من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

وكفى بعظمة أخلاقه أن يصفه ربّ العالمين بالعظمة ، وكيف لا يكون كذلك وقد أدّبه الله حتى قال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «لقد أدّبني الله فأحسن تأديبي» وقال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيه فأحسن أدبه ، فلمّا أكمل له الأدب قال : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (١).

ومن تأكيد الله أنّ الرسول «على» خلق عظيم يتبين أنّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ ما كان يتكلّف الأخلاق ، ولا كانت عرضية تأتي وتزول ، بل هي سجايا وملكات اختلطت بكيانه فلا تفارقه ولا يفارقها ، وذلك من أفضل ما يصير إليه بشر في الأخلاق. وإنّما بلغ النبي تلك العظمة والمكانة الرفيعة لأنّه جسّد الدين في حياته ، قال الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ في قول الله : «الآية» : «هو الإسلام» (٢) ، وقال : «على دين عظيم» (٣) ، إذن فالطريق إلى العظمة موجود في القرآن ، ومن أرادها فإنّها ثمرة تطبيقه.

وحيث ندرس حياة حبيب الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فإنّنا نهتدي إلى أنّ من أعظم أخلاقه وما يمكن لإنسان أن يبلغه هو سعة الصدر ، التي كانت آلته للرئاسة بعد الإسلام ، ووسيلته التي استوعب بها الناس في الدين ، وملك قلوبهم .. وفيهم العدو الحاقد ، والجلف الصلف ، والكافر الجاهل ، والمشرك الضال و.. و.. ، وإنّها لأهمّ ما يحتاجه المصلحون من الأخلاق ، ولذلك مدحه ربّ العالمين بها وثبّت ذكرها بالذات في كتابه من دون سائر الأخلاق فقال :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٨٩.

(٢) المصدر / ص ٣٩١.

(٣) المصدر / ص ٣٩٢.

٢٠١

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١) ، وروى البرقي عن أحد الأئمة ـ عليه السلام ـ : إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيه فأحسن تأديبه ، فقال : «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» فلمّا كان ذلك أنزل الله «إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (٢) ، وهذه بعض أخلاقه ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «كان رسول الله حييّا لا يسأل شيئا إلّا أعطاه» (٣) ، وكان يقول لأصحابه : «لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئا ، فإنّي أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (٤) ، و «كان أجود الناس كفّا ، وأكرمهم عشرة ، من خالطه فعرفه أحبّه» (٥) ، «وكانت له إذا شرب الماء ثلاثون سنّة ، وليس من خلق حسن إلّا وكان الأسوة فيه ـ صلّى الله عليه وآله ـ» (٦) «بحيث اعترف له بذلك العدو والصديق ، والمسلم وغيره» (٧).

[٥] رابعا : ويبقى المستقبل دليلا فصلا يكشف عن الحقيقة للجميع ، وهنالك يتبيّن العاقل والمجنون ، فهل هو أبو لهب وأعداء الرسالة الذين خلّدوا باللعنة ، أم الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأتباعه الصادقون؟

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ)

باعتبار كل المقاييس المادية والمعنوية عند ما يأتي المستقبل بالحقيقة.

__________________

(١) آل عمران / ١٥٩.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٨٩ نقلا عن بصائر الدرجات.

(٣) موسوعة بحار الأنوار / ج ١٦ ص ١٣٠.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

(٦) راجع المصدر من / ص ١٩٤ الى ص ٢٩٤.

(٧) راجع كتاب المائة الأوائل للدكتور مايكل هارت.

٢٠٢

[٦] (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)

أي المجنون (١) ، لأنّ افتتان الإنسان بأيّ شيء دليل اتباعه لغير العقل ، فإنّ العاقل لا ينهزم في الابتلاءات وعند الفتن ، إنّما يتجاوزها وينتصر عليها. وهو المضلل المصدود عن الحق (٢). فالمعنى أنّكم ستبصرون في المستقبل بمن هو مجنون ومن هو عاقل ، أو تكون الباء بمعنى في فيكون المفهوم أنّكم سوف ترون في أيّكم سكن الشيطان (المفتون عن الحق) فأعماه عن رؤيته ، وفتنة مثله عنه. وبالتالي سيظهر الطرف المحق الذي يتلقّى الهدى من ربه وهو الرسول ، وأنّ الرسالة ليست من إلقاءات الشيطان كما يزعم الجاهليون ، بل مواقفهم المعادية لها وللنبي وبهتانهم العظيم. ويبدو لي أنّ الباء هنا ضرورية وليس كما قال بعض المفسرين أنّها زائدة ، وذلك لأنّ الجنون حقيقة معنوية لا يمكن أن يبصرها الإنسان بذاتها ، وإنّما يبصرها من خلال الدلالات والعلائم الموحية بوجوده ، فهو يبصر بالواسطة ، ولعلّه لذلك جاءت الباء في الكلمة «بأيكم» كما جاءت في قوله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٣) لأنّ الشجرة لا تثمر دهنا وانّما تثمر ثمرة فيها الدهن.

ونستوحي من الآية أنّ المنهج السليم لتقييم الأمور معرفة عواقبها ، لأن الإنسان في بادئ الأمر ومع المتغيرات قد يدخله الريب والتردد في استصدار حكمه الأخير على الأمور ، ولكنّها حينما تستقر في مستقبل الزمن يرى بوضوح تام الموقف الواقعي الحق منها.

