تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

الأجر. والهشيم الشجر اليابس المتهشم أي المتكسر والمحتظر الذي يعمل الحظيرة ، ووجه التشبيه أن ما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتكسر وأنهم صاروا موتى جاثمين ملقى بعضهم فوق بعض كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع. ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم وقودا للجحيم كقوله (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) والحاصب الريح التي ترميهم بالحجارة وقد مرّ في «العنكبوت». ولعل التذكير بتأويل العذاب. والسحر القطعة من الليل وهو السدس الآخر كما مر في «هود» و «الحجر». وصرف لأنه نكرة وإذا أردت سحر يومك لم تصرفه. والظاهر أن الاستثناء من الضمير في (عَلَيْهِمْ) لأنه أقرب ولأنه المقصود. وجوز أن يكون استثناء من فاعل كذبت وهو بعيد (نِعْمَةً) مفعول له أي إنعاما. وقوله (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أكثر المفسرين على أنه إشارة إلى أنه تعالى يصون من عذاب الدنيا كل من شكر نعمة الله بالطاعة والإيمان. وقيل: إنه وعد بثواب الآخرة أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا ننعم عليهم يوم الحساب بالثواب.

وحين أجمل قصتهم فصلها بعض التفصيل قائلا (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) أي لوط (بَطْشَتَنا) شدة أخذنا بالعذاب (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) فتشاكوا بالإنذارات (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) معناها قريب من المطالبة كما مر في «يوسف». والضمير للقوم باعتبار البعض لأن بعضهم راودوه وكان غيرهم راضين بذلك فكانوا جميعا على مذهب واحد. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) مسخناها وجعلناها مع الوجه صفحة ملساء لا يرى لها شق. وإنما قال في «يس» (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [الآية: ٦٦] بزيادة حرف الجر لأنه أراد به إطباق الجفنين على العين وهو أمر كثير الوقوع قريب الإمكان بخلاف ما وقع للمراودين من قوم لوط فإنه أنذر وأبعد والكل بالإضافة إلى قدرة الله تعالى واحد ، إلا أنه حين علق الطمس بالمشيئة ذكر ما هو أقرب إلى الوقوع كيلا يكون للمنكر مجال كثير. ونقل عن ابن عباس أن المراد بالطمس المنع عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيئا غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئا. ولعل في هذا النقل خللا لأنه لا يناسب قوله عقيب ذكر الطمس (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي. ثم حكى العذاب الذي عم الكل بقوله (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ) ولقائل أن يسأل: مع الفائدة في قوله (بُكْرَةً) مع قوله (صَبَّحَهُمْ) والجواب أن (صَبَّحَهُمْ) يشمل من أول الصبح إلى آخر الإسفار وأنه تعالى وعدهم أول الصبح كما قال (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود: ٨١] فأراد بقوله (بُكْرَةً) تحقيق ذلك الوعد. ويمكن أن يقال: قد يذكر الوقت المبهم لبيان أن تعيين الوقت غير مقصود كما تقول: خرجنا في بعض الأوقات ولا فائدة فيه إلا قطع المسافة. فإنه ربما يقول السامع متى

٢٢١

خرجتم فيحتاج إلى أن تقول في وقت كذا أو في وقت من الأوقات. فإذا قال من أول الأمر في وقت من الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته وبمثله أجيب عن قوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء: ١] ويحتمل أن يقال: (صَبَّحَهُمْ) معناه قال لهم بكرة عموا صباحا وهو بطريق التهكم كقوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ) [آل عمران: ٢١] ويجوز أن يكون التصبيح بمعنى الإغاثة من قولهم «يا صباحاه» والعذاب المستقر الثابت الذي لا مدفع له أو الذي استقر عليهم ودام إلى الاستئصال الكلي أو إلى القيامة وما بعدها. قوله (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني موسى وهارون وغيرهما وأنهما عرضا عليه ما أنذر به المرسلون وهو بمعنى الإنذارات (بِآياتِنا كُلِّها) هي الآيات التسع أو جميع معجزات الأنبياء عليهم‌السلام لأن تكذيب البعض تكذيب الكل العزيز المقتدر الغالب الذي لا يعجزه شيء. ثم خاطب كفار أهل مكة بقوله (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) المكذبين وهو استفهام إنكار لأن الأقدمين كانوا أكثر عددا وقوة وبطشا (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) الكتب المتقدمة أن من كفر منكم كان آمنا من سخط الله فأمنتم بتلك البراءة كما أن البيداء وهو من في يده قانون أصل الخراج إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ) جمع مجتمع أمرنا (مُنْتَصِرٌ) منتقم عن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر فتقدم في الصف فقال: نحن ننصر اليوم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فنزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار. عن عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال عمر: أي جمع يهزم؟ فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع ويقول (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) عرف تأويلها (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى) من أنواع عذاب الدنيا أو أدهى الدواهي. والداهية اسم فاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه ويختص بأمر صعب كالحادثة والنازلة. (وَأَمَرُّ) من المرارة. وقيل: من المرور أي أدوم وأكثر مرورا. وقيل: من المرة الشدة. قوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الآية. روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وعن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مجوس هذه الأمة القدرية» وهو المجرمون الذين سماهم الله في قوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) عن الحق في الدنيا (وَسُعُرٍ) وهو نيران في الآخرة أو في ضلال وجنون في الدنيا لا يهتدون ولا يعقلون. أو في ضلال وسعر في الآخرة لأنهم لا يجدون إلى مقصودهم وإلى الجنة سبيلا. والنيران ظاهر أنها في الآخرة ، وسقر علم لجهنم من سقرته النار وصقرته إذا لوحته ، والمشهور بناء على الحديث المذكور أن قوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ) متعلق بما قبله كأنه قال: إن مس النار جزاء من أنكر هذا المعنى وهو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. قال النحويون: النصب في مثل هذا الصور لازم لئلا يلتبس

