تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

(سورة البلد مكية وقيل مدنية حروفها مائتان وستة وثلاثون

كلمها ثمانون آياتها عشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

القراآت لبدا بالتشديد: يزيد فك رقبة أو إطعام على صيغة الفعلين ونصب رقبة ابن كثير وأبو عمرو وعليّ. الباقون: على المصدرين فأضافوا الأول ونونوا الثاني أي هي الفك أو الإطعام (مُؤْصَدَةٌ) بالهمز: أبو عمرو ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل.

الوقوف: (الْبَلَدِ) ه لا (الْبَلَدِ) ه كـ (وَلَدَ) ه كـ (كَبَدٍ) ه ط (أَحَدٌ) م ه لئلا يوهم أن ما بعده صفة (لُبَداً) ط (أَحَدٌ) ه كـ (عَيْنَيْنِ) ه لا (وَشَفَتَيْنِ) ه كـ (النَّجْدَيْنِ) ج ه للنفي مع الفاء (الْعَقَبَةَ) ه ز (الْعَقَبَةُ) ه ط (رَقَبَةٍ) ه لا (مَسْغَبَةٍ) ه كـ (مَقْرَبَةٍ) ه كـ (مَتْرَبَةٍ) ه ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار (بِالْمَرْحَمَةِ) ه كـ (الْمَيْمَنَةِ) ه ط (الْمَشْأَمَةِ) ه ط (مُؤْصَدَةٌ) ه.

التفسير: إنه سبحانه قرر في هذه السورة وفي أكثر ما يتلوها من السور مراتب النفوس الإنسانية وأحوالها في السعادة وضدّها ، فأكد ذلك بالإقسام بالبلد الحرام وهو مكة التي جعلها الله تعالى منشأ كل بركة وخير. وقوله (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) اعتراض بين القسمين كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلّ بها وأقام فيها. وقيل: الحل بمعنى الحلال كأنه سبحانه عجب من اعتقاد أهل مكة كيف يؤذون أشرف الخلق في موضع محرم. عن

٥٠١

شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك. وقال قتادة: أنت حلّ أي لست بأثيم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت كما في الحديث «ولم تحل لي إلا ساعة من نهار». فأن كانت السورة مكية أو مدنية قبل الفتح فقوله (حِلٌ) بمعنى الاستقبال نحو (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: ٣٠] وكثيرا ما تبرز الأفعال المستقبلة في القرآن في صيغ الماضي لتحقق الوقوع ، وإن كان حال الفتح أو بعده فظاهر. وعلى الأول يكون فيه إخبار بالغيب وقد يسر الله له فتح مكة كما وعد فيكون معجزا. أما الوالد والولد فقيل: آدم وذرّيته لكرامتهم على الله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء: ٧٠] وقيل: كل والد ومولود. وقد يخص الإقسام بالصالحين لأن غير الصالحين لا حرمة لهم (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف: ١٧٩] والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام والولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به والتنكير للتعظيم. وإنما لم يقل ومن ولد للفائدة المذكورة في قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران: ٣٦] أي بشيء وضعته وهو مولود عجيب الشأن. والكبد المشقة والتعب كقوله (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) [الإنشقاق: ٦] وأصله من كبد الرجل بالكسر كبدا بالفتح فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت. ولا تخفى الشدائد الواردة على الإنسان من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ثم ورود طوارق السراء وبوارق الضراء وعلائق التكاليف وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت ، ثم إلى البعث من المساءلة وظلمة القبر ووحشته ، ثم إلى الاستقرار في الجنة والنار من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة والوقوف بين يدي الجبار ، اللهم سهل علينا هذه الشدائد بفضلك يا كريم ووفقنا للعمل بما يستعقب الخلاص منها إلى النعيم المقيم. وقيل: الكبد مرض القلب وفساد العقيدة والمراد به الذين علم الله من حالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل: الكبد هو الاستواء والاستقامة أي خلقناه منتصب القامة. وقيل: الكبد الشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو لأنه دم غليظ. وقد يخص الإنسان على هذا التفسير بشخص واحد من جمح يكنى أبا الأشدين ، كان يجعل تحت قدميه الأديم ثم يمدّ من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ويعضد هذا التفسير قوله (أَيَحْسَبُ) يعني ذلك الإنسان الشديد. وعلى الأول معناه لن يقدر على بعثه ومجازاته أو على تغيير أحواله وأطواره (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي كثيرا بعضه فوق بعض وهو جمع لبدة بالضم لما يلبد قاله الفراء. وعن الزجاج أنه مفرد والبناء للمبالغة والكثرة. يقال: رجل حطم إذا كان كثير الحطم. ومن قرأ بالتشديد فهو جمع لا بد يريد كثرة ما أنفقه في الجاهلية فوبخه على ذلك بقوله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يعنى أنه تعالى كان عالما بقصده حين ينفق ما ينفق