__________________

(١) المنجد مادة فتن.

(٢) المصدر.

(٣) المؤمنون / ٢٠.

٢٠٣

إذ الإحباطات الآنية التي يواجهها المؤمنون في مسيرتهم وانطلاقا من هذه البصيرة لا ينبغي أن تبعث فيهم اليأس أو التشكيك في صحة خطهم وسلامة قيادتهم ، فإنّ المستقبل مهما طال الزمان ورغم الظواهر السلبية في صالحهم وفي صالح رسالتهم ، لأنّهم يتبعون الحق.

[٧] ومع أنّ هذه من القواعد الأساسية التي يجب على الرساليين اعتمادها في تحركهم ، إلّا أنّهم يستمدون مناعتهم بالحق ، وإيمانهم بسلامة الخط من الإيمان بالله ، فليس المهم عندهم أن يكونوا في نظر الآخرين أصحاب حق ، أو أن يكشف لهم واقع الدنيا عن هذه القضية ، إنّما الأهم أن يكونوا عند الله من المهتدين ، ذلك أنّهم لا ينفعهم ثناء أحد إذا كانوا عند الله من الضالين ، كما لا يضرهم شيء لو كانوا عنده من أهل الهداية. وإنّ الرساليين إذا ما تمسكوا بهذا الأصل فلن يتأثروا بالضغط أو الاعلام المضاد ، ولن ينال أحد من قناعتهم قيد شعرة.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

والسؤال : كيف يكتشف الإنسان واقع انتمائه هل هو إلى فريق الضالين أم إلى فريق المهتدين؟ وبتعبير آخر : كيف يصل المؤمنون إلى القناعة التامة والراسخة بأنّهم أهل الحق؟

والجواب على ذلك : إنّ لله في هذه الحياة سبيلا واحدا هو الصراط المستقيم (الحق) الذي يتجسد في رسالة الله وفي القيادة الرسالية وخطها السليم ، فمن اتبع رسالته ودينه ، وسلّم لقيادة الحق (الرسل وأئمة الهدى الذين يمثلون امتدادا حقيقيّا لهم عبر التاريخ) وانتمى لخطهم ، فهو من المهتدين ، وإلّا فهو من الضالين.

ونهتدي من الآية الكريمة إلى أنّ هناك علمين هما : علم الإنسان عبر عقله ،

٢٠٤

العقل الذي يتجلّى في المستقبل ، وعلم الله الذي يكشفه الوحي ، وأنّ الإنسان قد يعجز عن تمييز الأشياء بعقله ، بينما علم الله يجليه له تماما.

[٨ ـ ١٣] ويمضي بنا السياق إلى محور أساسي في السورة عند ما يبيّن الموقف السليم الذي يجب على القيادة الرسالية اتخاذه من قوى الضغط ، التي تحاول التأثير على القائد وتجيير قراراته ومواقفه في صالحها ، بتطويعه لخدمة أغراضها من حيث يدري أو لا يدري ، وعادة ما تكون تلك القوى من المترفين أصحاب المال والقدرة الاجتماعية أو السياسية أو هما معا في المجتمع.

ويتوجه الوحي بالنهي إلى القائد بالذات ، لأنّ قوى المترفين المستكبرة تسعى لإفساد المجتمع ونظامه السياسي ، من خلال إفساد جهازه الديني والسيطرة عليه ، لأنّ السيطرة عليه تجعلهم أسرع نفاذا في المجتمع ، كما توفّر لفسادهم غطاء شرعيا. وهم يتسللون إلى الجهاز الديني ويؤثّرون عليه بسلاح المال ، حيث يجعلونه يعتمد على أموالهم التي يقدمونها خمسا وزكاة وتبرّعا أو هدية ورشوة. وإنّ هذه الحقيقة تظهر بوضوح حينما ندرس مسيرة الجهاز الديني عبر التاريخ وفي كلّ المذاهب والأديان تقريبا ، فالقوى المترفة هي التي حوّلت الأحبار إلى جماعة يكنزون الذهب والفضة وأداة طيّعة في أيدي أصحاب المال والسلطة. كما أنّ التحليل المتأنّي لكثير من الصراعات التي كانت تدور بين القيادات الدينية والمترفين يؤكّد بأنّ سببها يكمن في رفض القيادات الدينية لهم ولسيطرتهم على الناس ، فهذا السامري ومن حوله بعض أصحاب المال في مجتمع بني إسرائيل يبغون على موسى ـ عليه السلام ـ لأنّه وقف ضد مطامعهم ومحاولاتهم الخبيثة في تطويع الدين لصالح شهواتهم وأهوائهم.

