تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

(سورة الكافرون مكية

حروفها أربعة وتسعون

كلمها ست وعشرون

آياتها ست)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

القراآت (عابِدُونَ) وما بعده بالإمالة قتيبة والحلواني عن هشام ولي الدين بالفتح: نافع غير إسماعيل وحفص والمفضل وهشام وزمعة عن ابن كثير وديني بالإسكان في الحالين: يعقوب وأفق سهل وعباس في الوصل.

الوقوف: (الْكافِرُونَ) ه لا (ما تَعْبُدُونَ) ه لا (أَعْبُدُ) ه ج للتكرار مع العطف (عَبَدْتُّمْ) ه لا (أَعْبُدُ) ه ط (دِينِ) ه.

التفسير: هذه السورة تسمى أيضا سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة. وروي «من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن» (١) فأوّلها العلماء بأن القرآن فيه مأمورات ومنهيات ، وكل منهما إمّا أن يتعلق بالقلب والجوارح ، وإما أن يتعلق بالجوارح ، وهذه السورة تتضمن القسم الثالث أعني النهي المتعلق بالقلب فكانت ربعا لما يتعلق بالتكاليف من القرآن بل ربعا للقرآن لأن المقصود الأصلي من المواعظ والقصص وغيرها هو التزام التكاليف كما قال سبحانه (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: ٥٦] يروى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: تعال حتى نعبد إلهك مدّة وتعبد إلهنا مدّة فيحصل الصلح بيننا وبينك وتزول العداوة من بيننا ، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا ، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا فنزلت هذه السورة ونزل قوله (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر: ٦٤] فتارة وصفهم بالجهل وتارة خاطبهم بالكفر ، فالجهل كالشجرة والكفر كالثمرة ، ولكن الكفر أشنع من

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ١٤٧ ، ٢٢١).

٥٨١

الجهل ، فقد يكون الجهل غير ضارّ كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في علم الأنساب «علم لا ينفع ولا يضر» ولهذا خصت السورة بهذا الخطاب لأنها بأسرها فيهم. وروي عن علي عليه‌السلام أن «يا» نداء النفس و «أي» نداء القلب و «ها» نداء الروح. وبوجه آخر «يا» للغائب و «أي» للحاضر و «ها» للتنبيه. كان الله تعالى يقول أدعوك ثلاثا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك بحقي. ثم الخطاب مع جميع الكفار أو مع بعضهم ، وعلى الأول يدخله التخصيص لا محالة لأن فيهم من يعبد الله كأهل الكتاب فلا يجوز أن يقول لهم (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وفيهم من آمن بعد ذلك فلا يجوز أن يخبر عنهم بقوله (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وعلى الثاني يكون خطابا لبعض الكفرة المعهودين الحاضرين وهو الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة ، ولا يلزم التخصيص فيكون أولى. أما ظاهر التكرار الذي وقع في هذه السورة ففيه قولان: أحدهما أنه للتأكيد وأىّ موضع أحوج إلى التأكيد من هذا المقام فإنهم رجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما طلبوا منه مرارا ، وسكت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجواب فوقع في قلوبهم أنه قد مال إلى دينهم بعض الميل. وروي أنهم ذكروا قولهم تعبد إلهنا مدة ونعبد إلهك مدة مرتين ، فأجيبوا مكررا على وفق قولهم وهو نوع من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد قد يجاب عنه بنفيه مكررا للاستخفاف وحسم مادة الطمع. القول الثاني: إن الأول للمستقبل وعلامته لا التي هي للاستقبال بدليل أن «لن» نفي للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد. وزعم الخليل أن أصله «لا أن» والثاني للحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. ثم قال (وَلا أَنا عابِدٌ) في الحال (ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ) في الحال بعابدين لمعبودي. وعلى هذا القول زعم بعضهم أن الأمر بالعكس إذ الترتيب أن ينفى الحال أوّلا ثم الاستقبال ، وللأولين أن يجيبوا بأنهم إنما دعوه إلى عبادة غير الله في الاستقبال فكان الابتداء به أهم. وفائدة الإخبار عن الحال وكان معلوما أنه ما كان يعبد الصنم والكفار كانوا يعبدون الله في بعض الأحوال هي أن لا يتوهم أحد أنه يعبد غير الله سرا خوفا أو طمعا ، وعبادة الكفار لم تكن معتدّا بها لأجل الشرك. ولأبي مسلم قول ثالث وهو أن ما في الأولين بمعنى الذي ، وأما في الآخرين فمصدرية أي ولا أنا عابد عبادتكم المبنية على الإشراك ، ولا أنتم عابدون عبادتي المبنية على اليقين. ووجه رابع وهو أن يحمل الأول على نفي الالتماس الصادر عنهم ، والآخر على النفي المطلق العام المتناول لجميع الجهات كمن يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعم فيقول: لا أظلم لغرض التنعم بل لا أظلم رأسا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض. قوله (ما تَعْبُدُونَ) ليس فيه إشكال إنما الإشكال فى قوله (ما أَعْبُدُ)

٥٨٢

فأجيب بعد تسليم أن «ما» ليست أعم بأن المراد به الصفة كأنه قيل: لا أعبد الباطل ولكن أعبد الحق ، أو هي «ما» المصدرية على نحو ما مر ، أو هي للطباق كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) [الشورى: ٤٠] فإن قيل: لما كان المقام مقام التأكيد والمبالغة ولهذا كرر ما كرر فلم لم يقل «لن أعبد» كما قال أصحاب الكهف لن ندعو من دونه إلها [الكهف: ١٤] قلت: إن أصحاب الكهف كانوا متهمين بعبادة الأصنام لأنه قد وجد منهم ذلك قبل أن أرشدهم الله ، وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متهما بذلك قط فلم يحتج إلى المبالغة بـ «لن». ثم أوّل السورة لما اشتمل على التشديد البليغ وهو النداء بالكفر والتكرير فاشتمل آخرها على اللطف من بعض الوجوه كأنه قال: قد بالغت في منعكم من هذا الأمر القبيح فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء. قال ابن عباس: لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص. ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن السورة منسوخة بآية القتال. والمحققون على أنه لا نسخ بل المراد التهديد كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت: ٤٠] وقيل: الدين الجزاء. وقيل: المضاف محذوف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني. وقيل: الدين العبادة.

