تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

يكون قول المؤمنين فيه أو في الدنيا. وجوز في الكشاف أن يكون ظرفا لقال. والنكير الإنكار أي ما لكم من مخلص ولا من قدرة أن تنكروا شيئا مما دوّن في صحائف أعمالكم أو مالكم من ينكر علينا حتى يغير شيئا من أحوالكم. ثم سلى نبيه بقوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا) ثم ذكر سبب إصرارهم على عقائدهم الفاسدة وهو الضعف الذي جبل عليه الإنسان من البطر عند الغنى ، والفراغ في زمن الصحة ، والأمن في زمن الكفران ، ونسيان نعم الله عند البلاء. وإنما جمع قوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) لأن الإنسان جنس يشمل أهل الغفلة كلهم. وقوله (فَإِنَّ الْإِنْسانَ) من وضع الظاهر موضع الضمير وفائدته التسجيل على أن هذا الجنس من شأنه ذلك إلا إذا أدّب النفس وراضها. ثم بين كمال قدرته بقوله (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. والمقصود أن الإنسان لا يغتر بما يملكه من الجاه والمال ولا يعتقد أنه حصل بجد أوجده فيعجب به ويعرض عن طاعة ربه. ثم ذكر من أقسام تصرفه في ملكه أنه يخص البعض من الحيوان بالأولاد الإناث ، والبعض بالذكور ، والبعض بالصنفين ، والبعض يجعله عديم الولد. وقدم ذكر الإناث تطييبا لقلوب آبائهن أو لأنهن مكروهات عند العرب فناسب أن يقرن اللفظ الدال عليهن باللفظ الدال على البلاء. أو لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء الإنسان فكان ذكر الإناث التي هي من جملة ما لا يشاء الإنسان أهم. وفيه نقل الإنسان من الغم إلى الفرح. ولا ريب أن هذا أولى من العكس. وفيه أن الإنسان إذا رضي بالأنثى فإذا أعطاه الذكر علم أنه فضل من الله. وفيه أن العجز كلما كان أتم كانت عناية الله بحاله أوفر. ثم أراد أن يتدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقديم فعرف الذكور لأنه مع رعاية الفاصلة تنويه وتشهير كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام. ثم قال (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) فأعطى كلا الجنسين حقه. ونصبهما على الحال ، والضمير للأولاد أو على المفعولية ، والضمير لمن يشاء أي يجمع لهم كلا الصنفين سواء كانا متساويين في العدد أم لا. وقيل: معناه أن تلد ذكرا وأنثى في بطن واحد قاله ابن الحنفية. وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأنبياء ، وهب لشعيب ولوط أناثا ، ولإبراهيم عليه‌السلام ذكورا ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكورا وهم القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم ، وإناثا هن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم ، وجعل يحيى وعيسى عقيما. والحق أن هذا التقسيم وإن كان مطابقا لحال هؤلاء الأنبياء إلا أن في التخصيص ضيق عطن. وإن صحت الرواية عن ابن عباس فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب ، وحمل بعض أهل التأويل الإناث على أمور الدنيا والذكور على أمور الآخرة ، وتزويج الصنفين على الجامع بين الأمرين ، والعقيم على

٨١

من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي وما صح لأحد (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا) على أحد ثلاثة أنحاء: الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه‌السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد أن داود عليه‌السلام ألهمه الزبور فكتبه حفظا. الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب. والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان. وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وقيل: حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم. وقيل: حجاب لموضع الكلام. الثالث أن يرسل رسولا كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله. والأقسام الثلاثة كلها من قبيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصا بالأول ، وتقدير الكلام: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا أو إلا وحيا أو إسماعا أو إرسالا ، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل. ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلا عطفا على (وَحْياً) بمعنى موحيا. وقيل: الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة ، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم ، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي. وقد يقال: إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات ، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة. فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله ، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى النبي فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه ، وإذا بلغ الرسول لأمته فالأمر كذلك. وهذا الثالث مشهور متفق عليه ، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة. قال أهل التصديق: إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا الصادقة كفلق الصبح ، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج ، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث. ومعنى (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) قرآنا من عندنا أو من عالم أمرنا كقوله (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [غافر: ١٥] و (ما كُنْتَ تَدْرِي) في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجرد العقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع. وقيل: أراد أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن. والضمير في (جَعَلْناهُ) للقرآن أو الإيمان أولهما جميعا. ووحد كقوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة:

٨٢

١١] وهداية الله خاصة ، وهداية النبي عامة وهي الدعوة ، وصراط الله دينه ، ومصير الكل إليه عبارة عن رجوعهم إلى حيث لا حكم لأحد سواه والله أعلم.

