تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

القراآت: ليؤمنوا ويعزروه ويوقروه ويسبحوه بياءات الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو. وعليه الله بضم الهاء: حفص فسنؤتيه بالنون: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر. الآخرون: بالياء التحتانية والضمير لله سبحانه شغلتنا بالتشديد: قتيبة

١٤١

ضرا بالضم كلم الله على الجمع: حمزة وعلي وخلف (بَلْ ظَنَنْتُمْ) بالإدغام: علي وهشام (بَلْ تَحْسُدُونَنا) مدغما: حمزة وعلي وهشام. ندخله ونعذبه بالنون فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر بما يعملون بصيرا بياء الغيبة: أبو عمرو (الرُّؤْيا) بالإمالة: ابن عامر وعلي وهشام شطأه بفتح الطاء من غير مد: ابن ذكوان والبزي والقواس. الباقون: ساكنة الطاء.

الوقوف: (مُبِيناً) ه لا (مُسْتَقِيماً) ه لا على احتمال الجواز هاهنا لتكرار اسم الله بالتصريح (عَزِيزاً) ه (إِيمانِهِمْ) ط (وَالْأَرْضِ) ط (حَكِيماً) ه لا لتعلق اللام (سَيِّئاتِهِمْ) ط (عَظِيماً) ه لا للعطف (ظَنَّ السَّوْءِ) ط (دائِرَةُ السَّوْءِ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (جَهَنَّمَ) ط (مَصِيراً) ه (وَالْأَرْضِ) ط (حَكِيماً) ه (وَنَذِيراً) ه لا (وَتُوَقِّرُوهُ) ط للفصل بين ضمير اسم الله وضمير الرسول في المعطوفين فيمن لم يجعل الضمائر كلها لله (وَأَصِيلاً) ه (يُبايِعُونَ اللهَ) ط (أَيْدِيهِمْ) ج ط للشرط مع الفاء (عَلى نَفْسِهِ) ج للعطف مع الشرط (عَظِيماً) ه (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال (قُلُوبِهِمْ) ط (نَفْعاً) ط (خَبِيراً) ه (بُوراً) ه (سَعِيراً) ه (الْأَرْضِ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (رَحِيماً) ه (نَتَّبِعْكُمْ) ج لأن ما بعده حال عامله (سَيَقُولُ) أو مستأنف (كَلامَ اللهِ) ط (مِنْ قَبْلُ) ج للسين مع الفاء (تَحْسُدُونَنا) ط (قَلِيلاً) ه (يُسْلِمُونَ) ه (حَسَناً) ج (أَلِيماً) ه (الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ط لأن الواو للاستئناف (الْأَنْهارُ) ج (أَلِيماً) ه (قَرِيباً) ه لا (يَأْخُذُونَها) ط (حَكِيماً) ه (عَنْكُمْ) ج لأن الواو مقحمة أو المعلل محذوف والواو داخلة في الكلام المعترض ، أو عاطفة على تقدير ليستيقنوا ولتكون (مُسْتَقِيماً) ه لا للعطف (بِها) ج (قَدِيراً) ه (نَصِيراً) ه (تَبْدِيلاً) ه (عَلَيْهِمْ) ط (بَصِيراً) ه (مَحِلَّهُ) ط (بِغَيْرِ عِلْمٍ*) ج لحق المحذوف أي قدر ذلك ليدخل (مَنْ يَشاءُ) ج لاحتمال أن جواب «لو لا» محذوف وأن يكون هذه مع جوابها جوابا للأولى (أَلِيماً) ه (وَأَهْلَها) ط (عَلِيماً) ه (بِالْحَقِ) ج لحق حذف القسم (آمِنِينَ) لا (مُقَصِّرِينَ) لا لأنها أحوال متابعة (لا تَخافُونَ) ط لأن قوله (فَعَلِمَ) بيان حكم الصدق كالأعذار فلا ينعطف على قوله (صَدَقَ اللهُ قَرِيباً) ه (كُلِّهِ) ط (شَهِيداً) ه (رَسُولُ اللهِ) ج لأن ما بعده مستأنف (وَرِضْواناً) ز لأن (سِيماهُمْ) مبتدأ غير أن الجملة من حد الأولى في كون الكل خبر والذين (السُّجُودِ) ط (الْإِنْجِيلِ) ج لاحتمال أن التقدير هم كزرع (الْكُفَّارِ) ط (عَظِيماً) ه.

التفسير: الفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد بصلح أو حرب لأنه منغلق ما لم يظفر به. والجمهور على أن المراد به ما جرى يوم الحديبية. عن أنس قال: لما رجعنا عن

١٤٢

الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة ، أنزل الله (إِنَّا فَتَحْنا) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: لقد أنزل عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا كلها. والحديبية بئر سمي المكان بها وكان قد غاض ماؤها فتمضمض فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء بالماء حتى عمهم. وعن ابن شهاب: لم يكن في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية وضعت الحرب وأمن الناس. وقال الشعبي: أصاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غيرها ، بويع فيها بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد به فصح صدقه وأطعم نخل خيبر. وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصدا نحوه في سنة ست من الهجرة ، وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظنا منه أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا. واستصحب سبعين بدنة لينحرها بمكة ، ولما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال وكانوا ألفا وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة فبايعوه إلا جد بن قيس فإنه اختبأ تحت إبطي ناقته ، فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح. فلما رأى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله على أني أرى وجوها وأسرابا خليقا أن يفروا ويدعوك؟ فشتمه أبو بكر. فلما عاد إلى قريش قال: لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر إليه تفخيما ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه. فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو المخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف ، فلما كتب علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه «بسم الله الرحمن الرحيم». قال سهيل: ما نعرف «الرحمن الرحيم» اكتب في قضيتنا ما نعرف «باسمك اللهم». ولما كتب «هذا ما صالح محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». قال: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك ، اكتب محمد بن عبد الله. فتنازع المسلمون وقريش في ذلك وكادوا يتواثبون ، فمنعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرهم بالإجابة فكتب «هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشا على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة مجتازا إلى مصر والشام أو يبتغي من فضل الله فهو على دمه وأهله آمن ، وعلى أنه من جاء محمدا من قريش فهو إليهم ردّ ، ومن جاءهم من