وموقف القرآن يبدو موقفا عنيفا وواضحا في تحذير الرسول

٢٠٥

ـ صلّى الله عليه وآله ـ من المترفين ، لأنّ خطرهم عظيم وعادة ما يكون متسلّلا ، بعيدا عن التحديات والضغوط المباشرة الحادّة ، فقد يظهر أحدهم لدى القوة الدينية بمظهر التقوى والتأييد فإذا به يصارع الآخرين على الصفّ الأول من الجماعة ، ويبذل الأموال التي تخدم الجهاز الديني ومشاريعه في المجتمع ولكن ليس لوجه الله وتقرّبا منه ، ولا عن قناعة بالقادة الدينيين أبدا ، بل لحاجة في نفسه هي أن يستغلهم لمصالحه وأهوائه ، اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ، بإعطائهم الخط السياسي والاجتماعي الذي يناسبه من جهة ، وباستخراج الفتاوي التي تخدم أغراضه من جهة ثانية.

وتقسّم الآيات قوى الضغط المترفة إلى فريقين :

الفريق الأول : المكذّبون الذين لا يؤمنون بالرسالة ولا بالرسول ، كالطواغيت الذين يجاهرون بالتكذيب ، وكالقوى المستكبرة التي في عصرنا هذا ، فهم أشبه ما يكونون بالكفّار ، ولا ريب أنّ لهؤلاء أطماعهم تجاه الأمة الإسلامية ، وبالتالي فهم يسعون للتأثير على قيادة المجتمع الإسلامي الدينية وتطويعها.

إنّهم ـ كما الفريق الثاني ـ لا يسعون في البدء للقضاء على الجهاز الديني إنّما يحاولون الإبقاء عليه ممسوخا ومفرغا من محتواه الرسالي ، لكي يركبونه مطيّة إلى مصالحهم.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)

ويفضح القرآن خبثهم المتمثل في خطة المسخ والإفراغ التي يتبعونها ، مبيّنا أنّهم يسعون لتغيير بعض القيم ومواقف القيادة لصالحهم بمقايضة الدين الحق بأموالهم ، وكأنّ قضية الحق كالتجارة تقبل البيع والشراء. فيجب أن تكون القيادة

٢٠٦

الدينية (لكي تفشل المترفين في مرامهم) على مستوى رفيع من تقوى الله فلا تخدعها زخارف الدنيا عن الحق ، وأيضا في مستوى عال من الوعي السياسي والحنكة الإدارية والفطنة الاجتماعية ، ومستوى من الوعي يكشف مكرهم مهما كان خفيّا ومحكما ، ولذلك جاءت النصوص الدينية مؤكّدة على هذين الأمرين.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)

يبدو أنّ أصل معنى المداهنة جاء من وضع الدهن على الشيء لكي يلين جانبه ويكون مطواعا ، والمعنى أنّهم يطمعون لو أنّك يا رسول الله تطيعهم في التنازل عن بعض القيم الإلهية والمواقف فيبادرون هم بالتنازل عن بعض مواقفهم منك ومن الرسالة ، كما فعل من قبل بعض أحبار اليهود والنصارى.

وما أكثر ما تتعرض القيادات الرسالية لهذا اللون من الضغط الماكر ، فما أحوجها لتقوى الله. ولا ريب أنّ أعظم مداهنة يسعى المترفون لإيقاع القيادات الدينية فيها هي فصل الدين عن السياسة لكي يتسنّى لهم التلاعب بمقدرات الشعوب بصورة أفضل ، ولكي تبقى سلطتهم في مأمن من ثورة المجتمع ، باعتبار أنّ ربط الدين بالسياسة يبعثه نحو الثورة للتحرر والتغيير.

ويتأثّر الإنسان بالمداهنة عبر أحد عاملين : الأول : الافتتان بحطام الدنيا الذي يقدّمه المترفون ، والثاني : تغيير قناعة القائد بالقيمة التي يداهن فيها فيتنازل عنها بحثا عمّا هو أفضل منها ، ولذلك فإنّ المستكبرين يوظّفون جانبا كبيرا من إمكاناتهم الإعلامية لتحقيق هذا الهدف ، بمحاربة قناعات الرساليين ليس في المجتمع وحسب بل في داخل أنفسهم أيضا ، فمثلا تراهم يوحون عبر إعلامهم المضلل بأنّ المجاهدين الذين يسعون للإصلاح الشامل إرهابيون ، ويضربون على هذا الوتر طويلا لعلهم يجدون تجاوبا عند بعض المجاهدين فيغيّروا من خططهم بما

٢٠٧

لا يتنافى ومصالح المستكبرين! كما كانوا أيّام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حيث كانوا يسمّونه مجنونا لأنّه أراد تغيير الواقع والإنسان تغييرا جذريا ، طمعا في هزيمته نفسيّا ثم تنازله عن ذلك الهدف العظيم.

ومن الجدير ذكره هنا أنّ من أسباب تحريف الديانة المسيحية واليهودية في التاريخ أنّ القيادة الدينية تأثرت بعاملين : أحدهما الخوف من المترفين الجبّارين ، والآخر الرغبة في استقطاب المزيد من الجماهير في ظلّ حماية الدولة ، ممّا دعاهم إلى المداهنة بحذف بعض القيم والأحكام التي في الإنجيل والتوراة ، وإدخال بعض الأفكار والأحكام التي تتوافق مع أهواء الناس ، ونسوا أنّ ما بقي لم يعد دين الله ، بل دين الجبّارين ، وأنّهم بذلك أصبحوا خدما في بلاط السلاطين وليسوا منقذين لعباد الله المحرومين!