٢٢٢

المفسر بالصفة ، وذلك أن النصب نص في المعنى المقصود وأما الرفع فيحتمل معنيين: أحدهما كل شيء فإنه مخلوق بقدر وهو يؤدي مؤدى النصب ، والآخر كل شيء مخلوق لنا فإنه بقدر وهذا غير مقصود بل فاسد إذ يفهم منه أن شيئا من الأشياء غير مخلوق لله ليس بقدر والقدر التقدير أي كل شيء خلقناه مرتبا على وفق الحكمة أو مقدرا مكتوبا في اللوح ثابتا في سابق العلم الأزلي.

واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله. والمعتزلة تقول: الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى. وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسبا إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء: إن كل واحد من الفريقين لا يدخل في اسم القدرية إلا إذا كان النافي نافيا لقدرة الله لا أن يقول: هو قادر على أن يجلىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكرا للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف. ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالمجوس فيما بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار ، وأيضا لعل اسم القدرية لأهل الإثبات أولى منه لأهل النفي كما تقول: دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إلهين اثنين أو نورا وظلمة. وقال بعضهم: هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في منكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك. قوله (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي إلا كلمة واحدة وهي «كن» تأكيد لإثبات القدرة له وقد مر مثله في «النحل». وقوله (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته. ومعنى الخلق والأمر أيضا تقدم مشتبعا في «الأعراف» ثم هددهم مرة أخرى بقوله (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم في الكفر من الأمم. ثم ذكر نوعا آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي في صحف الحفظة. قال النحويون: هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصا في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون (كُلُّ شَيْءٍ) مفعولا (فِي الزُّبُرِ) وهذا معنى غير مستقيم كما ترى. وأما الرفع فيحتمل معنيين. أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله فعلوهن صفة لـ (شَيْءٍ) والظرف خبر أي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر. والآخر أن

٢٢٣

تقدر الجملة خبر أو يبقى الظرف لغوا فيؤدي الكلام حينئذ مؤدي النصب ، ولا ريب أن الوجه الذي يصح المعنى فيه على أحد الاحتمالين أولى من الذي يكون نصا في المعنى الفاسد. ثم أكد المعنى المذكور بقوله (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال بل مما وجد ويوجد (مُسْتَطَرٌ) أي مسطور في اللوح. ثم ختم السورة بوعد المتقين. والنهر جنس أريد به الأنهار اكتفى به للفاصلة. ولما سلف مثله مرارا كقوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الذاريات: ١٥] وقيل: معناه السعة والضياء من النهار (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) وفي مكان مرضيّ من الجنة مقربين (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) لا يكتنه كنه عظمته واقتداره نظيره قول القائل «فلان في بلدة كذا في دار كذا مقرب عند الملك». ويحتمل أن يكون الظرف صفة (مَقْعَدِ صِدْقٍ) كما يقال «قليل عند أمين خير من كثير عند خائن». قال أهل اللغة: القعود يدل على المكث بخلاف الجلوس ولهذا يقال للمؤمن «مقعد دون مجلس» ومنه قواعد البيت ، وكذا في سائر تقاليبه من نحو وقع أي لزق بالأرض وعقد. والإضافة في (مَقْعَدِ صِدْقٍ) كهي في قولك «رجل صدق» أي رجل صادق في الرجولية كامل فيها. ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبر عنه وهو الله ورسوله ، أو الصادق اعتقد فيه وهو المكلف ، أو يراد مقعد لا يوجد فيه كذب فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق وهو تبارك وتعالى أعلم وأجل وأكرم.

٢٢٤

(سورة الرحمن مكية إلا قوله) (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

حروفها ألف وثلاثمائة وستة وثلاثون كلماتها ثلاثمائة وإحدى وخمسون آياتها ثمان وسبعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ

٢٢٥

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

القراآت: والحب ذا العصف والريحان بالنصب فيهما: ابن عامر. والحب ذو العصف بالرفع فيهما والريحان بالجر: حمزة وعلي وخلف. الباقون: برفع الريحان يخرج مجهولا من الإخراج: أبو جعفر ونافع وأبو عمر وسهل ويعقوب (اللُّؤْلُؤُ) كنظائره و (الْجَوارِ) ممالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو وخلف طريق ابن عبدوس. المنشآت بكسر الشين. حمزة ويحيى طريق الصر يعيني سيفرغ بالياء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون على طريق الالتفات أيه الثقلان بضم الهاء مثل أيه المؤمنون [النور: ٣١] أيه الساحر [الزخرف: ٤٩] شواظ بكسر الشين: ابن كثير ونحاس. بالجر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل لم يطمثهن بضم الميم في إحداهما تخيرا: علي. وروى أبو الحرث عنه في الأولى بالضم (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) بنقل حركة الهمزة إلى النون: رويس وورش والشموني وحمزة في الوقف (ذُو الْجَلالِ) بالرفع: ابن عامر.