٨٣

(سورة الزخرف وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة

كلمها ثمانمائة وثلاث وثلاثون آياتها تسع وثمانون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما

٨٤

أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

القراآت: في إم الكتاب بكسر الهمزة: حمزة وعلي إن كنتم بالكسر: أبو جعفر ونافع وعلي وحمزة وخلف. الآخرون: بالفتح أي لأن كنتم (مَهْداً): عاصم وحمزة وعلي وخلف وروح. الباقون مهاد ميتا بالتشديد: يزيد. يخرجون من الخروج: حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. الآخرون: من الإخراج (يُنَشَّؤُا) من باب التفعيل: حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون: بالتخفيف والياء مفتوحة والنون ساكنة (عِبادُ الرَّحْمنِ) جمع عبد أو عابد: أبو عمرو وعاصم وحمزة وعلي وخلف ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بالنون كقوله (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [فصلت: ٣٨] الآخرون: عبيد الرحمن أو شهدوا بقلب همزة الإشهاد واوا مضمومة: ورش وإسماعيل. وقرأ يزيد وقالون مثله ولكن بالمد. وقرأ المفضل بتحقيق الهمزتين. الباقون: بهمزة واحدة للاستفهام والشين مفتوحة (قالَ أَوَلَوْ) بالألف: ابن عامر وحفص والمفضل جئناكم يزيد.

الوقوف: (حم) ه كوفي (الْمُبِينِ) ه لا ومن لم يقف على (حم) وقف على (الْمُبِينِ) لأن القسم متعلق بما قبله وهو هذه (حم تَعْقِلُونَ) ه ج (حَكِيمٌ) ه ط (مُسْرِفِينَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (الْعَلِيمُ) ه لا بناء على أن ما بعده وصف ولو كان نصبا أو رفعا على المدح فالوقف (تَهْتَدُونَ) ه (بِقَدَرٍ) ج للالتفات مع الفاء (مَيْتاً) ج لانقطاع النظم مع تعلق التشبيه (تُخْرَجُونَ) ه (تَرْكَبُونَ) ه لا (مُقْرِنِينَ) ه لا لأن ما بعده من تمام المقول (لَمُنْقَلِبُونَ) ه (جُزْءاً) ط (مُبِينٌ) ه ط (بِالْبَنِينَ) ه (كَظِيمٌ) ه (مُبِينٍ) ه (إِناثاً) ط (خَلْقَهُمْ) ط (وَيُسْئَلُونَ) ه (ما عَبَدْناهُمْ) ط (يَخْرُصُونَ) ه ط (مُسْتَمْسِكُونَ) ه (مُهْتَدُونَ) ه (مُقْتَدُونَ) ه (آباءَكُمْ) ط (كافِرُونَ) ه (الْمُكَذِّبِينَ) ه (تَعْبُدُونَ) ه لا (سَيَهْدِينِ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (مُبِينٌ) ه (كافِرُونَ) ه

التفسير: أقسم بجنس الكتاب أو بالقرآن الظاهر الإعجاز أو المفصح عن كل حكم يحتاج المكلف إليه أنه جعل القرآن بلغة العرب ليعقلوه. وفي نسبة الجعل إلى نفسه إشارة

٨٥

إلى أنه ليس بمفترى كما زعمه الكفرة. وقيل: أراد ورب الكتاب وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ. وقال ابن بحر: هو الخط أقسم به تعظيما لنعمته فيه ، وقال ابن عيسى: البيان ما يظهر به المعنى للنفس عند الإدراك بالبصر والسمع وذلك على خمسة أوجه: لفظ وخط وإشارة وعقد وهيئة ، كالأعراض وتكليح الوجه. وأم الكتاب بكسر الهمزة وبضمها اللوح المحفوظ لأنه أصل كل كتاب والتقدير: وإنه لعلي حكيم في أم الكتاب لدينا. والعلو علو الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك والحكيم المشتمل على الحكمة. ثم أنكر على مشركي قريش بقوله (أَفَنَضْرِبُ) قال جار الله: أراد أنهملكم فنضرب (عَنْكُمُ الذِّكْرَ) يقال: ضرب عنه الذكر إذا أمسك عنه وأعرض عن ذكره من ضرب في الأرض. إذا أبعد و (صَفْحاً) مصدر من غير لفظ الفعل والأصل فيه أن تولي الشيء صفحة عنقك ، وجوز جار الله أن يكون بمعنى جانبا من قولهم: «نظر إليه بصفح وجهه» فينتصب على الظرف ويكون الذكر بمعنى الوعظ والقرآن والفحوى أفننحيه عنكم. وقيل: ضرب الذكر رفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن من بين أظهركم لإشراككم مع علمنا بأنه سيأتي من يقبله ويعمل به. قال السدي: أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم وهو قريب من الأول. وقيل: الذكر هو أن يذكروا بالعقاب ولا يخلو من مناسبة لقوله (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) ومن قرأ إن كنتم بالكسر فكقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي. يخيل في كلامه أن تفريطه في الخروج عن عهدة الأجر فعل من يشذ في الاستحقاق مع تحققه في الخارج. ثم سلى نبيه بقوله (وَكَمْ أَرْسَلْنا) الآيتين. قوله (أَشَدَّ مِنْهُمْ) قيل: «من» زائدة والمراد أشدهم (بَطْشاً) كعاد وثمود وقيل: الضمير لقوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصله أشد منكم إلا أنه ورد على طريقة الالتفات كقوله (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: ٢٢] قوله (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سلف ذكرهم وقصتهم العجيبة في القرآن غير مرة ويحتمل أن يكون معناه كقوله (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) [الحجر: ١٣] ثم بين بقوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أن كفرهم كفر عناد ولجاج لأنهم يعرفون الله ثم ينكرون رسوله وكتابه وقدرته على البعث. وهذه الأوصاف من كلام الله لا من قول الكفار بدليل قوله (لَكُمُ) ولم يقل «لنا» ولقوله (فَأَنْشَرْنا) والمراد لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وقد مر في «طه» مثله. وقوله (تَهْتَدُونَ) أي في الأسفار أو إلى الإيمان بالنظر والاعتبار. وقوله (بِقَدَرٍ) أي بمقدار الحاجة لا مخربا مغرقا كما في الطوفان. وقوله (مَيْتاً) تذكيره بتأويل المكان. والأزواج الأصناف وقد مر في قوله (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) [يس: ٣٦] والعائد إلى ما في قوله (ما تَرْكَبُونَ) محذوف فلك أن تقدره مؤنثا أو مذكرا باعتبارين. قال في الكشاف: يقال: ركبت الأنعام وركبت في الفلك إلا أنه غلب المتعدي بغير