١٤٣

أصحاب محمد فهو لهم» فاشتدّ ذلك على المسلمين فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فإن علم الله منه الإسلام جعل له مخرجا. فلما فرغوا من الهدنة نحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحلق وفعل أصحابه ذلك فنزل عليه في طريقه في هذا الشأن (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) يريد ما كان من أمر الحديبية والفتح قد يكون بالصلح. وقيل: كان هذا الفتح عن ترام بالحجارة ولم يكن قتال شديد. وقيل: المراد به فتح مكة ، وعده الله ذلك بلفظ الماضي على عادة إخبار الله. وقال ابن عيسى: الفتح الفرج المزيل للهم ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان يؤدّي إلى الثقة. وقيل وهو قول قتادة: الفتح القضاء والحكم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة أي حكمنا لك بهذه المهادنة وأرشدناك إلى الإسلام ليغفر لك الله. قال أهل النظم: لأوّل هذه السورة مناسبة تامة مع آخر السورة المتقدّمة وذلك أنه قال (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا) [محمد: ٣٨] إلى آخره فبين بعد ذلك أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاعت عنهم هذه الفوائد. وأيضا لما قال (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) [محمد: ٣٥] بين برهانه بصلح الحديبية أو بفتح مكة وكان في قوله (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد: ٣٥] إشارة إلى ما جرى يوم الحديبية من أن المسلمين صبروا إلى أن طلب المشركون الصلح.

سؤال: ما المناسبة بين الفتح والمغفرة حتى جعلت غاية له؟ الجواب الغاية هي مجموع المغفرة وما ينعطف عليها كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة وغيره من الفتوح ليجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن تكون الفتوح من حيث إنها جهاد للعدّو سببا للغفران والثواب. قال جار الله: وقيل: تقدير الكلام إنا فتحنا لك فاستغفره ليغفر لك كقوله (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى قوله (وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر: ١ ـ ٣] وقيل: إن فتح مكة كان سببا لتطهير البيت من رجس الأوثان ، وتطهير بيته سبب لتطهير عبده. وأيضا بالفتح يحصل الحج وبالحج تحصل المغفرة كما ورد في الأخبار «خرج كيوم ولدته أمه». (١) وأيضا إن الناس قد علموا عام الفيل أن مكة لا يتسلط عليها عدوا لله ، فلما فتحت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرف أنه حبيب الله المغفور له. أما الذنب فقيل: أراد به ذنب المؤمنين من أمته ، أو أريد به ترك الأفضل والصغائر سهوا أو عمدا. ومعنى (ما تَأَخَّرَ) أي عن الفتح أو ما تقدم عن النبوّة وتأخر عنها. وقيل (ما تَقَدَّمَ) ذنب أبويه آدم وحواء (وَما تَأَخَّرَ) ذنب

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المحصر باب ٩ ، ١٠ النسائي في كتاب الحج باب ٤ ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٣ الدارمي في كتاب المناسك باب ٧ أحمد في مسنده (٢ / ٢٢٩ ، ٤١٠)

١٤٤

أمته. وقيل: أراد جميع الذنوب فحدّ أوّلها وآخرها ، أو هو على وجه المبالغة كما تقول: أعطى من رأى ومن لم يره. وقيل: ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو قول سخيف لعدم التئام الكلام ظاهرا. والأولى أن يقال: ما تقدم النبوّة بالعفو وما تأخر عنها بالعصمة (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك لقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة: ٣] ومن إتمام النعمة تكليف الحج وقد تم يومئذ ولم يبق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدوّ من قريش ، فإن كثيرا منهم وقد أهلكوا يوم بدر ، والباقين آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل: إتمام النعمة في الدنيا باستجابة الدعاء في طلب الفتح وفي الآخرة بقبول الشفاعة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يثبتك ويهديك عليه فإن الفتح لا يكون إلا لمن هو على صراط الله ، ولعل المراد بهذا الخطاب هو أمته. والنصر العزيز ذو العزة وهو الذي لا ذل بعده ، أو هو بمعنى المعز أو الممتنع على الغير وهو النفيس الذي لا يناله كل أحد. وفي الآية تفخيم شأن الفتح والنصر من وجوه: أحدها لفظ (إنا) الدال على التعظيم. وثانيها لفظ (لك) الدال على الاختصاص. وثالثها إعادة اسم الله في الموضعين أوّلا وآخرا. ثم بين سبب النصر بقوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) وهي السكون والوقار والطمأنينة والثقة بوعد الله كما مر في «البقرة» وفي «التوبة» (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي يقينا مع يقينهم أو إيمانا بالشرائع مع إيمانهم بالله. وعن ابن عباس أن أول ما أتاهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجهاد ثم الحج ، أو ازدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري. وعلى هذا ففائدة قوله (مَعَ إِيمانِهِمْ) أن الفطرة تشهد بالإيمان ، فلما عرفوا صحة الإيمان بالنظر والاستدلال انضم هذا الثاني إلى الأول. وجنود السموات والأرض ملائكتهما ، ويمكن أن يراد بمن في الأرض الثقلان والحيوان غير الإنسان. ويحتمل أن يراد بالجنود معنى أعم وهو الأسباب الأرضية والسماوية فيدخل فيهما الصيحة والرجفة. وظن السوء هو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ، أو أن الله تعالى لا ينصرهم على أعدائهم ، أو أن لله شريكا ، أو أنه لا يقدر على إحياء الموتى. ومعنى دائرة السوء أن ضرر ظنهم يعود إليهم ويدور عليهم وقد مر في سورة التوبة. قال بعض العلماء: ضم المؤمنات هاهنا إلى المؤمنين بخلاف قوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: ١] (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب: ٤٧] ونحو ذلك. والسر فيه أن كل موضع يوهم اختصاص الرجال به مع كون النساء مشاركات لهم ذكرهن صريحا نفيا لهذا التوهم ، وكل موضع لا يوهم ذلك اكتفى فيه بذكر الرجال لأنهم الأصل في أكثر الأحكام والتكاليف. مثلا من المعلوم أن البشارة والنذارة عامة للناس

