تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

فاسقا بكذبه. وقيل: إن الوليد لم يقصد الكذب ولكنه ظن حين اجتمعوا لإكرامه أن يكونوا هموا بقتله. ولقائل أن يقول: لفظ القرآن وسبب النزول يدل على خلافه. نعم لو قيل: إنه تاب بعد ذلك لكان له وجه. ثم أرشدهم إلى أمر آخر قائلا (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) وليس هذا الأمر مقصودا بظاهره لأنه معلوم مشاهد فلا حاجة إلى التنبيه عليه ، وإنما المراد ما يستلزم كونه فيهم كما يقال لمن يغلط في مسألة أو يقول فيها برأيه: اعلم أن الشيخ حاضر. ثم قيل: المراد لا تقولوا الباطل والكذب فإن الله يخبره ويوحي إليه. وقيل: أراد أن الرأي رأيه فلا تعدوا رأيه وقد صرح بهذا المعنى في قوله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) لوقعتم في العسر والمشقة والحرج لأنه أعلم منكم بالحنيفية السهلة السمحاء ، ومن جملة ذلك قصة الوليد فإنه لو أطاعه وقبل قوله لقتل وقتلتم وأخذ المال وأخذتم فاتهمتم. قال جار الله: الجملة المصدّرة بلو ليس كلاما مستأنفا لاختلال النظم حينئذ ولكنها حال من أحد الضميرين في (فِيكُمْ) وهو المستتر المرفوع أو البارز المجرور. والمعنى أن فيكم رسول الله على حالة يجب تغييرها وهي أنكم تطلبون منه اتباع آرائكم. قلت: قد ذكرنا في وجه النظم بيانا آخر. ثم قال: فائدة تقديم خبر «أن» هو أن يعلم أن التوبيخ ينصب إلى هذا الغرض. وفائدة قوله (يُطِيعُكُمْ) بلفظ الاستقبال الدلالة على ما أرادوه من استمرار طاعته لهم وأنه لا يخالفهم في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء. وفي قوله (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب. ويمكن أن يكون إشارة إلى تصويب رأي بعضهم لا إلى تصويب بعض رأيهم فقد قيل: إن بعضهم زينوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وبعضهم كانوا يرون التحلم عنهم إلى أن يتبين أمرهم ، وقد أشار إلى هذا البعض بقوله (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي إلى بعضكم وإلا لم يحسن الاستدراك يعني بـ (لكِنَ) فإن من شرطه مخالفة ما بعده لما قبله. فلو كان المخاطبون في الطرفين واحدا لم يكن للاستدراك معنى بل يؤدّي إلى التناقض لأنه يكون قد أثبت لهم في ثاني الحال محبة الإيمان وكراهة العصيان ، وذكر أوّلا أنه توجب إجابتهم الوقوع في العنت. قال أهل اللغة: الطاعة موافقة الداعي غير أن المستعمل في حق الأكابر الإجابة ، وفي حق الأصاغر الطاعة ، وقد ورد القرآن على أصل اللغة. استدلت الأشاعرة بقوله (حَبَّبَ) و (كَرَّهَ) على مسألة خلق الأفعال. وحملها المعتزلة على نصب الأدلة أو اللطف والتوفيق أو الوعد والوعيد. والمعنى ولكن الله حبب إليكم الإيمان فأطعتموه فوقاكم العنت والكفر واضح. وأما الفسوق والعصيان فقيل: الأوّل الكبائر والثاني

١٦١

الصغائر. ويحتمل أن يكون الكفر مقابل التصديق بالجنان ، والفسوق مقابل الإقرار باللسان لأن الفسق هاهنا أمر قولي بدليل قوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) سماه فاسقا لكذبه والعصيان مقابل العمل بالأركان (أُولئِكَ) البعض المتبينون (هُمُ الرَّاشِدُونَ) وهذه جملة معترضة. وقوله (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) كل منهما مفعول له والعامل فيهما (حَبَّبَ) و (كَرَّهَ) ويجوز أن يكونا منصوبين عن الراشدين لأن الرشد عبارة عن التحبيب والتكريه المستندين إلى الله ، فكأن الرشد أيضا فعله فاتحد الفاعل في الفعل والمفعول له بهذا الاعتبار. ويجوز أن يكونا مصدرين من غير لفظ الفعل وهو الرشد فكأنه قيل: فأولئك هم الراشدون رشدا لأن رشدهم إفضال وإنعام منه. قال بعض العلماء: الفضل بالنظر إلى جانب الله الغنيّ ، والنعمة بالنظر إلى جانب العبد الفقير (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال الخلق وما بينهم من التمايز والتفاضل (حَكِيمٌ) في تدابيره وأفضاله وأنعامه.