٨٦

واسطة على المتعدي بواسطة. قلت: يجوز أن يكون كقوله «ويوم شهدناه» والضمير في ظهوره عائد إلى ما. والاستواء في الآية بمعنى التمكن والاستقرار وذكر النعمة بالقلب ويحتمل كونه باللسان وهو تقديم الحمد لله. يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: الحمد لله على كل حال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى قوله (لَمُنْقَلِبُونَ) وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا. وإذا ركب في السفينة قال (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود: ٤١] ومعنى (مُقْرِنِينَ) مطيقين أو ضابطين مع صعوبة خلقه وخلقه. وقيل: لا يطيق أن يقرن بعضها ببعض حتى يسيرها إلى حيث يريد (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي في آخر عمرنا كأنه يتذكر ركوب الجنازة أو عثور الدابة أو انكسار السفينة فليستعد للقاء الله عزوجل بخلاف من يركب الخيول والزوارق لأجل التنزه والاشتغال بالملاهي والمناهي فيكون غافلا عن المبدأ والمعاد. عن بعضهم أنه أدخل في الخبر هاهنا خلاف ما في «الشعراء» لأن ركوب الدابة أو السفينة أو الجنازة عام لكل أحد. وما في «الشعراء» خاص بالسحرة.

ثم عاد إلى ما انجر الكلام منه وهو قوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) والمقصود التنبيه على سخافة عقولهم وقلة محصولهم فإنهم مع الإقرار بأن خالق السموات والأرض هو الله جعلوا له من عباده جزءا أي أثبتوا له ولدا ، وذلك أن ولد الرجل جزء منه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» (١) وفي قوله (مِنْ عِبادِهِ) إشارة إلى أن ما عداه ممكن الوجود فإن الولد متأخر في الوجود عن الأب والمتأخر عن الواجب ممكن ، والممكن مفتقر إلى الواجب في الوجود والبقاء والذات والصفات. وقيل: هو إنكار على مثبتي الشركاء لأنهم جعلوا بعض العبادة لغير الله ، وفيه نوع تكلف. والكفور البليغ الكفران لأنه يجحد ربه وخالقه ولا يجتهد في تنزيهه وتقديسه. وحين وبخهم على إثبات الولد زاد في توبيخهم وتجهيلهم والتعجيب من حالهم حيث جعلوا ذلك الولد بنتا مع أنها مكروهة عندهم فقال (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ) وفائدة تنكير (بَناتٍ) وتعريف البنين كما مر في آخر السورة المتقدمة في تنكير (إِناثاً) وتعريف (الذُّكُورَ) [الشورى: ٤٩] وقوله (بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي بالجنس الذي جعله شبها لله لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ، والمراد أنه إذا بشر بالأنثى كما سبق في «النحل» اغتم ويسود وجهه وملىء غيظا وكربا. ثم زاد في الإنكار بتعديد طرف من نقصان الإناث قائلا (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) والتقدير أهو كضده. قال جار الله: تقديره أو يجعل للرحمن من الولد من له هذه الصفة الدنيئة الذميمة وهي أنه

__________________

(١) المصدر السابق.

