنسان في الدنيا ، فهو في الواقع الذي يطعم نفسه هناك ما يقدّمه هنا ، فالمؤمنون يأكلون من قطوف الجنات العالية بما أسلفوه من الصالحات ، والمجرمون يأكلون طعام الغسلين بما قدّموا من الخطيئات والمعاصي.

(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ)

فهم إذن كما وصف الله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (١) حيث يمارسون الخطيئات ، ولكنّهم ـ وقد عميت بصائرهم عن الحق ـ لا يرون ذلك إلّا في الآخرة حين تقع الحاقّة وتكشف الحجب عن كلّ حق كشفا معنويّا وماديّا.

[٣٨ ـ ٤١] وفي الفصل الأخير من هذه السورة التي سمّيت بالحاقة يوجّهنا الله إلى كتابه العظيم الذي يذكّر بها ويسبقها في الهداية إلى الحق وإحقاقه ، وكأنّ السياق يقول لنا بأنّ القرآن حاق لأنّه كالحاقة يجلّي كلّ الحقائق. كما أنّه تعالى أخّر الحديث عن أصحاب الشمال على الحديث عن أصحاب اليمين ليكون لصيقا بكلامه عن كتابه ، وذلك لأنّ الحديث عن أصحاب النار سوف يستثير في السامع السؤال عن النهج الذي فيه الخلاص من غضب الله وعذابه ، والفوز بأجر أهل اليمين وعيشتهم الراضية.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ)

والتمهيد لأيّ حديث بالقسم أو بالإشارة للقسم يؤكّد أهميته وعظم شأنه ، وإذ لا يقسم الله فذلك يدلّ على أنّ ما يريد قوله وبيانه غاية في الوضوح ، بحيث لا يحتاج لإقناع الآخرين به إلى القسم ، ولكنّه في الأثناء يلفتنا إلى حقيقة عملية

__________________

(١) النساء / ١٠.

٣١٢

واقعية ، وهي : أنّ الحياة لا تتلخّص في ما يراه الإنسان ببصره ، بل لها جانبان : جانب ظاهر يحضر عنده بحواسه المادية ، وآخر خفي مغيّب يحتاج إلى العلم والبصيرة النافذة لكي يشاهده ، وكأنّه بذلك يستحثّنا نحو توسيع معارفنا والتطلّع إلى الوجه الآخر من الحياة ، فهل نكفر بوجود الميكروبات والفيروسات لأنّنا لا نراها بأعيننا؟ كلّا .. لأنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا ، فهي موجودة رغم ذلك .. وهكذا فإنّ من يكفر بالآخرة لأنّه لا يراها بعينه فإنّه من الخاطئين (١).

ومن هذه الزاوية يوصل القرآن الآيتين الآنفتين بتأكيده على أنّ الرسالة ليست من بنات أفكار النبي (ص) ، إنّما هي متصلة بالغيب حيث جبريل الأمين يتنزّل بمفرداتها كلمة كلمة وبحروفها حرفا حرفا ، بل وبحركاتها دون نقيصة أو تغيير ، فإنّ للرسالة جانبين : ظاهرا يتمثّل في القرآن الذي يبصره الناس بأعينهم وتدركه حواسهم ، وغيبا لا يبصرونه ولا يدركونه ولا ينبغي لهم ذلك وهو جبرئيل الواسطة بين المرسل والرسول ورب العالمين الذي يتنزّل من عنده القرآن ، وعدم إبصارنا بالجانب الغيبي منها لا يبرّر الكفر بها ، وذلك لسببين :

الأول : أنّ قصور الإنسان عن الإحاطة علما بغيب الحياة من المسلّمات البديهية التي يقبلها كلّ عاقل ، وهكذا لا يمكن للبشر الإحاطة بالوحي الالهي ، وبذلك ينسف القرآن الشيئية المادية عند البعض ، كالذين كفروا بالرسالة لأنّهم لم يروا جبرئيل (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) (٢) (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) (٣).

الثاني : أنّ الجانب الظاهر (القرآن) دليل قاطع يهدي كلّ ذي عقل إلى

__________________

(١) تقدّم الحديث حول القسم في الآية ٧٥ من سورة الواقعة فراجع.

(٢) الأنعام / ٨.

(٣) هود / ١٢.