ثم علمهم حكما آخر. في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال: إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) جمع لأن الطائفتين في معنى القوم ، أو الناس ، أو لأن أقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصلح بينهم. وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. وقال ابن بحر: القتال لا يكون بالنعال والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان. والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة: ١٢٢] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير «أن» دون «إذا» مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا وعلى سبيل الفرض والتقدير ، ولهذه النكتة بعينها قال (طائِفَتانِ) ولم يقل «فريقان» تحقيقا للتقليل كما قلنا. وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضا إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبئ عن الاستمرار. وفيه أيضا من التقابل ما فيه. وإنما قدم الفعل في قوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ليعلم أن المجيء بالنبإ الكاذب يورث كون الجائي به فاسقا سواء كان قبل ذلك فاسقا أم لا ، ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجيء بالنبإ. قال بعض العلماء: إنما

١٦٢

قال (اقْتَتَلُوا) على الجمع ولم يقل «فأصلحوا بينهم» لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه ، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد. والبغي الاستطالة وإباء الصلح ، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس ، أو لأن الناس يرجعون إليه ، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين. ومعنى قوله (إِلى أَمْرِ اللهِ) قيل: إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: ٥٩] وقيل: إلى الصلح لقوله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: ١] وقيل: إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان. وإنما قال (فَإِنْ بَغَتْ) ولم يقل «فإذا» بناء على أن بغي إحداهما مع صلاح الأخرى كالنادر ، وكذا قوله (فَإِنْ فاءَتْ) لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده: «إن مت فأنت حر». مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حيا باقيا في ملكه غير معلوم.

واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلانا بحسب الظن لا القطع ، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعا ، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة. وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عنادا لأنه لا تأويل له. ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي. والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة لقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) وعن عليّ رضي‌الله‌عنه: إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي‌الله‌عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم. وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر: أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست بسكن لنا. واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغينللحديث المشهور «إن عمارا تقتله الفئة الباغية» (١) وقد يقال: إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [المائدة: ٥٤] والمرتد ليس بمؤمن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب ٦٣ مسلم في كتاب الفتن حديث ٧٠ الترمذي في كتاب المناقب باب ٣٤ أحمد في مسنده (٢ / ١٦١)

١٦٣

بالاتفاق. أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال ، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح ، لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضا بضمان نفس ومال ، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة. والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين. والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال ، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال ، وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا ، ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلا وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات ، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح. والثاني قوله (بِالْعَدْلِ) لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى. واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل عليا رضي‌الله‌عنه زاعما أن له شبهة وتأويلا فأمر بحبسه وقال لهم: إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي‌الله‌عنه وما أنكر عليه أحد. وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب. وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا ، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط. قوله (وَأَقْسِطُوا) أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين. قال أهل اللغة: القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين. وعود قاسط يابس ، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور. وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم والسباب ونحو ذلك فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي حالهم لا يعدو الأخوة الدينية إلى ما يضادّها (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بإيصال المظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم. والتثنية بحسب الأغلب ، ويحتمل أن يقال: إنه شامل لما دون الطائفتين. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل» (وَاتَّقُوا اللهَ) في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم.

ثم شرع في تأديبات أخر. والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور. قال جمهور المفسرين: إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٦٤

أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول. فجاء يوما وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا. فقال له رجل: أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت مغضبا ثم قال للرجل: يا فلان ابن فلانة يريد أمّا كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت. وقيل: نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء. وقيل: في كعب بن مالك قال لعبد الله: يا أعرابي. فقال له عبد الله: يا يهودي. وقيل: نزلت (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر. ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد. وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع. وإنما لم يقل «رجل من رجل ولا امرأة من امرأة» زيادة للتوبيخ وتنبيها على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع إلى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ. وإنما لم يقل «رجل من امرأة» وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى. وقوله (عَسى أَنْ يَكُونُوا) كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي. عن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. قوله سبحانه (وَلا تَلْمِزُوا) تأديب آخر واللمز الطعن باللسان. والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم. قيل: اللمز والسب خلف الإنسان ، والهمز العيب في وجهه الإنسان. وقيل: بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم ، وهو يدل على البعد ، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضا. قوله (وَلا تَنابَزُوا) تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب ، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم ، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم. وإنما قال (وَلا تَنابَزُوا) ولم يقل ولا تنبزوا على منوال (وَلا تَلْمِزُوا) لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالبا فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلا ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيرا ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط. ثم أكد النهي عن التنابز بقوله (بِئْسَ الِاسْمُ) أي الذكر (الْفُسُوقُ) وفي قوله (بَعْدَ الْإِيمانِ) وجوه أحدها: استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول «بئس الشأن الصبوة

١٦٥

بعد الشيخوخة» أي معها. وثانيها بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه ، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه. وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة «بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة» فمعنى بعد الإيمان بدلا عن الإيمان (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عما نهي عنه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأن الإصرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي. كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) فيه تأديب آخر. ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب. وإنما قال (كَثِيراً) ولم يقل الظن مطلقا لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي» (١) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» (٢) وقال «إن حسن الظن من الإيمان» ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء». وهو الذي أمر في الآية باجتنابه. ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من الحزم سوء الظن» وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «احترسوا من الناس بسوء الظن» ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية. قال أهل المعاني: إنما نكر (كَثِيراً) ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه. والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه. تأديب آخر (وَلا تَجَسَّسُوا) وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) [يوسف: ٨٧] فبالجيم تفعل من الجس ، وبالحاء من الحس. قال مجاهد: معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في خطبته «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته» (٣) وهذا الأدب كالسبب لما قبله. فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضا. تأديب آخر (وَلا يَغْتَبْ) يقال غابه واغتابه بمعنى ، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، وسئل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٣٥ مسلم في كتاب التوبة حديث ١ الترمذي في كتاب الزهد باب ٥١ ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٨ الدارمي في كتاب الرقاق باب ٢٢ أحمد في مسنده (٢ / ٢٥١ ، ٣١٥)

(٢) رواه مسلم في كتاب الجنة حديث ٨١ ـ ٨٢ أبو داود في كتاب الجنائز باب ١٣ ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٤ أحمد في مسنده (٣ / ٢٩٣ ، ٣١٥)

(٣) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٤٢١ ، ٤٢٤)

١٦٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال «أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقا اغتبته وإن كنت كاذبا فقد بهته» (١) ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال (أَيُحِبُ) إلى آخره. وفيه أنواع من المبالغة منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه ، ومنها إسناد الفعل إلى (أَحَدُكُمْ) ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك ، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان ، ومنها تقييد الإنسان بالأخ ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتا ففيه مزيد تنفير للطبع. وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلانا ويمضغونه ، وفلان مضغة للماضغ. شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل. والميت لمزيد التنفير كما قلنا ، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه. أما الفاء في قوله (فَكَرِهْتُمُوهُ) ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه. أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحقق أيضا أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة. وقال ابن عباس: هي إدام كلاب الناس. وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة «لبئر من آبار مكة» لغار ماؤها. فلما راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا لحما. فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت. قلت: قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر ، وقد عبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما. واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق. ففي الحديث «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» وروي «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم».

وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية. قال بعض الرواة: إن ثابت بن قيس حين قال «فلان ابن فلانة» قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين ، فأنزل الله هذه الآية. وعن مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد:

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده ٢ / ٢٣٠ ، ٣٨٤ ، ٣٨٦) مسلم في كتاب البر حديث ٧٠ أبو داود في كتاب الأدب باب ٣٥ الترمذي في كتاب البر باب ٢٣ الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦.

١٦٧

الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء. فأتى جبريل عليه‌السلام فأخبره. وأقول: الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأي في سوق المدينة غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: فاشتراه رجل وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يوما فسأل عنه صاحبه فقال: محموم. فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل: هو في ذمائه. فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت. وقوله (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) فيه وجهان: أحد هما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة ، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلا ، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ، لأن الكافر كالأنعام بل أضل ، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس. والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله. وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال «كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان» فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم. فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا ، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما ، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب. ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب. قيل: الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب. وقال جار الله: الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب. أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك: خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة.