٨٧

يربى أو يتربى في الزينة والنعومة ، وهو إذا احتاج إلى المخاصمة لا يبين ولا يعرف عما في ضميره لعجزه عن البيان ولقلة عقله. قالت العقلاء: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تعرب عن حجتها إلا نطقت بما هو حجة عليها. وفيه أن النشء في الزينة والإمعان في التنعم من خصائص ربات الحجال لا من خواص الرجال. وإنما ينبغي أن يكون تلبسهم بلباس التقوى وتزينهم باستعداد الزاد للدار الأخرى. ثم خصص أن البنات التي نسبن إليه تعالى من أي جنس من بعد ما عمم في قوله (مِمَّا يَخْلُقُ) فقال (وَجَعَلُوا) أي سموا (الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) وفي إثبات العبودية لهم نفي الجزئية عنهم كما مر آنفا. وقوله (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) كقوله (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف: ٥١] وفيه تهكم بهم لأنه لم يدل على ذلك عقل ولا نقل صحيح فلم يبق إلا الإخبار عن المشاهدة يعني مشاهدتهم خلق الله إياهم أو مشاهدة صور الملائكة. ثم أوعدهم بقوله (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) على أنوثية الملائكة (وَيُسْئَلُونَ) ثم حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم (قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي الملائكة والأصنام نظير ما مر في آخر الأنعام (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الآية: ١٤٨]. واستدلال المعتزلة به ظاهر لأنه ذمهم بقوله (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أجاب الزجاج عنه بأن قوله (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) عائد إلى قولهم الملائكة بنات الله ، والمراد لو شاء الرحمن ما أمرنا بعبادتهم كقولهم (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف: ٢٨] فلهذا أنكر الله عليهم قاله الواحدي في بسيطه. وقيل: قالوها استهزاء ، وزيفه جار الله بأنه لا يتمشى في أقوالهم المتقدمة وإلا كانوا صادقين مؤمنين. وجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله تعويج لكتاب الله. وتمام البحث بين الفريقين مذكور في «الأنعام» وإنما قال في الجاثية (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) لأن هذا كذب محض وهناك خلطوا الصدق بالكذب ، صدقوا في قولهم (نَمُوتُ وَنَحْيا) وكذبوا في قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية: ٢٤] وكانوا شاكين في أمر البعث ، ثم زاد في الإنكار عليهم بقوله (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن أو الرسول (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) ثم أضرب عن ذلك وأخبر أنه لا مستند لهم في عقائدهم وأقوالهم الفاسدة الا التقليد. والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هذا دأب أسلافهم وداء قديم في جهال بني آدم. وإنما قال أولا (مُهْتَدُونَ) وبعده (مُقْتَدُونَ) لأن العرب كانوا يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزعمون الاهتداء ، ولعل الأمم قبلهم لم يزعموا إلا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء. ثم أخبر أن النذير (قالَ) أو أمر النذير أو محمدا أن يقول (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم فأصروا على التكذيب ولم يقبلوا فانتقم الله منهم.

٨٨

ثم بين بقصة إبراهيم عليه‌السلام أن القول بالتقليد يوجب المنع من التقليد ، وذلك أن إبراهيم عليه‌السلام كان أشرف آباء العرب وأنه ترك دين الآباء لأجل الدليل ، فلو كانوا مقلدين لآبائهم وجب أن يتبعوه في الاعتماد على الدليل لا على مجرد التقليد. والبراء بالفتح مصدر أي ذو براء. وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) قيل: متصل ، وكان فيهم من يعبد الله مع الأصنام. وقيل: منقطع بمعنى لكن ، ويحتمل أن يكون مجرورا بدلا من ما أي إلا من الذي وجوز في الكشاف أن تكون «إلا» صفة بمعنى غير و «ما» موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي يثبتني على الهداية أو يرشدني إلى طريق الجنة ، ولا ريب أن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) بمنزلة لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) بمثابة «إلا الله» وهي كلمة التوحيد فلذلك أنّث الضمير في قوله (وَجَعَلَها) أي وجعل إبراهيم أو الله (كَلِمَةً) التوحيد (باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) فلا يزال في ذريته من يوحد الله عزوجل ويدعو إلى توحيده نظيره (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة: ١٣٢] (لَعَلَّهُمْ) أي لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد أو عن الشرك بدعاء الموحدين منهم. ثم أضرب عن رجاء الرجوع منهم إلى أن تمتيعهم بالعمر وسعة الرزق صار سببا لعظم كفرهم وشدة عنادهم. قال جار الله: أراد بل اشتغلوا عن التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) وهو القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) الرسالة واضحها فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها من غفلتهم لاقتضائها التنبيه. ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق قائلا (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) جاؤا بما هو شر من غفلتهم وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ومكابرة الرسول وإنكار القرآن والله أعلم.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي

٨٩

وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

القراآت: سقفا بالفتح فالسكون: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد. الباقون: بضمتين على الجمع كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: لا ثالث لهما (لما) بالتشديد: عاصم وحمزة بمعنى إلا فـ (إِنْ) نافية. الآخرون: بالتخفيف فـ «إن» مخففة واللام فارقة كما مر في آخر هود يقيض على الغيبة والضمير للرحمن: يعقوب وحماد. الآخرون: بالنون (جاءَنا) على الوحدة والضمير للعاشي: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ويعقوب. الباقون: بألف التثنية والضمير للعاشي والقرين أنكم في العذاب بالكسر: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان أيه الساحر بضم الهاء مثل أيه المؤمنون وقد مر في «النور» تحتي بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير ونافع وأبو جعفر (أَسْوِرَةٌ) كأجربة: حفص وسهل ويعقوب. الآخرون أساورة كأشاعرة وهو جمع أسوار بمعنى السوار. وأصله أساوير. إلا أنه عوض من الياء هاء في آخره سلفا بضمتين: حمزة وعلي وهو جمع سليف. الباقون: بفتحتين جمع سالف كخادم وخدم.