٣١٣

الإيمان بالجانب الآخر (الوحي) ، فإنّ المتدبر في الآيات القرآنية لا بد وأن يسلّم بأنّها من عند الله ، لأنّه يجدها معجزات لا تتأتّى إلّا للخالق العظيم ببلاغتها ونظمها ومعانيها الهادية للحق ، كما قال الله :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)

أي رفيع المنزلة عند الله ، منزّه ، وغاية في الأمانة والأخلاق فهو لا يقصّر في التبليغ ولا يحرّف ، ممّا يؤكّد بأنّ الرسالة وصلت سالمة وتامّة كما أرادها الله وأنزلها ، وهذا الأمر يعطينا الثقة والاطمئنان بها ، والاعتماد عليها بضرس قاطع. وفي الآية تأكيدان لهذه الحقيقة : «إنّ» واللّام في «لقول» ، وبالإضافة إلى هذين التأكيدين اللفظيين هناك ثلاثة تأكيدات معنوية على أنّ الرسالة هي من عند الله :

ألف : كلمة «قول» ، فالرسول دوره لا يتعدّى نقل الرسالة إلى الناس ، فهو يقولها وليس يؤلّفها أو يخلقها.

باء : إنّه تعالى لم يقل فلانا (جبرئيل أو محمد) بل لم يقل نبي ولا ملك .. إنّما اختار كلمة «رسول» لأنّها أدلّ على المعنى المراد من سواها .. فالرسول هو الذي يحمل الرسالة من عند غيره.

جيم : وإذ امتدح الله رسوله بأنّه «كريم» دلّ ذلك على أمانته ووصول الرسالة كما أراد المرسل ، وإذا كان نكران الذات من أبرز صفات الكريم فإنّنا نفهم من وصف الله لرسوله بذلك أنّه تنازل عن ذاته في قضية الرسالة لله ، وبالتالي ليس فيها شيء من عند نفسه.

ولقد اختلفت الأقوال في المقصود بالرسول ، فقال فريق : أنّه جبرئيل الذي يتنزل بالوحي من عند الله إلى النبي (ص) فهو رسول الله إلى نبيه ، وقال آخرون :

٣١٤

أنّه النبي محمد (ص) ، وما أذهب إليه أنّ الكلمة منصرفة إلى الإثنين ، لأنّهما رسولان من عند الله وفيهما ذات الصفات الرسالية ، ولأنّ المقصود هنا إثبات أنّ القرآن من عند الله وليس من عند أحد كالنبي أو جبرئيل ، ممّا يستوجب التأكيد على الصفات المذكورة في الإثنين.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ)

لأنّه لا يشبه أقوال الشعراء لا في أوزانه وقوافيه ولا في بلاغته ، إذ المسافة بين بلاغته وأدبه الرفيع وبين بلاغة الشعراء وأدبهم مسافة لا يعلمها إلّا الله ، فهي كما وصفها الرسول الأعظم (ص) بقوله : «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (١) ، ولا في معانيه لأنّ الشاعر قد يهمّه ظاهر الكلام فقط فيتخبّط في المعنى ، ولو كان الرسول كالشعراء لكان يضخّم الأمور حتى إذا نقل رسالة الله ، فتلك طبيعة الشعراء.

وأعظم مفارقة بين رسالة الله والشعر أنّها تنطوي على الحق وتهدي إليه ، بينما ينطوي أغلب الشعر على الباطل ، وأنّها تعبّر عن الحقائق الواقعية ، بينما يطلق الشعراء لعواطفهم وظنونهم العنان دون حساب ، فهم يعتمدون على المشاعر والأحاسيس بينما تعتمد رسالة الله على علمه الواسع ، من هنا نستطيع القول بأنّ كلمة الشاعر لا تنحصر في الذي ينظّم الأبيات والقصائد ، وإن كان من مصاديقها الجلية ، إنّما تتسع لكل من يتبع الثقافة البشرية المنطلقة من الظنون والمشاعر البشرية لا من العلم الإلهي كأصحاب النظريات والفلسفات ، ولعل هذه المفارقة هي السر في فشل النظريات البشرية وتزلزلها ، وثبات القيم الإلهية ونجاحها ، وإلّا

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٩٣ ص ١٩ .. ولا يعني ذلك أنّ القرآن في منزلة الخالق لأنّه مخلوق له عزّ وجلّ وإنّما يعني أنّ كل فضل في الكلام من قبل القرآن فهو كفضل من الله لأنّه كلامه.

٣١٥

لماذا تتبع الملايين جيلا بعد جيل رسول الله ورسالته بينما لا تتبع الشعراء ولا تعتدّ بكلامهم؟

نعم. إنّ إقبال الناس منذ بعث النبي (ص) إلى اليوم وحتى المستقبل ـ الذي هو لرسالات الله ـ على الإسلام وإيمانهم به لآية بالغة على أنّها من عند ربّ العالمين.

(قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ)

قالوا : إنّ «ما» هنا بمعنى العدم ، أي أنّكم لا تؤمنون البته ، وأضافوا : العرب تقول : قلّما يأتينا يريدون لا يأتينا (١) ، ولكن يبدو أنّ القلة هنا بمعناها حيث ينسجم ذلك مع سائر الآيات التي تنفي الإيمان عن الكثرة (إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بينما تثبته للقلة (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

وكلمة أخيرة : إنّ الفرق بين الرسول وبين الشاعر هو الفرق بين الكريم الذي يتنازل عن ذاته وبين من تكون ذاته هي المحور في كلامه وتحرّكه ، فالشاعر يسأل الأجر والرسول يعطي ولا يسأل ، والرسول يقول الحق ولو على نفسه بينما الشاعر لا يملك هذه الشجاعة والإخلاص. كما أنّ قلّة إيمان الناس لن يكون في يوم من الأيّام مقياسا للحق ، لأنّ الرسالة ذاتها حق ، وبالتالي فإنّ الداء في من لا يؤمن وليس فيها ، لأنّها قمّة سامقة قلّ أن يصل ذروتها أحد.

[٤٢] وينفي القرآن أن تكون الرسالة من أقوال الكهنة.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ)

__________________

(١) الرازي / ج ٣٠ ص ١١٧.

٣١٦

فما هي العلاقة بين نفي الشعر والكهانة؟

أولا : لأنّ الشعر والكهانة من الظواهر التي كانت شائعة في المجتمع الذي تنزّلت فيه الرسالة يومئذ ، وكان الشعراء والكهّان يمثّلون طبقة المثقفين والواعين بين الناس ، وإذ ينفي الله كون القرآن من أفكار أوعى أفراد المجتمع فإنّه ينفي كونها من عند أيّ أحد من الناس ، لأنّ ما يعجز عنه الأقدر لا يستطيع الإتيان به غيره.

ثانيا : لأنّ أيّ ثقافة يأتي بها الإنسان فإنّما يحصل عليها عن أحد طريقين أو عنهما معا : فإمّا تكون ذاتية يتفتّق بها عقله وخياله كالشعر ، وإمّا تأتيه عبر الآخرين كالكهانة التي يتلقّى الكهّان أفكارها من القوى التي يتصلون بها أمثال الشياطين والجن ، بغضّ النظر عن الصحة والخطأ. وحيث ينفي القرآن الإثنين فإنّما يؤكّد بأنّ الرسالة ليست من عند نفس الرسول (ص) ولا مصدر آخر يتصل به سوى وحي الله عزّ وجلّ.

إنّ الرسالة هي الحق المرتكز في فطرة الإنسان وعقله ، وآياتها تترى وتتواصل الحجج الدالة عليها حتى يقتنع الإنسان بها ، ثم أنّها تقوم بدور تذكرة البشر وتنمية عقله وإرادته.

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)

والقليل هنا حسبما يبدو لي بمعناه المعروف.

ولعل الترتيب في النفي بتقديم نفي الشعر ثم نفي الكهانة ب «ولا» يهدينا إلى أنّ الكهانة في عرف المجتمع أرفع وأعجب من الشعر ، كما في قول الله : «قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» (١).

__________________

(١) راجع تفسير هذه الآية في سورة الجمعة.

٣١٧

والكهانة من حيث المعنى هي التحدّث بالغيب ، والكهّان هم الذين يدّعون العلم به ، أمّا من حيث اشتقاقها اللفظي فيبدو أنّها من الأسماء الدخيلة لأنّ أصلها دخيل على المجتمع العربي من الثقافات الجاهلية التي تسرّبت إلى الديانات السماوية كاليهودية والنصرانية ومن خلالهما انتقلت إلى العرب ، ويشير إلى أنّ الكلمة مستعربة صاحب المنجد إذ يقول : واللفظة إمّا من كهن بالعبرانية ، أو من كهنا بالسريانية (١) ، والأقرب أنّها قدمت اسما وحرفة من الشعب العبري ، لأنّ اليهود كانوا يسكنون شبه الجزيرة ، وكانت لهم محاولات لنشر مبادئهم وأفكارهم فيها.

وثابت تاريخيّا أغلب روّاد الكهانة من اليهود والنصارى وقد اتخذوها سبيلا للوصول إلى الزعامة الروحية.

أمّا كيف يقضي الكهّان بما يحسبه الناس غيبا؟ الجواب للأسباب التالية :

أولا : الذكاء المتميّز الذي يساعدهم على التقاط إشارات الحقائق وإرهاصات الظواهر كبعض الجواسيس المتفوّقين اليوم.