فائدة: لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر ، والجعل يستعمل فيما يتفرع

١٦٨

عليه ، ولهذ قال (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام: ١] وقال في الآية (خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) ولكنه قال في موضع آخر (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: ٥٦] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وفيه معنيان: أحد هما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله. والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال «ألذ الأطعمة أحلاها» أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال «الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها. يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» (١) قال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بظواهركم (خَبِيرٌ) ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى. وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف. قال ابن عباس: إن نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر ، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة ، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات. أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال: لن تؤمنوا إيمانا حقيقيا وهو الذي وافق القلب فيه اللسان. (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) يعني إسلاما لغويا وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم. ثم أكد النفي المذكور بقوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن «لما» حرف فيه توقع وانتظار. ثم حثهم على الطاعة بقوله (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ) أي لا ينقصكم (مِنْ) ثواب (أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام: ١٦٠] ألت يألت بالهمز إذا نقص وهي لغة غطفان. يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألت. ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتا. وقال قطرب: ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه. فيكون (يَلِتْكُمْ) على وزن «يعدكم» ، وعلى الوجه المتقدم على وزن «يبعكم». (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب وأخلص نيته. ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ومعنى «ثم» في قوله (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) كما في قوله (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت: ٣٠] وارتاب مطاوع رابه

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٢٤)

١٦٩

إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس. وقال جار الله: وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مزيته وإشعارا بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضا جديدا. وفي قوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) تعريض بأن المذكورين أولا كاذبون ولهذا قال (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح. ثم أراد تجهيلهم بقوله (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به. وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية. والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة؟ وقيل: تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) نزلت في المذكورين وفي أمثالهم. يقال: منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعاما. قال أهل العربية: اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض. ثم قال (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه. وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم ، وفي إيراد الإيمان مطلقا غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه. وجواب الشرط محذوف أي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم. ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) الآية والمراد أنه لا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب.

١٧٠

(سورة ق مكية حروفها ألف وأربعمائة وسبعة وسبعون كلماتها ثلاثمائة وخمس وسبعون آياتها خمس وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ

١٧١

هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

القراآت:

ميتا بالتشديد: يزيد وعيدي وما بعده مثل التي في «إبراهيم» يوم يقول بالياء: نافع وأبو بكر وحماد (امْتَلَأْتِ) بإبدال الهمزة ألفا: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف يوعدون على الغيبة: ابن كثير وإدبار بكسر الهمزة: أبو جعفر ونافع وابن كثير وحمزة وخلف وجبلة المنادي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وفي الوصل.

الوقوف:

(ق) ط كوفي ولو جعل قسما فلا يوقف للعطف (الْمَجِيدِ) ه ج لأن «بل» قد يجعل جواب القسم تشبيها بأن في التحقيق وفي توكيد ما بعده ، وقد يجعل جوابه محذوفا أي لتبعثن (تُراباً) ج لأن ذلك مبتدأ إلا أن المقول واحد (بَعِيدٌ) ه (مِنْهُمْ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (حَفِيظٌ) ه (مَرِيجٍ) ه (فُرُوجٍ) ه (بَهِيجٍ) ه لا لأن (تَبْصِرَةً) مفعول لأجله (مُنِيبٍ) ه (الْحَصِيدِ) ه لا لأن النخل معطوف على الجنات والحب (نَضِيدٌ) ه لا لأن المراد أنبتناها لأجل الرزق (لِلْعِبادِ) ط للعطف (مَيْتاً) ط (الْخُرُوجُ) ه (وَثَمُودُ) ه (لُوطٍ) ه لا (تُبَّعٍ) ط (وَعِيدِ) ه (الْأَوَّلِ) ط (جَدِيدٍ) ه (نَفْسُهُ) ج وجعل ما بعدها حالا أولى من الاستئناف فيوقف على الوريد و «إذ» يتعلق بمحذوف وهو «أذكر» أو بقوله (ما يَلْفِظُ) فلا يوقف على (قَعِيدٌ). (عَتِيدٌ) ه (بِالْحَقِ) ط (تَحِيدُ) ه (الصُّورِ) ط (الْوَعِيدِ) ه (وَشَهِيدٌ) ه (حَدِيدٌ) ه (عَتِيدٌ) ه لتقدير القول (عَنِيدٍ) ه لا (مُرِيبٍ) ه لا بناء على أن ما بعده صفة أخرى ولو جعل مبتدأ لتضمنها معنى الشرط أو نصبا على المدح فالوقف (الشَّدِيدِ) ه (بَعِيدٍ) ه (بِالْوَعِيدِ) ه (لِلْعَبِيدِ) ه (مَزِيدٍ) ه (بَعِيدٍ) ه (حَفِيظٍ) ه ج لاحتمال أن تكون «من» شرطية جوابها القول المقدر قبل أدخلوها أو موصولة بدلا من لكل (مُنِيبٍ) ه (بِسَلامٍ) ط (الْخُلُودِ) ه