٥٠٢

رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المكارم والمعالي أو معاداة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال قتادة: أيظن أن الله لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وفي أي شيء أنفقه؟ وقال الكلبي: كان كاذبا ولم ينفق شيئا فقال الله: أيزعم أن الله ما رأى ذلك منه ولو كان قد أنفق لعلم الله. ثم دل على كمال قدرته مع إشارة إلى الاستعداد الفطري بقوله (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المصنوعات (وَلِساناً) يعبر به عما في ضميره (وَشَفَتَيْنِ) يستعين بهما على الإفصاح بالنطق (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) سبيلي الخير والشر كقوله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الدهر: ٣] هذا قول عامة المفسرين. والنجد في اللغة المكان المرتفع جعل الدلائل لارتفاع شأنها وعلو مكانها كالطرق المرتفعة العالية التي لا تخفى على ذوي الأبصار. وقال الحسن (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل الذي قدر على أن خلق لك الأعضاء قادر على محاسبتك. وعن ابن عباس وسعيد بن المسيب: هما الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه هدى الله الطفل الصغير حتى ارتضعهما ، قال القفال: والتفسير هو الأول. ثم قرر وجه الاستدلال به فقال: إن من قدر على أن خلق من الماء المنتن قلبا عقولا ولسانا فؤولا فهو على إهلاك ما خلق أقدر ، فما الحجة في الكفر بالله مع تظاهر نعمه؟ وما العلة في التعزز على الله وأوليائه بالمال وإنفاقه وهو المعطي والممكن من الانتفاع؟ ثم عرف عباده وجوه الإنفاق الفاضلة تعريضا بأن ذلك الكافر لم يكن إنفاقه في وجه مرضيّ معتدّ به لابتناء قبول الطاعات على الإيمان الذي هو أصل الخيرات. والاقتحام الدخول بشدّة ولهذا يستعمل في الأخطار والأهوال. والعقبة طريق الجبل ؛ فعن ابن عمر: هي جبل زلال في جهنم. وعن مجاهد والضحاك: هي الصراط يضرب على متن جهنم ، وهو معنى قول الكلبي: عقبة بين الجنة والنار. وزيف الواحدي وغيره هاتين الروايتين بأنه من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا العقبة بهذا المعنى ، وبأن تفسير الله سبحانه العقبة عقيبه ينافيه. وعن الحسن: عقبة والله شديدة إن هذا مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. قال النحويون: قلما توجد لا الداخلة على الماضي إلا مكررة كقوله (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة: ٣١] وتقول: لا خيبني ولا رزقني. والقرآن أفصح الكلام فهو أولى برعاية هذه القاعدة. والجواب أن القرآن حجة كافية ولو سلم فهي متكررة في المعنى. قال الزجاج: ألا ترى أنه فسر العقبة بفك الرقبة والإطعام؟ فكأنه قيل: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ولا سيما فيمن قرأ (فَكُ) و (إِطْعامٌ) على الإبدال من (اقْتَحَمَ) وجعل ما بينهما اعتراضا. ويجوز أن يراد فلا اقتحم العقبة ولا آمن يدل عليه قوله (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ومن قرأ (فَكُ أَوْ إِطْعامٌ) على المصدرين فالفاعل محذوف وهو من خواص المصدر لا

٥٠٣

يجوز حذف الفاعل من غيره والتقدير: فك فاك رقبة أو إطعام مطعم يتيما. والمسغبة مصدر على «مفعلة» من سغب إذا جاع ، وكذا المقربة من قرب في النسب. والمتربة من ترب إذا افتقر والتصق بالتراب فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: هو الذي مأواه المزابل. ووصف اليوم بذي مسغبة مجاز باعتبار صاحبه نحو «نهاره صائم». وفك الرقبة تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث إن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال: «تعتق النسمة وتفك الرقبة. فقال: أوليسا سواء؟ قال: لا إعتاقها أن تتفرد بعتقها وفكها تخلصها من قود أو غرم» (١) وقد استدل أبو حنيفة من تقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة. وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة تخليص النفس من الإشراف على الهلاك فإن قوام البدن بالغذاء ، وفي الفك تخليصها من القيد في الأغلب. وأيضا لعل الأمر في الأول أضيق. ولا شك أن إطعام اليتيم القريب أفضل من اليتيم الأجنبي. وقد يستدل للشافعي أن المسكين أحسن حالا من الفقير وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا وإلا وقع قوله (ذا مَتْرَبَةٍ) تكرارا. وقال بعض أهل التأويل: فك الرقبة أن يعين المرء نفسه على إقامة الوظائف الشرعية ليتخلص بها عن النار. وعندي هو أن يفك رقبته عن الكونين ليلزم عنه زوال الحرص المستتبع لمواساة النفس على الطعام والإيثار. وفي قوله (ثُمَّ كانَ) وجوه أحدها: أن هذا التراخي في الذكر لا في وجود فإن الإيمان مقدّم على جميع الخصال المعتدّ بها شرعا كقوله:

إن من ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جده

أي ثم انه أذكر ساد أبوه: وثانيها التأويل بالعاقبة أي ثم كان في عاقبة أمره ممن يموت على الإيمان. وثالثها أن الاية نزلت فيمن أتى بهذه الخصال قبل إيمانه بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم آمن به بعد مبعثه. فعند بعضهم يثاب على تلك الطاعات يدل عليه ما روي أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أسلمت على ما قدّمت من الخير» (٢). ورابعها وهو أولى الوجوه عند أصحاب المعاني أن المراد تراخي الرتبة والفضيلة لأن ثواب الإيمان أكثر من ثواب العتق والصدقة. وقد يوجه البيت المذكور على هذا بأن المراد ثم ساد أبوه مع ذلك ثم ساد جده مع ما ذكر ،

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٢٩٩).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٦. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٦. أحمد في مسنده (٣ / ٤٠٢ ، ٤٣٤).