الوقوف: (الرَّحْمنُ) ه لا (الْقُرْآنَ) ه ط (الْإِنْسانَ) ه (الْبَيانَ) ه (بِحُسْبانٍ) ه ص لعطف الجملتين المتفقتين (يَسْجُدانِ) ه (الْمِيزانَ) ه لا لتعلق أن (الْمِيزانِ) ه (لِلْأَنامِ) ه لا لأن الجملة بعدها حال (فاكِهَةٌ) ص (الْأَكْمامِ) ه ص (وَالرَّيْحانُ) ه ج لابتداء الاستفهام مع دخول فاء التعقيب ، والوقف أجوز لأن الابتداء بالاستفهام مبالغة في التنبيه وكذلك في جميع السورة (تُكَذِّبانِ) ه (كَالْفَخَّارِ) ه لا (نارٍ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه

٢٢٦

(الْمَغْرِبَيْنِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (يَلْتَقِيانِ) ه لا لأن ما بعده حال من الضمير في (يَلْتَقِيانِ) و (لا يَبْغِيانِ) ه حال بعد حال (تُكَذِّبانِ) ه (وَالْمَرْجانُ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (كَالْأَعْلامِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (فانٍ) ه ج لعطف الجملتين المختلفتين والأولى الوصل لأن الكلام الأول يتم بالثاني. (وَالْإِكْرامِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (شَأْنٍ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (الثَّقَلانِ) ه (تُكَذِّبانِ) ه (فَانْفُذُوا) ه ط (بِسُلْطانٍ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (فَلا تَنْتَصِرانِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (كَالدِّهانِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (وَلا جَانٌ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (وَالْأَقْدامِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (الْمُجْرِمُونَ) ه م لأنه لو وصل صار ما بعده حالا من المجرمين وليس كذلك (آنٍ) ج (تُكَذِّبانِ) ه (جَنَّتانِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه لا لأن قوله (ذَواتا) صفة (أَفْنانٍ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (تَجْرِيانِ) ه (تُكَذِّبانِ) ه (زَوْجانِ) ه (تُكَذِّبانِ) ه ج لأن (مُتَّكِئِينَ) حال إلا أن الكلام قد تطاول (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) ط (دانٍ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (الطَّرْفِ) لا لأن (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) حال عنهن (جَانٌ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (وَالْمَرْجانُ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (إِلَّا الْإِحْسانُ) ج (تُكَذِّبانِ) ه (جَنَّتانِ) ه (تُكَذِّبانِ) ه (مُدْهامَّتانِ) ه (تُكَذِّبانِ) ه (نَضَّاخَتانِ) ه (تُكَذِّبانِ) ه (وَرُمَّانٌ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه ج (حِسانٌ) ه (تُكَذِّبانِ) ه (فِي الْخِيامِ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (جَانٌ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه ج (حِسانٍ) ه ج (تُكَذِّبانِ) ه (وَالْإِكْرامِ) ه.

التفسير: افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على الهيبة والعظمة وهي انشقاق القمر. وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والعناية وهي القرآن الكريم الذي فيه شفاء القلوب والطهارة عن الذنوب ، وهو أسبق الآلاء قدما وأجل النعماء منصبا. وبين السورتين مناسبة أخرى من جهة أنه ذكر هناك ما يدل على الانتقام والغضب كقوله (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر: ٣٩] وقوله (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر: ٢١] وذكر في هذه السورة بعد تعداد كل نعمة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مرة بعد مرة وتذكير النعمة على نعمة لأنها مما توقظ الوسنان وتنبه أهل الغفلة والنسيان. قال جار الله (الرَّحْمنُ) مبتدأ والأفعال بعده مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها عن العاطف إما لأن العائد قام مقام الصدر وإما لمجيئها على نمط التعديد كما تقول: زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعله أحد بأحد فما تنكر من إحسانه. قلت: فعلى هذا لو لم يوقف على (الْقُرْآنَ) جاز. وقيل: الرحمن خبر مبتدأ أي هو الرحمن. ثم استأنف قائلا (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) وما مفعوله الأول؟ قيل: هو متعد إلى واحد والمعنى جعل القرآن علامة وآية للنبوة. وقيل: هو جبرائيل أي علم جبرائيل القرآن حتى نزل به على محمد. وقيل: علم

