تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكا فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير: ٢٣] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل: «رأيت الهلال على السطح» أي وأنا على السطح. وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوسا أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين ، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة. وقيل: الضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما. وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال: دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة. دنا دنو إكرام لا دنو أجسام ، دنا دنو أنس لا دنو نفس. والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم. أخبر بالقصة إكراما وكتم الإسرار عظاما.

قوله (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل ، والمراد بالعبد إما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو جبريل عليه‌السلام فيحصل تقديرات أحدها: فأوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي. وقيل: أوحى إليه الصلاة. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها. وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله. ثانيها فأوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحى أولا جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولا بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة. وعلى هذا يحتمل أن يقال «ما» مصدرية أي أوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن ، أو كلمه أنه وحي أو خلق فيه علما ضروريا. ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من الأنبياء قبله. وفيه إشارة إلى أن جبريل عليه‌السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء. خامسها فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحى الله إليه. سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو. لاوفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه. ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك. وقيل: اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره. والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام: ١٠٣]

٢٠١

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) [الأنعام: ١٣٢] بخلاف قوله (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: ١٢] (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: ٤٨] فإنه لنفي الوقوع. والظاهر أن فاعل رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل: الفؤاد أو البصر أي ما رآه الفؤاد ولم يقل له إنه جن أو شيطان أو لم يكذب الفؤاد ما رآه بصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما المرئي فيه أقوال: أحدها ما مر وهو أنه رأى جبريل في صورته بالأفق الشرقي. والثاني الآيات العجيبة الإلهية. والثالث الرب تعالى والمسألة مبنية على جواز الرؤية وقد تقدم البحث عن ذلك في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام: ١٠٣] ثم على وقوع الرؤية وقد تقدم خلاف الصحابة فيه في حديث معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك في أول «سبحان الذي». ولعل القول الأول أصح. يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ، وإليه إشارة بقوله (أَفَتُمارُونَهُ) من المراء أي أتجادلونه (عَلى ما يَرى) ومن قرأ أفتمرونه فمعناه أتغلبونه في المراء يقال: ماريته فمريته. ولما فيه من معنى الغلبة عدي بـ «على» وقيل: معناه أفتجحدونه. ولا بد من تضمين معنى الغلبة. (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف لأن الفعلة صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال: إنه كان من الجن احتمالا بعيدا فلما رآه (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال. أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بقلبه مرتين. والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك ، أو بمعنى قرب الرحمة والإفضال ، وإما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس. وقيل: أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة ، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة. وعلى القول الأول أيضا يحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام «لو دنوت أنملة لاحترقت» ثم عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه. ومعنى أخرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تردد في أمر الصلاة مرارا فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين. أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة: وقيل: في السادسة. «نبقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها» (١) وقد ورد الحديث بذلك. فعلى هذا (عِنْدَ) ظرف مكان. ثم إن كان المرئي جبريل فلا إشكال ، وإن كان هو الله تعالى فكقول القائل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب ٤٢ النسائي في كتاب الصلاة باب ١ أحمد في مسنده (٣ / ١٢٨ ، ١٦٤) (٤ / ٢٠٧)

٢٠٢

«رأيت الهلال على السطح» وقد مر. وقال بعضهم (عِنْدَ) ظرف زمان كما يقال: صليت عند طلوع الفجر. والمعنى رآه عند الحيرة القصوى أي في وقت تحار عقول العقلاء فيه ولكنه ما حار ولم يعرض له سدر. وإضافة سدرة إلى المنتهى إما من إضافة الشيء إلى مكانه كما يقال «أشجار البلدة الفلانية كذا» وأشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار. فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء. وإما من إضافة الملك إلى الحال كما يقال «ظرف المداد» أي سدرة هي محل انتهاء الجنة. وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال «دار زيد وأشجار عمرو» فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فالإضافة للتشريف «نحو بيت الله وناقة الله». وقال الحسن: (جَنَّةُ الْمَأْوى) هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في (عِنْدَها) للسدرة. وقيل: للنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى. قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العقل ما طرأ من فضل الله ومن رحمته. والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط بها الوصف. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله» وعنه عليه‌السلام «يغشاها رفرف من طير خضر» والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل. وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش أو جراد من ذهب. والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله (ما زاغَ الْبَصَرُ) فيه وجهان: أشهرهما أنه بصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لم يلتفت إلى ما يغشاها. فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحانا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمور الدنيوية ، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور. أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه‌السلام. وفي الأول بيان أدب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الثاني بيان مزيته. وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع هيبة وإجلالا. والظاهر أن الضمير في قوله (وَما طَغى) للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته. ويحتمل أن يكون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود ، وما طغى محمد بسبب الالتفات. قال بعض العلماء: فيه بيان لوصول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر

٢٠٣

رآه أبيض أو أصفر أو أخضر. قوله (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) الظاهر أن الكبرى صفة الآيات أي لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى. وذلك البعض إما جبرائيل على صورته ، وإما سائر عجائب الملكوت. ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لقد رأى من آيات ربه آية هي الكبرى. وعلى هذا لا تكون تلك الآية رؤية جبريل لما ورد في الاخبار أن لله ملائكمة أعظم منه كالملك الذي يسمى روحا. نعم لو قيل: إنها رؤية الله الأعظم كان له وجه عند من يقول بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الله ليلة المعراج. وفيه خلاف تقدم.

قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلخ. أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى ، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدرة المنتهى ، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه؟ قال في الكشاف: اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله «فعلة» من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفا وحركت الواو فانقلبت ألفا. والوقف عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله: وقيل: أصله اللات بالتشديد وقد قرئ به. زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثنا. والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:

يا عز كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

فرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما فعل. فقال: تلك العزى ولن تعبد أبدا. وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق. ومن قرأ بالمد فلعلها «مفعلة» من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. و (الْأُخْرى) لا يطلق إلا إذا كان الأول مشاركا كالثاني فلا يقال: رأيت رجلا وامرأة أخرى. وإنما يقال رأيت رجلا ورجلا آخر. وهاهنا ليست عزى ثالثة فكيف قال (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف: ٣٨] أي وضعاؤهم لرؤسائهم. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي ، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرى. الثالثة.

٢٠٤

وقيل: إن الأصنام فيها كثرة فإذا أخذنا اللات والعزى مقدمين كانت لهما ثوالث كثيرة وهذه ثالثة أخرى. وقيل: فيه حذف والتقدير أفرأيتم اللات والعزى المعبودتين بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الأخرى. ثم إنه تعالى حين وبخهم على الشرك فكأنهم قالوا نحن لا نشك في أن شيئا منها ليس مثلا لله تعالى ولكنا صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا: إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ، ويرد عليهم الأمر والنهي ويصدر عنهم إلينا فوبخهم على قولهم إن هؤلاء الأصنام التي هي إناث أنداد الله تعالى ، أو على قولهم الملائكة بنات الله فاستفهم منكرا (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) الذي ترغبون فيه (وَلَهُ الْأُنْثى) التي تستنكفون عنها (تِلْكَ) القسمة (إِذاً) أي إذا صح ما ذكرتم (قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جائزة غير عادلة من ضازه يضيزه إذا ضامه ، وهي «فعلى» بالضم ، وكان يمكن أن تقلب الياء واوا لتسلم الضمة إلا أنه فعل بالعكس أي قبلت الضمة كسرة لتسلم الياء فإن إبقاء الحرف أولى من إبقاء الحركة. ومن قرأ بالهمزة فمن ضأزه بالهمزة والمعنى واحد ولكنها «فعلى» بالكسر. قال بعضهم: إنهم ما قسموا ولم يقولوا لنا البنون وله البنات ولكنهم نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن ، فلزم من هذه النسبة قسمة جائرة ، فتقدير الكلام تلك النسبة قسمة غير عادلة إذ العدالة تقتضي أن يكون الشريف للشريف والوضيع للوضيع (إِنْ هِيَ) يعني ليس الأصنام أو أسماؤها المذكورات (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) وقد مر في «الأعراف» وفي «يوسف». قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه‌الله: اليتم يتم بقوله (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) فإن إطلاق الاسم على المسمى إنما يجوز إذا لم يتبعه مفسدة دينية. وهاهنا يمكن أن يكون مرادهم من قولهم «الملائكة بنات الله» أنهم أولاد الله من حيث إنه لا واسطة بينهم وبينه في الإيجاد كما تقوله الفلاسفة. والعرب قد تستعمل البنت مكان الولد كما يقال «بنت الجبل وبنت الشفة» لما يظهر منهما بغير واسطة خصوصا إذا كان في اللفظ تاء التأنيث كالملائكة إلا أنه لم يجز في الشرع إطلاق هذا اللفظ على الملائكة لأنه يوهم النقص في حقه تعالى ثم قال: وهذا بحث يدق عن إدراك اللغوي إن لم يكن عنده من العلوم حظ عظيم. قلت: هذا البحث الدقيق يوجب أن يكون الذم راجعا إلى ترك الأدب فقط. وليس الأمر كذلك فإن الذم إنما توجه إلى المشرك لأنه ادعى الإلهية لما هو أبعد شيء منها. وما أمكن له على تصحيح دعواه حجة عقلية ولا سمعية. ومعنى (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بسببها وصحتها. وقال الرازي: الباء للمصاحبة كقول القائل «ارتحل فلان بأهله ومتاعه» أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. ومن قرأ إن تبعون على الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات ، واما لأن الضمير للآباء وصيغة الاستقبال