١٤٥

قاطبة فلم يحتج فيهما إلى ذكر النساء بخلاف هذه الآية فإن إدخال الجنة يوهم أنه لأجل الجهاد مع العدوّ والفتح على أيديهم والمرأة لا جهاد عليها ، فكان يظن أنهن لا يدخلن الجنات فنفى الله تعالى هذا الوهم ، وكذا الكلام في تعذيب المنافقات والمشركات. نكتة الجنود المذكورة أوّلا هي جنود الرحمة فكانوا سببا لإدخال المؤمنين الجنة بالإكرام والتعظيم ثم إلباسهم خلع الكرامة لقوله (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ثم تشريفهم بالفوز العظيم من الله كما قال (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) وأما الكافر فعكس منه الترتيب: أخبر بتعذيبهم أوّلا على الإطلاق ، ثم فصل بأنه يغضب عليهم أوّلا ثم يوبقهم في خبر اللعن والبعد عن الرحمة ، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب الذين هم جنوده كما قال (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) [التحريم: ٦] ولا ريب أن كل ذلك على قانون الحكمة إلا أنه قرن العلم في الأول إلى الحكمة تنبيها على أن إنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين وترتيب الفتح على ذلك كانت كلها ثابتة في علم الله ، جارية على وفق الحكمة. وقرن العز بالحكمة ثانيا لأن العذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم يناسب ذكر العزة والغلبة والقهر زادنا الله إطلاعا على أسرار قرآنه الكريم وفرقانه العظيم.

ثم مدح رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة فقال (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على أمتك (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وقد مر في سورة الأحزاب مثله إلا أن قوله (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) قائم مقام قوله هناك (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) [الآية: ٤٦] من قرأ على الغيبة فظاهر ، وأما من قرأ على الخطاب فلتنزيل خطاب النبي منزلة خطاب المؤمنين. وقوله (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) كلاهما بمعنى التعظيم من العز والوقار ينوب منابه. قوله هناك (وَسِراجاً مُنِيراً) وذلك أن النور متبع والتبجيل والتعظيم دليل المتبوعية. وقال جار الله: الضمائر كلها لله عزوجل وتعظيم دينه ورسوله. وقوله (وَتُسَبِّحُوهُ) من التسبيح أو من السبحة وهي صلاة التطوع. و (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) للدوام أو المراد صلاة الفجر والعصر وحدها أو مع الظهر قاله ابن عباس. (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) هي بيعة الرضوان تحت الشجرة كما يجيء في السورة. وقيل: ليلة العقبة وفيه بعد. وسماها مبايعة تشبيها بعقد البيع نظيره (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة: ١١١] (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لأن طاعة الرسول هي طاعة الله في الحقيقة. ثم أكد هذا المعنى بقوله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال أهل المعاني: هذا تمثيل وتخييل ولا جارحة هناك. وقيل: اليد النعمة أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق إحسانهم إلى الله بإجابة البيعة كما قال (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) [الحجرات: ١٧] قال القفال: هو من

١٤٦

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اليد العليا خير من اليد السفلى» (١) يريد بالعليا المعطية أي الله يعطيهم ما يكون له به الفضل عليهم. وقيل: اليد القوة أي نصرته إياهم فوق نصرتهم لرسوله. وقيل: يد الله بمعنى الحفظ فإن المتوسط بين المتبايعين يضع يده فوق يدهما فلا يترك أن تتفارق أيديهما حتى يتم البيع ، والمراد أن الله تعالى يحفظهم على بيعتهم. ثم زجرهم من نقض العهد وحثهم على الوفاء بقوله (فَمَنْ نَكَثَ) إلى آخره. والنكث والنقض أخوان. وقوله (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي لا يعود ضرر نكثه إلا عليه. قال جابر بن عبد الله: بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته ولم يثر مع القوم. ثم بين ما يعلم منه إعجاز القرآن لأنه أخبر عن الغيب وقد وقع مطابقا وله في السورة نظائر فقال (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) هم أسلم ومزينة وجهينة وغفار. وقيل: سموا مخلفين لأن التوفيق خلفهم ولم يعتدّ بهم. والظاهر أنهم سموا بذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر الأعراب وأهل البوادي حذرا من قريش أن يصدّوه عن البيت ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا: يذهب إلى قوم قصدوه في داره بالمدينة وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة فاعتلوا. فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذروا وقالوا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) سل الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك وإن كان عن عذر فكذبهم الله بقوله (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ) وقوله شيئا من الضر كقتل وهزيمة ولا يوصل إليهم نفعا إلا ما شاء الله. وإنما قال هاهنا بزيادة لفظة (لَكُمْ) لأنه في قوم بأعيانهم بخلاف «المائدة» فإنه عام لقوله (أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [المائدة: ١٧] ثم ردّ قولهم اللساني فقال (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ثم ردّ اعتذارهم الواهي بقوله (بَلْ ظَنَنْتُمْ) الآية. والبور جمع بائر أي هالك والباقي واضح إلى قوله (رَحِيماً) وفيه بيان كمال قدرته على تعذيب الكافرين مع أن مغفرته ذاتية ورحمته سابقة. وقوله (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) إنما لم يقل هنا لك لأن المخاطبين هم المؤمنون كلهم لا النبي وحده. وجمهور المفسرين على أن هؤلاء هم المخلفون المذكورون فيما تقدم.

وقوله (إِلى مَغانِمَ) هي مغانم خيبر ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد أهل الحديبية أن غنائم أهل خيبر لهم خصوصا من غاب منهم ومن حضر بدل تعب السفر في العمرة التي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ٩ مسلم في كتاب الزكاة حديث ٩٤ ، ٩٥ أبو داود في كتاب الزكاة باب ٢٨ الترمذي في كتاب الزهد باب ٣٢ النسائي في كتاب الزكاة باب ٥٠ ، ٥٢ الموطأ في كتاب الصدقة حديث ٨ الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢٢ أحمد في مسنده (٢ / ٤ ، ٦٧)