٢٢٧

محمدا أو الإنسان القرآن كما يليق بفهمهم على حسب استعدادهم ولعله يلزم من الوجه الأخير شبه تكرار من قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فالأول إشارة إلى قواه البدنية والثاني إشارة إلى قواه النطقية ، ويلزم منه أيضا أن يكون التعليم قبل الخلق ظاهرا إلا أن يكون تفصيلا لما أجمله. وقد نقل عن ابن عباس أن الإنسان آدم علمه الأسماء كلها ، أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والبيان القرآن فيه بيان ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة. قوله (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي بحسبانه استغنى عن الوصل اللفظي بالربط المعنوي لرعاية الفاصلة يعني أنهما يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب معلوم (وَالنَّجْمُ) وهو النبات بغير ساق (وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) بالانقياد له. وإنما وسط العاطف بين هاتين الجملتين لما بين العلوي والسفلي من تناسب التقابل ، ولما بين الحسبان والسجود من تناسب التجانس ، وذلك لأن سيرهما بحساب مقدّر مقرر وهو من جنس الانقياد لأمر الله (وَالسَّماءَ رَفَعَها) قال في الكشاف: أي خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. قلت: إنه حمل الرفع على ارتفاع المنزلة ولعل المراد به الرفع الحسي ليطابق قوله (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) أي خفضها في مركز العالم مدحوة محاطة بالماء. نعم لو جعل وضع الأرض عبارة عن ذلها وتسخيرها كقوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) [الملك: ١٥] صح تفسيره وإنما وسط قوله (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) بين رفع السماء ووضع الأرض لأنه لا ينتفع بالميزان إلا إذا كان معلقا في الهواء بين الأرض والسماء وهذا أمر حسي ، وأما العقلي فهو أنه بدأ أولا من النعم بذكر القرآن الذي هو بيان الشرائع والتكاليف ، ثم أتبعه ذكر كيفية خلق الإنسان وقواه النفسانية وما يتم به معاشه من السماويات والأرضيات ، ثم ذكر أنه خلق لأجلهم آلة الوزن بها يقيمون العدالة في ومعاملاتهم وأمور تمدنهم فصار كما مر في (حم عسق اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) الشورى: ١] وكما يجيء في الحديد (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الآية: ٢٥] وأن في قوله (أَلَّا تَطْغَوْا) مفسرة أو ناصبة أي لأن لا تتجاوز حد الاعتدال في شأن هذه الآية أي في شأن الوزن. ثم أكد بقوله إثباتا ونفيا (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) قوّموه أو قوموا لسان الميزان بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تجعلوها سببا للخسران والتطفيف. وفي تكرير لفظ الميزان بل في ورود هذه الجمل المتقاربة الدلالة مكررة إشارة إلى الاهتمام بأمر العدل وندب إليه وتحريض عليه. وقيل: الأول ميزان الدنيا والثاني ميزان الآخرة والثالث ميزان العقل. وقيل: نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار. قوله (لِلْأَنامِ) أي لكل ما على ظهر الأرض من دابة. وقيل: للإنسان. وخص بالذكر لشرفه ولأن الباقي خلق لأجله (فِيها فاكِهَةٌ) التنوين للتعظيم وهي كل ما يتفكه به. وقد أفرد النخل بالذكر للتفضيل ولأنه فاكهة

٢٢٨

غذائية. والأكمام جمع كم وهو وعاء الثمر. ثم ذكر أقوات البهائم والإنسان قائلا (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) وهو ورق الزرع أو التبن. وقال الفراء والسدي: وهو أول ما ينبت من الزرع (وَالرَّيْحانُ) الورق. ومن رفع فعلى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وذو الريحان. وقال الحسن وابن زيد. على هذه القراءة وهو ريحانكم الذي يشم.

ثم خاطب الجن والإنس بقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. قال جار الله: الخطاب في (رَبِّكُما) للثقلين بدلالة الأنام عليهما قلت: ربما يصرح به قوله أيها الثقلان سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أو بما سيذكر عقيبه من قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) والجان خلقناه. وقيل: التكذيب إما باللسان والقلب معا وإما بالقلب دون اللسان كالمنافقين فكأنه قال: فيا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان. وقيل: أراد فيا أيها المكذبان بالدلائل السمعية والعقلية أو بدلائل الآفاق ودلائل الأنفس ، والاستفهام للتوبيخ والزجر. قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) قد مر في سورة «الحجر» إلا أنه شبهه هاهنا بالفخار وهو الخزف بيانا لغاية يبس طينته وكزازته ، والتركيب يدل عليه ومنه الفخور ولو لا يبس دماغه لم يفخر ومنه الفرخ لأنه تنشق البيضة عنه. وكل يابس عرضة للتشقق ومنه الخزف لغاية يبوسة مزاجه. والجان أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج اللهب الصافي الذي لا دخان فيه من مرج إذا اضطرب ولعلها المخلوطة بسواد النار من مرج الشيء اختلط. وقوله (مِنْ نارٍ) بيان لمارج كأنه قيل: من صاف من نار. ويجوز أن يكون نارا مخصوصة فيكون صفة (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول مطلع أول السرطان ، والثاني مطلع أول الجدي. هذا في بلادنا الشمالية والحال في الجنوبية بالعكس. قوله (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) وقد مر في «الفرقان» معناه أرسلهما ملحا وعذبا متلاقيين (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) أي من كل منهما. وقال في الكشاف: أعاد الضمير إلى البحرين لاتحادهما فالخارج من العذب كأنه خارج من الملح تقول: خرجت من البلد ولم تخرج إلا من محلة بل من دار. وقال أبو علي الفارسي: أراد من أحدهما فحذف المضاف. قلت: ونحن قد سمعنا أن الأصداف تخرج من البحر المالح ومن الأمكنة التي فيها عيون عذبة في مواضع من البحر الملح ويؤيده قوله سبحانه في «فاطر» (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [الآية: ١٢] فلا حاجة إلى هذه التكلفات. قال الفراء وغيره من أهل

٢٢٩

اللغة: اللؤلؤ الدر ، والمرجان ما صغر منه. وعن مقاتل: بالضد. ويشبه أن يكون اللؤلؤ هذا الجنس المعروف والمرجان البسذ. يقال: إنه ينبت في بحر الروم والإفرنج كالشجر وهو الفصل المشترك بين المعدن والنبات ، والجواري السفن الجارية حذف الموصوف للعلم به. ومن قرأ (الْمُنْشَآتُ) بفتح الشين فمعناها المرفوعات الشرع والتي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت. والقارئ بالكسر أراد الرافعات الشرع أو اللائي يبتدئن في السير أو ينشئن الأمواج بجريهن ، والأعلام الجبال الطوال شبههن في البحر بالجبال في البر. والضمير في (عَلَيْها) للأرض بدلالة المقال أو الحال. والوجه عبارة عن الذات كما مر في تفسير البسملة وفي قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: ٨٨] وقوله (ذُو) صفة للوجه وهو على القياس. وفيه دلالة على أن الوجه والرب ذات واحد بخلاف قوله في آخر السورة (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) فإن الاسم غير المسمى في الأصح فلهذا قال (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ومعناه ذو النعمة والتعظيم كما سبق في البسملة. والنعمة في فناء ما على الأرض هو مجيء وقت الجزاء (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَ) من في (الْأَرْضِ) من الثقلين الملائكة لمصالح الدارين والثقلان لمصالح الدارين. وعن مقاتل: يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة أيضا الرزق والمغفرة للناس (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك الشأن فقال: من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين. قلت: هذا التفسير يطابق ما مر في الحكمة. وما ذكرنا في الكتاب مرارا من أن القضاء هو الحكم الكلي الواقع في الأزل ، والقدر هو صدور تلك الأحكام في أزمنتها المقدرة. فبالاعتبار الأول قال «جف القلم بما هو كائن» (١) وبالاعتبار الثاني قال: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وهذا بالنسبة إلى المقضيات ولا تغير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وبالجملة إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وروى الواحدي في البسيط عن ابن عباس: إن مما خلق الله عزوجل لوحا من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء. وحين بين أن كل زمان مقدر لأجل شأن قال (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) قال أهل البيان: هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده «سأفرغ لك». والمراد تجرد داعيته للإيقاع به من النكاية فيه. والمراد شؤونه ستنتهي إلى شأن الجزاء