٢٠٥

حكاية الحال الماضية ويحتمل أن يكون المراد عامة الكفار. قوله (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) يجوز أن تكون «ما» مصدرية ، وفائدة العدول عن صريح المصدر إلى العبارة الموجودة أن القاتل إذا قال: أعجبني صنعك. لم يعلم أن الإعجاب من أمر قد تتحقق أو من أمر هو فيه. وإذا قال: أعجبني ما تصنع. شمل الحال والاستقبال. ويجوز أن تكون «ما» موصولة والفرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى. وقوله (الْأَنْفُسُ) من باب مقابلة الجمع بالجمع. والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك: خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل. ويجوز أن يكون الظن مقصودا به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلا. ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضا وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة ، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين.

قوله (أَمْ لِلْإِنْسانِ) أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه. ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئا من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله. ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن «كم» للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) [الأحقاف: ٢٥] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض ، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنو منزلتهم ، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات؟ وقوله (لِمَنْ يَشاءُ) أي لمن يريد الشفاعة له (وَيَرْضى) أي ويراه أهلا أن يشفع له فههنا أيضا أنواع أخر من المبالغة. الأول توقيف الشفاعة على الإذن. والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة. والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر: ٧] وهذا عند أهل السنة واضح. ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) أي كل واحد منهم (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتا وبالعكس. وهاهنا سؤالان: أحدهما: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسمين فكان الأولى أن يقال: إن

٢٠٦

الذين يسمون لا يؤمنون. وثانيهما أنه كيف يلزم من عدم الإيمان بالآخرة هذه التسمية؟ والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضا لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون. ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة. ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول: الإنسان زيد. وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضا لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله ، وإلى هذا أشار بقوله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي‌الله‌عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثا بحثا طويلا بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعلوه مؤنثا. وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة ، أو لغير ذلك من المعاني ، ونحن قد أسقطنا تلك البحوث لعدم فائدتها كما نبهناك عليه. ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال: (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين ، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية ، ومن قنع في أمثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال (فَأَعْرِضْ) أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق (عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمنا للأمر بالقتال أي أعرض عن المقال وأقبل على القتال. وقوله (ذلِكَ) أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) جملة معترضة. ثم بين علة الإعراض قائلا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) إلى آخره ، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه ، وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق. ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة. والحسنى صفة المثوبة والأعمال ، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر. واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول فيها في سورة النساء في قوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [الآية: ٣١] والفواحش ما تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله. والمراد باللمم الصغائر ، والتركيب يدل على القلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال:

٢٠٧

ألمت فحيت ثم قامت فودعت

وإلا صفة كأنه قيل: كبائر الإثم وفواحشه غير اللمم ، أو استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش. عن أبي سعيد الخدري: اللمم هي النظرة والغمزة والقبلة. عن السدي: الخطرة من الذنب. وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عزوجل عليه حدا ولا عذابا. وعن عطاء: هي ما تعتاده النفس حينا بعد حين.

قال جار الله: معنى قوله (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة. وأقول: فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة ، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر. وقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) إلى آخره. دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالما بأصلهم وفرعهم كان عالما بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم. فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل. والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة ، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومة وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولا وآخرا باطنا وظاهرا ، وما أحسن نسق هذه الجمل. وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول: كيف يعلم الله أمورا نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة. وقوله (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) للتأكيد فإنه إذا خرج من بطن الأم يدعى سقطا أو ولدا. وقيل: أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد. وقيل: فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة ، عالم بأجزائه بعد التفرق ، قادر على جمعه بعد التمزق. والعامل في «إذ» هو «اذكر» أو ما يدل عليه (أَعْلَمُ) أي يعلمكم وقت الإنشاء. والخطاب للموجودين وقت نزول الآية وللآخرين بالتبعية. ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم. وقوله (وَإِذْ أَنْتُمْ) يكون خطابا لنا. قوله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) قال بعض المفسرين: نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا فقال له رجل: لم تترك دين آبائك؟ قال: أخاف. ثم قال له: لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع

٢٠٨

كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال بعضهم: نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء. فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك. يقال: أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه «أجبل الحافر وأجبل الشاعر» إذا أفحم. ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فكيف يعلم أن أوزاره محمولة عنه؟ وقيل: نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى: أفرأيت الذي تولى أي صار متوليا لكتاب الله وأعطى قليلا من الزمان حق الله فيه ، ولما بلغ عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسك عن العمل به. قالوا: يؤيد هذا التفسير قوله (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر التثنية بصيغة الجمع ، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) [الأعراف: ١٥] وكل لوح صحيفة. وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه ، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر «سبح اسم ربك» هذا المعنى مع ترتيب الوجود. والتشديد في قوله (وَفَّى) للمبالغة في الوفاء ، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله (فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة: ١٢٤] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه. يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخا يطلب ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم. وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليكم فلا. قالا: فسل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وروي في الكشاف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى. وروي «ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون» وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده ، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ) وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلا مما في صحف موسى ، أو الرفع كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل.

٢٠٩

ثم عطف على قوله (أَلَّا تَزِرُ) قوله (وَأَنْ لَيْسَ) وحكمه حكم ما يتلوه من المعطوفات فيما مر. وفيه مباحث: الأول الإنسان عام وقيل: هو الكافر. وأورد عليه أن الله سبحانه قال (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ) ولو أراد الكافر لقال «ليس على الإنسان» وهذا بالحقيقة غير وارد فإن اللام قد تستعمل في مثل هذا المعنى قال تعالى (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء: ٧] وورد على الأول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ورد في الأخبار ، وأيضا قال تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام: ١٦٠] والأضعاف فوق ما سعى. وأجاب بعضهم بأن قوله (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع. وقال المحققون: إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمنا صالحا كان سعي غيره كأنه سعي نفسه. والثاني «ما» مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه. ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه. الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد ، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه ويعده إلى أن يحل الأجل بغتة. قوله (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) إن كان من الرؤية فكقوله (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة: ١٠٥] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضا كان أو جوهرا ، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملا صالحا وبالضد إن كان بالضد. ويجوز أن يكون مجازا عن الثواب كما يقال «سترى إحسانك عند الملك» أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل واف أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم. وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله (الْجَزاءَ الْأَوْفى) وأبدل عنه كقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء: ٣] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو ، ولو قال «كل وازرة تزر وزر نفسها» لم يكن بد من بقاء وزرها عليها. وقال في حق المحسن «ليس له ما سعى» ولم يقل «ليس له ما لم يسع» إذ العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى ، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قوة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه ، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه. قوله (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله عز

٢١٠

من قائل (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: ٢٨] أي للناس بين يدي الله وقوف وفيه بيان وقت الجزاء. وقد يقال: المراد به التوحيد وهو تأويل أهل العرفان. والحكماء يستدلون به على وجود الصانع فإن الممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب. وقيل: أراد أن البحث والإدراك ينتهي عنده كما قيل: إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا. وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا ذكر الرب فانتهوا» والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن: وقيل: الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه تسلية له. ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد ، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم. يقال: منى وأمنى. وقال الأخفش: تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب ، ومبدأ البكاء رقة القلب ، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات ، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب. قوله (أَماتَ وَأَحْيا) إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة. قال الأطباء: الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب. وقالوا في نبات شعر الرجل: إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة ، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعرا. وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها. وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيرا لحرارة القلب. وإلى آلات التناسل لحرارة الشهوة ، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة ، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت. هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب. ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية ، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات.

واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك. ففي آيات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:

٢١١

٢٥٨] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) ظاهره وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير: هو كقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون: ١٤] أي بعد خلقته ذكرا وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه. وإنما وسط الفصل لأن كثيرا من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده ، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر. وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال ردا عليهم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما. وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمه قال: لا أرى شمسا ولا قمرا ولا نجما تقطع السماء عرضا غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشا في عبادة الأوثان. وكانت قريش يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبو كبشة» تشبيها له لمخالفته إياهم في دينهم. وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى ، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى. وعاد الأولى قوم هود والأخرى ، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة. وقيل: أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا أشرافا قوله (وَثَمُودَ) عطف على (عاداً) أي ما رحم عليهم. ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحدا منهم كقوله (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة: ٨] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفا من ثمود. وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحا عليه‌السلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض ، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم ، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها. ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليس قوله (إِنَّهُمْ كانُوا) تعليلا للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بيانا لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود (أَهْوى) أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض (فَغَشَّاها ما غَشَّى) من الحجارة المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب. وجوز أن يكون «ما» فاعلا كقوله (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس: ٥] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) فقد قيل: هو أيضا مما في