الفريق الثاني : المنافقون في المجتمع المسلم ، الذين يتمسكون بقشور الدين ، كالصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصوم الذي لا يورث تقوى ولا يعطي صاحبه إحساسا بألم الفقراء ، والإنفاق المحفوف بالرياء وحب السمعة ، وهكذا الممارسات التي فرّغت من محتوياتها الإصلاحية ، وهؤلاء لا ريب يكذّبون بكثير من الحقائق الإلهية كالجهاد ، وحرمة الاستغلال ، ويودّون لو تداهنهم القيادة الرسالية ، ولكنّهم لا يجهرون بذلك. وما يبدو من الآيات التي تبيّن صفاتهم أنّ أهمّ هدف يسعون لتحقيقه من تزلّفهم للجهاز الديني في الأمة أن يجعلوه مقمعا في أيديهم يضربون به الآخرين ، كالمحرومين المستضعفين والمصلحين المغيّرين أفرادا وجماعات ، والسبب أنّهم لا يريدون إلّا مصلحتهم ، كما أنّهم أول من يعارض الإصلاح والتغيير ، ذلك أنّ وجود الأنظمة الفاسدة والمنحرفة عن الحق عامل أساسي في استغلالهم للطبقة المحرومة ووصولهم إلى مآربهم المادية. فما هي صفات هذا الفريق؟

٢٠٨

١ ـ المبالغة في الحلف إلى حدّ الاحتراف ، من أجل إعطاء كلامهم قيمة شرعية ومن ثمّ التأثير به على موقف القيادة ورأيها ، بالذات وأنّ للأيمان اعتبار عظيم عند المؤمنين ، ولا يعني ذلك أنّ المترفين من هذا الفريق يقتصرون على مجرد الحلف ، فهم يكذبون وينمّقون الكلام بشتى الوسائل ، وما الحلف إلّا واحدا منها ، وعلى القائد أن يحذرهم.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)

ويبدو أنّ كلمة «مهين» من الهوان والضعة حيث أنّ الحلّاف إنّما يلجأ إلى ذلك لكونه حقيرا في نفسه وعند الناس ، وانطلاقا من ذلك يحس على الدوام ويظنّ أنّ كلامه لن يعطى اعتبارا وقيمة عند الآخرين ، الأمر الذي يلجؤه إلى المبالغة في الأيمان ليصطنع قيمة لكلامه بها لعله يكون مقبولا.

وعادة ما يحاول الوضعاء الذين تمكّنت من أنفسهم عقدة الحقارة أن يوصلوا أنفسهم بمراكز القوى في المجتمع دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية ليغطّوا على ضعتهم ويجبروا نقصهم ، وإنّك لو فتشت في أجهزة القمع والتجسس الطاغوتية فلن تجد إلّا أمثال هؤلاء.

٢ ـ الهمز والمشي بالنميمة في المجتمع ، وبالخصوص عند القيادة ، وذلك لأهداف ثلاثة :

الأول : لكي يبقوا هم في المجتمع الشخصية الأفضل ، فتجدهم يسقطون شخصيات ويضعفونها بتقليل قدرهم عند القيادة وتلصيق التهم ضدهم ، ولقد ثبت في علم النفس أنّ أصحاب عقدة الهوان والحقارة تنمو فيهم روح الانتقام من المجتمع ، ويسعون لكي يكون مجتمعا ساقطا مثلهم فلا يحسبون شاذّين.

٢٠٩

الثاني : فصل القيادة عن المجتمع حتى تظل أذنا صاغية لهم وحدهم فتكون قراراتها ومواقفها لصالحهم فقط ، بل لا يريدون أحدا سواهم يتصل بمركز القوّة في الأمة ، لتكون لهم اليد الطولى فيها. ولأنّهم عادة ما يكونون من الطبقة المستكبرة المترفة فإنه يهمّهم أن يوجدوا فاصلة بين الأمة وبين القيادة لكي يبقى الناس فريسة لسياساتهم الاستغلالية والمنحرفة دون علم من القيادة يدعوها للتدخل ضدهم.

الثالث : ضرب القوى الإصلاحية والمنافسة ، فأنّى ظهرت بوادر الإصلاح تصدوا لها ، وسوّدوا الصفحات بالتقارير المضللة التي لا تحوي سوى الطعن والكذب على الآخرين ، وملأوا بيت القيادة وأذنها بالشائعات المغرضة وبالتهمة والبهتان ، وكلّ ذلك ليصير القائد مقمعا في يدهم يضربون به يمينا وشمالا هذا العالم وذلك الثائر وتلك الحركة الرسالية.

(هَمَّازٍ)

قيل : الهمّاز هو المغتاب ، وفي المنجد : الطعّان العيّاب النخّاس (١) وقال صاحب البرهان : لكن في الصحاح همزه أي دفعه ، وقوس همز أي شديدة الدفع للسهم ، وفي النهاية : كل شيء دفعته فقد همزته ، وفي سورة المؤمنين : (أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي وساوسهم ونخساتهم وغمزاتهم (٢) وأضاف مجمع البيان قائلا : والأصل فيه الدفع بشدة اعتماد ، ومنه الهمزة حرف من الحروف المعجمة فهي نبرة تخرج من الصدر بشدة اعتماد (٣) ، ويبدو لي أنّ الهمّاز هو الذي يثير الناس ويستحثهم ويحرّكهم ضد الآخرين بالكلام أو الفعل ، وآلة الهمز حديدة

__________________

(١) المنجد مادة همزة.