١٤٧

صدّهم المشركون عنها. وزاد الزهري فقال: وإن حضرها من غيرهم من الناس. قالوا: ولم يغب منهم عنها أحد إلا جابر ابن عبد الله ، فقسم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضر. وكان انصراف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر وخرج معه من شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالا كثيرة وجعلها لهم خاصة ، وكان قبل ذلك وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه غنائم خيبر فسمع المنافقون ذلك فقالوا للمؤمنين (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) فمنعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله أمره أن لا يخرج إلى خيبر إلا أهل الحديبية وذلك قوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) فقال الله لنبيه (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي في خيبر. وقيل: عامّ في غزواته (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل انصرافهم إلى المدينة (فَسَيَقُولُونَ) ردّا على النبي والمؤمنين إن الله لم يأمركم به (بَلْ تَحْسُدُونَنا) أن نشارككم في الغنيمة فرد الله عليهم ردّهم بقوله (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا) فهما (قَلِيلاً) وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، أو هو فهمهم من قوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) مجرد النهي فحملوه على الحسد ولم يعلموا أن المراد هو أن هذا الاتباع لا يقع أصلا لأن الصادق قد أخبر بنفيه. وذهب جماعة من المفسرين منهم الزجاج إلى أن كلام الله هاهنا هو قوله في سورة براءة (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [الآية: ٨٣] واعترض بأن هذا في قصة تبوك التي كانت بعد الحديبية بسنتين بإجماع من أهل المغازي. وأجاب بعضهم بأن هذه الآية أعني (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) نزلت في غزوة تبوك أيضا. وعندي أن الاعتراض غير وارد ولا حاجة إلى الجواب المذكور. ثم إن الله سبحانه أخبر عن مخلفي الحديبية بأنهم سيدعون إلى قوم أولي قوة ونجدة في الحروب. وقيل: هم هوازن وغطفان. وقيل: هم الروم ، غزاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبوك. والأكثرون على أن القوم أولي البأس الشديد هم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصدّيق لأنه تعالى قال (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية. هذا عند أبي حنيفة ، وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، والمجوس دون مشركي العجم والعرب. وقد يستدل بهذا على إمامة أبي بكر فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن بعد وفاته ولا سيما فيمن يزعم أنه نزل فيهم (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة: ٨٣] اللهم إلا أن يقال: المراد لن تخرجوا معي ما دمتم على حالكم من مرض القلوب والاضطراب في الدين ، أو أنهم لا يتبعون الرسول إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم قاله مجاهد. وقوله (أَوْ يُسْلِمُونَ) رفع على الاستئناف يعني أو هم يسلمون. ويجوز أن يراد إلى أن يسلموا ، فحين حذف «أن» رفع الفعل. وقيل: الإسلام هاهنا الانقياد

١٤٨

فيشمل إعطاء الجزية أيضا. والأجر الحسن في الدنيا الغنيمة ، وفي الآخرة الجنة. وقيل: الغنيمة فقط بناء على أن الآية في المنافقين ، وعلى هذا لا يتم الاستدلال على إمامة الخلفاء. وقوله (مِنْ قَبْلُ) أي في الحديبية. قال ابن عباس: إن أهل الزمانة قالوا: يا رسول الله كيف بنا؟ فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) أي إثم في التخلف لأنه كالطائر الذي قص جناحه لا يمتنع على من قصده. وقدم الأعمى لأن عذره مستمر ولو حضر القتال ، والأعرج قد يمكنه الركوب والرمي وغير ذلك. نعم يتعسر عليه الحرب ماشيا وكذا جودة الكر والفر راكبا. وقد يقاس الأقطع على الأعرج ، ويمكن أن لا يكون الأقطع معذورا لأنه نادر الوجود. والأعذار المانعة من الجهاد أكثر من هذا وقد ضبطها الفقهاء بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي. فمن الأول الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال لا كالصداع ووجع السن ، ومنه العرج البين وإن قدر على الركوب لأن الدابة قد تهلك. وعند أبي حنيفة لا أثر للعرج في رجل واحدة ، ومنه فقد البصر ولا يلحق به العور والعشي ، ومنه عدم وجدان السلاح وآلات القتال. ومن الثاني الرق والدين الحالّ بلا إذن رب الدين ومن أحد أبويه في الحياة ليس له الجهاد إلا بإذنه إلا إذا كان كافرا. والباقي واضح إلى قوله (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ) وبه سميت بيعة الرضوان ويبايعونك حكاية الحال الماضية والشجرة كانت سمرة. وقيل: سدرة روي أنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا أين ذهبت. وعن جابر بن عبد الله: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من خلوص النية (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) الطمأنينة والأمن عليهم (وَأَثابَهُمْ) جازاهم عن الإخلاص في البيعة (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر غب انصرافه من الحديبية كما ذكرناه. وقيل: هو فتح مكة (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) هي مغانم خيبر وكانت أرضا ذات عقار وأموال فقسمها عليهم (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) هي التي أصابوها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعده إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني غنيمة خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان جاؤا لنصرتهم فقذف الله الرعب في قلوبهم وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح. وقيل: أيدي اليهود حين خرجتم وخلفتم عيالكم بالمدينة وهمت اليهود بهم فمنعهم الله قوله (وَلِتَكُونَ آيَةً) أي لتكون هذه الغنيمة المعجلة دلالة على ما وعدهم الله من الغنائم ، أو دلالة على صحة النبوة من حيث إنه أخبر بالفتح القريب وقد وقع مطابقا. وقيل: الضمير للكف والتأنيث لأجل تأنيث الخبر ، أو بتقدير الكفة ويهديكم ويثبتكم ويزيدكم بصيرة.