٢١٢

الصحف وقيل: هو ابتداء كلام ، والخطاب لكل سامع ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: ٦٥] والمراد أنه لم يبق فيها إمكان الشك ، وقد عد نعما ونقما وجعل كلها آلاء لأن النقم أيضا نعم إن أراد أن يعتبر. ويحتمل أن يقال لما عد نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه وإقنائه. ثم ذكر أنه أهلك من كفر بها ، وبخ الإنسان على جحد شيء من نعمه فيصيبه مثل ما أصاب المتمارين: أو يقال: لما حكى الإهلاك قال للشاك: أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فبأي آلاء ربك تتمارى وسيجيء له مزيد بيان في سورة الرحمن (هذا) القرآن أو الرسول (نَذِيرٌ) أي إنذار أو منذر من جنس الإنذارات أو المنذرين. وقال (الْأُولى) على تأويل الجماعة. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ختم السورة بذكر اقتراب الحشر فقال (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء: ١] (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى: ١٧] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم وأنها تكاد تقوم (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) نفس (كاشِفَةٌ) للتأنيث كما مر ، أو للمبالغة أي لا أحد يكشف حقيقتها ، أو هي مصدر كالعافية ، و «من» زائدة والتقدير ليس لها كاشفة دون الله ، ويحتمل أن يراد ليس لها في الوجود نفس تكشف عنها من غير الله بل إنما يكشفها من عند الله ومن قبل علمه وإخباره. ثم وبخهم على التعجب من القرآن ومن حديث القيامة وضحكهم من استهزاء وإنكارا. وفي قوله (وَلا تَبْكُونَ) إلى آخره تنبيه على أن البكاء والخشوع وحضور القلب حق عليهم عند سماع القرآن كما قال (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم: ٥٧] والسمود الغفلة وقد يكون مع اللهو. وعن مجاهد: كانوا يمرون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضابا مبرطمين. وقال: البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا: لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخشع فلا جرم قال (فَاسْجُدُوا) أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة. وقد مر في سورة الحج في قوله (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الآية: ٥٢] أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس وذكرنا سببه.

٢١٣

(سورة القمر وهي مكية حروفها ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون كلماتها ثلاثمائة

واثنتان وأربعون آياتها خمس وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها

٢١٤

فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

القراآت (مُسْتَقِرٌّ) بالجر: يزيد الداعي إلى الداعي بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة وأفق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل فيهما بالياء (يَدْعُ الدَّاعِ) بغير ياء في الحالين (إِلَى الدَّاعِ) في الوصل: قالون. الباقون: بغير ياء في الحالين شيء نكر بسكون الكاف: ابن كثير خاشعا بالألف: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الآخرون (خُشَّعاً) كركع. ففتحنا بالتشديد: ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب وفجرنا بالتخفيف: أبو زيد عن المفضل ونذري وما بعده بالياء في الحالين: يعقوب وأفق ورش وسهل وعباس في الوصل. أو لقي مثل أو «نبئكم» ستعلمون على الخطاب: ابن عامر وحمزة سنهزم بالنون الجمع بالنصب: روح وزيد عن يعقوب.

الوقوف (الْقَمَرُ) ه (مُسْتَمِرٌّ) ه (مُسْتَقِرٌّ) ه (مُزْدَجَرٌ) ه لا بناء على أن قوله (حِكْمَةٌ) بدل من «ما» أو من (مُزْدَجَرٌ النُّذُرُ) ه لا للعطف مع اتصاله المعنى (عَنْهُمْ) م لأنه لو وصل لأوهم أن الظرف متصل به وليس كذلك بل هو ظرف (يَخْرُجُونَ نُكُرٍ) ه لا لاتصال الحال بالظرف من قبل اتحاد عاملهما (مُنْتَشِرٌ) ه لا لأن (مُهْطِعِينَ) حال بعد حال (الدَّاعِ) ط (عَسِرٌ) ه (وَازْدُجِرَ) ه (فَانْتَصِرْ) ه (مُنْهَمِرٍ) ه ز للعطف مع اتحاد مقصود الكلام (قُدِرَ) ه ج للعارض من الجملتين المتفقتين وللآية مع احتمال الحال أي وقد حملناه (وَدُسُرٍ) ه لا لأن (تَجْرِي) صفة لها (بِأَعْيُنِنا) ج لأن جزاء مفعول له أو مصدر لفعل محذوف (كُفِرَ) ه (مُدَّكِرٍ) ه (وَنُذُرِ) ه (مُدَّكِرٍ) ه (وَنُذُرِ) ه (مُسْتَمِرٍّ) ه لا لأن ما بعده صفة الناس لا لأن (كَأَنَّهُمْ) حال (مُنْقَعِرٍ) ه (وَنُذُرِ) ه (مُدَّكِرٍ) ه (بِالنُّذُرِ) ه (نَتَّبِعُهُ) لا لتعلق «إذا» بها (وَسُعُرٍ) ه (أَشِرٌ) ه (الْأَشِرُ) ه (وَاصْطَبِرْ) ه لا للعطف (بَيْنَهُمْ) ج لأن كل مبتدأ مع أن الجملة من بيان ما تقدم (مُحْتَضَرٌ) ه (فَعَقَرَ) ه (وَنُذُرِ) ه (الْمُحْتَظِرِ) ه (مُدَّكِرٍ) ه (بِالنُّذُرِ) ه (لُوطٍ) ط