الوقوف: (عَظِيمٍ) ه (رَحْمَتَ رَبِّكَ) ط (سُخْرِيًّا) ط (يَجْمَعُونَ) ه (يَظْهَرُونَ) ه لا (يَتَّكِؤُنَ) ه لا (وَزُخْرُفاً) ط (الدُّنْيا) ط (لِلْمُتَّقِينَ) ه (قَرِينٌ) ه (مُهْتَدُونَ) ه (الْقَرِينُ) ه (مُشْتَرِكُونَ) ه (مُبِينٍ) ه (مُنْتَقِمُونَ) ه لا (مُقْتَدِرُونَ) ه (إِلَيْكَ) ط لاحتمال التعليل (مُسْتَقِيمٍ) ه (وَلِقَوْمِكَ) ج للتعليق مع سين التهديد (تُسْئَلُونَ) ه

٩٠

(يُعْبَدُونَ) ه (الْعالَمِينَ) ه (يَضْحَكُونَ) ه (مِنْ أُخْتِها) ز لنوع عدول (يَرْجِعُونَ) ه (لَمُهْتَدُونَ) ه (يَنْكُثُونَ) ه (تَحْتِي) ج للاستفهام مع اتحاد الكلام (تُبْصِرُونَ) ه لأن «أم» منقطعة (مُقْتَرِنِينَ) ه (فَأَطاعُوهُ) ط (فاسِقِينَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه (لِلْآخِرِينَ) ه.

التفسير: هذه حكاية شبهة لكفار قريش ، وذلك أنهم ظنوا أن الفضيلة في المال والجاه الدنيوي فقالوا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ) وفي الإشارة هاهنا نوع استخفاف منهم لكتاب الله (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحداهما يعنون مكة أو الطائف. قال المفسرون: الذي بمكة هو الوليد بن المغيرة ، والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي. ومنهم من قال غير ذلك. وأرادوا بعظم الرجل رياسته وتقدمه في الدنيا فألزمهم الله تعالى بأجوبة أوّلها قوله على سبيل الإنكار (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي النبوّة فيضعوها حيث شاؤا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي خدما وتابعا ومملوكا. واللام لام العاقبة فإن الإنسان خلق مدنيا بالطبع. وقالت المعتزلة: للغرض وإذا كانت المعايش الدنيوية مع حقارتها وخساستها مفوّضة إلى تدبير الله وتسخيره وتقديره دون أحد من خلقه ، فالأمور الدينية والمناصب الحقيقية الأخروية أولى بذلك. وقيل: الرحمة الرزق. ومعنى الآية إنكار أن الرزق منهم فكيف تكون النبوّة منهم؟ واستدلال السني بالآية ظاهر في أن كل الأرزاق من الله حلالا كانت أو حراما. وقالت المعتزلة: الله تعالى قاسم ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوءتنا ولهم. والجواب أنه كما قسم الرزق عين الجهة التي بها يصل الرزق إليه فكل بقدره. وثانيها قوله (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لأن الدنيا منقضية فانية ودين الله وما يتبعه من السعادات باق لا يزول ، فكيف يجعل العاقل ما هو الأخس أفضل مما هو الأشرف؟ وثالثها قوله (وَلَوْ لا) كراهة (أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) مجتمعين على الكفر (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) هو بدل اشتمال وقيل: هما كقولك: وهبت له ثوبا لقميصه في أن اللام للغرض. والمعارج المصاعد أو المراقي جمع معرج كمخلب (عَلَيْها) أي على المعارج (يَظْهَرُونَ) يعلون السطوح. والزخرف الزينة أي جعلنا لهم زينة عظيمة في كل باب. وقيل: الذهب أي جعلنا لهم مع ذلك ذهبا كثيرا. أو وجه آخر على هذا التفسير وهو أن يكون معطوفا على قوله (مِنْ فِضَّةٍ) إلا أنه نصب بنزع الخافض أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب. والحاصل أنه سبحانه إن وسع على الكافرين كل التوسعة أطبق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها مع حقارة الدنيا عند الله تعالى ، وفي معناه قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى

٩١

كافرا منها شربة ماء» (١) وإنما لم يوسع على المسلمين كلهم لتكون رغبة الناس في الإسلام لمحض الإخلاص لا لأجل الدنيا. ثم بشر المؤمنين بقوله (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ) إلى آخره. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن اللطف من الله تعالى واجب ، وفيه أنه تعالى لما لم يفعل بالناس التوسعة لئلا يجتمعوا على الكفر ، فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى. والجواب أن وقوع كل الناس في طريق القهر محذور ، وأما وقوع البعض فضروري كما مر في أول البقرة ، فشتان بين الممتنع الوجود والضروري الوجود فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟ ثم بين أن مادة كل الآفات وأصل جميع البليات هو السكون إلى الدنيا والركون إلى أهلها فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ويصير بالتدريج كالعشى ثم كالعمى فقال (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي عن القرآن أي يعرف أنه الحق ولكنه يتجاهل. قال جار الله: قرىء بفتح الشين أيضا. والفرق أنه إذا حصلت آفة في بصره يقال عشي بالكسر أي عمى يعشى بالفتح ، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا أي تعامى. وفيه معنى الإعراض فلهذا عدي بـ «عن» ومعنى (نُقَيِّضْ) نقدر كما مر في «حم السجدة» (وَإِنَّهُمْ) أي الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي العشي عن دين الله (وَيَحْسَبُونَ) أي الكفار أن الشياطين والكافرين (مُهْتَدُونَ) وإنما جمع الضميرين لأن (مَنْ) عام و (شَيْطاناً) تابع له. ولا شك أن هذا القرين ملازم له في الآخرة لقوله (حَتَّى إِذا جاءَنا) الآية وأما في الدنيا فمحتمل بل لازم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون» ويروى أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ولم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب كالقمرين. وقيل: المغرب أيضا مشرق بالنسبة إلى الحركة الثانية وهذا قول أهل السنة. وقيل: مشرق الصيف ومشرق الشتاء وفيه ضعف لأنه لا يفيد مبالغة ، فبين الله تعالى أن ذلك التمني لا ينفعهم وعلله بقوله (أَنَّكُمْ) من قرأ بالكسر فظاهر ، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف اللام أي لن ينفعكم تمنيكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر ، ويحتمل أن يكون أن في قراءة الفتح فاعل ينفع أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب. وإن قيل: المصيبة إذا عمت طابت وذلك أن كل أحد مشغول في ذلك اليوم عن حال غيره بحال نفسه. و (إِذْ) بدل من اليوم ومعناه إذ ظلمكم تبين ووضح لكل أحد.