٥٨٣

(سورة النصر مدنية وقيل مكية حروفها تسعة وتسعون

كلمها تسع وعشرون آياتها ثلاث)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

الوقوف: (وَالْفَتْحُ) ه (أَفْواجاً) ه لا (وَاسْتَغْفِرْهُ) ط (تَوَّاباً) ه.

التفسير: السورة المتقدمة اشتملت على نصرة الله بقوله (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون: ١] وعلى فتح مكة القلب بعسكر التوحيد ، وعلى تسخير جميع القوى البدنية في طاعة خالقها بقوّة البراءة عن الأديان الباطلة كلها فقال الله سبحانه: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) فتح مكة في الظاهر وسخرت قواك لطاعتي فجازيناك بدخول الناس في دين الله أفواجا. ثم إنه قابل هذه الخلع الثلاث بحكم تهادوا تحابوا بثلاثة أنواع من العبودية إن نصرتك فسبح تنزيها لفعلي عن مشابهة المحدثات وتنبيها على أن لا يستحق أحد عليّ شيء ، وإذا فتحت مكة فاحمد لأن النعمة يجب مقابلتها بالحمد ، وإذا رأيت الناس قد أطاعوك فاستغفر لذنبك وهو الاشتغال بما عسى أن يقع من لذة الجاه والقبول وللمؤمنين والمؤمنات ، لأنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر وكان احتياجهم إلى الاستغفار أشد. وقوله (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) معناه لا تذهب إلى النصر بل النصر يجيء إليك نظيره «زويت لي الأرض» يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك ، ولا ترحل إلا إلى مقام قاب قوسين (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء: ١] بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا ، فإذا بقي الفقراء من غير مطية أسوق الجنة إليهم (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق: ٣١] وإنما قال في السورة المتقدّمة (ما أَعْبُدُ) [الكافرون: ٣] وهاهنا قال (نَصْرُ اللهِ) إشارة إلى أنه يجب أن لا يذكر اسمي مع الأعداء حتى لا يهينوه ولكن اذكر اسمي مع الأحباب حتى يكرموه. والفرق بين النصر والفتح أن النصر أي الإعانة على تحصيل المطلوب هو الطريق ،

٥٨٤

والفتح هو المقصود ، ولهذا قدم الأول على الثاني. وقيل: النصر كمال الدين والفتح الإقبال الدنيوي له ولأمته كقوله (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة: ٣] وقيل: النصر هو الظفر على المنى في الدنيا والفتح في الآخرة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر: ٧٣] وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا منصورا بالدلائل والمعجزات إلا أن الغلبة على قريش بل على أكثر العرب لما حصلت في هذا التاريخ صح التقييد به. ثم إن جمهور المفسرين ومنهم ابن عباس ذكروا أن الفتح هو فتح مكة الذي يقال له فتح الفتوح. يروى أن فتح مكة كان سنة ثمان ونزول السورة سنة عشر ولم يعش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها إلا سبعين يوما ولذلك تسمى سورة التوديع ، وقد اتفق أكثر الصحابة على أنها دلت على نعي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمه بعض الصحابة منها ،وخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها فقال: إن عبدا خيرّه الله بين الدنيا وبين لقائه في الآخرة فاختار لقاء الله. قالوا: ومما يدل عليه أنه ذكر مقرونا بالنصرة وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر ، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم. أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران ، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على باب المسجد وقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خير ، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فسموا بذلك. وقيل: فتح خيبر. وقيل: فتح الطائف. وعن أبي مسلم: النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق. وقيل: انشراح الصدر للخيرات والأعمال الفاضلة ، والفتح انفتاح أبواب المعارف والكشوف. أما الذين قالوا إن الفتح فتح مكة وكان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذا فالآية من جملة المعجزات لأنها إخبار بالغيب وقد وقع. واللام في الفتح بدل من الإضافة كأنه قيل: وفتح الله. قوله (وَرَأَيْتَ) ظاهره أنها رؤية القلب ، وجوز أن تكون رؤية البصر فيكون (يَدْخُلُونَ) حالا. وظاهر لفظ الناس يقتضي العموم فيجب أن يقدر غيرهم كالنسناس بدليل قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) [الأعراف: ١٧٩] وسئل الحسن بن عليّ فقال: نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس ، فقبّله عليّ بين عينيه وقال (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام: ١٢٤] قيل: إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس؟ وأجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية سبعين سنة فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه كأن الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة فإن مات على كفره وقع في النار وضاع إحساني إليه في سبعين سنة. ويروى أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان: أتيت وإن كنت قد أبيت. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٨٥

«لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد والظمآن الواردة» (١) ويجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن على ما روي عن أبي هريرة انه لما نزلت السورة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: الله أكبر جاء نصر الله والفتح. وجاء «أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم» الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية» (٢) وقال «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» (٣) قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين: إن إيمان المقلد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه. ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل ولا صفات الكمال ونعوت الجلال ، وكونه سبحانه متصفا بها منزها عن غيرها ولا ثبوت المعجز التام على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا وجه دلالة المعجزة على النبوة. وعن الحسن: لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قالت العرب: لا يدي لنا به فقد ظفر بأهل مكة وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وكل من أرادهم بسوء فأخذوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال. ولا شك أن هذا القدر مما يفيد غلبة الظن فقط. والفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين. وروي أن جابر بن عبد الله بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول: دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا. ثم إنه أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة: ٢١٤] فأمر بالتسبيح تنزيها لله عما لا يليق بكماله وحكمته وعنايته بخلقه ، وأمر أن يكون التسبيح مقرونا بالحمد لأن المقام يستدعي تذكير النعمة وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال ، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال ، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق فالاستغفار عكسه وهو التفات عن الخلق إلى الحق. وإنما قهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن كل كمال فإنه يدل على زوال كما قيل:

إذا تم أمر يدا نقصه

توقع زوالا إذا قيل تم

ويمكن أن يقال: إنه أمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا. ولا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ وبأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح

__________________

(١ ، ٢) رواه البخاري في كتاب المغازي باب ٧٤. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٨٢ ، ٨٤ ، ٨٩. الترمذي في كتاب المناقب باب ٧١. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٥ ، ٢٥٢) (٣ / ١٠٥) (٤ / ١٥٤).

(٣) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٤١).

٥٨٦

الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم وكمل بسبب الموت والإلزام العزل. روت عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. وفي رواية: كان يكثر أن يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي. وفي رواية أخرى كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من قول «سبحان الله وبحمده» قال: إني أمرت بها وقرأ السورة. وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم. وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار وفي معنى الباء في قوله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) وجوه للمفسرين منها: أن المراد قل سبحان الله والحمد لله تعجبا مما أراك من مقصودك. يقال: شربت اللبن بالعسل أي خلطتهما فشربت المخلوط. ومنها أن الباء للآلة أي سبحه بواسطة تحميده لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص ، والدليل عليه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلا الحمد لله الذي نصر عبده. ومنها أن المراد فسبح متلبسا بالحمدلة لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظا فاجمعهما نية. وقيل: سبحه مقرونا بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول: الحمد لله على الحمد لله. وقيل: الباء للبدل أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح لأن الحمد لا حصر له (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم: ٣٤] وقيل: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور كما لو ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع. وقيل: الباء صلة أي طهر محامد ربك عن النقائص والرياء. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد ، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال ، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء وإما لترك الأولى والأفضل ، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها. وفي قوله (تَوَّاباً) دون أن يقول «غفارا كما في سورة نوح إشارة إلى أن هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هذه الأمة امتثلوا فاستغفروا وتابوا فوجب على فضل الله قبول توبتهم بخلاف قوم نوح.

٥٨٧

(سورة تبت مكية حروفها أحد وثمانون كلمها ثلاث وعشرون آياتها خمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

القراآت : أبي لهب بسكون الهاء: ابن كثير سيصلى بضم الياء: البرجمي (حَمَّالَةَ) بالنصب: عاصم (جِيدِها) ممالة: نصير.

الوقوف : (وَتَبَ) ه (كَسَبَ) ه (لَهَبٍ) ج ه لاحتمال كون (وَامْرَأَتُهُ) مبتدأ خبره (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أو (فِي جِيدِها) إلى آخره واحتمال كونه عطفا على ضمير (سَيَصْلى) والأوجه الوصل (وَامْرَأَتُهُ) ه لمن قرأ (حَمَّالَةَ) بالنصب على الذم ، ويجوز الوقف لمن قرأ بالرفع أيضا على تقدير هي حمالة الحطب. ومن قرأ (حَمَّالَةَ) بالنصب فله أن يصل (ذاتَ لَهَبٍ) بما بعده ويقف على (مَسَدٍ مَسَدٍ) ه.

التفسير: لما أخبر عن فتح الولي وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبه على مآل حال العدو في الدارين. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: ٢١٤] فصعد الصفا ونادى: يا آل غالب فخرجت إليه من المسجد. فقال أبو لهب: هذه غالب قد أتتك فما عندك؟ ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ فقال يا آل ـ كلاب ثم قال بعده: يا آل قصي فقال أبو لهب: هذه قصي قد أتتك فما عندك ، ثم قال: إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين وأنتم الأقربون ، إني لا أملك لكم من الدنيا حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد لكم بها عند ربكم. فقال أبو لهب عليه اللعنة: تبا لك ألهذا دعوتنا؟ فنزلت السورة. وقيل: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع أعمامه وقدم إليهم طعاما في صحفة فاستحقروه وقالوا: إن أحدنا يأكل الشاة فقال: كلوا فأكلوا فشبعوا ولم ينتقص من الطعام إلا قليل. ثم قالوا فما عندك؟ فدعاهم إلى الإسلام. فقال أبو لهب ما

