تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الجزء السابع من أجزاء القرآن الكريم

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال (لَتَجِدَنَ) يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً) وقد تعلقت بها اللام في قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) كما تعلقت بالمودة فيما بعد. وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» لكنه روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين. وقال آخرون : مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان ، بالقتل أو بغصب المال أو بوجوه المكايد والحيل ، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الإيذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة ، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب. وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم. ثم ذكر سبب ذلك التفاوت فقال (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه. قال قطرب : هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين. وقال عروة بن الزبير : ضعيف النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيسا ، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس. وقيل : إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظم يأباه. وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى ، وإنما صارت الرهبانية

٣

ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا رهبانية في الإسلام» (١) وهاهنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعا أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيرا ابن الله. ثم إن النصارى لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] فتبين صحة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة» قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال : إنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا. فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم. فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. وقال آخرون : قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلا بعثهم النجاشي وفدا الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ثياب الصوف ؛ اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت والخطاب في (تَرى) لكل راء. وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء ، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها. ومعنى (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي مما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الحق فـ «من» الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق ، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ (رَبَّنا آمَنَّا) المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد مر مثله في آل عمران. (وَما لَنا) إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين. قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم. ومحل (لا نُؤْمِنُ) نصب على الحال نحو : مالك قائما. والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير مؤمنين. وهو العامل أيضا في (وَنَطْمَعُ) لكن مقيدا

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب النكاح باب ٣. بلفظ «إني لم أؤمر بالرهبانية».

٤

بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت : وما لنا ونطمع لا حلت ، ويحتمل أن يكون (وَنَطْمَعُ) حالا من (لا نُؤْمِنُ) كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفا على (لا نُؤْمِنُ) أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع ، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) ظاهره يدل على أنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول ، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان. ويحتمل أن يكون مأخوذا من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه. وروى عطاء عن ابن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين. قال أهل السنة : فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب ، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلا بد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب. والمعتزلة سلموا أن الإقرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط.

التأويل : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه‌السلام (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) بالأجساد في عالم الشهادة ، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب (فَرِيقاً كَذَّبُوا) يعنى الإلهامات والواردات (وَفَرِيقاً) يقتلون في عالم الحس (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات ، وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلكوا الطريق بأقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال ، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول : نعم الدليل أنت. ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلا للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله ، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) ظاهرا (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ومن يشرك به باطنا حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم. هذا سر الخلافة فإن الإنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق (لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ) سمى العصيان منكرا لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفا لأنها توجب المعرفة (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً). يعني أن تعارف الأرواح يوجب ائتلاف الأشباح ، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الأزل يوم الميثاق ، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.

٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

القراآت : (بِما عَقَّدْتُمُ) بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل ، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بالألف. الباقون (عَقَّدْتُمُ) بالتشديد (مِنْ أَوْسَطِ) مثل (مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] (فَجَزاءٌ) بالتنوين (مِثْلُ) بالرفع : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل. (كَفَّارَةٌ طَعامُ) بالإضافة : أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون (كَفَّارَةٌ) بالتنوين (طَعامُ) بالرفع فبما بغير ألف ابن عامر.

٦

الوقوف : (وَلا تَعْتَدُوا) ط (الْمُعْتَدِينَ) ه (طَيِّباً) ص لعطف المتفقتين (مُؤْمِنُونَ) ه (الْأَيْمانَ) ج لاختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب. (رَقَبَةٍ) ط (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) ط (حَلَفْتُمْ) ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم (أَيْمانِكُمْ) ط (تَشْكُرُونَ) ه (تُفْلِحُونَ) ه (وَعَنِ الصَّلاةِ) ج لابتداء الاستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه. (مُنْتَهُونَ) ه (وَاحْذَرُوا) ط (الْمُبِينُ) ه (وَأَحْسَنُوا) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه (بِالْغَيْبِ) ج (أَلِيمٌ) ه (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ط (وَبالَ أَمْرِهِ) ط (سَلَفَ) ط (مِنْهُ) ط (انْتِقامٍ) ه (وَلِلسَّيَّارَةِ) ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظا. (حُرُماً) ط لإطلاق الأمر بالابتداء (تُحْشَرُونَ) ه (وَالْقَلائِدَ) ط (عَلِيمٌ) ه (رَحِيمٌ) ه (الْبَلاغُ) ط (تَكْتُمُونَ) ه (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض (تُفْلِحُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد إلى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين. قال المفسرون : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف ، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا : يا رسول الله وما أردنا إلا الخير. فقال : إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم ، من رغب عن سنتي فليس مني. ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان ، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ـ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ـ فنزلت هذه الآية