٥٠٤

ولا ريب أن مجموع الأمرين أو الأمور أشرف من أن ساد هو بنفسه فقط. وحين ذكر خصال الكمال عقبه بما يدل على التكميل قائلا (تَواصَوْا) أي أوصى بعضهم بعضا (بِالصَّبْرِ) على التكاليف الشرعية وعلى البلايا والمحن التي قلما يخلوا المؤمن عنها (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي التعاطف والتراحم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا متعاضدين». (١) وفي الآية نكتة لطيفة وهي أنه سبحانه ذكر في باب الكمال أمرين: فك الرقبة والإطعام ثم الإيمان ، وذكر في باب التكميل شيئين: التواصي بالصبر على الوظائف الدينية والتواصي بالتراحم ، وكل من النوعين مشتمل على التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إلا أنه في الأول قدّم جانب الخلق ، وفي الثاني قدم جانب الحق. ففي الأول إشارة إلى كمال رحمته ونهاية عنايته بالمخلوقات فإن رعاية مصالحهم عنده أهمّ ، وفي الآخر رمز إلى حسن الأدب وتعليم للمكلفين أن يعرفوا ما هو الأقدم الأهمّ في نفس الأمر زادنا الله اطلاعا على دقائق هذا الكتاب الكريم. قوله (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) و (أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) مر في أول الواقعة تفسيرهما. قال أهل اللغة: أوصدت الباب وآصدته بالواو وبالهمز أي أطبقته وأغلقته. قال مقاتل: فلا يخرج أحد منها ولا يدخل روح فيها. والإيصاد بالحقيقة صفة أبواب النار أي مؤصدة أبوابها فهو من الإسناد المجازي. وقيل: أراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب نعوذ بالله منها.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٥٨ ، ٦٤. مسلم في كتاب النكاح حديث ٥٢. أبو داود في كتاب البيوع باب ٤٤. الترمذي في كتاب البيوع باب ٦٥. النسائي في كتاب النكاح باب ٧٠. ابن ماجه في كتاب التجارات باب ١٤. الدارمي في كتاب البيوع باب ٣٣. الموطأ في كتاب البيوع حديث ٩٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٧٤ ، ٢٨٧).

٥٠٥

(سورة والشمس وهي مكية حروفها مائتان وستة وأربعون

كلمها أربع وخمسون آياتها خمس عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

القراآت: (تَلاها) و (طَحاها) مثل (دَحاها) [الآية: ٣٠] في «النازعات» فلا يخاف بالفاء وضم الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير بناء على أن (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم واللام محذوف أي لقد أفلح.

الوقوف: (وَضُحاها) ه لا (تَلاها) ه كـ (جَلَّاها) ه كـ (يَغْشاها) ه كـ (بَناها) ه كـ (طَحاها) ه كـ (سَوَّاها) ه لا ص (وَتَقْواها) ه لا (زَكَّاها) ه كـ (دَسَّاها) ه ط (بِطَغْواها) ه ط لأن الظرف يتعلق بـ (كَذَّبَتْ) أو بالطغوى (أَشْقاها) ه (وَسُقْياها) ه (فَعَقَرُوها) م كـ (فَسَوَّاها) ه ط (عُقْباها) ه.

التفسير: قال النحويون: إن في ناصب (إِذا تَلاها) وما بعده إشكالا لأن «ما» سوى الواو الأولى إن كن للقسم لزم اجتماع أقسام كثيرة على مقسم به واحد وهو مستنكر عند الخليل وسيبويه ، لأن استئناف قسم آخر دليل على أن القسم الأول قد استوفى حقه من الجواب فيلزم التغليظ ، وإن كن عاطفة لزم العطف على عاملين بحرف واحد وذلك أن حرف العطف ناب عن واو القسم المقتضي للجر وعن الفعل الذي يقتضي انتصاب الظرف. والجواب أنا نختار الثاني ولزوم العطف على عاملين ممنوع لأن حرف العطف ناب عن واو القسم النائب عن الفعل المتعدّي بالباء ، وكما أن واو القسم تعمل الجر في القسم والنصب

٥٠٦

في الظرف إذا قلت مثلا ابتداء (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل: ١] لقيامه مقام قولك «أقسم بالليل إذا يغشى» فكذا حرف العطف النائب منابه نظيره قولك «ضرب زيد عمرا وبكر خالدا» فترفع بالواو وتنصب لقيامه مقام ضرب. قال بعض المتكلمين: المضاف في هذه الأقسام محذوف تقديره ورب الشمس إلى آخرها. وزيف بلزوم التكرار في قوله (وَما بَناها) وما بعده. وأجيب بأن «ما» في (وَما بَناها) وما بعده مصدرية. واعترض عليه في الكشاف بأنه يلزم من عطف قوله (فَأَلْهَمَها) على قوله (وَما سَوَّاها) فساد النظم فالوجه أن تكون «ما» موصولة. وإنما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الذي سوّاها ، على أنه قد جاء «ما» مستعملا في «من» كقولهم «سبحان ما سخر كن لنا». أما الذين لم يقدروا المضاف فأورد عليهم أنه يلزم تأخير القسم برب السماء وبانيها عن القسم بالسماء. والجواب أن الله عز قائلا أراد أن نتدرج من المحسوسات إلى المعقولات ومن المصنوعات إلى الصانع ، ولا يخفى أن المحسوسات أظهرها هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها. فأول أعظم الأوصاف الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار ، وثانيها تلو القمر لها غاية في منتصف الشهر أو تلوه لها في أخذ الضوء عنها أو في غروبه ليلة الهلال بعدها قاله قتادة والكلبي. وقيل: في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته. والثالث والرابع بروزها لمجيء النهار واختفاؤها لمجيء الليل. ثم ذكر ذاته المقدسة وعقبه بأنواع تدابيره في السماء والأرض وفي البسائط وما يتركب منها وأشرفها النفس. ولنشتغل بتفسير بعض الألفاظ. قال الليث: الضحو ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك. والضحاء بالمد إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف. وتلاها تبعها بإحدى المعاني المذكورة ، والتجلية الكشف والعيان. والضمير في (جَلَّاها) للشمس في الظاهر على ما قال الزجاج وغيره ، لأن النهار كلما كان أصدق نورا كانت الشمس أجلى ظهورا فإن الكشف والعيان يدل على قوة المؤثر وكماله لا قوة الأثر وكماله ، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها. وذهب جم غفير إلى أن الضمير يعود إلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض بدلالة قرائن الأحوال وسياق الكلام ، ولعل الوجه الأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور أقرب منه إلى المقدر ، ولأنه يلزم تفريق الضمائر فإن الضمير في (يَغْشاها) للشمس بالاتفاق وكذا في (ضُحاها) و (تَلاها) ولأن غشيان الليل الشمس عبارة عن ذهاب الضوء وحصول الظلمة بسبب غيبة الشمس في الأفق ، فكذا تجلية النهار إياها يجب أن تكون إشارة إلى كمال الضوء وظهوره للحس بواسطة ظهور الشمس فوق الأفق. والحاصل أن الذهن كما ينتقل من عدم الأثر إلى عدم