قوله (وَأُخْرى) أي وعدكم الله مغانم أخرى. عن ابن عباس: هي فتوح فارس

١٤٩

والروم. أو يقال: مغانم هوازن في غزوة حنين لم يظنوا أن يقدروا عليها لما فيها من الهزيمة ، ثم الرجوع مرة بعد أخرى قد أحاط الله بها علما أنها ستصير لكم. قال جار الله: يجوز في (أُخْرى) النصب بفعل مضمر يفسره (قَدْ أَحاطَ) أي وقضى الله أخرى قد أحاط بها. ويجوز فيها الرفع على الابتداء لكونها موصوفة بالجملة و (قَدْ أَحاطَ) خبره. وجوز الجر بإضمار «رب». ثم بين أن نصر الله إياهم في صلح الحديبية أو في فتح خيبر لم يكن اتفاقيا بل كان إلهيا سماويا فقال (وَلَوْ قاتَلَكُمُ) إلى آخره. والسر فيه أن الله كتب وأوجب غلبة حزبه ونصر رسله كما قال (سُنَّةَ اللهِ) إلى آخره. عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعم متسلحين يريدون غرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فأخذهم واستحياهم فأنزل الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) وهو الحديبية لأنها من أرض الحرم. وقيل: هو التنعيم. وقيل: إظفاره دخوله بلادهم بغير إذنهم. وعن عبد الله بن مغفل المزني قال: كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي ذكرها الله في القرآن ، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ الله تعالى بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم: هل كنتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أمانا فقالوا: اللهم لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله الآية. وإنما قدم كف أيدي الكفار عن المؤمنين لأنهم أهم. وقيل: كف أيديكم بأن أمركم أن لا تحاربوا ، وكف أيديهم بإلقاء الرعب أو بالصلح وقيل: إن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة رجل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالد بن الوليد: هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل. فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله ارم بي حيث شئت. فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد فهزمه حتى أدخله جوف مكة. فأنزلت الآية. وسمي خالد يومئذ سيف الله. وروي أن كفار مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة. ثم ذم قريشا بقوله (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ) يعني يوم الحديبية (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تطوفوا به للعمرة (وَ) صدّوا (الْهَدْيَ) أو صدّوكم مع الهدى حال كونه (مَعْكُوفاً) أي محبوسا ممنوعا موقوفا عن (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) المعهود وهو مني وقد مر تفسير الهدي ومحله والبحث عنه في «البقرة». ثم بين حكمة المصالحة بقوله (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) وقوله (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) صفة الرجال والنساء جميعا على جهة التغليب. و (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل الاشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في (تَعْلَمُوهُمْ) والوطء كالدّوس عبارة عن الإيقاع والإهلاك. وقوله (فَتُصِيبَكُمْ) جواب النفي أو عطف على (أَنْ

١٥٠

تَطَؤُهُمْ) والمعرة «مفعلة» من العر العيب كالجرب ونحوه. وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متقدم في النية متعلق بـ (أَنْ تَطَؤُهُمْ) والفحوى أنه كان بمكة ناس من المسلمين فقال سبحانه: ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا من المؤمنين فيما بين المشركين وأنتم غير عالمين بحالهم فتصيبكم بإهلاكهم تبعة في الدين لوجوب الدية والكفارة أو عيب بسوء قالة أهل الشرك ، إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا ، أو أثم إذا جرى دينهم منكم بعض التقصير لما كف أيديكم عنهم. والكلام يدل على هذا الجواب وفي حذفه فخامة وذهاب للوهم كل مذهب ، ويعلم منه أنه يفعل بهم إذ ذاك ما لا يدخل تحت الوصف. وجوّزوا أن يكون (لَوْ تَزَيَّلُوا) كالتكرير لقوله (وَلَوْ لا رِجالٌ) لرجعهما إلى معنى واحد. والتنزيل التميز والتفرق ويكون (لَعَذَّبْنَا) هو الجواب. وقوله (لِيُدْخِلَ) تعليل لما دلت عليه الآية من كف الأيدي عن قريش صونا لأهل الإيمان المختلطين بهم كأنه قيل: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله مؤمنيهم في حيز توفيق الخير والطاعة ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من المشركين. وحكى القفال أن اللام متصل بالمؤمنين والمؤمنات أي آمنوا لكذا. وقوله (إِذْ جَعَلَ) يجوز أن ينتصب بإضمار «اذكر» أو يكون ظرفا (لَعَذَّبْنَا) أو لـ (صَدُّوكُمْ) وفاعل (جَعَلَ) يجوز أن يكون (اللهُ) وقوله (فِي قُلُوبِهِمُ) بيان لمكان الجعل كما مر في قوله (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: ٩٣] ويجوز أن يكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومفعولاه الحمية والظرف فيكون جعلهم في قلبهم بإزاء أنزل الله. والحمية في مقابلة السكينة ، والحمية الأنفة والاستكبار الذي كان عليها أهل الجاهلية ، ومن ذلك عدم إقرارهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنه ما جرى في قصة الحديبية من إبائهم أن يكتب في كتاب العهد «بسم الله الرحمن الرحيم» وأن يكتب «محمد رسول الله» يقال: حميت أنفي حمية كأنها «فعلية» بمعنى «مفعول» من الحماية اسم أقيم مقام المصدر كالسكينة بمعنى السكون فأنزل الله على رسوله السكينة والوقار حتى أعطاهم ما أرادوا. وكلمة التقوى التسمية والتوحيد والاعتراف برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اختارها الله للمؤمنين. ومعنى الإضافة إنها سبب التقوى وأساسها ، أو المراد كلمة أهل التقوى الذين يتقون بها غضب الله. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) لأنهم خيار الأمم. وقيل: أراد وكانوا يعني أهل مكة أحق بهذه الكلمة لتقدّم إنذارهم إلا أن بعضهم سلبوا التوفيق. وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد أن يقول «لا إله إلا الله» في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقول أكثر من ذلك. وكان قائلها يمدّ بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركا بذكر الله ، وقد جعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤا وهو قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا. ثم قص رؤيا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانا لإعجازه فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.