١٧٢

ط (مَزِيدٌ) ه (الْبِلادِ) ط للاستفهام. قال السجاوندي: وعندي أن عدم الوقف أولى لأن النقب وهو البحث والتفتيش وأقع على جملة الاستفهام. (مَحِيصٍ) ه (شَهِيدٌ) ه (لُغُوبٍ) ه (الْغُرُوبِ) ج لاحتمال تعلق الجار بما قبله وبما بعده (السُّجُودِ) ه (قَرِيبٍ) ه لا لأن ما بعده بدل (بِالْحَقِ) ط (الْخُرُوجِ) ه (الْمَصِيرُ) ه لا لتعلق الظرف (سِراعاً) ط (يَسِيرٌ) ه (وَعِيدِ) ه.

التفسير: قيل: إن قاف اسم جبل من زبرجد أخضر محيط بالأرض وخضرة السماء منه. وقيل: قادر أو قاهر ونحو ذلك من أسماء الله مما أوله قاف. وقيل: قضي الأمر. وقيل: قف يا محمد على أداء الرسالة. والأقوال المشتركة بين الفواتح مذكورة ، وإعراب فاتحة هذه السورة كإعراب أول «ص» ، وبينهما مناسبة أخرى من قبل وقوع الإضراب بعد القسم ووجهه ما مر. ومن قبل أن أكثر مباحث تلك السورة في المبدأ والتوحيد. وفي أوّل خلق البشر ، وأكثر أبحاث هذه السورة في الحشر والخروج ولهذا سنت قراءتها في صلاة العيد لأنه يوم الاجتماع وخروج الناس إلى الفضاء. والمجيد ذو المجد حقيقة في القرآن لأنه أشرف من سائر الكتب أو مجاز باعتبار قارئه وعالمه والعامل به. ومعنى (مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي من جنسهم أو من بينهم فتوجه العجب إلى الإنذار بالبعث أوّلا ثم إلى كون المنذر منهم ، ولعل الأول أدخل عندهم في استحقاق التعجب منه فلهذا أشاروا إليه بقولهم (هذا) الرجع أو البعث (شَيْءٌ عَجِيبٌ) أبهم الضمير أوّلا في (عَجِبُوا) ثم فسره ثانيا في قوله (فَقالَ الْكافِرُونَ) أو اقتصر على الضمير أوّلا للتعليم بهم ثم وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالكفر. ثم زادوا في التعجب والتعجيب بقولهم (أَإِذا مِتْنا) والتقدير انبعث وقت الموت والصيرورة ترابا (ذلِكَ) الرجع أي البعث (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي يستبعد في العقول. وقيل: إنه من كلام الله عزوجل. والرجع بمعنى الجواب أي جواب هؤلاء الكفار في دعوى المنذر جواب بعيد عن حيز العقل لدلالة البراهين الساطعة على وجود الحشر والنشر منها شمول علم الله تعالى بأجزاء الميت على التفصيل ، وإلى هذا أشير بقوله (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ) من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» (١) وعن السدي: ما تنقص الأرض منهم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣٩ باب ٢ مسلم في كتاب الفتن حديث ١٤١ ـ ١٤٣ أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٢ النسائي في كتاب الجنائز باب ١١٧ الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٤٩ أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٢).