٥٠٧

المؤثر فجعل كأن لعدم الأثر تأثيرا في عدم المؤثر ، فكذلك ينتقل من وجود الأثر إلى وجود المؤثر فيصح أن يقال: إن وجود الأثر علة لوجود المؤثر وهذا معنى كون النهار مجليا للشمس. والطحو مثل الدحو وقد مر في «النازعات» أي بسطها على الماء. وتنكير النفس إما للتنويع أي نفس خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية التي تصلح لرياسة ما سواها من النفوس ، وإما للتكثير على الوجه المذكور في قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير: ١٤] وتسويتها إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن وهي الحواس الظاهرة والباطنة والقوى الطبيعية المخدومة والخادمة وغيرها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قالت المعتزلة: هو كقوله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: ١٠] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر ويعضده ما بعده (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) والتدسية ضد التزكية. وأصل دسي دسس قلب أحد حرفي التضعيف ياء كما في «قضيت». والتدسيس مبالغة الدس وهو الإخفاء في التراب قال عز من قائل (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) [النحل: ٥٩] والضمير في «زكى» و «دسى» لـ «من» وقال أهل السنة: الضميران لله تعالى و «من» عبارة عن النفس والمعنى: قد سعدت نفس زكاها الله تعالى وخلقها طاهرة ، وخابت نفس دساها الله وخلقها كافرة فاجرة. وقد يروى هذا الوجه عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي قالوا: أصل الإلهام من قولهم «لهم الشيء والتهمه» إذا ابتلعه و «ألهمته إياه» أي أبلغته ذلك. فالإلهام الإبلاع أي وضع الإيمان في قلب المؤمن والكفر في قلب الكافر. ثم وعظهم بقصة ثمود لقربها من ديارهم. ولأهل التأويل أن يقولوا: إنما خص هذه القصة لأن ناقة الله هي البدن وعبر بصالح عن الروح ، فلما كانت قصة ثمود مناسبة لأحوال النفس الإنسانية كما مرت في التأويلات ، وكانت هذه السورة مسوقة لبيان مراتب النفس في السعادة والشقاوة ، وخصت القصة بالذكر لذلك ، وعلى هذا التأويل قد يراد بالشمس تجلي النفس الناطقة على البدن بالتدبير الكامل ، وبالقمر الروح الحيواني. أو شمس المعرفة ، وقمر المكاشفة ، ونهار وليل المحو ، وسماء الروح وأرض القلب كما مر مرارا. والطغوى اسم من الطغيان كالتقوى من الوقاية قلبت ياؤه واوا فرقا بين ما هي اسم وبين ما هي صفة كقولهم «امرأة خزيا وصديا» والباء للآلة أي فعلت التكذيب بواسطة طغيانها. وقيل: المضاف محذوف والمجموع صفة للعذاب والباء للإلصاق أي كذبت ثمود بما أوعدت من العذاب ذي الطغوى كقوله (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة: ٥] والأول أوضح لئلا يكون قوله (فَكَذَّبُوهُ) تكرارا. ومعنى (انْبَعَثَ) تحركت داعيته وقوي عزمه على العقر. و (أَشْقاها) عاقر الناقة قدار بن سالف ، أو هو مع من ساعده على ذلك فإن أفعل التفضيل يجوز أن لا

٥٠٨

يفرق فيه بين الواحد. والجمع وعلى هذا يجوز أن يكون الضمير في (لَهُمْ) عائدا إلى الجماعة الأشقياء ، وعلى الأول يكون عائدا إلى قوم صالح. و (ناقَةَ اللهِ) نصب على التحذير أي احذروا عقرها (وَسُقْياها) فلا تعتدوا بها فإن لها شربا ولكم شرب يوم (فَكَذَّبُوهُ) فيما أوعدهم به من نزول العذاب إن فعلوا فعقروا الناقة (فَدَمْدَمَ) أي فأطبق (عَلَيْهِمْ) العذاب. قالوا: هو مضعف من قولهم «ناقة مدمدمة» إذا ألبست الشحم. والباء في (بِذَنْبِهِمْ) للسببية فسوى الدمدمة بينهم بحيث لم يهرب منها أحد (وَلا يَخافُ عُقْباها) كما يخاف ملوك الدنيا فينزجر عن استيفاء العقوبة. وجوز أن يكون الضمير لثمود أي فسوّاها بالأرض ، أو في الهلاك ولا يخاف تبعه بهلاكها وهو تعالى أعلم.

٥٠٩

(سورة والليل مكية حروفها ثلاثمائة وعشرة

كلمها إحدى وسبعون آياتها إحدى وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

القراآت: نارا تلظى بتشديد التاء: البزي وابن فليح.

الوقوف: (يَغْشى) ه لا (تَجَلَّى) ه لا (وَالْأُنْثى) ه لا (لَشَتَّى) ه ط (وَاتَّقى) ه لا (بِالْحُسْنى) ه لا (لِلْيُسْرى) ه ط (وَاسْتَغْنى) ه لا (بِالْحُسْنى) ه لا (لِلْعُسْرى) ط (تَرَدَّى) ه ط (لَلْهُدى) ه ز للعطف مع رعاية جانب «أنّ» والوصل أجوز لإتمام الكلام (وَالْأُولى) ه (تَلَظَّى) ه ج لأن ما بعده صفة أو استئناف (الْأَشْقَى) ه لا (وَتَوَلَّى) ه ط (الْأَتْقَى) ه لا (يَتَزَكَّى) ه ج لأن ما بعده استئناف أو حال (تُجْزى) ه (الْأَعْلى) ه ج لاختلاف الجملتين (يَرْضى) ه.