١٥١

وقصته أنه رأى في المنام أن ملكا قال له (لَتَدْخُلُنَ) إلى قوله (لا تَخافُونَ) فأخبر أصحابه بها ففرحوا وجزموا بأنهم داخلوها في عامهم ، فلما صدّوا عن البيت واستقر الأمر على الصلح قال بعض الضعفة: أليس كان يعدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نأتي البيت فنطوف به؟ فقال لهم أهل البصيرة: هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا: لا. قال: فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت فأنزل الله تصديقه. ومعنى (صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) صدقه في رؤياه ولم يكذبه. وقوله (بِالْحَقِ) إما أن يكون متعلقا بـ (صَدَقَ) أي صدقه فيما رأى صدقا متلبسا بالحق وهو أن يكون ما أراه كما أراه ، وإما أن يكون حالا من الرؤيا أي متلبسة بالحق يعني بالغرض الصحيح وهو الابتلاء ، وتميز المؤمن المخلص من المنافق المرائي. وجوّز أن يكون (بِالْحَقِ) قسما لأنه اسم من أسماء الله سبحانه ، أو لأن المراد الحق الذي هو نقيض الباطل فتكون اللام في (لَتَدْخُلُنَ) جواب القسم لا للابتداء فيحسن الوقف على (الرُّؤْيا). والبحث عن الحلق والتقصير وسائر أركان الحج والعمرة وشرائطهما استوفيناها في سورة البقرة فليتذكر. وفي ورود (إِنْ شاءَ اللهُ) في خبر الله عزوجل أقوال أحدها: أنه حكاية قول الملك كما روينا. والثاني أن ذلك خارج على عادة القرآن من ذكر المشيئة كقوله (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) والمعنى إن الله يفعل بالعباد ما هو الصلاح فيكون استثناء تحقيق لا تعليق. والثالث أنه أراد لتدخلن جميعا إن شاء ولم يمت أحد أو لم يغب. والرابع أنه تأديب وإرشاد إلى استعمال الاستثناء في كل موضع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد دخل البقيع «وأنا إن شاء الله بكم لا حقون» (١) وليس في وقوع الموت استثناء. الخامس أنه راجع إلى حالة الأمن وعدم الخوف. ثم رتب على الصدق وعلى سوء ظن القوم قوله (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الحكمة في تأخير الفتح إلى العام القابل (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الفتح (فَتْحاً قَرِيباً) وهو فتح خيبر. ثم أكد صدق الرؤيا بل صدق الرسول في كل شيء بقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) الآية. وذلك أنه كذب رسوله كان مضلا ولم يكن إرساله سببا لظهور دينه وقوة ملته ، وقد مر نظير الآية في سورة التوبة. ومن استعلاء هذا الدين أنه لا ترى أهل ملة إلا والمسلم غالب عليه إلا أن يشاء الله. وقد يقال: إن كمال العز والغلبة عند نزول عيسى عليه‌السلام فلا يبقى على الأرض كافر (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن هذا الدين يعلو ولا يعلى.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث ٣٩ أبو داود في كتاب الجنائز باب ٧٩ النسائي في كتاب الطهارة ، باب ١٠٩ ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٣٦ أحمد في مسنده (٢ / ٣٠٠ ، ٣٧٥) (٥ ، ٣٥٣)

١٥٢

ثم أكد الشهادة وأرغم أنف قريش الذين لمن يرضوا بهذا التعريف في كتاب العهد فقال (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) فهو مبتدأ وخبر. وجوز أهل الإعراب أن يكون المبتدأ محذوفا لتقدم ذكره في قوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي هو محمد فيكون (رَسُولُ اللهِ) صفة أو عطف بيان ، وجوزوا أن يكون (مُحَمَّدٌ) مبتدأ و (رَسُولُ اللهِ) صفته أو بيانا. وقوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) وهم الصحابة عطفا على (مُحَمَّدٌ) وخبر الجميع (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) جمع شديد كما قال (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم: ٩] (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة: ٥٤] عن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم فكيف بأبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صحافه وعانقه. والمصافحة جائزة بالاتفاق ، وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه وإن كان التقبيل على اليد. ومن حق المؤمنين أن يراعوا هذه السنة أبدا فيتشدّدوا على مخالفيهم ويرحموا أهل دينهم (تَراهُمْ) يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب (رُكَّعاً سُجَّداً) راكعين ساجدين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) بالعفو عن تقصيرهم (وَرِضْواناً) منه عن أعمالهم الصالحة بأن يتقبلها الله منهم (سِيماهُمْ) علامتهم (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) فيجوز أن تكون العلامة أمرا محسوسا وأن السجود بمعنى حقيقة وضع الجبهة على الأرض ، وكان كل من عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواضع السجود منهما أشباه ثفنات البعير. والذي جاء في الحديث «لا تعلبوا صوركم» أي لا تخدشوها. وعن ابن عمر أنه رأى رجلا أثر في وجهه السجود فقال: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك محمول على التعمد رياء وسمعة. وعن سعيد بن المسيب هي ندى الطهور وتراب الأرض. ويجوز أن يكون أمرا معنويا من البهاء والنور. وعن عطاء: استنارت وجوههم من التهجد كما قيل «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» وإن الذي يبيت شاربا يتميز عند أرباب البصيرة من الذي يبيت مصليا وفيه قال بعضهم:

عيناك قد حكتا مبي

تك كيف كنت وكيف كانا

ولرب عين قد أرت

ك مبيت صاحبها عيانا

قال المحققون: إن من توجه إلى شمس الدنيا لا بد من أن يقع شعاعها على وجهه ، فالذي أقبل على شمس عالم الوجود وهو الله سبحانه كيف لا يستنير ظاهره وباطنه ولا سيما يوم تبلى السرائر ويكشف الغطاء (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) أي ذلك الوصف وصفهم العجيب الشأن في الكتابين: ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله (كَزَرْعٍ) إلى

١٥٣

آخره. كقوله (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) [الحجر: ٦٦] وقد يقال: تم الكلام عند قوله (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ثم ابتدأ (مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ) لما روى أنه مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عرفوا إلى بني إسرائيل بهذا الوصف ليعرفوهم إذا أبصروهم. والشطء بالتسكين والتحريك فراخ الزرع التي تنبت إلى جانب الأصل ، ومنه شاطئ النهر. (فَآزَرَهُ) من المؤازرة المعاونة. ويجوز أن يكون أفعل من الأزر القوة أي أعان الزرع الشطء أو بالعكس. (فَاسْتَغْلَظَ) الزرع أو الشطء أي صار من الرقة إلى الغلظ (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فاستقام على قصبته أي تناهى وصار كالأصل بحيث يعجب الزارعين. والسوق جمع ساق وقد يخص الساق بالشجر فيكون ساق الزرع مجازا مستعارا. ووجه التشبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وحده ثم أتبعه من هاهنا قليل ومن هاهنا حتى كثروا وقوي أمرهم. وقوله (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لوجه التشبيه أو للتشبيه أي ضرب الله ذلك المثل وقضى وحكم بذلك ليغيظ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كفار مكة والعجم. وقيل: هذا الزرع يغيظ بكثرته الكفار أي سائر الزرّاع الذين ليس لهم مثل زرعهم وفيه بعد ، ولكن الكلام لا يخلو عن فصاحة لفظية من قبل المناسبة بين الزراع والكفار لاشتراكهما بالجملة في معنى من المعاني وإن لم يكن مقصودا هاهنا. وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أبو بكر (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) عمر (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) عثمان (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) علي عليه‌السلام (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) طلحة والزبير (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ابن الجراح. وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ. وقوله (مِنْهُمْ) لبيان الجنس. ويجوز أن يكون قوله (لِيَغِيظَ) تعليلا للوعد لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما حصل لهم في الدنيا من الغلبة والاستعلاء غاظهم ذلك والله أعلم.