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٨ النسائي في كتاب النكاح باب ٤ بلفظ «قد جف القلم بما أنت لاق»

٢٣٠

وقصد المحاسبة. ثم هدد الثقلين بأنهم لا يستطيعون الهرب من أحكامه وأقضيته فيهما. نفذ من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية. وأقطار السموات والأرض نواحيهما. واحدها قطر. وهو في الهندسة عبارة عن الخط المنصف للدائرة. والسلطان القوة والغلبة ، أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام ولا سلطان فلا مفر. قال الواحدي: أراد أنه لاخلاص من الموت. ويحتمل أن يخص هذا بيوم الجزاء المشار إليه بقوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ويؤيده ما روي أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به ، ويعضده قوله عقيبه (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) الآية. جاء في الخبر: يحاط على الخلق بلسان من نار ثم ينادون يا معشر الجن والإنس الآية. وذلك قوله (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) وهو اللهب الذي لا دخان له معه. وقرأ ابن كثير بكسر الشين لغة أهل مكة يقولون صوار بالضم والكسر. والنحاس الدخان. ومن قرأ بالرفع فمعناه يرسل عليكما هذا مرة وهذا مرة. ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمزج أحدهما بالآخر. ومن قرأ بالجر فبتقدير وشيء من نحاس. وعن أبي عمرو أن الشواظ يكون من الدخان أيضا. وقيل: هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم. وعن ابن عباس: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تمتنعان (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) لنزول الملائكة (فَكانَتْ وَرْدَةً) أي حمراء (كَالدِّهانِ) وهو جمع الدهن أو اسم ما يتدهن به كالحزام والإدام شبهها بدهن الزيت كقوله (كَالْمُهْلِ) [المعارج: ٨] وهو دردي الزيت. وقيل: الدهان الأديم الأحمر. عن ابن عباس: نصير كلون الفرس الورد. وقيل: تحمر احمرار الورد ثم تذوب ذوبان الدهن. وقال قتادة: هي اليوم خضراء ولها يوم القيامة لون آخر يضرب إلى الحمرة. والفاء في قوله (فَإِذَا) للتعقيب وفي (فَكانَتْ) للعطف ، والجواب محذوف كما سيجيء في قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق: ١] والمراد أنهما لا ينتصران حين إرسال الشواظ عليهما فحين تنشق السماء وصارت الأرض والجو والهواء كلها نارا وتذوب السماء كما يذوب النحاس الأحمر كيف تنتصران؟ ويمكن أن يكون وجه تشبيه السماء يومئذ بالدهن هو الميعان والذوبان بسرعة وعدم رسوب الخبث كخبث الحديد ونحوه ، والغرض بيان بساطة السماء وأنه لا اختلاف للأجزاء فيها. (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) وضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال هاشم ويراد ولده. والضمير في (ذَنْبِهِ) عائد إلى الإنس لأن الفاعل رتبته التقديم وكأنه قيل: لا يسأل بعض الإنس عن ذنبه ولا بعض الجن. والجمع بين هذه الآية وبين قوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) [الحجر: ٩٢] هو ما مرّ من أن المواطن مختلفة ، أو لا يسأل سؤال