__________________

(١) رواه البخاري في تفسير سورة ١٨ باب ٦ مسلم في كتاب المنافقين حديث ١٨ ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣

٩٢

ثم إنه صلى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحزن على فقد الإيمان منهم فسلاه بقوله (أَفَأَنْتَ) إلى آخره. وقوله (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) أراد به قبض روحه كقوله في «يونس» وفي «المؤمن» (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) [الآية: ٧٧] الانتقام إما في الآخرة وهو قول الجمهور أو في الدنيا. عن جابر أنه قال: لما نزلت (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أورده في تفسير اللباب. وقيل: فأما نذهبن بك من مكة فإنا منهم منتقمون يوم بدر. والحاصل أنه تعالى توعد الكفار بعذاب الدنيا والآخرة جميعا. ثم قال لنيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرناه إلى الآخرة فكن متمسكا بما أوحينا إليك فإنه الدين الذي لا عوج له ، وإنه لشرف لك ولقومك أي لجميع أمتك أو لقريش وسوف تسألون هل أديتم شكر هذه النعمة أم لا. قال أهل التحقيق: في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان خلاف الحياة المستعارة فإن أثرها لا يجاوز مسكن الحي. قلت: الذكر الجميل جميل ولكن الذكر الحاصل من القرآن أجمل رزقنا الله طرفا من ذلك بعميم فضله. ثم إن السبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكاره لأصنامهم ، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذه الدعوة وهذا الإنكار ولكنه دين أطبق كل الأنبياء على الدعاء إليه. وفي الآية أقوال: أحدها أن المضاف محذوف تقديره واسأل يا محمد أمم من أرسلنا. وقال القفال: المحذوف صلة التقدير واسأل من أرسلنا إليهم من قبلك رسولا من رسلنا. والمراد أهل الكتابين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في كثير من أمورهم نظيره (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس: ٩٤] ثانيها أن حقيقة السؤال هاهنا ممتنعة ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم. وثالثا أن التقدير: واسأل جبرائيل عمن أرسلنا. ورابعها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع له الأنبياء ليلة المعراج في السماء أو في بيت المقدس فأمهم. وقيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم: سلهم. فلم يسأل. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لا أشك في ذلك» قاله ابن عباس. وعن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: أتاني ملك فقال: يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ قال: قلت علام بعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه رواه الثعلبي. ولكنه لا يطابق قوله سبحانه (أَجَعَلْنا) الآية. وجوز بعضهم أن يكون (مَنْ) مبتدأ والاستفهامية خبره والعائد محذوف أي على ألسنتهم ، ومعنى الجعل التسمية والحكم. واعلم أن كفار قريش إنما طعنوا في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة كونه فقيرا خاملا وكان فرعون اللعين قد طعن في موسى بمثل ذلك حيث قال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) إلى قوله (مَهِينٌ) [الزخرف: ٥٢] فلا جرم أورد قصة موسى هاهنا تسلية