٥٨٨

قال. وروي أنه قال أبو لهب: فما لي إن أسلمت؟ فقال: ما للمسلمين. فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: وبماذا تفضل؟ فقال: تبا لهذا الدين الذي يستوي فيه أنا وغيري فنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) التباب الهلاك كقوله (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) [غافر: ٣٧] وقيل: الخسران المفضي إلى الهلاك. وقيل: الخيبة. وقال ابن عباس: لأنه كان يدفع قائلا إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم ، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهما فلم يقبل قوله في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه. قالوا: ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول: انصرف راشدا فإنه مجنون. ويروى أنه أخذ حجرا ليرمي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى السوق يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد آدمي عقبيه وقال: لا تطيعوه إنه كذاب. فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمد وعمه أبو لهب. وقال أهل المعاني: أراد باليدين الجملة كقوله (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج: ١٠] لأن أكثر الأعمال إنما تعمل باليد ، فاليمين كالسلاح واليسار كالجنة ، بالأولى يجر المنفعة وبالأخرى يدفع المضرة. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاه نهارا فأبى ذهب إلى داره ليلا مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا ، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا. فجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت. فقال: لا أو من بك أو يؤمن هذا الجدي. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجدي. من أنا؟ فقال: أنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب وأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر. فقال الجدي: بل تبت يداك فنزلت السورة على وفق ذلك لتمزيقه يدي الحيوان الشاهد بالحق الناطق بالصدق. وفي ذكر أبي لهب بالكنية الدالة على التعظيم المنبئة عن شبهة الكذب إذ لم يكن له ولد مسمى بلهب وجوه منها: أن الكنية قد تصير اسما بالغلبة فلا تدل على التعظيم ، وإيهام الكذب منتف لأنهم يريدون بها التفاؤل فلا يلزم منه أن يحصل له ولد يسمى بلهب. ومنها أن اسمه كان عبد العزي فكان الاحتراز عن ذكره أولى. ومنها أنه إشارة إلى أنه من أهل النار كما يقال «أبو الخير» لمن يلازمه. وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي‌الله‌عنه «يا أبا تراب» لتراب لصق بظهره. وقيل: سمي بذلك لتلهب وجنتيه فسماه الله تعالى بذلك تهكما ورمزا إلى مآل حاله وفي قوله (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) قال أهل الخطابة: إنما لم يقل في أوّل هذه السورة «قل تبت» كما قال (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون: ١] لئلا يشافه عمه بما يشتد غضبه رعاية

٥٨٩

للحرمة وتحقيقا لقوله (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران: ١٥٩] وأيضا إن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله: يا محمد أجبهم عني (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون: ١] وفي هذه السورة طعنوا في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الله تعالى اسكت أنت فإنيّ أشتمهم (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) وفيه تنبيه على أن الذي لا يشافه السفيه كان الله ذابا عنه وناصرا له. يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتا فجعل الرسول يذبه عنه ويزجر ذلك المؤذي فشرع أبو بكر في الجواب فسكت الرسول فقال أبو بكر: ما السبب في ذلك؟ فقال: لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك ، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان. قال أبو الليث: اللهب واللهب لغتان كالنهر والنهر ولكن الفتح أوجه ، ولهذا قرأ به أكثر القراء. وأجمعوا في قوله (ذاتَ) (لَهَبٍ) على الفتح رعاية للفاصلة. وفي دفع التكرار عن قوله (وَتَبَ) وجوه منها: أن الأول دعاء والثاني إخبار ويؤيده قراءة ابن مسعود و «قد تب» ، ومنها أن الأول إخبار عن هلاك عمله لأن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه باليد ، والثاني إخبار عن هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم. وقيل: الأول إهلاك ما له فقد يقال للمال ذات اليد ، والآخر هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم. وقيل: الأول نفسه والثاني ولده عتبة على ما روي أن عتبه ابن أبي لهب خرج إلى الشام مع ناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة: بلغوا عني محمدا أني كفرت بالنجم إذا هوى. وروي أنه قال ذلك في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفل في وجهه وكان مبالغا في عداوته فقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز دائما فسار ليلة من الليالي إلى قريب من الصبح فقال له أصحابه: هلكت الركاب. فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب فأناح الإبل حوله كالسرادق فسلط الله الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه. فقوله (تَبَّتْ) قبل هذه الواقعة على عادة إخبار الله تعالى في جعل المستقبل كالماضي المحقق. والفرق بين المال والكسب من وجوه أحدها: أن المال عني به رأس المال والمكسوب هو الربح. وثانيها أراد الماشية والذي كسبه من نسلها وكان صاحب النعم والنتاج. وثالثها أريد ماله الموروث والذي كسبه بنفسه. وعن ابن عباس: المكسوب الولد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» (١) روي أنه لما مات تركه أبناؤه ليلتين أو ثلاثا حتى أنتن في بيته لعلة كانت به خافوا عدواها. وقال الضحاك وقتادة: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة الرسول وسائر أعماله التي ظن أنه منها

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب البيوع باب ١. ابن ماجه في كتاب التجارات باب ١. الدارمي في كتاب البيوع باب ٦. أحمد في مسنده (٦ / ٣١ ، ٤٢ ، ١٢٧).