٢١٥

لأن الجملة لا تصلح صفة للمعرفة (بِسَحَرٍ) ه لا (عِنْدِنا) ط (شَكَرَ) ه (بِالنُّذُرِ) ه (وَنُذُرِ) ه (مُسْتَقِرٌّ) ه ج للفاء أي فقيل لهم ذقوا (وَنُذُرِ) ه (مُدَّكِرٍ) ه (النُّذُرُ) ه ج لاتصال المعنى بلا عطف (مُقْتَدِرٍ) ه (فِي الزُّبُرِ) ه ج لأن ما بعده يصلح استفهام إنكار مستأنف ويصلح بدلا عن «أم» قبلة (مُنْتَصِرٌ) ه (الدُّبُرَ) ه (وَأَمَرُّ) ه (وَسُعُرٍ) ط بناء على أن (يَوْمَ) ليس ظرفا لضلال وإنما هو ظرف لمحذوف أي يقال لهم ذقوا (وُجُوهِهِمْ) ط (سَقَرَ) ه (بِقَدَرٍ) ه (بِالْبَصَرِ) ج (مُدَّكِرٍ) ه (الزُّبُرِ) ه (مُسْتَطَرٌ) ه (وَنَهَرٍ) ه لا لأن ما بعده بدل (مُقْتَدِرٍ) ه.

التفسير: أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) [النجم: ٥٧] إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب وهو قوله (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فانشق القمر مرتين. وعن ابن عباس: انفاق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا قول أكثر المفسرين. وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله. ، وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك. وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر. وأيضا إنه سبحانه جعل انشقاق القمر آية من الآيات لرسوله ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له ، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب. وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول: إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي. هذا مع أن استدلالهم على امتناع الخرق في السماويات لا يتم كما بينا في الحكمة. وكيف يدل انشقاق القمر على اقتراب الساعة نقول: من جهة إن ذلك يدل على جواز انخراق السماويات وخرابها خلاف ما زعمه منكرو الحشر من الفلاسفة وغيرهم. ومن هاهنا ظن بعضهم وإليه ميل الإمام فخر الدين الرازي أن المراد باقتراب الساعة ليس هو القرب الزماني وإنما المراد قربها في العقول وفي الأذهان كأنه لم يبق بعد ظهور هذه الآية للمنكر مجال. واستعمال لفظ الاقتراب هاهنا مع أنه مقطوع به كاستعمال «لعل» في قوله (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب: ٦٣] والأمر عند الله معلوم. قال: وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل لئلا يبقى للكافر مجال الجدال فإنه قد مضى