٧

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) فهذا وجه اتصال الآيات. فإن قيل : ما الحكمة في قوله (لا تُحَرِّمُوا) ومن المعلوم أن توسع الإنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات ، ولهذا قالت الحكماء : إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجسادا ، وإذا جاعت الأجسام صارت الأجساد أرواحا؟ فالجواب أن الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها ، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات. فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين ، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي الى سعادة الدارين ، قال القفال : إنه تعالى قال في أوّل السورة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] فبين أنه كما لا يجوز تحليل المحرم لا يجوز تحريم المحلل ، وذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب. ومعنى (لا تُحَرِّمُوا) لا تعتقدوا تحريم (ما أَحَلَّ اللهُ) ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتنابا يشبه اجتناب المحرمات. فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل ، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى ، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطا لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل. والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب. ثم نهى عن الاعتداء مطلقا ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] و (كُلُوا) أمر إباحة وتحليل (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) في إدخال «من» التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي إلى المحتاجين ، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم. قال في التفسير الكبير : قوله (حَلالاً طَيِّباً) إن كان متعلقا بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالا ، وإن كان متعلقا بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالا كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالا. أقول : هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف : (حَلالاً) حال (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) مع أنه من المعتزلة. ثم أكد التوصية بقوله (وَاتَّقُوا اللهَ) وزاده تأكيدا بقوله (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه. ثم قال (لا يُؤاخِذُكُمُ) وقد ذكرنا وجه النظم آنفا ، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة. أما قوله (بِما عَقَّدْتُمُ

٨

الْأَيْمانَ) فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال ، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة. وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى ، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة. ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك : عاقبت اللص وعافاه الله. والمعنى على القراآت : ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم. فحذف الظرف للعلم به ، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف (فَكَفَّارَتُهُ) أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير. وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز الإخلال بجميعها ، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة ، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم. أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي : نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ) فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا وخبز فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد ، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار. فقال الرجل : ما أجد. فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أطعم هذا. وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ. ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبرا بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد. وقال أبو حنيفة : الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال : لأن الأوسط هو الأعدل. وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي. وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مدا آخر ويزيد في الأغلب. أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا ، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة. ثم قال الشافعي : الواجب تمليك الطعام قياسا على الكسوة. وقال أبو حنيفة : إذا غدّى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام ، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والقائل أن يقول : ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام. وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكينا

٩

واحدا عشر مرات جاز. وقال الشافعي : لا يجزى إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص.

قال في الكشاف (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل : فكفارته من أوسط. وأقول : الأظهر أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ) مفعولا آخر للإطعام سواء كان «من» للابتداء أو للتبعيض ، ويكون (كِسْوَتُهُمْ) معطوفا على الإطعام. والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به. قال الشافعي : يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو ثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذ. وعن مجاهد : ثوب جامع. وقال الحسن : ثوبان أبيضان. والمراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه الى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة. ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز. ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه. وقال الشافعي : لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكرا أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياسا على كفارة القتل ، ولم يجوّز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب. وفي تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف. ويمكن أن يقال : الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر ، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته ، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أحد الأمور الثلاثة المذكورة (فَصِيامُ) فعليه صيام (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) قال الشافعي : إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم. تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوما وليلة لأن ذلك ضروري ، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعا فبقي الآية معمولا بها في غيره. وعند أبي حنيفة : يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة. ثم صيام الأيام الثلاثة مشروط عند أبي حنيفة بالتتابع تمسكا بقراءة أبيّ وابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما. وقال الشافعي في أصح قوليه : إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلا متوترا وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا قال له : عليّ أيام من رمضان

١٠

أفأقضيها متفرقات؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟ قال : بلى. قال : فالله أحق أن يعفو ويصفح. وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى ، وأيضا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