٥٩٠

على شيء كقوله (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) [الفرقان: ٢٣] وفي قوله (أَغْنى) بلفظ الماضي تأكيد وتحقيق على عادة إخبار الله تعالى وقد زاده تأكيدا بقوله (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) وطالما استدل به أهل السنة في وقوع تكليف ما لا يطاق قائلين إنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار ، فقد صار مكلفا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن وهو تكليف بالجمع بين النقيضين. وأجيب بأنه كلف بتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط لا بتصديقه وعدم تصديقه حتى يجتمع النقيضان ، وغاية ذلك أنهم كلفوا بالإيمان بعد علمهم بأنهم لا يؤمنون وليس فيه إلا انتفاء فائدة التكليف ، لأن فائدة التكليف بما علم الله لا يكون هو الابتلاء وإلزام الحجة وهذا لا يتصور بعد أن يعلم المكلف حاله من امتناع صدور الفعل عنه ، والتكليف من غير فائدة جائز عندكم لأن أفعاله تعالى غير معللة بغرض وفائدة على معتقدكم. ثم إن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية كانت في غاية العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن المفسرين من قال: كانت تحمل الشوك والحطب وتلقيهما بالليل في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلعلها مع كونها من بيت العز كانت خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب لتلقيه في طريق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم من هؤلاء من زعم أن الحبل اشتد في جيدها فماتت بسبب الاختناق ، فقوله (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) يحتمل على هذا أن يكون دعاء عليها وقد وقع كما أريد وكان معجزا. ومنهم من قال: عيرها بذلك تشبيها لها بالحطابات وإيذاء لها ولزوجها. وعن قتادة أنها كانت تعير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر فعيرها بأنها كانت تحتطب. والأكثرون على أن المراد بقوله (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أنها كانت تمشي بالنميمة يقال للنمام المفسد بين الناس إنه يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النائرة. ويقال للمكثار هو كحاطب ليل. وقال أبو مسلم وسعيد بن جبير: أراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان كالحطب في مصيره إلى النار نظيره (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [الأحزاب: ٥٨] (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) [العنكبوت: ١٣] يروى عن أسماء أنه لما نزلت السورة جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أبو بكر وهي تقول: مذمما قلينا. ودينه أبينا. وحكمه عصينا فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: إنها لا تراني وقرأ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء: ٤٥] فقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ما هجاك. قالت العلماء: لعل أبا بكر عني بذلك أن الله تعالى قد هجاها ولم يهجها الرسول ، أو اعتقد أن

٥٩١

القرآن لا يسمى هجوا. ثم إن أم جميل ولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. قال الواحدي: المسد في كلام العرب الفتل. يقال: مسد الحبل مسدا إذا أجاد فتله. ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق. والمسد بالتحريك ما مسد أي فتل من أي شيء كان كالليف والخوص وجلود الإبل والحديد. وقد عرفت معنى قوله (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) على رأي بعض أهل التفسير. وقال الآخرون: المعنى أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها في المعنى عند النميمة ، أو في الظاهر حين كانت تحمل الحزمة من الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار.

٥٩٢

(سورة الإخلاص مكية حروفها سبعة وسبعون كلمها خمس عشرة آياتها أربع)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

القراآت: كان أبو عمرو يستحب الوقف على قوله (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وإذا وصل كان له وجهان من القراءة: أحدهما التنوين وكسره ، والثاني حذف التنوين كقراءة عزيز بن الله لاجتماع الساكنين ، وكل صواب وكفؤا بالسكون والهمزة: حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل ورويس عن يعقوب. وكان حمزة يقف ساكنة الفاء ملينة الهمزة ويجعلها شبه الواو اتباعا للمصحف. وقرأ حفص غير الخراز مثقلا غير مهموز. الباقون: مثقلا مهموزا.

الوقوف: (أَحَدٌ) ه ج لاحتمال أن ما بعدها جملة أخرى أو خبران آخران (الصَّمَدُ) ه ج لمثل ذلك (وَلَمْ يُولَدْ) لا (أَحَدٌ) ه.

التفسير: قد وردت الأخبار الكثيرة بفضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن فاستنبط العلماء لذلك وجها مناسبا وهو أن القرآن مع غزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معان فقط: معرفة ذات الله تعالى وتقدّس ، ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده. ولما تضمنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس ، وازنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلث القرآن. وعن أنس أن رجلا كان يقرأ فى جميع صلاته «قل هو الله أحد» فسأله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال: يا رسول الله إني أحبها فقال: حبك إياها يدخلك الجنة. أما سبب نزولها فعن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى هذه السورة. وعن عطاء عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران فقالوا: صف لنا ربك أزبر جد أم ياقوت أم ذهب أم فضة. فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خلق الأشياء فنزلت (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقالوا: هو واحد وأنت واحد فقال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: ١١] قالوا: زدنا من الصفة. قال