١٥٤

(سورة الحجرات مدنية حروفها ألف وأربعمائة وستة وسبعون كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها ثمان عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا

١٥٥

الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

القراآت: (لا تُقَدِّمُوا) بالفتحات من التقدّم: يعقوب الحجرات بفتح الجيم: يزيد. إخوتكم على الجمع: يعقوب وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنابَزُوا) و (لِتَعارَفُوا) بالتشديدات للإدغام: البزي وابن فليح ميتا مشدّدا: أبو جعفر ونافع يألتكم بالهمز: أبو عمرو وسهل ويعقوب وقد لا يهمز في رواية. الآخرون: بالحذف بما يعملون على الغيبة: ابن كثير.

الوقوف: (وَاتَّقُوا اللهَ) ط (عَلِيمٌ) ه ج (لا تَشْعُرُونَ) ه (لِلتَّقْوى) ط (عَظِيمٌ) ه (لا يَعْقِلُونَ) ه (خَيْراً لَهُمْ) ط (رَحِيمٌ) ه (نادِمِينَ) ه (رَسُولَ اللهِ) ط (وَالْعِصْيانَ) ط (الرَّاشِدُونَ) ه لأن (فَضْلاً) مفعول له (وَنِعْمَةً) ط (حَكِيمٌ) ه (بَيْنَهُما) ج للشرط مع الفاء (أَمْرِ اللهِ) ج لذلك (وَأَقْسِطُوا) ط (الْمُقْسِطِينَ) ه (تُرْحَمُونَ) ه (مِنْهُنَ) ج للعدول عن الغيبة إلى الخطاب (بِالْأَلْقابِ) ط (بَعْدَ الْإِيمانِ) ه ج لابتداء الشرط مع احتمال (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عما ذكر من اللمز والنبز (الظَّالِمُونَ) ه (مِنَ الظَّنِ) ز للابتداء بأن إلا إنه للتعليل أي لأن (بَعْضاً) ج (فَكَرِهْتُمُوهُ) ط (وَاتَّقُوا اللهَ) ط (رَحِيمٌ) ه (لِتَعارَفُوا) ط (أَتْقاكُمْ) ط (خَبِيرٌ) ه (آمَنَّا) ط (قُلُوبِكُمْ) ط (شَيْئاً) ط (رَحِيمٌ) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) ط (الصَّادِقُونَ) ه (فِي الْأَرْضِ) ط (عَلِيمٌ) ه (أَسْلَمُوا) ط (إِسْلامَكُمْ) ج لأن «بل» للإضراب عن الأول (صادِقِينَ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (تَعْمَلُونَ) ه.

التفسير: لما بين محل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلو منصبه بقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) إلى آخر السورة افتتح الآن بقوله (لا تُقَدِّمُوا) الآية. ففيه تأكيد لما ذكر هناك من وجوب إتباعه والإذعان له. والأظهر أن هذا إرشاد عام. وذكر المفسرون في أسباب النزول وجوها منها ما روي عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبر أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أمّر القعقاع بن معبد وقال عمر: بل أمر الأقرع بن جابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فتماريا حتى

١٥٦

ارتفعت أصواتهما فأنزل الله الآية. وقال الحسن والزجاج: نزلت في رجل ذبح الأضحية قبل الصلاة وقبل ذبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بإعادتها وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وعن عائشة أنها نزلت في صوم يوم الشك. وروي أنها في القتال أي لا تحملوا على الكفار في الحرب قبل أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقدّم إما متعد وحذف المفعول للعموم حتى يتناول كل فعل وقول ، أو ترك مفعوله كما في قوله «فلان يعطي ويمنع» لأن النظر إلى الفعل لا إلى المفعول كأنه قيل: يجب أن لا يصدر منكم تقدم أصلا في أيّ فعل كان. وإما لازم نحو بين وتبين بمعنى يؤيده قراءة يعقوب. قال جار الله: حقيقة قولهم «جلست بين يدي فلان» أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله حتى ينظر إليك من غير تقليب حدقة وذكر الله للتعظيم. وفيه أن التقديم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالتقديم بين يدي الله. قال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا. وقيل: معناه لا تخالفوا كتاب الله وسنة رسوله. وعن الحسن في رواية أخرى: لما استقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتدئ (وَاتَّقُوا اللهَ) في التقديم أو أمرهم بالتقوى ليحملهم على ترك التقدمة فإن المتقي حذر عن كل ما فيه تبعة وريب (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنياتكم وأفعالكم. ثم أعاد النداء عليهم مزيدا للتنبيه ، وفيه نوع تفصيل بعد إجمال وتخصيص بعد تعميم. وعن ابن عباس أن ثابت ابن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوريّ الصوت وكان يتأذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصوته إذا كلمه ، فحين نزلت الآية فقد ثابت فتفقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذر بأنه رجل جهير الصوت يخاف أن تكون الآية نزلت فيه. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة. وعن الحسن: نزلت في المنافقين كانوا يرفعون بأصواتهم فوق صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استخفافا واستهانة وليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهى المؤمنون عن ذلك. وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان أعم من أن يكون باللسان أو به وبالقلب ، وإما أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديبا للمؤمنين الخلص حتى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق ، ويكون كلامهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته. قوله (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ) أي جهرا مثل جهر (بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) قيل: تكرار للمعنى الأوّل لأجل التأكيد فإن الجهر هو رفع الصوت والجمهور على أن بين النهيين فرقا. ثم اختلفوا فقيل: الأول فيما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر. والثاني فيما إذا سكت

١٥٧

ونطقوا فنهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوّة. وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادي وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضهم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم ولكن يا نبي الله يا رسول الله. ثم علل كلا من النهيين بقوله (أَنْ تَحْبَطَ) أي كراهة حبوط أعمالكم وذلك أن الرفع والجهر إذا كان عن استخفاف وإهانة كان كفرا محبطا للأعمال السابقة. والمفعول له يتعلق بالفعل الأول في الظاهر عند الكوفيين وبالعكس عند البصريين. وجوز في الكشاف أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له كأنهما شيء واحد ثم يصب عليهما الفعل جميعا صبا واحدا ، والمعنى أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط لأنه كان بصدد الأداء إليه فجعل كأنه سبب في إيجاده كقوله (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص: ٨] وفي قوله (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به. ومثله قول الحكيم: إن كلا من الأخلاق الفاضلة والرذيلة تكون أوّلا حالا ثم تصير ملكة راسخة وعادة مستمرة. ومنه قول أفلاطون: لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق وأنت لا تدري. فالعاقل من يجتهد في الفضائل أن تصير ملكات ، وفي الرذائل أن تزول عنه وهي أحوال.