٩٣

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله (فَلَمَّا جاءَهُمْ) معطوف على محذوف تقديره فقال إني رسول رب العالمين. فطالبوه إقامة البينة على دعواه فلما جاءهم إلى آخره. قال جار الله: فعل المفاجأة مع إذا مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجأ وقت ضحكهم استهزاء أو سخرية. قوله (وَما نُرِيهِمْ) حكاية حال ماضية. وفي قوله (هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) وجهان: أحدهما أن كلا منها مثل شبيهتها التي تقدمت ، وكل من رأى واحدة منها حكم بأنها حكم كبراها لتكافؤ كل منها في الكبر. وإذا كان هذا الحكم صادقا على كل منها فكلها كبار كما قال الحماسي: من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم. مثل النجوم التي يسري بها الساري وثانيها أن يقال: إن الآية الأولى كبيرة والتي تليها أكبر من الأولى ، والثالثة أكبر من الثانية ، وكذلك ما بعدها. هذا القدر مستفاد من الآية ، وأما تفصيل هذا التفضيل فلعله لا يطلع عليه إلا خالقها ومظهرها. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) السنين ونقص من الثمرات إلى سائر ما ابتلوا به. قالت المعتزلة: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي إرادة أن يرجعوا فورد عليهم أنه لو أراد رجوعهم لكان. وأجابوا بأنه لو أراد قسرا لكان ولكنه أراد مختارا ، وزيف بأنه لو أراد أن يقع طريق الاختيار لزم أن يقع أيضا مختارا. أما الفرق فالصواب أن يقال: «لعل» للترجي ولكن بالنسبة إلى المكلف كما مر مرارا. وقالوا يا أيه الساحر أي العالم الماهر ولم يكن السحر عندهم ذما بل كانوا يستعظمونه ولهذا قالوا (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) وقيل: كانوا بعد على كفرهم فلهذا سموه ساحرا. وقولهم (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) وعد منوي إخلافه. وقولهم (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة وققد مر في «الأعرف» (وَنادى فِرْعَوْنُ) أي أمر بالنداء (فِي) مجامع (قَوْمِهِ) أو رفع صوته بذلك فيما بين خواصه فانتشر في غيرهم. والأنهار أنهار النيل. قال المفسرون: كانت ثلاثمائة وستين نهرا ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طالوت ونهر دمياط ونهر منفيس. كانت تجري تحت قصره وقيل: تحت سريره لارتفاعه. وقيل: بين يدي في جناتي وبساتيني. وعن عبد الله ابن المبارك الدينوري في تفسيره: أنه أراد بالأنهار الجياد من الخيل وهو موافق لما جاء في الحديث في فرس أبي طلحة «وإن وجدناه لبحرا» وقال الضحاك: معناه وهذه القواد والجبابرة تحت لوائي. قال النحويون: إما أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر و (تَجْرِي) نصب على الحال ، أو الواو للحال وما بعده جملة محلها نصب. وفي «أم» أقوال منها قول سيبويه إنها متصلة تقديره أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله (أَنَا خَيْرٌ) موضع (تُبْصِرُونَ) لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء ، فهذا من إنزال السبب منزلة المسبب لأن الإبصار سبب لهذا القول بزعمه. ومنها أنها منقطعة لأنه عدد عليهم أسباب الفضل ثم أضرب عن ذلك ثانيا. أثبت عندكم أني خير. ومنها أن التقدير

٩٤

أفلا تبصرون أني خير أم أبصرتم ثم استأنف فقال أنا خير ، والمهين من المهانة أي الحقارة والضعف أراد أنه فقير ولا عدد معه ولا عدد (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الكلام لأن عقدته لم تزل بالكلية كما شرحنا في «طه». وإلقاء الأسورة عليه عبارة عن تفويض مقاليد الملك إليه ، كانوا إذا أرادوا تشريف الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب وغيره أي ليس معه آلات الملك والسياسة ، أو ليس معه حلية وزي حسن كما أن الملوك يشهرون رسلهم بالخلع والمكرمات وبأشخاص يتبعونهم فلذلك قالوا (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) به أو يقترن بعضهم ببعض (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي حملهم على أن يخفوا له في الطاعة أو استخف عقولهم واستجهلهم (فَأَطاعُوهُ) وهذه من عادة اللئام كما قيل: العبد لا يردعه إلا العصا:

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ومعنى (آسَفُونا) أغضبونا وأغضبوا رسلنا (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي متقدمين وعبرة للمتأخرين ليعتبروا من حالهم فلا يقدموا على مثل أفعالهم وإليه المآب.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا

٩٥

مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

القراآت: يا عبادي بالياء في الحالين: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء. الباقون بغير ياء في الحالين (تَشْتَهِيهِ) بهاء الضمير: ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص. الآخرون: بحذفها وإليه يرجعون بياء الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء الخطاب. (وَقِيلِهِ) بالكسرة: حمزة وعاصم غير المفضل: الآخرون: بالنصب. تعلمون على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر.

الوقوف: (يَصِدُّونَ) ه (أَمْ هُوَ) ط (جَدَلاً) ط (خَصِمُونَ) ه (إِسْرائِيلَ) ه ط (يَخْلُفُونَ) ه (وَاتَّبِعُونِ) ط (مُسْتَقِيمٌ) ه (الشَّيْطانُ) ج للابتداء بان مع اتصال المعنى (مُبِينٌ) ه (فِيهِ) ج لعطف الجملتين مع الفاء (وَأَطِيعُونِ) ه (فَاعْبُدُوهُ) ط (مُسْتَقِيمٌ) ه (مِنْ بَيْنِهِمْ) ج للابتداء مع الفاء (أَلِيمٍ) ه (لا يَشْعُرُونَ) ه (الْمُتَّقِينَ) ه (تَحْزَنُونَ) ه ج لاحتمال كون ما بعده وصفا (مُسْلِمِينَ) ه ج لاحتمال أن يكون (الَّذِينَ) إلى آخر الآية مبتدأ وقوله (ادْخُلُوا) إلى آخره خبرا ، والقول محذوف لا محالة (تُحْبَرُونَ) ه (وَأَكْوابٍ) ج (الْأَعْيُنُ) ج للعدول مع العطف (خالِدُونَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (تَأْكُلُونَ) ه (خالِدُونَ) ه ج لأحتمال ما بعده صفة أو حالا له لا مستأنفا (مُبْلِسُونَ) ه ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفا أو حالا (الظَّالِمِينَ) ه (رَبُّكَ) ط (ماكِثُونَ) ه ج (كارِهُونَ) ه (مُبْرِمُونَ) ه ج لأن «أم» يصلح جواب الأولى ويصلح استفهاما آخر (وَنَجْواهُمْ) ط (يَكْتُبُونَ) ه (الْعابِدِينَ) ه (يَصِفُونَ) ه (يُوعَدُونَ) ه (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) ط (الْعَلِيمُ) ه (بَيْنَهُما) ج (السَّاعَةِ) ج (تُرْجَعُونَ) ه (يَعْلَمُونَ) ه (يُؤْفَكُونَ) ه ج فالوقف بناء على قراءة النصب ، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها (لا يُؤْمِنُونَ) ه لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول (سَلامٌ) ط للابتداء بالتهديد. قال السجاوندي: من قرأ تعلمون على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلا في الأمر