ثانيا : القدرة على استشفاف المستقبل والتنبّأ به ، وهذه القدرة يمتلكها أغلب الناس إلّا أنّ الكهنة ينمّون هذه القدرة في أنفسهم شأنهم شأن السياسيين الكبار أو لاعبي الشطرنج ومن أشبه.

ثالثا : الاتصال بالجن والأرواح الشيطانية عبر رياضيات روحية معينة شأنهم شأن المرتاضين اليوم.

رابعا : معرفتهم بالثقافات والعلوم الغربية عن ذلك المجتمع الجاهلي ، وهذه العوامل كانت تساعد الكهنة على التعرّف على بعض الحقائق المجهولة عند الناس والتي كانوا يخلطونها بكثير من الأكاذيب والأساطير.

__________________

(١) راجع المنجد مادة كهن.

٣١٨

وحول أصل الكهانة جاء في الخبر المأثور في كتاب الإحتجاج : إنّ الزنديق سأل الإمام الصادق (ع) فمن أين أصل الكهانة ومن أين يخبر الناس بما يحدث؟ قال (ع) : «إنّ الكهانة كانت في الجاهلية ، في كلّ حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه يشتبه عليهم من الأمور بينهم فيخبرهم عن أشياء تحدث ، وذلك من وجوه شتّى : فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفتنة الروح ، مع قذف في قلبه ، لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن ، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف» (١) ، وتهدينا هذه النهاية إلى أنّ نسبة الصدق لدى الكهّان فيما يتصل بأسرار الناس تكون أكبر من نسبتها في الحديث عن الغيب ، لأنّ الأسرار قد وقعت واطّلع عليها الجن الذين يتصلون بهم ويخبرونهم ، وليس الغيب كذلك ، ولا سيما فيما يتصل بوضع برنامج حياتي متكامل في بصائر العقل وتزكية القلب وتنمية الإرادة ونظام الحياة ، فإنّه لم يبلغه أيّ كاهن عبر التاريخ. إنّه فقط معاجز الرسل!

[٤٣] إنّ التمايز بين خط الرسالة والثقافات البشرية واضح لا غموض فيه ، ولذلك فإنّ نظرة فاحصة للقرآن تهدينا إلى أنّه ليس شعرا ولا كهانة إنّما رسالة الله إلى خلقه.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

أولا : أنّ القرآن معجزة الله الخالدة ، لفظا بأدبه وبلاغته ونظمه و.. و.. ، ومعنى بهداه ومعانيه ، والذي يدر القرآن من جانبيه (الظاهر والباطن) يتيقّن بلا أدنى شك أنّه فوق قدرات العالمين إنسا وجنّا ، وهذا ما توحي به كلمة «تنزيل» إذ لا ينزل الشيء إلّا من المكان العلي ، وبتعبير آخر : إنّه تعالى لو لم ينزل الرسالة

__________________

(١) الاحتجاج / ج ٢ ص ٣٣٩.

٣١٩

بلطفه لما كان العالمون ـ مهما تفتّقت عبقريّاتهم وبلغت قدراتهم ـ قادرين على السموّ إلى مقام الإتيان بمثل آيات القرآن .. لا بالشعر ولا بالكهانة ، ولو بلغ الأمر أن تظافرت القوى والتقت الحضارتان ، حضارة الإنس والجن (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).

ثانيا : أنّ الله تعالى يتجلّى في كتابه بصفاته وأسمائه الحسنى ، وكتابه يهدي الله من بدايته حتى نهايته ، وإنّ القارئ آياته والمتدبّر كلماته ليرى ربه ببصيرة الإيمان واليقين ، قال الإمام الصادق (ع): «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون» (٢) ،وقال الإمام علي (ع): «فبعث الله محمّدا .. بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه ، فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ، وخوّفهم من سطوته ، وكيف محق من محق بالمثلات ، واحتصد من احتصد بالنقمات» (٣)

إنّ المسافة بين كلام الله وكلام المخلوقين ليست بالتي تخفى على ذي لبّ وفطرة حتى يجهل أحد التمييز بين الرسالة وأفكار المخلوقين.

ولنا وقفة هنا على العلاقة بين الحديث عن الرسالة وأنّها من ربّ العالمين بالذات ، فلم يقل الله : تنزيل من الله .. أو ما إلى ذلك من أسمائه الحسنى الأخرى.

إنّ أصل كلمة «ربّ» من التربية بما تعني الكلمة من نماء وتزكية ولطف ،

__________________

(١) الإسراء / ٨٨.

(٢) بحار الأنوار / ج ٩٢ ص ١٠٧.

(٣) نهج البلاغة / ج ١٤٧ ص ٢٠٤.

٣٢٠