١٧٣

بالموت ويدفن في الأرض منهم. (وَعِنْدَنا كِتابٌ) هو اللوح المحفوظ من التغيير ومن الشياطين. ثم أتبع الإضراب الأول إضرابا آخر فقال (بَلْ كَذَّبُوا) والمقصود أن تكذيبهم (بِالْحَقِ) الذي هو محمد أو القرآن أو الأخبار بالبعث في أوّل وهلة من غير تدبر أفظع من تعجبهم. والمريج أمر دينهم المضطرب المخلوط بالشبهات والشكوك ولهذا نسبوا القرآن تارة إلى السحر وأخرى إلى الشعر أو الكهانة وقالوا في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك. ثم استدل على حقية المبدأ والمعاد بوجوه أخر: منها بناء السماء ورفعها بلا عمد ولا فروج أي شقوق وفتوق ولكنها صحيحة الاستدارة من جميع الجوانب. وليس في الآية دلالة على امتناع الخرق على السماء لأن الإخبار عن عدم الوقوع لا ينافي إمكانه. نعم إنه مناف لوجود نحو الأبواب فيها ظاهرا اللهم إلا أن تدعي المغايرة بين الفروج والأبواب. وفي قوله (فَوْقَهُمْ) مزيد توبيخ لهم ونداء عليهم بغاية الغباوة. ومنها مدّ الأرض أي دحوها. ومنها خلق الجبال الرواسخ. ومنها خلق أصناف النبات مما يبتهج به ويروق الناظر لخضرته ونضرته كل ذلك ليتبصر به ويتذكر من يرجع إلى ربه ويفكر في بدائع المخلوقات ويرتقي إلى الصانع من المصنوعات. ومنها إنزال ماء المطر الكثير المنافع المنبت للجنات والحبات. والحصيد صفة موصوف محذوف أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة وغيرها من الأقوات ونحوها. والباسقات التي طالت في السماء ، والطلع أوّل ما يبدو من ثمر النخيل ، والنضيد الذي نضد بعضه فوق بعض ، والمراد كثرة الطلع وتراكمه المستتبع لكثرة الثمر. ثم شبه بإحياء الأرض خروج الموتى كما قال في الروم (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) [الآية: ١٩] ثم هدّدهم بأحوال الأمم السالفة وقد مر قصصهم مرارا. وأما حديث أصحاب الرس فلم يذكر إلا في «الفرقان» وحديث تبع في «الدخان». وأراد بفرعون قومه لأن المعطوف عليه أقوام (فَحَقَّ وَعِيدِ) مثل (فَحَقَّ عِقابِ) [ص: ١٤] وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم دل على الحشر بضرب آخر من البيان وهو أن الذي لم يعي أي لم يعجز عن الخلق الأول بالنسبة إلى أيّ مخلوق فرض كيف يعجز عن الإعادة؟ واللبس الخلط والشبهة ، وتنكير اللبس والخلق الجديد للتعظيم أي لبس عظيم ، وخلق له شأن وحق عليه أن يهتم به ولا يغفل عنه.

ثم شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله سبحانه وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. والوسوسة الصوت الخفي. والباء في (بِهِ) للتعدية و «ما» مصدرية أي نعلم جعل نفسه إياه موسوسا. والقرب مجاز عن العلم التام كقولهم «هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار» وما في الآية أدل على الإفراط في القرب لأن الوريد جزء من بدن الإنسان