(٢) تفسير البرهان / ج ٤ ص ٣٤٠.

(٣) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٣٣١.

٢١٠

في مؤخّر خف الرائض ، أو عصا في رأسها حديدة تنخس بها الدابة (١) فتستثار لتحث المشي. وما أكثر ما جرّ المترفون بهمزهم القيادات عبر التاريخ إلى مواقف وآراء راح ضحيتها الأبرياء والصالحون. ولعلّ من وسائل همزهم النميمة التي يبالغون فيها وفي المشي بها بين الناس كما تمشي جراثيم الأوبئة بالمرض.

(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)

فأنّى ما حلّ وارتحل حمل معه داء التفرقة ، والنميمة هي نقل كلام الناس على بعضهم عند بعض ممّا يميت الألفة ويحيي الفتنة ، وهي بذلك تعدّ من أعظم الذنوب وأخطرها لأنّه يهدّد وحدة الأمّة وصفاء أجوائها ، وإلى هذه الحقيقة وردت الأحاديث الإسلامية : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة (منهم :) العيّاب والساعي في الفتنة» (٢) ، وقال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبة ، الباغون للبراء العيب» (٣) ، وقال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : «ثلاثة لا يدخلون الجنة : السفّاك للدم ، وشارب الخمر ، ومشّاء بنميمة» (٤).

٣ ـ منع الخير عن الغير والاعتداء عليهم وممارسة الإثم ، وهذه كلّها من الصفات اللصيقة بالمنافقين إذ أنّهم يريدون الخير لأنفسهم فقط ، لذلك يقفون أمام أيّ محاولة من قبل القيادة للإصلاح ، ويمنعونها بالتعويق والتثبيط عمليّا وبالرأي ، فليس من صالحهم أن يعمّ الرفاه الاقتصادي كل أفراد المجتمع ، وأن تزال

__________________

(١) المنجد مادة همز.

(٢) كتاب المواعظ للشيخ الصدوق / ص ١١.

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٩٣.

(٤) الخصال / ص ١٨٠.

٢١١

الطبقية ، لأنّ قوّتهم الاجتماعية والاقتصادية قائمة على معادلة الاستكبار والاستضعاف ، والغنى والفقر ، وبعبارة : على دماء الآخرين وحرمانهم.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ)

وتتسع الكلمة إلى مصاديق كثيرة منها أنّ هؤلاء حينما يتحلّقون حول القيادة يعملون على حصر اعتمادها فيهم ، وسد الأبواب أمام أيّة كفاءة سياسية أو إدارية أو اقتصادية ناشئة. وأعظم خير يمنعونه أئمة الهدى أن يأخذوا مواقعهم الشرعية في المجتمع .. وقد أشار القمّي في تفسيره إلى ما ذكرنا مؤوّلا فقال : (الخير أمير المؤمنين) (١).

ولا يكتفي المنافقون بمنع الخير عن الآخرين ، بل يتمادون في غيّهم إلى حدّ الاعتداء على حدودهم وحقوقهم ، ماديّا بضربهم إذا كانوا منافسين أو معارضين ، وباستغلالهم إذا كانوا من المحرومين ، ومعنويّا بالتهم المغرضة وتشوية سمعتهم و.. و..

(مُعْتَدٍ أَثِيمٍ)

ولأثيم تفسيران : الأول : بالنظر للكلمة كشيء مستقل فيكون المعنى أنّهم في حدود علاقتهم مع الغير يتّصفون بمنع الخير والاعتداء ، وفي حدود أنفسهم يتّصفون بمخالفة أحكام الله (الإثم) كشربهم الخمر وظنهم السوء والحقد والحسد ، وبصورة مبالغة كمّا ونوعا ، لأنّ أثيم صيغة مبالغة من الآثم.

والثاني : بالنظر إلى الكلمة متصلة بما قبلها «معتد» وفي ذلك معان منها : أنّ اعتداءهم لا يقوم على الحق ، فهناك تجاوز على الآخرين بالحق كالذي أمر الله به في

__________________

(١) تفسير القمي / ج ٢ عند الآية.

٢١٢

قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) ، وهناك تجاوز بالباطل والإثم ، ومنها : أنّ اعتداءهم ليس عرضا بل هو من طبيعتهم ومتجذّر في نفوسهم التي جبلت عليه ، فما هو إلّا مظهر يعكس ما انطوت عليه أنفسهم من الإثم العريض ، ومنها : أنّهم حين يعتدون يوغلون في الاعتداء بالمبالغة في آثامه.

وإنّه لثابت علميّا وعمليّا أنّ المعتدي لا يعتدي في الواقع الخارجي ويتجاوز الحدود حتى يكون قد تجاوز الحدود في داخل نفسه ، وأسقط اعتبار الحق والآخرين قبل ذلك في نفسه وتفكيره. فلاعتداء هؤلاء فلسفة تتأسس عليها حياتهم حيث أنّهم لا يعترفون بوجود حق يجب الالتزام به واحترامه وبوجود حدود وقوانين تفصل بين الناس.