٥٩٣

(اللهُ الصَّمَدُ) فقالوا: وما الصمد؟ قال: الذي يصمد الخلق إليه في الحوائج فقالوا: زدنا فقال (لَمْ يَلِدْ) كما ولدت مريم (وَلَمْ يُولَدْ) كما ولد عيسى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) يريد نظيرا من خلقه. ولشرف هذه السورة سميت بأسماء كثيرة أشهرها الإخلاص لأنها تخلص العبد من الشرك أو من النار. وقد يقال لها سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله أو المعرفة لما روى جابر أن رجلا صلى فقرأ السورة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: هذا عبد عرف ربه. أو الجمال لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» (١) ومن كمالات الجميل كونه عديم النظير. أو الأساس لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أسست السموات السبع والأرضون السبع على (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)» وهذا قول معقول لأن القول بالتثليث يوجب خراب السموات والأرض كما قال (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم: ٩٠] فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة العالم. وقد تسمى سورة النسبة لما مر أنها نزلت عند قول المشركين «انسب لنا ربك» فكأنه قيل: نسبه الله هذا. والمانعة لرواية ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به: أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز العرش ، وهي المانعة تمنع فتان القبر ونفحات النيران ، والمحضرة لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ، والمنفرة أي للشيطان ، والراءة أي من الشرك ، وسورة النور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قل هو الله أحد» قلت: وذلك لأن الله تعالى نور الله نور السموات والأرض ، وكما أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة كذلك نور القرآن في أقصر السور سوى «الكوثر». ثم إن العلماء أجمعوا على أن الوحدانية مما يمكن معرفتها بطريق السمع والعقل جميعا وليست كمعرفة ذات الصانع حيث لا يمكن معرفته إلا بطريق العقل فقال أهل العرفان في بيانه: إن العقل يريد عالما كاملا أمينا تودع عنده الحسنات ، والشهوة تريد غنيا تطلب منه المستلذات بل العقل كالإنسان الذي له همة عليه لا تنقاد إلا لمولاه ، والهوى كالمنتجع الذي يطلب غنيا يتكدى منه بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له على النعم السابقة ، والهوى يطلبها ليستفيد منه النعم اللاحقة. فلما عرفاه كما أرادا تعلقا بذيل عنايته فقال العقل: لا أشكر أحدا سواك. وقالت الشهوة: لا أسأل أحدا إلا إياك. فجاءت الشبهة وقالت: يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلا؟ ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل هاهنا بابا آخر؟ فبقي العقل متحيرا وتنغصت

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٤٧. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ١٠. أحمد في مسنده (٤ / ١٣٣ ، ١٣٤).

٥٩٤

عليه راحة المعرفة حين أراد أن يسافر في عالم الاستدلال لتحصيل ربح التوحيد ويغوص في بحر الفكر ليعود بجوهرة النحر ، فأدركته عناية المولى فقال: كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري؟ فبعث إليه رسولا صادقا وقال: لا تقله من عند نفسك فيوقعك الوهم في الشك ولكن اقبله من الصادق الأمين (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والضمير للشأن أي الشأن والحديث الله أحد. هذا قول جمهور النجاة وقريب منه قول الزجاج: إن المراد هذا الذي سألتم عنه الله أحد. وقيل: هو كناية عن الله فيكون كقولك «زيد أخوك قائم» قال الأزهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحد. وقال غيره: الفرق بين الواحد والأحد من ثلاثة أوجه أحدها: أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه. وثانيها أنك إذا قلت «فلان لا يقاومه واحد» جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان. وثالثها أن الواحد يستعمل في الإثبات كقولك «رأيت رجلا واحدا» والأحد يستعمل في النفي نحو «ما رأيت أحدا» فيفيد العموم. قلت: ولعلّ وجه تخصيص الله بالأحد هو هذا المعنى وذلك أنه أبسط الأشياء وكأنك قلت: إنه لا جزء له أصلا بوجه من الوجوه ومن هنا قال بعضهم: إن الأحد يدل على جميع المعاني السلبية ككونه ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز وغير ذلك كما أن اسم الله يدل على مجامع الصفات الإضافية لأن الله اسم للمعبود بالحق واستحقاق العبادة لا يتجه إلا إذا كان مبدأ لجميع ما سواه عالما قادرا إلى غير ذلك. وأما لفظة (هُوَ) فإنها تدل على نفس الذات فتبين أن قوله (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يدل على الذات والصفات جميعا.

وهاهنا لطيفة وهي أن قوله (هُوَ) إشارة إلى مرتبة السابقين الذين لا يرون معه شيئا آخر فيكفي الكناية بالنسبة إليهم ، وأما اسم (اللهُ) فإشارة إلى مرتبة أصحاب اليمين وهم الذين عرفوه بالبرهان مستدلين على الوجوب بالإمكان فهم ينظرون إلى الحق وإلى الخلق جميعا فيحتاجون في التمييز إلى اسمه العلم. وأما «الأحد» فرمز إلى أدون المراتب الإنسانية وهم أصحاب الشمال الذين يثبتون مع الله إلها آخر فوجب التنبيه على إبطال معتقدهم بأن الله أحد لا شريك له أو لا جزء بوجه من الوجوه ، وبعبارة أخرى هو للأخص والله للخواص وأحد للعموم. وأما «الصمد» فقيل: إنّه فعل بمعنى «مفعول» من صمده إذا قصده أي هو السيد المقصود إليه في الحوائج كما مرّ في الحديث الوارد في سبب النزول. وقيل: هو الذي لا جوف له ومنه قولهم لسداد القارورة «صماد» وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة. قال ابن قتيبة: يجوز على هذا التفسير أن تكون الدال بدل التاء في «مصمت». وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة: الصمد هو الأملس من الحجر لا يقبل الغبار ولا يدخله

٥٩٥

شيء ولا يخرج منه شيء. ولا يخفى أن هذين المعنيين من صفات الأجسام حقيقة إلا أن مقدّمة الآية وهي (اللهُ أَحَدٌ) تمنع من حملهما على حقيقتهما لأن كل جسم مركب فوجب الحمل على المجاز وهو أنه لوجوب ذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وسائر صفاته ، ومن هنا اختلفت عبارات المفسرين فعن بعضهم: الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه مبدأ مرجوعا إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك. وعن ابن مسعود والضحاك: هو السيد الذي انتهى سودده. وقال الأصم: هو الخلق للأشياء لأن السيد الحقيقي هو هو. وقال السدي: هو المقصود في الرغائب المستغاث عند المصائب. وقال الحسن بن الفضل: هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال قتادة: لا يأكل ولا يشرب وهو يطعم ولا يطعم. وعن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه أنه يغلب ولا يغلب. وسائر عباراتهم كلها متقاربة تدور حول ما ذكرنا.