التفسير: هذه السورة نزلت باتفاق كثير من المفسرين في أبي بكر وفي أبي سفيان ابن حرب أو أمية بن خلف ، إلا أن المعنى على العموم لقوله تعالى (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَنْذَرْتُكُمْ) ومفعول (يَغْشى) محذوف وهو إما الشمس كقوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الآية: ٤] أو النهار أو كل شيء يمكن تواريه بالظلام. أقسم سبحانه بالليل والنهار اللذين بتعاقبهما يتم أمر المعاش والراحة مع أنهما آيتان في أنفسهما. ومعنى (تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل وتبين بطلوع الشمس ثم بذاته الذي خلق كل شيء ذي روح لأن الروح إما ذكر

٥١٠

أو أنثى ، والخنثى المشكل معين في علم الله وإن كان مبهما في علمنا ولهذا قال الفقهاء: لو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرا ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلا حنث. وقيل: هما آدم وحواء (لَشَتَّى) جمع شتيت وهو المتفرق المختلف. ثم بين اختلاف الأعمال في ذاتها وفيما يرجع إليها في العاقبة من الثواب والعقاب أو التوفيق والخذلان. عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقعدنا حوله فقال «ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة والنار. فقلنا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى)» (١) يعني حقوق ما له (وَاتَّقى) المحارم (وَصَدَّقَ) بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو كلمة الشهادة أو بالملة الحسنى أو بالمثوبة (فَسَنُيَسِّرُهُ) فسنهيئه للطريق اليسرى. يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومعنى استغنى أنه رغب عما عند الله كأنه مستغن ، أو استغنى باللذات العاجلة عن الآجلة. والتحقيق فيه أن الأعمال الفاضلة إذا واظب المكلف عليها حصلت في نفسه ملكة نورانية تسهل عليه سلوك سبيل الخيرات حتى يصير التكليف طبعا. والتعب راحة والتكليف عادة ، ولأن هذه الملكة تحصل بالتدريج فلا جرم أدخل الفاء في (فَسَنُيَسِّرُهُ) ومن فسر اليسرى بالجنة فمعنى الاستقبال عنده واضح. والرذائل بالضد حتى تصير النفس من الكسل بحيث لا تواتي صاحبها إلا في مواجب الكسل وجذب الراحات العاجلة كقوله (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة: ٤٥] (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [النساء: ١٤٨] ويقرب مما ذكرنا قول القفال: كل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات ، وكل ما أدّت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي ، ومن جملة اليسرى الجنة ومن جملة العسرى النار. استدل بعض الأشاعرة بقوله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) على أنه تعالى قد يخلق القبائح في المكلف ويقوي دواعيه على فعلها. والمعتزلة عبروا عن هذا التيسير بالخذلان وعن الأول بمنح الألطاف والتوفيق. ثم وبخ هذا الكافر بقوله (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) وهو استفهام في معنى النفي أي لا ينفعه ماله الذي بخل به (إِذا تَرَدَّى) أي مات من الردى وهو الهلاك. ويجوز أن يكون من قولهم «تردّى من الجبل» أي تردّى من الحفرة في القبر أو في قعر جهنم. استدل المعتزلة بقوله (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) على أنه تعالى أزاح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في سعته وطاقته ، وعلى أنه يجب على الله الهداية ، وعلى أن العبد لو لم يكن مستقلا بالإيجاد

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٧٩).

٥١١

لما كان في وضع الدلائل فائدة. وأجوبة أهل السنة عن المسائل الثلاث معلومة. ونقل الواحدي عن الفراء وجها آخر وهو أن المراد إن علينا للهدى والإضلال فاقتصر كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل: ٨١] وأكدوا ذلك بما روي عن ابن عباس في رواية عطاء أن معنى الآية أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي. ثم بين بقوله (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أن لله كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضره عصيان العاصين ولا ينفعه طاعة المطيعين ، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم. ويمكن أن يراد أن سعادة الدارين تتعلق بمشيئته وإرادته فيعطي الهداية من يشاء ويمنعها من يشاء. والأول أوفق للمعتزلة والثاني للأشاعرة. ثم ذكر نتيجة المواعظ المذكورة قائلا (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) يعني إذا عرفتم هذه البيانات الوافية والتقريرات الشافية فقد صح أني أنذرتكم ، ويجوز أن يراد بالمضيّ تحقق الوقوع. والمعنى على الاستقبال أي إذا تقررت مراتب النفوس الإنسانية وعرفتم درجاتها ودركاتها فإني أنذرتكم نارا تلظى تتلهب وتتوقد وأصله تتلظى حذف إحدى التاءين. ثم إن كان المراد بالأشقى هو أبو سفيان أو أمية وبالأتقى هو أبو بكر فلا إشكال وتتناول الآية غيرهما من الأشقياء والأتقياء بالتبعية إذ لا عبرة بخصوص السبب ، وإن كان المراد أعم فإن أريد بهم الشقي والتقي فلا إشكال أيضا ، وإن أريد حقيقة أفعل التفضيل فإما أن يراد نار مخصوصة بدلالة التنكير ، وإما أن يراد بالأشقى الكافر على الإطلاق لأنه أشقى من الفاسق. وأما الكلام في الأتقى فنقول: إنه لا يلزم من تخصيصه بالذكر نفي ما عداه. قال جار الله: هذا الكلام وارد على سبيل المبالغة فجعل الأشقى مختصا بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له ، وجعل الأتقى مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقوله (يَتَزَكَّى) أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا ، أو هو من الزكاة لا محل له لأنه بدل من (يُؤْتِي) والصلة لا محل لها لأنها كبعض الكلمة ، أو هو منصوب المحل على الحال. قال بعض المفسرين: إن بلالا كان يعذب في الله وهو يقول أحد أحد ، فسمع بذلك أبو بكر فحمل رطلا من ذهب فابتاعه به فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ) قال أكثر النحويين: هذا الاستثناء منقطع لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة. وقال الفراء: وهو مفعول له من (يُؤْتِي) على المعنى أي لا ينفق ماله إلا ابتغاء رضوان الله لا لمكافأة نعمة (وَلَسَوْفَ يَرْضى) عن الله أو يرضى الله عنه فيكون راضيا مرضيا. واعلم أن بعض الشيعة زعموا أن السورة نزلت في عليّ رضي‌الله‌عنه لقوله (يَتَزَكَّى) لأنه قال في موضع آخر (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة: ٥٥] وقال بعض أهل السنة: إنها تدل على أفضلية أبي بكر لأنه قال في وصف عليّ وسائر أهل البيت