٢٣١

استعلام وإنما يسأل سؤال توبيخ وتقريع. وعندي أن بيان عدم احتياج المذنب إلى السؤال عن حاله لأن كل ما هو اليوم فيه كامن فذلك في يوم القيامة يظهر ويبرز من ظلمة الطبيعة والعصيان ، أو من نور الطاعة والإيمان وإليه الإشارة بقوله (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) من سواد الوجه وزرقة العين (فَيُؤْخَذُ) كل منهم أو جنس المجرم (بِالنَّواصِي) أي بسببها. ولعل المراد أن تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلفها أو من قدام ويلقون في النار. روى الحسن عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام» ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى قوله (بِالنَّواصِي) نحو ذهب بزيد. ثم ذكر أنهم يوبخون بقول الملائكة لهم (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) والأصل الخطاب والالتفات للتبعيد والتسجيل عليهم بالإجرام. والآني الذي بلغ منتهى حره. قال الزجاج: أني يأني أنا إذا انتهى في النضج والحرارة. والمعنى أنهم لا يزالون طائفين بين عذاب الجحيم وبين الحميم وذلك حين ما يستغيثون كقوله (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف: ٢٩] قال جار الله: نعمته فيما ذكره من الأهوال وأنواع المخاوف هي نجاة الناجي منه وما في الإنذار به من اللطف ، ويمكن أن يراد بأي الآلاء المعدودة في أول السورة تكذبان فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب. ثم شرع في ثواب أهل الخشية والطاعة قائلا (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) وقد مر نظيره في «إبراهيم» قوله (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) [الآية: ١٤] قال المفسرون: الجنتان إحداهما للخائف الإنسي والثانية للخائف الجني ، أو إحداهما لفعل الطاعات والثانية لترك المنكرات ، أو إحداهما للجزاء والأخرى للزائد عليه تفضلا ، أو هما جنة عدن وجنة النعيم ، أو إحداهما جسمانية والأخرى روحانية. وقيل: التثنية للتأكيد كقوله (أَلْقِيا) [ق: ٢٤] وهو ضعيف. والأفنان جمع الفنن وهو الغصن المستقيم طولا قاله مجاهد وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وإنما خصها بالكر لأنها هي التي تورق وتثمر وتظل والساق لأجل ضرورة القيام ولا ضرورة في الجنة ولا كلفة. وعن سعيد بن جبير: هي جمع فن والمعنى أنهما صاحبتا فنون النعم وعلى هذا يكون قوله (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي صنفان كتفصيل بعد إجمال والصنفان رطب ويابس أو معروف وغريب (فِيهِما) أي في كل منهما (عَيْنانِ تَجْرِيانِ) من جبل من مسك إحداهما في الأعالي والأخرى في الأسافل. وقال الحسن: تجريان بالماء الزلازل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل (مُتَّكِئِينَ) حال من الخائفين المذكورين في قوله (لِمَنْ خافَ) وجوز أن يكون نصبا على المدح. قال المفسرون: إذا كان بطائن الفرش وهي التي تحت الظهارة مما يلي

٢٣٢

الأرض من إستبرق فما ظنك بظهائرها؟ ويجوز أن يكون ظهائرها السندس. والتحقيق أنه لا يعلمها إلا الله كقوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) [السجدة: ١٧] (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) أي ثمرها (دانٍ) قريب يناله القائم والقاعد والنائم. قال جار الله: (فِيهِنَ) أي في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى. وقيل: في الفرش أي عليها. وقيل: في الجنان لأن ذكر الجنتين يدل عليه ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات ، وهذا الوجه عندي أظهر وسيجيء بيانه بنوع آخر عن قريب. قال الفراء: الطمث الاقتضاض وهو النكاح بالتدمية و (قَبْلَهُمْ) أي قبل أصحاب الجنتين واللفظ يدل عليه. قال مقاتل: هن من حور الجنة. وقال الكلبي والشعبي: هن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنسي ولا جني. قال في الكشاف: لم يطمث الإنسيات منهمن أحد من الإنس والجنيات أحد من الجن قلت: هذا التفصيل لعله لا حاجة إليه يعرف بأدنى تأمل. قال الزجاج: فيه دليل على أن الجن تطمث كما تطمث الإنس.

ثم ذكر أنهن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ الصغار (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الجزاء. وخص ابن عباس فقال: هل جزاء من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا الجنة. وحين فرغ من نعت جنتي المقربين شرع في وصف جنتين لأصحاب اليمين فقال (وَمِنْ دُونِهِما) أي ومن أسفل منهما في المكان أو في الفضل أو فيهما وهو الأظهر. روى أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما» (١) (مُدْهامَّتانِ) هو من الادهيمام إدهام يدهام فهو مدهام نظير اسواد يسواد فهو مسواد في اللفظ وفي المعنى ، وذلك أن كل نبت أخضر فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السواد (نَضَّاخَتانِ) فوارتان ، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح وهو الرش. قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور ، وانما خص النخيل والرمان بالذكر بعد اندارجهما في الفاكهة لفضلهما وشرفهما ، فالنخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء كامل ومنه قال أبو حنيفة رحمه‌الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه ووافقهما الشافعي. والخيرات مخفف خيرات لأن الخير الذي هو بمعنى التفضيل لا يجمع جمع السلامة والمعنى أنهن فاضلات الأخلاق حسان الصور. واعلم أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور (فِيهِنَ) وفي سائر المواضع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٢٤ كتاب تفسير سورة ٥٥ باب ١ ، ٢ مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٩٦ الترمذي في كتاب الجنة باب ٣ ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣.

٢٣٣

(فِيهِما) والسر فيه أن تمام اللذة عند اجتماع النسوان للرجل الواحد هو أن يكون لكل منهن مسكن على حدة فتباعد من مسكن الأخرى ، واسع بحيث يسع ما يليق بحاله أو بحالها من الجواري والغلمان وسائر الأسباب ، فيحصل هناك منتزهات كثيرة كل منها جنة ، وكأن في ضمير الجمع إشارة إلى ذلك. وأما العيون والفواكه فلم يكن شيء منها بهذه المثابة من كمال اللذة فأكتفي فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط. والمقصورات اللواتي قصرن أي حبسن في خدورهن. امرأة مقصورة أي مخدرة. روى قتادة عن ابن عباس: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون» (١) وقال أهل المعاني: كنى عن الجماع في الدنيا بنحو قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة: ٢٣٧] وذكر الجماع في الآخرة بلفظ يقرب من الصريح وهو الطمث فما الحكمة في ذلك؟ والجواب أن المباشرة في الدنيا قبيحة لما فيها من قضاء الشهوة وإسقاط القوى وهي في الآخرة بخلاف ذلك فإنها داعية روحانية ولذة حقيقية فلم يحتج إلى الكناية لأن الكنايات إنما تجري في الهنيئات. قال جار الله: (مُتَّكِئِينَ) نصب على الاختصاص. قلت: ويجوز أن يكون حالا والعامل مضمر يدل عليه قوله (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) أي يطمثونهم في حال الاتكاء. قال أبو عبيدة والضحاك ومقاتل والحسن: الرفرف ضرب من البسط. وقيل: كل ثوب عريض فهو رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف. وقال الزجاج: الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقيل: الوسائد. قال جار الله ال (عَبْقَرِيٍ) منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء غريب عجيب. وعن أبي عبيدة: كل شيء من البسط عبقري وهو جمع واحدة عبقرية. ومما يدل على أن صفات هاتين الجنتين تقاصرت عن الأوليين قوله (مُدْهامَّتانِ) فإنه دون قوله (ذَواتا أَفْنانٍ) وذلك أن كمال الخضرة لا يوجب كون البستان ذا فنن ونضاختان دون تجريان وفاكهة دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ. قال أهل العلم: كرر قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه وذكر المبدأ والمعاد ، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة ، وثمانية بعدها عقيب