سؤال: لم جاء الخبر هاهنا معرفا وفي قوله (اللهُ أَحَدٌ) منكرا؟ الجواب لأنه كان معلوما عندهم أنه غني على الإطلاق ومرجوع إليه في الحوائج (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ) [الزمر: ٨] أما التوحيد فلم يكن ثابتا في أوهامهم بل ركز في أوهام العامة أن كل موجود فإنه محسوس وكل محسوس فهو منقسم فلا جرم جاء لفظ (أَحَدٌ) منكرا ولفظ (الصَّمَدُ) معرفا.

آخر: لم مكرر ثانيا اسم الله ولم يقتصر على ضميره؟ الجواب لما قيل:

هو المسك ما كررته يتضوّع

ولأنه قد سبق ضمير الشأن ولأنه يلزم الاشتراك ، ولما مر أن الإشارة بلفظة «هو» مرتبة الصديقين والخطاب بقوله (اللهُ الصَّمَدُ) لعموم الخلائق والسابقون منهم قليل فاعتبار الأغلب أولى.

آخر: كون الشخص مولودا أقدم من كونه والدا فلم قدم قوله (لَمْ يَلِدْ) على قوله (وَلَمْ يُولَدْ) أجيب بأن النزاع إنما وقع في كونه والدا حين قالت النصارى المسيح ابن الله ، واليهود عزيز ابن الله ، ومشركو العرب الملائكة بنات الله ، بل المتفلسفة الذين قالوا إنه يتولد عن واجب الوجود عقل ، وعن العقل الأول عقل آخر ونفس إلى آخر العقول العشرة والنفوس وهو العقل الفعال المدبر بزعمهم لما دون فلك القمر ، فكان نفي كونه والدا أهم. ثم أشار إلى طريق الاستدلال بقوله (وَلَمْ يُولَدْ) كأنه قال: الدليل على امتناع الوالد اتفاقنا على أنه ما كان ولدا لغيره. وأنا أقول: كون الشخص مولودا اعتبار لمعلوليته ، وكونه والدا

٥٩٦

اعتبار لعليته ، ولا ريب أن اعتبار العلية مقدم على اعتبار المعلولية كما أن العلة بالذات متقدمة على المعلول ، فالسؤال مدفوع. قالوا: وإنما اقتصر على لفظ الماضي لأن النزاع كان واقعا في المسيح وعزيز ونحوهما فوقع قوله (لَمْ يَلِدْ) جوابا عما ادعوه عليه. وأما قوله (وَلَمْ يُولَدْ) فلم يكن مفتقرا إلى هذا التوجيه لأن كل موجود إذا لم يكن مولودا في مبدا تكوّنه فلن يكون مولودا بعد ذلك. وأقول: لعل المراد بقوله (لَمْ يَلِدْ) نفي أن يكون هو ممن شأنه الولادة وهذا المعنى يشمل كل زمان ، وبهذا التفسير لا يصح على العاقر أنه لا يلد ويصح أنه يلد. واعلم أنه سبحانه بين كونه في ذاته وحقيقته منزها عن جميع أنحاء التراكيب بقوله (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم بين كونه ممتنع التغير عما هو عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال بقوله (اللهُ الصَّمَدُ) ثم أراد أن يشير إلى نفي من يماثله وهو إما لا حق وأبطله بقوله (لَمْ يَلِدْ) وإما سابق وأحاله بقوله (وَلَمْ يُولَدْ) وإما مقارن في الوجود وزيفه بقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ويجوز أن يكون الأوّلان إشارة إلى نفي من يماثله بطريق التولد أو التوالد ، والثالث تعميما بعد التخصيص. ويحتمل أن يراد بالأخير نفي المصاحبة لأن المصاهرة تستدعي الكفاءة شرعا وعقلا فيكون ردا على من حكى الله عنهم في قوله (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات: ١٥٨] قاله مجاهد.

سؤال: قد نص سيبويه في كتابه على أن الخبر قد يقدم على الاسم في باب «كان» ولكن متعلق الخبر حينئذ لا يتقدم على الخبر كيلا يلزم العدول عن الأصل بمرتبتين فكيف قدم الصرف على الاسم والخبر جميعا؟ أجاب النحويون عنه بأن هذا الظرف وقع بيانا للمحذوف كأنه قال: ولم يكن أحد فقيل: لمن؟ فأجيب بقوله «له» نظيره قوله (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف: ٢٠] وقوله (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات: ١٠٢].

٥٩٧

(سورة الفلق مكية وحروفها تسع وتسعون كلمها عشر آياتها خمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

الوقوف: (الْفَلَقِ) ه لا (خَلَقَ) ه لا (وَقَبَ) ه لا (الْعُقَدِ) ه لا (حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) ه.