٢١٦

قرب سبعمائة سنة ولم تقم الساعة ولا يصح إطلاق لفظ القرب على مثل هذا الزمان. والجواب أن كل ما هو آت قريب وزمان العالم زمان مديد والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير قال أهل اللغة: في «افتعل» مزيد تشجم ومبالغة فمعنى اقترب دنا دنوا قريبا ، وكذلك اقتدر أبلغ من قدر. ثم بين أن ظهور آيات الله لا يؤثر فيهم بل يزيد في عنادهم وتمردهم حتى سموها سحرا مستمرا أي دائما مطردا كأنهم قابلوا ترادف الآيات وتتابع المعجزات باستمرار السحر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي كل أوان بمعجزة قولية أو فعلية سماوية أو أرضية. وقيل: هو من قولهم «حبل مرير الفتل» من المرة وهي الشدة أي سحر قوي محكم. وقيل: من المرارة يقال: استمر الشيء إذا اشتد مراراته أي سحر مستبشع مر في مذاقنا. وقيل: مستمر أي مار ذاهب زائل عما قريب. عللوا أنفسهم بالأماني الفارغة فخيب الله آمالهم بإعلاء الدين وتكامل قوته كل يوم. والظاهر أن قوله (وَإِنْ يَرَوْا) إلى آخر الآية. جملة معترضة بيانا لما اعتادوه عند رؤية الآيات. وقوله (وَكَذَّبُوا) عطف على قوله (اقْتَرَبَتِ) كأنهم قابلوا الاقتراب والانشقاق بالتكذيب واتباع الأهواء. والمعنى وكذبوا بالأخبار عن اقتراب الساعة (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في أن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر أو كاهن أو كذبوا بانشقاق القمر واتبعوا آراءهم الفاسدة في أنه خسوف عرض للقمر وكذلك كل آية (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) صائر إلى غاية وأن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصير إلى حد يعرف منه حقيقته وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان. ومن قرأ بالجر فلعطف (كُلُ) على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر وبين حاله. ثم أشار بقوله (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب القيامة وأقام الدليل على صدقه ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة. وفي كل ذلك (مُزْدَجَرٌ) لهم أي ازدجار أو موضع ازدجار ومظنة ادكار وهو افتعال من الزجر قلبت التاء دالا. وقوله (حِكْمَةٌ) يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا الترتيب في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان فما تغنى نفي أو استفهام إنكار معناه أنك أتيت بما عليك من دعوى النبوة مقرونة بالآية الباهرة وأنذرتهم بأحوال الأقدمين فلم يفدهم فأي غناء تغنى النذر أي الإنذارات بعد هذا (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك أن الإنذار لا يفيد فيهم ولا يظهر الحق لهم إلى يوم البعث والنشور. والداعي إسرافيل أو جبريل ينادي إلى شيء منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وتخصيص المدعوين بالكافرين من حيث إنهم هم الذين يكرهون ذلك اليوم من ضيق العطن قوله (خاشِعاً) حال من الخارجين والفعل للأبصار. وليس قراءة من قرأ (خُشَّعاً) على الجمع من باب «أكلوني

٢١٧

البراغيث» كما ظن في الكشاف ، ولكنه أحسن من ذلك ولهذا تواترت قراءته لعدم مشابهة الفعل صورة. تقول في السعة «قام رجل قعود غلمانه» وضعف «قاعدون» وضعف منه «يقعدون» لأن زيادة الحرف ليست في قوة زيادة الاسم. وجوز أن يكون في (خُشَّعاً) ضميرهم ويقع أبصارهم بدلا عنه. وخشوع الأبصار سكونها على هيئة لا تلتفت يمنة ويسرة كقوله (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم: ٤٣] والأجداث القبور شبههم بالجراد المنتشر للكثرة والتموج والذهاب في كل مكان. وقيل: المنتشر مطاوع أنشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب فيكون إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعف حالهم. ومعنى مهطعين مسرعين وقد مر في إبراهيم عليه‌السلام.

ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة ، قوله (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) بعد قوله (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحا. ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيبا عقيب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب. وقوله (عَبْدَنا) تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه (وَقالُوا) هو (مَجْنُونٌ) وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ ما أمر به. وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب. وقيل: غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي (فَانْتَصِرْ) منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبوابا وفيها مياها. وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة انصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل «جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب». والباء للآلة نحو: فتحت الباب بالمفتاح. ونظيره قول القائل «يفتح الله لك بخير». وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدما في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيرا يأتي ويفتح لك الباب. ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصب في كثرة وتتابع أربعين يوما. قال علماء البيان: قوله (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أبلغ من أن لو قال «وفجرنا عيون الأرض» أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم: ٤] وقد مر (فَالْتَقَى الْماءُ) أي جنسه يعني مياه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ فالتقى الماءان (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي على حال قدرها الله عزوجل كيف شاء ، أو على حال جاءت