٤ ـ وكما تتداعى صفات الخير في الصالحين تتداعى صفات الشر في المفسدين ، فهم يبدءون من الحلف ولكنّهم لا ينتهون عند الاعتداء والإثم بل يتسافلون بعد ذلك إلى صفات سيئة أخرى.

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)

فما العتل وما الزنيم؟

ألف : العتل ، قالوا : إنّه شخص عظيم الجثة ، قبيح المنظر ، ناقص الخلقة.

ولعلّ ما ذهب إليه المفسرون كان بسببين : أحدهما : بالنظر إلى تأويل الآية في (الوليد بن المغيرة) واتخاذه مقياسا لصفاته المعنوية والمادية السيئة ، والآخر :

__________________

(١) البقرة / ١٩٤.

٢١٣

استلهامهم هذا المعنى من الحديث المأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا سئل عن العتل الزنيم : «هو الشديد الخلق ، الشحيح ، الأكول الشروب ، الواجد (شديد الحب) للطعام والشراب ، الظلوم للناس ، الرحيب الجوف» بيد أنّ هذه الصفات ـ حسبما يبدو ـ ليست مقصودة بذاتها ، بل هي في حقيقتها كنايات عن صفات معنوية أو مقارنات معها تتصل بأخلاق الإنسان ، والشاهد على ذلك ما جاء في اللغة من جذر هذه الكلمة حيث نقرأ في اللغة : عتله : جذبه وجرّه ، يقال عتله إلى السجن أي دفعه بعنف (١) ، وقال الله يأمر خزنة النار بعذاب الأثيم : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) (٢) أي ألقوه بدفع وعنف ، والعتل : الجافي الغليظ (٣) ، وفي بعض الروايات قال رسول الله (ص): «رحب الجوف ، سيء الخلق ، أكول ، شروب ، غشوم ، ظلوم (٤) ، وعن ابن مسكان عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ : ما معنى قول الله عزّ وجلّ : «الآية»؟ قال : «العتل العظيم الكفر» (٥) ، والذي يبدو لي أنّ الكلمة تتسع إلى الكثير من صفات الشر والباطل ، ولا يكون الإنسان عتلا حتى يعظم انحرافه كما قال الإمام الصادق (ع) ، وتتداعى فيه الصفات السيئة تسافلا نحو الحضيض ، وذلك ما يشير إليه السياق القرآني حيث جعل (العتل) من آخر الصفات ، وقال مبيّنا أنّها تأتي بعد اجتماع كثير من الصفات السيئة في الإنسان «بعد ذلك» فهي غاية الشر ، ومجمع الأخلاق الدنيئة.

باء : الزنيم .. هو اللصيق والمزنّم اللاحق بقوم ليس منهم ولا هم يحتاجون إليه

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣٩٤ عن المجمع.

(٢) الدخان / ٤٧.

(٣) المنجد مادة عتل.

(٤) مجمع البيان / ج ١٠ عند الآية.

(٥) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٣٩٤ نقلا عن عيون الاخبار.

٢١٤

فكأنّه فيهم زنمة (١) ، وسمّي الدّعي زنيما لأنّه شاذ عن المجتمع ولا ينسجم معه فكأنّه من غير جنسه ، ولعلّ هذه الكلمة تتسع للعملاء الدخلاء على المجتمع الإسلامي ، والمتصلين بأعدائه العاملين لمصالحهم ، وما أقرب المنافقين من حقيقة الكلمة. أو ليسوا في الأمة وليسوا منها ولا معها؟

وكلمة أخيرة نقولها في الآيات : أنّ نهي الله عن الطاعة للذين مرّ ذكرهم هو نهي عن اتخاذهم بطانة للقيادة وأعضاء في جهازها الديني والسياسي لما في ذلك من أخطار عظيمة على واقع الأمّة ومستقبلها ، وعلى مسيرة القيادة الفكرية والإيمانية والسياسية ، ومكانتها الجماهيرية في المجتمع.

[١٤] ويبيّن السياق جذور الصفات السيئة عند المنافقين وهما اثنان :

الأول : الافتتان بالدنيا. وقد ذكر الأموال والأولاد من زينة الدنيا لأنّهما غاية ما فيها ، والمال لا يقصد به الدينار والدرهم بل هو كل ما يملكه الإنسان من حطامها والمال رمزه ، كما أنّ الأولاد لا ينحصرون في الأبناء من الصلب وحسب بل هم كل أتباع المترفين ، والأولاد أقرب المصاديق في التبعية والطاعة ، وهذا ما أكّده الله في قوله : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) ، وافتتان الإنسان بهما يعني حبه للدنيا و «رأس كل خطيئة حب الدنيا» (٣) ، كما قال الإمام الصادق (ع) ، أو كما قال رسول الله (ص): «حب الدنيا أصل كل معصية وأول كل ذنب» (٤).

__________________

(١) المنجد / مادة زنم.

(٢) الكهف / ٤٦.

(٣) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧٣ ـ ص ٧.

(٤) تنبيه الخواطر / ص ٣٦٢.