التفسير: لما أمره بقراءة سورة الإخلاص تنزيها له عما لا يليق به في ذاته وصفاته وكان ذلك من أشرف الطاعات ، أمره أن يستعيذ به من شر من يصده عن ذلك كالمشركين وكسائر شياطين الإنس والجن. يروى أن جبرائيل أتاه وقال: إن عفريتا من الجن يكيدك فقل إذا أتيت على فراشك: أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس. وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا ثم أتوه وقالوا: ما أشدّ عضدك وأقوى ظهرك وأنضر وجهك! فأنزل الله المعوّذتين. وقال جمهور المفسرين: إن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر ودسه في بئر ذي أروان ، فمرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتدّ ذلك عليه ثلاث ليال فنزلت المعوّذتان ، وأخبره جبرائيل بموضع السحر فأرسل عليا بطلبه وجاء به وقال جبرائيل: اقرأ السورتين. فكان كلما يقرأ آية تنحل عقدة فيجد بعض الراحة والخفة ، حتى إذا أتمهما فكأنما أنشط من عقال. طعنت المعتزلة في هذه الرواية بأنها توجب تسلط الكفار والأشرار على الأنبياء. وأيضا لو صحت لصح قولهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الإسراء: ٤٧] والجواب أن التسليط الكلي بحيث يمنعه عن تبليغ الرسالة لا يجوز ، ولكن لا نسلم أن بعض الأضرار في بدنه لا يجوز لا سيما وقد تداركه الله تعالى بفضله وخصوصا إذا كان فيه لطف لغيره من أمته حتى يفعلوا في مثل تلك الواقعة كما فعل ، ولهذا استدل أكثر العلماء على أنه يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ ويؤيده ما روي أن رسول

٥٩٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك» (١) وعن ابن عباس كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما بقوله «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّه ومن كل عين لامّه» (٢) ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يقول لابنيه إسماعيل وإسحق. وعنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا من الحمى والأوجاع كلعا «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حرّ النار» (٣) وعن علي رضي‌الله‌عنه كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل على مريض قال «أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت» (٤) وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سافر فنزل منزلا يقول «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرّك ومن شرّ ما فيك وشرّ ما يخرج منك ومن شرّ ما يدب عليك ، وأعوذ بالله من شرّ أسد وأسود وحية وعقرب ، ومن شرّ ساكن البلد ووالد ما ولد» (٥) وعن عائشة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ قل هو الله أحد والمعوّذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وبهاتين السورتين. ثم قال: تعوّذ بهن فما تعوّذت بخير منها. وأما قول الكفار إنه مسحور فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ودام معه فلذلك وقع الإنكار عليهم. ومن الناس من لم يرحض في الرقى لرواية جابر نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرقى وقال «إن لله عبادا لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» (٦) وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها. واختلف في التعليق ؛ فروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من علق شيئا وكل إليه» (٧)

__________________

(١) رواه البخاري في الطب باب ٣٨. مسلم في كتاب السلام حديث ٤٠. أبو داود في كتاب الطب باب ١٩. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٤.

(٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١٠. أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٠. ابن ماجه في كتاب الطب باب ٣٦. أحمد في مسنده (١ / ٢٣٦ ، ٢٧٠).

(٣) رواه الترمذي في كتاب الطب باب ٢٦. ابن ماجه في كتاب الطب باب ٣٧. أحمد في مسنده (١ / ٣٠٠).

(٤) رواه البخاري في كتاب الطب باب ٣٨ ، ٤٠. مسلم في كتاب السلام حديث ٤٦ ، ٤٨. أبو داود في كتاب الطب باب ١٧ ، ١٩. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٤. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٦٤. أحمد في مسنده (١ / ٧٦ ، ٣٨١) (٣ / ١٥١).

(٥) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب ٧٥. أحمد في مسنده (٢ / ١٣٢) ، (٣ / ١٢٤).

(٦) رواه البخاري في الطب باب ١٧. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٧١ ـ ٣٧٢. الترمذي في كتاب القيامة ٣ بـ ١٦. أحمد في مسنده (١ / ٢٧١ ، ٤٠١).

(٧) رواه الترمذي في كتاب الطب باب ٢٤. النسائي في كتاب التحريم باب ١٩. أحمد في مسنده (٤ / ٣١٠ ، ٣١١) بلفظ «تعلق» بدل «علق».

.

٥٩٩

وعن ابن مسعود أنه رأى على أم ولده تميمه مربوطة بعضدها فجذبها جذبا عنيفا فقطعها. ومنهم من جوزه ؛ سئل الباقر رضي‌الله‌عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه. واختلفوا في النفث أيضا فروي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده ، فلما اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوّذات ثم مسح جسده. ومنهم من أنكر النفث ؛ عن عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وعن إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقى. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع فقلت: ألا أعوّذك يا أبا محمد؟ قال: بلى ولكن لا تنفث فعوّذته بالمعوّذتين. قال بعض العلماء: لعلهم كرهوا النفث لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهيا عنه. وقال بعضهم: النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحرا مضرا بالأرواح والأبدان ، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حراما.

سؤال: كيف قال في افتتاح القراءة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف: ٢٠٠] وقال هاهنا (أَعُوذُ بِرَبِ) دون أن يقول «بالله»؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم. وأيضا الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس وأيضا كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة. وفي الفلق وجوه ؛ فالأكثرون على أنه الصبح من قوله (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام: ٩٦] وخص هاهنا بالذكر لأنه أنموذج من صبح يوم القيامة ولأنه وقت الصلاة والجماعة والاستغفار (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد بصلاح النجاح. روي أن يوسف عليه‌السلام حين ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا ، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبرائيل عليه‌السلام يسليه ويأمره بأن يدعو ربه فقال: يا جبرائيل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا جبرائيل فأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضرّ ، فلما حصل له الراحة قال: يا جبرائيل أنا أدعو وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل. وروي أن دعاءه في الجبّ: يا عدّتي عند شدتي ، ويا مؤنسي في وحشتي ، ويا راحم غربتي ، ويا كاشف كربتي ، ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ، ارحم صغر سني ، وضعف ركني ، وقلة حيلتي ، يا حي

٦٠٠