٥١٢

رضي‌الله‌عنهم (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) إلى قوله (إِنَّا نَخافُ) [الدهر: ١٠٨] وذكر في صفة أبي بكر أنه لا ينفق إلا لوجه الله من غير شائبة رغبة أو رهبة ، وهذا المقام أعلى وأجل. وعندي أن أمثال هذه الدلائل لا تصلح لترجيح أكابر الصحابة بعضهم على بعض ، وأن نزول هذه السورة في الشخص الفلاني مبني على الرواية فلا سبيل للاستدلال إليه ، وإليه المرجع والمآب والله أعلم.

٥١٣

(سورة والضحى وهي مكية حروفها مائة واثنان وسبعون

كلمها أربعون آياتها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

القراآت: (سَجى) مثل (دَحاها) [الآية: ٣٠] في «النازعات».

الوقوف: (وَالضُّحى) ه لا (سَجى) ه لا (قَلى) ه لا (الْأُولى) ه لا (فَتَرْضى) ه ط (فَآوى) ه ص (فَهَدى) ه كـ (فَأَغْنى) ط (فَلا تَقْهَرْ) ه ط (فَلا تَنْهَرْ) ه ط (فَحَدِّثْ) ه.

التفسير: الأكثرون على أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر سلطانها. وقيل: هو النهار كله لإقرانه بالليل في القسم وهو ضعيف ، لأن معنى سجى سكن واستقر ظلامه ، أو سكون الناس فيه فيكون الإسناد مجازيا. يقال: سجا البحر إذا سكنت أمواجه ، وطرف ساج أي ساكن فاتر. ولا ريب أن سجوّ الليل وقت استيلاء الظلام منه لا كله فهو بمنزلة الضحى من النهار. وهاهنا لطائف: الأولى: قدم ذكر الليل في السورة المتقدمة وعكس هاهنا لانفراد كل منهما بفضيلة مخصوصة ، فالليل للراحة والنهار لانتظام أمر المعاش فقدّم هذا على ذلك تارة وبالعكس أخرى لئلا يخلو شيء من النوعين عن فضيلة التقديم. وأيضا تلك سورة أبي بكر وقد سبقه كفر يشبه الليل في الظلمة ، وهذه سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يسبقه كفر طرفة عين ولا أقل من ذلك ، فبدأ بالنهار الذي هو يشابه الإيمان. فإن ذكرت الليل أولا وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن ذكرت الضحى أولا وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نزلت وجدت بعده الليل وهو أبو بكر من غير واسطة بينهما كما وقع في نفس الأمر ، وكما ثبت من قصة الغار. الثانية: ما الحكمة في

٥١٤

تخصيص القسم في أول هذه السورة بالضحى والليل؟ والجواب لأن ساعات النهار كلما تنقص فإن ساعات الليل تزداد وبالعكس ، فلا تلك الزيادة للهوى ولا ذاك النقصان للقلى بل للحكمة ، فكذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس لا عن الهوى ولا عن القلى. وأما السبب في الأقسام نفسه فلأن الكفار لما ادّعوا أن ربه ودعه وقلاه وقد ثبت أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال لهم: هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه. وفيه أن الليل والنهار لا يسلمان من الزيادة والنقصان فكيف تطمع أن تسلم عن الخلق؟ وفيه أن الليل زمان الاستيحاش والنهار وقت الاجتماع والمعاش فكأنه قال: استبشر فإن بعد الاستيحاش بسبب انقطاع الوحي يظهر ضحى نزول الوحي. وفيه أن الضحى لما كان وقت موعد موسى لمعارضة السحرة كما قال (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه: ٥٩] شرفه الله بأن أقسم به فعلم منه أن فضيلة الإنسان لا تضيع ثمرتها. وفيه بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك حتى يسلموا. وفيه أن الضحى وهو ساعة من النهار يوازي جميع الليل كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته يوازي جميع الأنبياء وأممهم. وفيه أن النهار وقت السرور والاجتماع والليل وقت الغموم والوحشة ، ففي الاقتصار على ذكر الضحى إشارة إلى أن غموم الدنيا أدوم من سرورها. يروى أن الله تعالى حين خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة. ثم انكشف فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الهموم دائمة والأفراح نادرة. وفي تقديم الضحى على الليل إشارة إلى أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحصل كمالاته الممكنة له. وأيضا إنه ذكر الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره. الثالثة: لا استبعاد فيما يذكره الواعظ من تشبيه وجه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالضحى وشعره بالليل. ومنهم من قال: الضحى ذكور أهل بيته ، والليل إناثهم. أو الضحى رسالته ، والليل زمان احتباس الوحي كما مرّ. ويحتمل أن يقال: الضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع العيوب. أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا ، والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا. أو الضحى كمال العقل ، والليل وقت السكون في القبر. أو أراد أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيبا وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيبا. قال المفسرون: أبطأ جبريل عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثني عشر يوما عن ابن جريج ، أو خمسة عشر عن الكلبي ، أو