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٥٥ باب ٢ مسلم في كتاب الجنة حديث ٢٣ ـ ٢٥ الترمذي في كتاب الجنة باب ٣ الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٠٩ أحمد في مسنده (٣ / ١٠٣ ، ١١٥) (٤ / ٤٠٠ ، ٤١١)

٢٣٤

وصف الجنات التي هي دونهما. فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة. ثم نزه نفسه عما لا يليق بجلاله وختم السورة عليه. والاسم مقحم كما بينا وفائدة هذا التوسيط سلوك سبيل الكناية كما يقال «ساحة فلان بريئة عن المثالب» والله أعلم بحقائق كلامه.

٢٣٥

(سورة الواقعة مكية غير آية (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) حروفها ألف وسبعمائة وثلاثة

كلمها ثلاثمائة وثمان وتسعون آياتها ست وتسعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً

٢٣٦

فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

القراآت: (يُنْزِفُونَ) من باب الأفعال: عاصم وحمزة وخلف. الباقون: بفتح الزاء حور عين بجرهما: يزيد وعلي وحمزة عربا بالسكون: حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا) كما في «الرعد» إلا ابن عامر فإنه تابع عاصما ، وإلا يزيد فإنه تابع قالون (شُرْبَ) بضم الشين: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وسهل. الباقون: بالفتح وكلاهما مصدر قدرنا بالتخفيف: ابن كثير اانا لمغرمون بهمزتين: أبو بكر وحماد. الآخرون: بهمزة واحدة مكسورة على الخبر. بموقع على الوحدة: حمزة وعلي وخلف تكذبون بالتخفيف: المفضل فروح بضم الراء: قتيبة ويعقوب.

الوقوف: (الْواقِعَةُ) ه لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوبا بإضمار «أذكر» أو كان الجواب محذوفا أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف (كاذِبَةٌ) ه م لئلا يصير ما بعدها صفة (رافِعَةٌ) ه لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلا من الأول (رَجًّا) ه لا (بَسًّا) ه لا (مُنْبَثًّا) ه (ثَلاثَةً) ه ط (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ه ط لتناهي استفهام التعجب (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ه ط (السَّابِقُونَ) ه لا بناء على أن (السَّابِقُونَ) تأكيد والجملة بعده خبر (الْمُقَرَّبُونَ) ه ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم في (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه لا (الْآخِرِينَ) ه لا (مَوْضُونَةٍ) ه

٢٣٧

لا (مُتَقابِلِينَ) ه (مُخَلَّدُونَ) ه لا (مَعِينٍ) ه لا (وَلا يُنْزِفُونَ) ه لا (يَتَخَيَّرُونَ) ه لا (يَشْتَهُونَ) ه ط لمن قرأ (وَحُورٌ عِينٌ) بالرفع (الْمَكْنُونِ) ه ج (يَعْمَلُونَ) ه (تَأْثِيماً) ه لا (سَلاماً) ه ط (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) ه ط (مَخْضُودٍ) ه لا (مَنْضُودٍ) ه لا (مَمْدُودٍ) ه لا (مَسْكُوبٍ) ه لا (كَثِيرَةٍ) ه لا (مَمْنُوعَةٍ) ه لا (مَرْفُوعَةٍ) ه ط (إِنْشاءً) ه لا (أَبْكاراً) ه لا (أَتْراباً) ه لا (الْيَمِينِ) ه ط (الْأَوَّلِينَ) ه (الْآخِرِينَ) ه ط (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) ه ط (وَحَمِيمٍ) ه لا (يَحْمُومٍ) ه لا (وَلا كَرِيمٍ) ه (مُتْرَفِينَ) ه ج (الْعَظِيمِ) ه ج (لَمَبْعُوثُونَ) ه لا (الْأَوَّلُونَ) ه (وَالْآخِرِينَ) ه لا (مَعْلُومٍ) ه (الْمُكَذِّبُونَ) ه لا (زَقُّومٍ) ه لا (الْبُطُونَ) ه ج والوقف أجوز (الْحَمِيمِ) ه ج (الْهِيمِ) ه ط (الدِّينِ) ه (تُصَدِّقُونَ) ه (تُمْنُونَ) ه ط (الْخالِقُونَ) ه (بِمَسْبُوقِينَ) ه لا (تَعْلَمُونَ) ه (تَذَكَّرُونَ) ه (تَحْرُثُونَ) ه ط (الزَّارِعُونَ) ه (تَفَكَّهُونَ) ه (لَمُغْرَمُونَ) ه لا (مَحْرُومُونَ) ه (تَشْرَبُونَ) ه (الْمُنْزِلُونَ) ه (تَشْكُرُونَ) ه (تُورُونَ) ه ط (الْمُنْشِؤُنَ) ه (لِلْمُقْوِينَ) ه ج (الْعَظِيمِ) ه (النُّجُومِ) ه لا (عَظِيمٌ) ه لا (كَرِيمٌ) ه لا (مَكْنُونٍ) ه (الْمُطَهَّرُونَ) ه ط (الْعالَمِينَ) ه (مُدْهِنُونَ) ه (تُكَذِّبُونَ) ه (الْحُلْقُومَ) ه لا (تَنْظُرُونَ) ه لا (تُبْصِرُونَ) ه (مَدِينِينَ) ه لا (صادِقِينَ) ه (الْمُقَرَّبِينَ) ه لا (نَعِيمٍ) ه (الْيَمِينِ) ه لا (الْيَمِينِ) ه لا (الضَّالِّينَ) ه لا (حَمِيمٍ) ه لا (جَحِيمٍ) ه (الْيَقِينِ) ه (الْعَظِيمِ) ه