قال ابن عباس: لما نزلت الآية قال أبو بكر: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو كأخي السرار حتى ألقى الله فأنزل الله فيه وفي أمثاله (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ) هو افتعل من المحنة وهو اختبار بليغ يقال: امتحن فلان لأمر كذا أي جرب له فوجد قويا عليه ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشيء باختباره فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم كائنة للتقوى فاللام متعلقة بالمحذوف كقولك: أنت لهذا الأمر. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف لأجل التقوى وحصولها فيها سابقة ولا حقة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لطاعتهم. وفي تنكير الوعد وغير ذلك من مؤكدات الجملة تعريض بعظم ما ارتكب غيرهم واستحقاقهم أضداد ما استحق هؤلاء. يروى أنه كان إذا قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد أرسل إليهم أبو بكر من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار. قال العلماء: إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف كما مر في حديث ثابت بن قيس ، ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ. ففي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: أصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتا. وفيه قال نابغة بني جعدة :

١٥٨

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم

وأبو عروة كنية العباس. زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه. ويروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدّة صوته. ثم علمهم أدبا أخص فقال (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) أي من جانب البر والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض. والحجرة البقعة التي يحجرها المرء لنفسه كيلا يشاركه فيها غيره من الحجر وهو المنع «فعلة» بمعنى مفعولة ، وجمعت لأن كلا من أمهات المؤمنين لها حجرة. روي أن وفدا من بني تميم قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سبعون رجلا منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن. فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خارج حجراته كأنهم تفرقوا على الحجرات أو أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها أو نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والفعل وإن كان مستندا إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم لأن رضا الباقين به كالتولي له. وحكى الأصم أن الذي ناداه عيينة والأقرع قالا: أخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين منا شين. فتأذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك فخرج إليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين. فقال لهم: فيم جئتم؟ فقالوا: جئنا بخطيبنا وشاعرنا نفاخرك ونشاعرك. فقال: ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام خطيبهم فخطب وقام شاعرهم وأنشد فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت بن قيس فقام وخطب وأمر حسانا فقام وأنشد. فلما فرغوا قام الأقرع وقال: والله ما أدري ما هذا ، تكلم خطيبنا وكان خطيبهم أحسن قولا ، وأنشد شاعرنا وكان شاعرهم أشعر. ثم دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله. وعن زيد بن أرقم أنهم قالوا: نمتحنه فإن يكن ملكا عشنا في جنابه ، وإن يكن نبيا كان أولى بأن نكون أسعد الناس به. وقيل: إنهم وفدوا شافعين في أسرى بني العنبر. أما إخبار الله تعالى عنهم بأن أكثرهم لا يعقلون فإما لأن الأكثر أقيم مقام الكل على عادة الفصحاء كيلا يكون الكلام بصدد المنع ، وإما لأن الحكم بقلة العقلاء فيهم عبارة عن العدم فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم ، وإما لأن فيهم من رجع وندم على صنيعه فاستثناه الله تعالى. وإنما حكم عليهم بعدم العقل لأنهم لم يعقلوا أن هذا النحو من النداء خارج عن قانون الأدب ومنبئ عن عدم الوقار والأناة ولا سيما في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لم يكن يحتجب عن الناس إلا عند الخلوة والاشتغال بمهامّ أهل البيت فلذلك قال (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ) وفائدة قوله (إِلَيْهِمْ) أنه لو خرج لا لأجلهم لزمهم الصبر إلى أن يكون خروجه إليهم لأجلهم (لَكانَ)

١٥٩

الصبر (خَيْراً لَهُمْ) في دينهم وهو ظاهر وفي دنياهم بأن ينسبوا إلى وفور العقل وكمال الأدب. وقيل: بإطلاق أسرائهم جميعا فقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلق النصف وفادى النصف (وَاللهُ غَفُورٌ) مع ذلك لمن تاب (رَحِيمٌ) في قبول التوبة. سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وفد بني تميم فقال: إنهم جفاة بني تميم ولو لا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم. ويحكى عن أبي عبيدة وهو المشهور بالعلم والزهادة وثقة الرواية أنه قال: ما وقفت بباب عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه. ثم أرشدهم إلى أدب آخر فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) وقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق مصدقا وكان بينهما إحنة ، فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع فقال: إن القوم هموا بقتلي ومنعوا صدقاتهم. فهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغزوهم ، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فاتهمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال: لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي‌الله‌عنه فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع. قال جار الله: في تنكير الفاسق والنبأ عموم كأنه قيل: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ فتوقفوا فيه واطلبوا البيان لأن من لا يتجافى جنس الفسوق لا يتجافى بعض أنواعه الذي هو الكذب. والفسوق الخروج عن الشيء والانسلاخ منه فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه «فقست البيضة» إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن تقاليبه أيضا «قفست الشيء» بتقديم القاف إذا أخرجته من يد مالكه غصبا. والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه. واختبر لفظة «إن» التي هي للشك دون «إذا» تنبيها على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه بمنزلة لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب إلا على سبيل الفرض والندرة ، فعلى المؤمنين أن يكونوا بحيث لا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور. ثم علل التبين بقوله (أَنْ تُصِيبُوا) أي كراهة إصابتكم (قَوْماً) حال كونكم جاهلين بحقيقة الأمر. والندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك متمنيا أنه لم يقع ولا يخلو من دوام وإلزام. ومن مقلوباته «أدمن الأمر» إذا دام عليه. ومدن بالمكان أقام به. قال الأصوليون من الأشاعرة: إن خبر الواحد العدل يجب العمل به لأن الله تعالى أمر بالتبين في خبر الفاسق ، ولو تبينا في خبر العدل لسوّينا بينهما. وضعف بأنه من باب التمسك بالمفهوم. واتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لأن باب الشهادة أضيق من باب التمسك بمفهوم الخبر. وأكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار

١٦٠