٥١٥

خمسة وعشرين يوما عن ابن عباس ، أو أربعين عن السدّي ومقاتل. والسبب فيه أن اليهود سألوه عن ثلاث مسائل كما مرّ في «الكهف» فقال ؛ سأخبركم غدا ولم يقل «إن شاء الله» أو لأنّ جروا للحسن والحسين كان في بيته أو لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار ، فزعم المشركون أن ربه ودعه وقلاه. وروي أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة. والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك. والقلى البغض وحذف المفعول من «قلاك» و «آواك» و «هداك» و «أغناك» للفاصلة مع دلالة قرينة الحال أو المقال. والذي يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكا إلى خديجة إن ربي ودعني وقلاني. إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجة ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت: والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك. ثم زاده تشريفا بقوله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) يعني هذا التشريف وهو إعلام أن ما ألقاه الحساد فيما بينهم من التوديع والقلى بهت محض وإن كان تشريفا عظيما إلا أن الذي أعدّ لأجلك في الآخرة أشرف وأسنى. وعلى تقدير انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون ذلك للعزل عن النبوة فإنه غير جائز لكنه يدل على قرب الوفاة المستتبعة للقرب من الله فلا يكون كما ظنه الأعداء. ويحتمل أن يراد: وللأحوال الآتية خير لك من الماضية فيكون وعدا بإتمام نوره وإعلاء أمره. وفي تخصيص الخطاب إشارة إلى أن في أمته من كانت الآخرة شر إليه إلا أن الله ستره عليهم ونظر قول موسى (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: ٩٩] لأنه كان في قومه من لم يكن لائقا بهذا المنصب ، وحين لم يكن في الغار إلا نبي أو صدّيق قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة: ٤٠] يروى أن موسى خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه‌السلام عن سبب ذلك فقال: إن في قومك نماما فقال موسى: من هو؟ فقال الله تعالى: إني أبغضه فكيف أعمل عمله؟ فما مضت مدة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في الموضع الفلاني فذهب موسى إلى ذلك الموضع فإذا فيه سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه. وهاهنا لطيفة وهي أنه تعالى ردّ ألوفا من المطيعين لمذنب واحد هاهنا يرحم ألوفا من المذنبين لمطيع واحد ودليله قوله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) فلعله حين بين أن الآخرة خير له عقبه ببيان تلك الخيرية وهي رتبة الشفاعة. يروى عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال: قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار». (١) وعن جعفر الصادق رضي الله

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٤٦.

٥١٦

عنه رضا جدّي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يدخل النار موّحد. وقال ابن عباس: هو ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها ، واللام في و (لَسَوْفَ) خالصة للتأكيد دون الحال كأنه قيل: الموعود كائن لا محالة وإن تأخر زمانه بحسب المصلحة. وقال جار الله: تقديره ولأنت سوف يعطيك لأن اللام لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد وفيه نظر. ثم عدد بعض نهمه التي أنعم بها عليه قبل إرساله وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك. قال أهل الأخبار: إن عبد الله بن المطلب توفي وأم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حامل به ، ثم ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة ، فهلكت وهو ابن ست سنين فكان مع جده ، ثم هلك جده بعد سنتين فكفل أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن ابتعثه الله للرسالة فقام بنصرته مدة مديدة ، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك قوله «فآواك» أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب. وفي تفسير تأويل الضلال قولان: الأول أنه الضلال عن الدين. فقال السدي والكلبي: كان على دين قومه أربعين سنة. الثاني وعليه الجمهور أنه ما كفر بالله طرفة عين والمراد عن معالم الشريعة الحنيفية كقوله (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى: ٥٢] وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة فأتى أبو جهل على ناقة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يديه وهو يقول: لا تدري ماذا نرى من ابنك. فقال عبد المطلب: ولم. قال: لأني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة فكانت الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يكون خلف المقتدي؟ قال ابن عباس: ردّه الله إلى جده بيد عدوّه كما فعل بموسى حين رباه بيد عدوّه. وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب حتى دخلت هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتا إنما هلاكنا بيد هذا الصبي. وروي مرفوعا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهادني الله يعني حديث أبي جهل المذكور. وقيل: ضالا أي مغمورا بين الكفار من ضل الماء في اللبن. وقيل: مجاز في الإسناد والمعنى وجد قومك ضلالا فهداهم بك. وقيل: كنت منفردا عن اختلاط أهل الضلال فهداك إلى الاختلاط بهم وإلى دعوتهم. قيل: وعن الهجرة أو القبلة أو عن معرفة جبرائيل أول مرة ، أو عن أمور الدنيا أو عن طريق السموات فهداك ليلة المعراج. وقيل: الضلال المحبة لفي ضلالك القديم فهداك إلى وجه الوصول إلى المحبوب والمراد بالسلوك. روي عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال: قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو حفظت لي

٥١٧

غنمتي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان. فلما أتيت أول دار من دور مكة سمعت الدفوف والمزامير فقالوا: فلان تزوّج بفلانة. فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس. ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك. فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس. ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته. والعائل في الأصل كثير العيال ثم أطلق على الفقير وإن لم يكن له عيال لأن الفقر من لوازم العول. أغناه الله بتربية أبي طالب أوّلا ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له: ما لك؟ فقال: الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفد مالك فأستحيي منك ، وإن أنا لم أبذل أخاف الله. فدعت قريشا وفيهم الصدّيق. قال الصدّيق: فأخرجت دنانير حتى وصبتها أبلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه. وأما في زمان الرسالة فأغناه لمال أبي بكر ثم أمره بالهجرة وأعانه بإعانة الأنصار حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين. ثم أغناه بما أفاء عليه من الغنائم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وبعض هذه الأمور وإن كان بعد نزول السورة إلا أن معلوم الله كالواقع فيكون من قبيل الإخبار بالغيب وقد وقع فيكون معجزا. وقيل: الغنى هو القناعة وغنى القلب كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستوي عنده الحجر والذهب. قال أهل التحقيق: الحكمة في يتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم. وأن يكرم اليتيم المشارك له في الاسم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه وسعوا له في المجلس» وفيه أنه لا يعتمد من أول عمره إلى آخره على أحد سوى الله فيحصل له فضيلة التوكل كما قال جده إبراهيم «حسبي من سؤالي علمه بحالي». وفيه أن اليتم منقصة ومذلة فإذا صار أكرم الخلق كان من جنس المعجزات. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: سألت ربي مسألة لوددت أني لم أسألها قلت: اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلمت موسى تكليما ، وسخرت مع داود الجبال ، وأعطيت سليمان كذا وكذا. يقال: ألم أجدك يتيما فآويتك ، ألم أجدك ضالا فهديتك ، ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى. قال» (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح: ١] إلى آخره؟ قلت: بلى. أقول: إن صح إسناد هذا الحديث وجب حمله على الشكاية مع الله أو إلى الله لا من الله ، فإن الأول قد يتفق للعارفين في مقام الانبساط والقبض دون الثاني. وحين أذكره الله تعالى نعمه حتى لا ينسى نفسه أوصاه بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة الله معه فقال (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي فلا تغلبه على ماله وحقه لضعف حاله. وانتصب اليتيم بالفعل بعده. والفاء لتلازم ما بعدها لما قبلها. وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه. يروى أنها نزلت حين صاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولد

٥١٨

خديجة. وإذا كان هذا العتاب لمجرد الصياح أو العبوس فكيف إذا آذاه أو أكل ماله. عن أنس مرفوعا «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن فيقول الله تعالى: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده في التراب؟ من أسكته فله الجنة» ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جالسا فجاءه عثمان بعذق من تمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال: يرحم الله عبدا يرحمنا. فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج واشتراه من السائل ، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات إلى أن قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أسائل أنت أم بائع؟ فنزل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي فلا تزجر. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا رددت السائل فلم يرجع فلا عليك أن تزجره» قال العلماء: أما إنه ليس بالسائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره. ثم أمره بأن يحدث الناس بما أنعم به عليه من الإيواء والهداية والإغناء وغيره. وأعلم أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد ، نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) وأمره بتحديث نعمه ربه وهو في مقابلة قوله (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فالأنسب أن يكون المراد به التبليغ وأداء الرسالة وتكميل الناقصين بالدعاء إلى الدين كما قال مجاهد. ولقد روعي في الترتيب نكتة لطيفة فقدّم في معرض المنة النعمة الدينية وهي الهداية على النعمة الدنيوية وهي الإغناء وأما في معرض الإرشاد فقدّم الإشفاق على الخلق ، وأخر التحديث ليكون أدخل في الاستمالة وأجلب للدواعي فإنه ما لم ينتظم أمر المعاش لم تفرغ الخواطر لقبول التكاليف والتزام أمر المعاد. قال المحققون: التحديث بنعم الله تعالى جائز مطلقا بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي غيره به أو أن يشيع شكر ربه بلسانه ، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب فالستر أفضل. قالوا: إنما أخر التحديث تقديما لحظ الخلق على حظ نفسه لأنه غني وهم المحتاجون ولهذا رضي نفسه بالقول فقط ، ولأن الاستغراق في بحر الشكر ومعرفة المنعم غاية الغايات ونهاية الطاعات.

تنبيه: روي عن البزي أنه قال: قرأت على عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت (وَالضُّحى) قال: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك ، وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على عبد الله بن عباس تسع عشرة ختمة فأمره بذلك في كلها ، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بذلك. وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة (وَالضُّحى) إلى آخر القرآن. وهكذا روي عن قنبل. والسبب فيه أنه حين انقطع الوحي على ما سبق

٥١٩

ذكره وأنزلت السورة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: الله أكبر تصديقا لما أتى به وتكذيبا للكفار. قال العلماء: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله ولكنه من فعل فقد أحسن ومن ترك فلا حرج. واختلفوا في لفظ التكبير وكان بعضهم بقول: الله أكبر لا غير. وآخرون يقولون: لا إله إلا الله والله أكبر فيهللون قبل التكبير. وأما كيفية الأداء فاعلم أن القارئ إذا وصل التكبير بآخر السورة فإن كان آخرها ساكنا كسره لالتقاء الساكنين فإن همزة الوصل من أول اسم الله تسقط في الدرج وذلك ثلاثة مواضع (فَحَدِّثْ) الله أكبر (فَارْغَبْ) [الشرح: ٨] الله أكبر (وَاقْتَرِبْ) [العلق: ١٩] الله أكبر. وإن كان منونا كسره أيضا سواء كان المنون مفتوحا أو لا وهو (تَوَّاباً) [النصر: ٣] الله أكبر أو مضموما وهو ثلاثة (لَخَبِيرٌ) [العاديات: ١١] الله أكبر (حامِيَةٌ) [القارعة: ١١] الله أكبر وأحد الله أكبر ومكسورا وهو أربعة (مُمَدَّدَةٍ) [الهمزة: ٩] الله أكبر و (مَأْكُولٍ) [الفيل: ٥] الله أكبر و (خَوْفٍ) [قريش: ٤] الله أكبر و (مَسَدٍ) [المسد: ٥] الله أكبر. وإن كان آخر السورة متحركا غير منون تبقى الحركة بحالها فالمفتوح ثلاثة (الْحاكِمِينَ) [التين: ٨] الله أكبر و (الْماعُونَ) [الماعون: ٧] الله أكبر و (حَسَدَ) [الفلق: ٥] الله أكبر والمضموم ثلاثة (رَبَّهُ) [البينة: ٨] الله أكبر و (يَرَهُ) [الزلزلة: ٨] الله أكبر و (الْأَبْتَرُ) [الكوثر: ٣] الله أكبر والمكسور خمسة (مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [الفجر: ٥] الله أكبر و (عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: ٨] الله أكبر و (بِالصَّبْرِ) [العصر: ٣] الله أكبر (وَلِيَ دِينِ) [الكافرون: ٦] الله أكبر (وَالنَّاسِ) [الناس: ٦] الله أكبر والله أعلم.

٥٢٠