٢١٥

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ)

يعني أنّ أصل صفات المنافقين والمترفين الذين نهى الرسول عن طاعتهم والتي ذكرها القرآن في الآيات السابقة (الحلف والمهانة والهمز والنميمة ومنع الخير والاعتداء والإثم والعتالة والزنامة) كلّها الافتتان بالدنيا (المال والبنين). إذن فطريق تكامل أخلاق الخير في شخصية الإنسان ، وبالتالي التسامي إلى قمة الفضيلة السامقة (أعني التوحيد) لا يكون إلّا بتجاوز فتنة الدنيا بأموالها وبنيها. وليس تجاوز الفتنة بنبذ المال والأتباع ، لأنّها حينما يحسن البشر التصرف فيهما يكونان خير معين له على الرقي في سلّم الكمال الأخلاقي والإيماني ، ففي الحديث الشريف عن النبي (ص): «نعم العون على تقوى الله الغنى» (١) ، وعن الإمام الصادق (ع): «نعم العون الدنيا على الآخرة» (٢) ، أو ليس العوز سبب التبعية ، والحاجة تؤدي إلى الذل؟

ونهتدي إلى فكرة أخرى هامة حينما نربط هذه الآية بنهي القيادة عن طاعة المترفين ، وهي : أنّ القائد قد ينخدع هو الآخر بما عندهم من حطام الدنيا (أموالا وأتباعا) فيطيعهم أو يداهنهم طمعا فيهما أو خشية منهما ، ويجب عليه أن يتجاوز هذه العقبة بالتوكل على ربه والرغبة فيما عنده.

[١٥] الثاني : نبذ رسالة الله وراء ظهورهم. وما هي رسالة الله؟ إنّها الحق والفضيلة ، وحيث رفضوها واتبعوا أهواءهم وشهواتهم فقد اختاروا الباطل على الحق ، والرذيلة على الفضيلة.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

__________________

(١) فروع الكافي / ج ٥ ـ ص ٧١.

(٢) المصدر / ص ٧٢.

٢١٦

أي ؛ انها قيم رجعية لا تنسجم مع الواقع المعاصر فهي أساطير تشبه ما يسطّره الأولون بخيالاتهم من القصص البعيدة عن واقع الحياة وحقائقها ، وهذه من طبيعة الإنسان حينما يتكبر ويعاند لا يبحث عن صحة الفكرة ، ولا كونها حقّا أم باطلا ، وإنّما يبحث قبل ذلك وبعده عن التبرير بغضّ النظر عن سلامته .. فالمهم أن يقدّم عذرا مبرّرا ، ولكن هل درس المترفون رسالة الله دراسة موضوعية عقلانية أو صلتهم إلى هذا الحكم ، أم أنّهم وجدوها لا تتفق مع أهوائهم ، ووجدوا الرسول لا يداهنهم ولا يطيعهم فقالوا ذلك؟ بلى. إنّهم ربطوا الرسالة بمصدر بشري (الأولين) ولم يربطوها بالله حتى يهربوا من مسئولية الحق ، ولكن هل يصير الحق باطلا بمجرد أن يقول أحد أنّه أسطورة أو باطل؟ كلّا .. وهكذا لا تغيّر أباطيل المترفين من حقيقة الرسالة شيئا أبدا ، ودليل ذلك أنّهم لن يفلتوا من الجزاء.

[١٦] بل سيتأكد لهم يوم الجزاء أنّ الرسالة حقائق واقعية عند ما يجازيهم الله ويعذّبهم ، وهذا ما يوضّح لنا العلاقة بين قول المترفين أن الرسالة أساطير الأولين وبين قول الله مباشرة :

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)

والوسم : العلامة التي يعرف بها الشيء ، ويقال للكي وسما لأنّ العرب كانت تحمي حديدة تكوي بها الدواب لتكون فيها علامة مميزة ، والميسم هو آلة الوسم ، وإنّ المترفين ليكوون يوم القيامة بمياسم خزنة النار ، التي تترك عليهم علامة يعرفهم بها الخلائق فيفتضحون ويعيبونهم على أفعالهم وذنوبهم الدنيئة. وقد نستوحي من هذه الآية أنّ الإنسان وحتى المترف لا يعترف وهو يمارس الذنب كالهمز والنميمة ومنع الخير أنّه على الباطل ، بل يخفي الحقيقة بشتى الوسائل والمبررات عن الآخرين ، ولذلك كان من جزائه في الآخرة الفضيحة بالوسم على

٢١٧

الخرطوم ، فما هو الخرطوم؟

في المنجد : خراطيم القوم ساداتهم وأبرزهم ، يسمّى بذلك الأنف ، ويستعمل خصوصا للفيل (١) ، وقيل للأنف خرطوما لأنّ الوجه أبرز ما في الإنسان ، والأنف أبرز ما في الوجه ، وربما وصف القرآن أنوف المترفين بالخراطيم (أنوف الأفيال الطويلة) لأنّهم عادة ما يشمخون بها على الناس استطالة وتكبّرا ، حتى لتكاد تطول لو أمكنها. وقد تمحورت كنايات العرب عن التكبّر حول الأنف ، يقولون : شمخ بأنفه ، وأرغم الله أنفه ، وآتي برغم أنفه (٢) ، وحيث يعذّبهم الله بالوسم على أنوفهم فذلك إهانة لهم باعتبارها مقياس العزة والتكبر ، يقال : أعزّ الله أنوفهم إذا رفع القوم شأوا. ولعل الكلمة تتسع إلى اللسان الذي يحلفون به ، ويهمزون به ، وينمّون ، ويمنعون الخير ، ويحاربون به الرسول والرسالة ، وما إلى ذلك من سائر المعاصي التي يلعب اللسان فيها دورا رئيسيا ، وإنّما يطيل الله أنوفهم أو ألسنتهم في الآخرة لتستوعب بمساحتها قدرا أكبر من العذاب.