مسألة : من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة (ذلِكَ) المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف ، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين ، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقا لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير» (١). ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب. هذا إذا كان يكفر بغير الصوم ، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان ، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية ، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضا لوجود أحد السببين. والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه. جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي ، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقا. (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) قللوها ولا تكثروا منها ، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث ، وعلى هذا تكون الإيمان مختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف ما لو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث. وقيل : احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاونا بها (كَذلِكَ) مثل ذلك البيان الشافي (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أحكامه وأعلام شريعته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب ١. مسلم في كتاب الأيمان حديث ٧. أبو داود في كتاب الأيمان باب ١٤. النسائي في كتاب الأيمان باب ١٥. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ٧. أحمد في مسنده (٤ / ٣٩٨).

١١

ثم إنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ـ وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة ، وسلك في سلك التحريم الأنصاب والأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة. واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها قصة علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطاني شارفا من الخمس ، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعدت رجلا صوّاغا من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر ، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار ، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت : من فعل هذا؟ قالوا : فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها :

ألا يا حمز للشرف النواء

وهن معقلات بالفناء

ضع السكين في اللبات منها

فضرجهن حمزة بالدماء

وأطعم من شرائحها كبابا

ملهوجة على وهج الصلاء

فأنت أبا عمارة المرجى

لكشف الضر عنا والبلاء

فوثب الى السيف فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي رضي‌الله‌عنه : فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أتيت له فقال : ما لك؟ فقلت : يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب. قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره ، ـ أنا وزيد بن حارثة ـ حتى جاء البيت الذي فيه. فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب ، فطفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه ، فنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال : وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى ، فخرج وخرجنا فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر. قالت العلماء : هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها : تصدير الجملة بـ «إنما» الدالة على الحصر معناه ليست

١٢

الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان. ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» ومنها أنه جعلها رجسا كما قال في موضع آخر (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] وأصل الرجس العمل القبيح والقذر. قال الفراء : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ١٠٠] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجسا. ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان ، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت. ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منها خيبة. والضمير في (فَاجْتَنِبُوهُ) عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك. ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصا وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة. ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج ، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان. وأيضا الخمر سبب تهييج اللذة الجسمية ، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية ، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود. وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانيا لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولا بذكر الأنصاب والأزلام تنبيها على أنها جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين. ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) كأنه قيل : قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا : قد انتهينا يا رب. إذ فهموا التحريم المؤكد. ومنها إنه قال عقيب ذلك (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب. ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الآية. والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر. عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر ، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت. قال : فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة : اخرج فأرقها. فقالوا : قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

١٣

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر ، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعا ، فقد تقول العرب : أطعم أي ذق. ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] والعامل في (إِذا مَا اتَّقَوْا) معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمات لأنهم شربوها حين كانت محللة. والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل : لم يكن أو ما كان جناح مثل (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ) [البقرة : ١٤٣] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق. والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه ، وأيضا إن سبب نزول الآية يكذبه. روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت. وعلى هذا فالحل قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. ثم إنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين ، وفي الثالثة التقوى والإحسان. فقال الأكثرون : الأول فعل الاتقاء ، والثاني دوامه والثبات عليه ، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم. وقيل : الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية ، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية ، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم. وقيل : اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر. وقال القفال : الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة ، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية ، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق. ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل التوكيد القسمي (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) أي ليعاملنكم معاملة المختبر (بِشَيْءٍ) التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، فامتحن الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر. قال مقاتل بن حيان : ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط ، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء. قال الواحدي : الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار

١٤

الوحش ، والذي تناله الرماح الكبار. و «من» في (مِنَ الصَّيْدِ) للبيان أو للتبعيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في (تَنالُهُ) إليه (لِيَعْلَمَ اللهُ) ليظهر معلومه وهو خوف الخائف أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء الله ومحل (بِالْغَيْبِ) النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته أو عن حضور الناس (فَمَنِ اعْتَدى) فصاد (بَعْدَ ذلِكَ) الابتلاء (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة وقيل في الدنيا. عن ابن عباس : هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) قال الشافعي : إنه البري المتوحش المأكول اللحم. أما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنسا ويخرج الإنسي وإن صار متوحشا إبقاء لحكم الأصل ، وأما كونه مأكولا فلقوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فيعلم منه أنه مما يحل أكله في غير الإحرام. وقال أبو حنيفة : المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن. وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي : لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما وقد جاء «خمس يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور» (١) وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة بقول علي رضي‌الله‌عنه :

صيد الملوك أرانب وثعالب.