التفسير: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) نظير قولك حدثت الحادثة «وكانت الكائنة» وهي القيامة التي تقع لا محالة. يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله. واللام في (لِوَقْعَتِها) للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس. ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول. وجوز جار الله أن يكون من قولهم «كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم» إذا شجعته على مباشرته. وقالت له: إنك تطيقه. فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور. وقيل: هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول. وقال في الكشاف: هو بمعنى التكذيب من قولهم «حمل على قرنه فما كذب» أي فما جبن وما تثبط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له. والحاصل من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هي تخفض أقواما وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال :

٢٣٨

وما إن طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

وإما لأن للأشقياء الدركات وللسعداء الدرجات وإما لأن زلزلة الساعة تزيل الأشياء عن مقارها فتنثر الكواكب وتسير الجبال في الجو يؤيده قوله (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ) أي حركت تحريكا عنيفا حتى ينهدم كل بناء عليها (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها (فَكانَتْ) أي صارت غبارا متفرقا. ثم ذكر أحوال الناس يومئذ قائلا (وَكُنْتُمْ) لفظ الماضي لتحقق الوقوع (أَزْواجاً) أي أصنافا (ثَلاثَةً) ثم فصلها فقال (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وهو تعجب من شأنهم كقولك «زيد ما زيد» سموا بذلك لأنهم يؤتون صحائفهم بأيمانهم ، أو لأنهم أهل المنزلة السنية من قولهم «فلان مني باليمين» إذا وصفته بالرفعة عندك وذلك لتيمنهم بالميامن دون الشمائل وتبركهم بالسانح دون البارح ، ولعل اشتقاق اليمين من اليمن والشمال من الشؤم ، والسعداء ميامين على أنفسهم والأشقياء مشائيم عليها. روي أن أهل الجنة يؤخذ بهم إلى جانب اليمين وأهل النار يؤخذ بهم في الشمال (وَالسَّابِقُونَ) عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد والإخلاص والطاعة هم (السَّابِقُونَ) عرف الخبر للمبالغة كقوله «وشعري شعري» يريد والسابقون من عرف حالهم وبلغك وصفهم ، وعلى هذا يحسن الوقف (السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) إلى مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله ، وفي لفظ السبق أشار إلى ذلك (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إخفاء حالهم وبيان محل أجسادهم أو هي الجنة الروحانية النورانية (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلى أول زمان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أهل الاشتقاق: أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم ، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي من هذه الأمة. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال هاهنا (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وفيما بعده قال (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) والجواب أن الثلتين في آية أصحاب اليمين هما جميعا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. جواب آخر وهو أن يقال: الخطاب في قوله (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) [التوبة: ١] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين ، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين أكثر منهم في الآخرين. وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيرا وعلى هذا يكون الترتيب المذكور ساقطا ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع. قال الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاينه وجماعة ممن

٢٣٩

آمن به وكان بعده. وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «جميع الثلتين من أمتي» وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراجع ربه حتى نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وزيفت هذه الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين ، وبأن النسخ لا يتضح بل لا يصح في الأخبار ، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابقين فيكونون في درجة الأنبياء والرسل الماضين ، ولعل في قوله «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» إشارة إلى هذا. وأقول: عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر ، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة وعسى أن يكون هذا سببا لخاتمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا هذا ما سنح في الوقت والله تعالى أعلم بمراده.

ثم وصف حال المقربين بقوله (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال المفسرون: أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع أي استقروا على السرر (مُتَّكِئِينَ) وقوله (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. قال: ويقال مخلدون مقرطون من الخلدة وهو القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات فيعاقبوا عليها. قال جار الله: روي هذا عن علي رضي‌الله‌عنه. والحسن قال الحديث «أولاد الكفار خدام أهل الجنة» والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه ولا آذان لها ولا عري ، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه. والباقي مفسر في «الصافات» إلى قوله (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يختارون تخيرت الشيء أخذت خيره ، قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى. ومن قرأ (وَحُورٌ عِينٌ) بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور. ومن خفضهما فعلى العطف المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا. والكاف في قوله (كَأَمْثالِ) للمبالغة في التشبيه. قوله (جَزاءً) مفعول له أي يفعل بهم ذلك لأجل الجزاء. قوله (وَلا تَأْثِيماً) أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم. وانتصب (سَلاماً) على

٢٤٠