قصة أصحاب الجنة :

[١٧ ـ ٢٠] ويشبّه القرآن واقع المترفين مذكّرا بقصة أصحاب الجنة ، لأنّهم كهؤلاء افتتنوا بزينة الحياة الدنيا فاتبعوا الأهواء وخالفوا الحق واستكبروا على المحرومين ، لو لا أنّهم بعد طائف من الله عليها اكتشفوا خطأهم وبادروا إلى التوبة خشية العذاب الأكبر في الآخرة. قال ابن عباس : (إنّه كان شيخ كانت له جنّة ، وكان لا يدخل بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، فلمّا قبض الشيخ وورثه بنوه ـ وكان له خمسة من البنين ـ فحملت جنتهم في تلك

__________________

(١) المنجد / مادة خرط (١٢) بتصرف.

(٢) مجمع البيان / ج ١٠ عند الآية.

٢١٨

السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته من قبل ذلك ، فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر ، فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم ، فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا ، وقال بعضهم لبعض : إنّ أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف فهلّموا نتعاهد ونتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا ، حتى نستغني وتكثر أموالنا ، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة ، فرضي بذلك منهم أربعة وسخط الخامس ، وهو الذي قال تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ).

فقال لهم أوسطهم : اتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا ، فبطشوا به فضربوه ضربا مبرحا ، فلمّا أيقن الأخ أنّهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم ، غير طائع ، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله أن يصرموه إذا أصبحوا ولم يقولوا إن شاء الله ، فابتلاهم الله بذلك الذنب ، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه) (١).

ولعلّ في القصة إشارة إلى أنّه تعالى أجرى نفس السنّة على المترفين أو طالهم منه شيء من العذاب في الدنيا ، وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر (ع) تأكيد لذلك ، قال : «إنّ أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنة» (٢) ، وإذا لم يكن أهل مكة بأجمعهم فلا أقل مصاديق الآيات السابقة كالمغيرة وآخرين ممّن نزلت في شأنهم يومذاك. قال تعالى :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ)

أي اختبرناهم بالثروة بمثل ما اختبرنا أصحاب المزرعة وما دامت السنن الإلهية في

__________________

(١) تفسير القمي / ج ٢ ـ ص ٣٨١.

(٢) المصدر / ص ٣٨٢.

٢١٩

الحياة واحدة فيجب إذن أن يعتبر الإنسان بالآخرين سواء المعاصرين له أو الذين سبقوه ، وأن يعيش في الحياة يتّلمذ فإنّها مدرسة وأحداثها خير معلّم لمن أراد وألقى السمع وأعمل الفكر وهو شهيد ، وبهذه الهدفية يجب أن نطالع القصص ونقرأ التاريخ ، فهذه قصة أصحاب الجنة يعرضها الوحي لتكون أحداثها ودروسها موعظة وعبرة للإنسانية.

والقرآن في عرضه لهذه القصة الواقعية (١) لا يحدثنا عن الموقع الجغرافي للجنة هل كانت في اليمن أو في الحبشة ، ولا عن مساحتها ، ونوع الثمرة التي أقسم أصحابها على صرمها ، لأنّ هذه الأمور ليست بذات أهمية في منهج الوحي ، إنّما المهم المواقف والمواعظ والأحداث المعبّرة سواء فصّل العرض أو اختصر وأوجز.

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ)

أي أول الصباح ، وخلافا لعادة الفلّاحين الذين يصرمون بعد طلوع الشمس ، وذلك لكي لا يعلم المساكين بالأمر فيحضرون طلبا للمعونة ، ويظهر أنّهم تعاقدوا على ذلك ليلا. والصرم أصله القطع ، يقال : تصارم القوم إذا تقاطعوا وهجر بعضهم بعضا ، وسيف صارم يعني شديد القطع ، والرجل الأصرم الذي قطع طرف أذنيه ، وصرم النخل إذا قطع عروقها .. ولعل في الآية إشارة إلى نوع شجر الجنة بأنّه مما يصرم كالنخل والعنب وليس مما يحصد كالحنطة أو يجنى كالفاكهة. والقسم هو غاية العزم والإصرار. ولعلهم إنّما تحالفوا وتعاقدوا لكي لا ينفرد بعضهم بإعطاء شيء للفقراء أو إفشاء سر مؤامرتهم حيث يبدو أنّ بعضهم كان مخالفا لمثل هذه العملية وهو أوسطهم.

__________________

(١) أقول واقعية لأنّ بعض المفسرين والذين درسوا القصص القرآنية حاولوا تصويرها بأنّها قصص خيالية وهمية وضعها الله لتكون وسيلة لأفكار القرآن ، وليس في ذلك مقدار من الصحة.

٢٢٠