فإذا ركبت فصيدي الأبطال.

وزيف بأن الثعلب عندنا حلال. (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون بالحج والعمرة أيضا على الأصح. وقيل : وقد دخلتم الحرم. وقيل : هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي. وقوله (لا تَقْتُلُوا) يفيد المنع ابتداء والمنع تسببا فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرما أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) من قرأ (فَجَزاءٌ) بالتنوين و (مِثْلُ) بالرفع فالمعنى : فعليه جزاء صفته كذا. ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعليه أن يجزىء مثل ما قتل. قال بعض العلماء : المثل مقحم للتأكيد إذ الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو كقولهم : أنا أحب مثلك أي أحبك. وقيل : الإضافة بمعنى «من» أي جزاء من مثل ما قتل. قال سعيد بن جبير : المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب المناسك باب ٨٣. أحمد في مسنده (٦ / ٢٠٣).

١٥

شيء. وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكرا لإحرامه أو عالما أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد ، أو رمى غير صيد فعدل السهم فأصاب صيدا فهو مخطئ لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور. ويتأكد هذا الرأي بقوله (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) وبقوله (وَمَنْ عادَ) أي الى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد ، والانتقام أيضا يناسب العمد لا الخطأ ٥٧٥ قال جمهور الفقهاء : يلزمه الضمان سواء قتل عمدا أو خطأ قياسا على سائر محظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم ، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمدا أو لا. وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة. وعن الزهري نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في الضبع كبش إذا قتله المحرم» (١) وقالت الصحابة : في الظبي شاة. أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ. ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن : الصيد ضربان : منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل الواجب هو القيمة قياسا على ما لا مثل له. حجة الشافعي قوله تعالى (مِنَ النَّعَمِ) فإنه بيان للمثل وكذا قوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حكم في الضبع بكبش. وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم. فحكموا في النعامة ببدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة ، وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الظبي بشاة ، وفي الأرنب بحمل ـ وفي رواية بعناق ـ وفي الضب بسخلة ، وفي اليربوع بجفرة ، وفي الحمام بشاة ، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة. والعب شرب الماء مرة ، والهدير ترجيعه صوته وتغريده. وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم ، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار. والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه ، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها ، والعناق الأنثى من أولاد المعز. وأيضا المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل.

(وهاهنا مسائل) الأولى : جماعة محرومون قتلوا صيدا. فالشافعي وأحمد وإسحق : لا

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك باب ٩٠.

١٦

يجب عليهم إلا جزاء واحد لأن مثل الواحد واحد. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري : على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحدا يقتص منهم جميعا ، وكذا لو حلف كل منهم أن لا يقتل صيدا فقتلوا صيدا واحدا لزم كلا منهم كفارة. وأجيب بأن قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان.

الثانية : قال الشافعي : المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية ، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف. وقال أبو حنيفة : يضمن لما روي أن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال.

الثالثة : قال الشافعي : إذا جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشادا إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان. وقال المزني : عليه شاة. وقال داود : لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط.

الرابعة : إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه ثم قتل صيدا آخر لزمه جزاء آخر خلافا لداود ، وينقل عن ابن عباس وشريح. حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه : من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين ، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم. حجة داود (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.

الخامسة : قال الشافعي : إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب ، وكذا الكبير لأجل الصغير. والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقا للمثلية. فالأنثى أفضل لأنها تلد ، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن.