٩٦

بقوله (قُلْ) قلت: لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم.

التفسير: هذا نوع آخر من قبائح أقوال كفرة قريش. وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين: أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله. وانتصب (مَثَلاً) على أنه مفعول ثان لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو (إِذا قَوْمُكَ) أي المؤمنون (مِنْهُ) أي من المثل أو من ضربه (يَصِدُّونَ) أي يجزعون ويضجون (وَقالُوا) أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى. وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الآية: ٩٨] قال ابن الزبعري للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيرا ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء: ١٠١] ونزلت هذه الآية أيضا. والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحا وسرورا بما رأوا من سكوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الآخر الفرح. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا) وهي الأصنام (خَيْرٌ أَمْ) عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون. وقيل: من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق. وثالثها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح إلها وأن مثله عند الله كمثل آدم ، قال كفار مكة: إن محمدا يريد أن نتخذه إلها كما اتخذ النصارى المسيح إلها وضجروا وضجوا وقالوا: آلهتنا خير أم هو يعنون محمدا ، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق (بَلْ هُمْ قَوْمٌ) من عادتهم الخصومة واللدد. ثم قرر أمر عيسى عليه‌السلام بقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) أي بدلا منكم (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) يقومون مقامكم. وقيل: أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم. والغرض بيان كمال القدرة وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم الإلهية ولا نسبا من الله. ثم بين مآل حال عيسى عليه‌السلام بقوله (وَإِنَّهُ) يعني عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) لعلامة من علامات القيامة كما جاء في الحديث «أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير

٩٧

ويقاتل الناس على الإسلام» (١) وقيل: إذا نزل عيسى رفع التكليف. وقيل: ان عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث. وقيل: الضمير في (وَإِنَّهُ) للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) فلا تشكن فيها واتبعوني هذه حكاية قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ) وقد مر في آل عمران وفي «مريم». وقوله (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة و (الْأَخِلَّاءُ) جمع خليل و (يَوْمَئِذٍ) ظرف (عَدُوٌّ) وهو كقوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة: ١٦٦] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول. ومعنى (تُحْبَرُونَ) تسرون والحبور السرور ، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام ، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له. وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكوابا والله أعلم بأسراره. (وَفِيها) أي في الجنة. قال القفال: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه. ثم يقال لهم (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى آخره. ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمعتزلي. ومعنى (لا يُفَتَّرُ) لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيرا ودهشا. ولما أيسوا من فتور العذاب (نادَوْا يا مالِكُ) وهو اسم خازن النار (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي ليمتنا كقوله (فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص: ١٥] قال مالك: بعد أربعين عاما أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله (لَقَدْ جِئْناكُمْ) فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة. قال أهل التحقيق: سمى خازن النار مالكا لأن الملك علقة والتعلق من أسباب دخول النار كما سمى خازن الجنة رضوانا لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة وصلاح وفلاح. ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) والإبرام الإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم. وقال قتادة: أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب ، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المظالم باب ٣١ مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٤٢ ، ٣٤٣ أبو داود في كتاب الملاحم باب ١٤ الترمذي في كتاب الفتن باب ٥٤ ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٣٣ أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٠ ، ٢٧٢)

٩٨

به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضا.

ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه ، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين. وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه ، فلو كان المقدم حاصلا في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصا فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه ، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام ، واضح الإفحام ، قريب من الأفهام ، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام. وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوها متكلفة منها: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله. ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد. يقال: عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه. ومنها جعل «إن» نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك ، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته ، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة. ثم مدح ذاته بقوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) أي معبود كما مر في قوله (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام: ٣] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام. ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم. وقوله (إِلَّا مَنْ شَهِدَ) استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة ، ويجوز أن يكون متصلا لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيزا. وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعا له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر. ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أندادا. وقيل: الضمير في (سَأَلْتَهُمْ) للمعبودين. من قرأ (وَقِيلِهِ) بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أو المراد وقال قيله أي قوله ، والضمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله (قُلْ إِنْ كانَ) وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى ، وفيه تسلية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق.

٩٩

(سورة الدخان مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعون

كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها تسع وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ

١٠٠