٢١٨

مقدرة متساوية أي قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض ، ولعله إشارة إلى أن ماء الأرض ينبع من العيون حتى إذا ارتفع وعلا لقيه ماء السماء. ويحتمل أن يقال: اجتمع الماء على أمر هلاكهم وهو مقدر في اللوح و (ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) هي السفينة وهي من الصفات التي تؤدي مؤدى الموصوف فتنوب منابه. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه. والدسر المسامير جمع دسار من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه. فعلنا كل ما ذكرنا من فتح أبواب السماء وغيره (جَزاءً) أو جزيناهم جزاء (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح عليه‌السلام لأن وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة من الله وتكذيبه كفرانها. يحكى أن رجلا قال للرشيد: الحمد لله عليك. فسئل عن معناه قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. والضمير في (تَرَكْناها) للسفينة أو للفعلة كما مر في «العنكبوت» (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الآية: ١٥] والمدكر المعتبر وأصله «مذتكر» افتعال من الذكر والاستفهام فيه وفي قوله (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي إنذاراتي للتوبيخ والتخويف (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية. وقيل: للحفظ والأول أنسب بالمقام. وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن. سؤال: ما الحكمة في تكرير ما كرر في هذه السورة من الآي؟ والجواب أن فائدته تجديد التنبيه على الادكار والاتعاظ والتوقيف على تعذيب الأمم السالفة ليعتبروا بحالهم ، وطالما قرعت العصا لذوي الحلوم وأصحاب النهي وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عد كل نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عد كل آية لتكون مصورة للأذهان محفوظة في كل أوان. ونفس هذه القصص كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب لأن التكرير يوجب التقرير والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لمن يعرف من غيره ، وإنما كرر قوله (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) مرتين في قصة عاد لأن الاستفهام الأول أورده للبيان كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلا فيقول: كيف هي؟ فيقول المعلم: إنها كذا وكذا. والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. فأما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار وفي قصة نوح اقتصر على الثاني لذلك. ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم وقولهم (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: ١٥] وقد مر في حم السجدة تفسير الصرصر والأيام النحسات. وإنما وحد هاهنا لأنه أراد مبدأ الأيام ووصفه بالمستمر أغنى عن جمعه أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. قيل: استمر عليهم جميعا على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة. وقيل: المستمر الشديد المرارة. (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم عن أماكنهم فتكبهم وتدق رقابهم

٢١٩

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) منقلع عن مغارسه. وفي هذا التشبيه إشارة إلى جثثهم الطوال العظام ، ويجوز أن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس كأعجاز النخل أصولا بلا فروع. قال النحويون: اسم الجنس الذي تميز واحده بالتاء جاز في وصفه التذكير كما في الآية ، والتأنيث كما في قوله (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة: ٧] هذا مع أن كلا من السورتين وردت على مقتضى الفواصل. قوله (أَبَشَراً) من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير وإنما أولى حرف الاستفهام ليعلم أن الإنكار لم يقع على مجرد الاتباع ولكنه وقع على اتباع البشر الموصوف وأنه من جهات إحداها كونه بشرا وذلك لزعمهم أن الرسول لا يكون بشرا. الثانية كونه منهم وفيه بيان قوة المماثلة ، وفيه بيان مزيد استكبار أن يكون الواحد منهم مختصا بالنبوة مع أنهم أعرف بحاله. الثالثة كونه واحدا ، أي كيف تتبع الأمة رجلا أو أرادوا أنه واحد من الآحاد دون الأشراف. والسعر النيران جميع سعير للمبالغة ، أو لأن جهنم دركات ، أو لدوام العذاب كأن يقول: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وفي سعر فعكسوا عليه قائلين: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول. وقيل: الضلال البعد عن الصواب ، والسعر الجنون ومنه «ناقة مسعورة» وفي قوله (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) تصريح بما ذكرنا من أن واحدا منهم كيف اختص بالنبوة. وفي الإلقاء أيضا تعجب آخر منهم وذلك أن الإلقاء إنزال بسرعة كأنهم قالوا: الملك جسم والسماء بعيدة فكيف نزل في لحظة واحدة؟ أنكروا أصل الإلقاء ثم الإلقاء عليه من بينهم. والأشر البطر المتكبر أي حمله بطره وشطارته على ادعاء ما ليس له. ثم قال سبحانه تهديدا لهم ولأمثالهم (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أي فيما يستقبل من الزمان هو وقت نزول العذاب أو يوم القيامة (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) بالتشديد أي الأبلغ في الشرارة. وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول: هو أخير وأشر. وذلك أصل مرفوض. ومن قرأ ستعلمون على الخطاب فإما حكاية جواب صالح أو هو على طريقة الالتفات. ثم إنه تعالى خاطب صالحا بقوله (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي مخرجوها من الصخرة كما سألوا فتنة وامتحانا لهم. (فَارْتَقِبْهُمْ) وتبصر ما هم فاعلون بها (وَاصْطَبِرْ) على إيذائهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ) أي مقسوم (بَيْنَهُمْ) خص العقلاء بالذكر تغليبا (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) فيه يوم لها ويوم لهم كما قال عز من قائل (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء: ١٥٥] وقد مر في «الشعراء». وقال في الكشاف: محضور لهم وللناقة وفيه إبهام. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في شربها (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) وهو قدار نداء المستغيث وكان أشجع وأهجم على الأمور أو كان رئيسهم. (فَتَعاطى) فاجترأ على الأمر العظيم فتناول العقر وأحدثه بها أو تعاطى الناقة أو السيف أو

٢٢٠