قوله سبحانه (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال ابن عباس : أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال : التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد ، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا

١٧

يفتقر إلى الاجتهاد. ورد بأن وجه المشابهة بين النعم والصيد أيضا يتوقف على الاجتهاد. عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبيا في الإحرام فمات فسأل عمر ـ وكان إلى جانبه عبد الرحمن ابن عوف ـ فقال له : ما ترى؟ قال : عليه شاة. قال : وأنا أرى ذلك ، فاذهب فأهد شاة. قال قبيصة : فخرجت إلى صاحبي وقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره. قال : ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. قال الشافعي : ما ورد فيه نص فهو متبع كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في الضبع بكبش. وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أنه مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى. وقال مالك : يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكما؟ إن كان القتل عمدا عدوانا فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة ، وإن كان خطأ أو كان مضطرا إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات. وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا فسأل عمر فقال : احكم فيه. فقال : أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين. فقال : إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني. فقال الرجل : أرى فيه جديا فقال عمر : فذلك فيه. وأيضا فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أمينا فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة. ولو حكم عدلان بأن له مثلا وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين. ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ. قيل : في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز. وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكعمل العامي بالفتوى ، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا ، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضا. وانتصب (هَدْياً) على أنه حال من (فَجَزاءٌ) عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل (مِثْلُ) عند من أضاف ، أو حال من الضمير في (بِهِ) ووصف هديا ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة. والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعا. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز. قال الشافعي : يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم. وقال أبو حنيفة : له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت

١٨

إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة. قوله (أَوْ كَفَّارَةٌ) عطف على قوله (فَجَزاءٌ) و (طَعامُ مَساكِينَ) بيان له. ومن أضاف فللبيان أيضا أي كفارة من طعام مساكين مثل : خاتم فضة (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ) الطعام (صِياماً) نصب على التمييز كقولك : لي مثله رجلا. وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه ، والعدل بالكسر المثل تقول : عندي عدل غلامك إذا كان غلاما يعدل غلاما ، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين. ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يوما. ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يوما وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين. وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوما. وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان : ما له مثل من النعم وما ليس كذلك. فالأوّل جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحا ، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان. والثاني وهو ما ليس بمثلي كالعصافير وغيرها. وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعاما ، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يوما ، فإن انكسر مد في القسمين صام يوما لأن الصوم لا يتبعض. فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان : الحيوان والطعام والصيام. وفي القسم الثاني ركنان : الطعام والصيام و (أَوْ) هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب. ووافق مالك وأبو حنيفة لأن «أو» للتخيير غالبا ، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) والتخيير ينافي التغليظ. ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال : الخيار إلى الحكمين قياسا على تعيين المثل. ثم إن لم يكن الصيد مثليا فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياسا على كل متلف متقوّم ، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة. وإن كان مثليا وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ لأنها محل الذبح لو كان يذبح. ولا جزاء على المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يؤل إلى النماء فلا يتعلق بإتلافه الجزاء ، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي

١٩

وفي قوله القديم ـ وبه قال مالك وأحمد ـ يلزمه القيمة بعد ما أكل. وإذا ذبح المحرم صيدا لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد ـ وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة ـ لأنه يكون ميتة كذبيحة المجوسي حتى لو كان مملوكا وجب مع الجزاء القيمة للمالك. وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ أظهر الوجهين لا ، وكذا الكلام في صيد الحرم إذا ذبح. أما قوله (لِيَذُوقَ) فإنه متعلق بقوله (فَجَزاءٌ) أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق ، ويحتمل أن يقال : يتعلق بمحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والإحرام. والتركيب يدور على الثقل يقال : مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة ، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة. والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع ، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضا ، وكل منها نوع عقوبة (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم ، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام. وعلى مذهب داود (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء (وَمَنْ عادَ) فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه. (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أي مصيداته. ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار ، وجملة ما يصاد منه ثلاثة أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، وفيما سوى هذين خلاف. فقال أبو حنيفة : حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون : حلال. قوله (وَطَعامُهُ) العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه : يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه. وقال جمع من العلماء : الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها. فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه. وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري ، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف. قال الشافعي : السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (١) (مَتاعاً لَكُمْ) في الحضر طريا و (لِلسَّيَّارَةِ) في السفر مالحا. وانتصب (مَتاعاً) على أنه مفعول له ولكنه

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤١. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٥٢. النسائي في كتاب الطهارة باب ٤٦. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٣٨. الموطأ في كتاب الطهارة حديث ١٢. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٥٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٧) ، (٣ / ٣٧٣).

٢٠