١٧٤

يريد أن علمه ينفذ في بواطن الأشياء نفوذ الدم في العروق. والوريد العرق الحامل للدم سوى الشرايين ، سمي وريدا لأن الروح أو الدم يرده. والوريدان عرقان يكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها يتشعبان من الرأس يتصلان بالوتين. والحبل العرق أيضا شبه بواحد الحبال والإضافة للبيان كإضافة العام إلى الخاص. قال جار الله: «إذ» منصوب بـ (أَقْرَبُ) والمراد أنه أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به. وفيه أن كتابة الملكين لا حاجة إليها لعلام الغيوب وإنما هي لأغراض أخر كإلزام العبد واستحيائه منهما. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن مقعد ملكيك على ـ ثنييك أي عطفيك ـ ولسانك قلمهما وريقك مداد هما وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما» ويجوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب فكأنه قيل: لا يخفى عليه شيء لأن حفظته موكلون به. والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس ، والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاختصر المفاعلة. وإما بالنسبة إلى الملك الآخر وإما بالإضافة إلى الإنسان ، والعتيد الحاضر. قال أكثر المفسرين: إنهما يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا الحسنات والسيئات. وقيل: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه. وحين حكى إنكارهم البعث واحتج عليهم بالدلائل الباهرة أخبر عن قرب القيامتين الصغرى والكبرى بأن عبر عنهما بلفظ الماضي وهو قوله (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) ونفخ في الصور وسكرات الموت حالاته الذاهبة بالعقل. والباء في (بِالْحَقِ) للتعدية أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلبة الحال من تحقق وقوع الموت أو من سعادة الميت أو ضدّها كما نطق بها الكتاب والسنة ، أو المراد وجاءت ملتبسة بالغرض الصحيح الذي هو ترتب الجزاء على الأعمال (ذلِكَ) المجيء (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تميل وتهرب أيها الإنسان. ولا ريب أن هذا الهرب للفاجر يكون بالحقيقة وللبر يكون بسبب نفرة الطبع إلا أنه إذا فكر في أمر نفسه وما خلق هو لأجله علم أن الموت راحة وخلاص عن عالم الآفات والبليات. قوله (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) إشارة إلى النفخ والمضاف محذوف أي وقت النفخ الثاني آن زمان الوعيد. والسائق والشاهد ملكان ، أحد هما يسوقه إلى المحشر أو إلى الجنة أو النار كما قال (وَسِيقَ) والآخر يشهد عله بأعماله ويجوز أن يكون ملكا واحدا جامعا بين الأمرين. ويجوز أن يكون الرقيب المذكور والجملة حال من كل لأنه لعمومه كالمعرفة. ثم يقال للإنسان. (لَقَدْ كُنْتَ) في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) الأمر (فَكَشَفْنا عَنْكَ) بقطع العلائق الحسية ومفارقة النفس الناطقة (غِطاءَكَ) وهو الاشتغال بعالم المحسوسات (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) غير كليل متيقظ غير نائم. وقال ابن زيد: الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى: ٥٢] أي كنت

١٧٥

قبل الوحي في غفلة من هذا العلم. ثم بين أن الشيطان الذي هو قرين كل فاجر لقوله (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) [الزخرف: ٣٦] يقول لأهل المحشر أو لسائر القرناء قد أعتدت قريني لجهنم وهيأته لها. إن جعلت «ما» موصوفة فـ (عَتِيدٌ) صفة لها وإن جعلتها موصولة فـ (عَتِيدٌ) بدل أو خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يقول الشيطان لقرينه هذا البلاء النازل بك مما أعددته لك (أَلْقِيا) خطاب من الله للملكين السائق والشهيد أو للواحد على عادة قول العرب «خليلي» و «قفا». وذلك أن أكثر الرفقاء يكون ثلاثة. وقال المبرد: التثنية للتأكيد كأنه قيل: ألق ألق: نزلت تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل لاتحادهما. وجوز أن يكون الألف بدلا من نون التأكيد الخفيفة إجراء للوصل مجرى الوقف يؤيده قراءة الحسن ألقين. (عَنِيدٍ) ذي عناد أو معاند (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان يمنع بني أخيه من الإسلام وكان يقول: من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بخير ما عشت. (مُعْتَدٍ) ظالم (مُرِيبٍ) مشكك أو شاك في دين الله. قوله (قالَ قَرِينُهُ) جاء على طريقة الاستئناف بخلاف ما تقدّم فإنه جاء على طريق العطف كأن قرينه ـ وهو الفاجر ـ قال: يا رب إنه أطغاني فأجاب القرين وهو الشيطان (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ما أوقعته في الطغيان (وَلكِنْ كانَ) في الأزل (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) وقالت المعتزلة: ولكنه اختار الضلالة على الهدى.

ثم ذكر كلاما آخر مستأنفا كأن سائلا سأل فماذا قال الله؟ فقيل: (قالَ لا تَخْتَصِمُوا) وهذا هو الذي دل على أن ثمة مقاولة من الكافر لكنها طويت لدلالة الاختصام عليها والمعنى لا تختصموا في موقف الحساب (وَ) الحال أني (قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ) وفيه أن اختصامهم كان يجب أن يكون قبل ذلك في الدنيا كما قال (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر: ٦] والباء في (بِالْوَعِيدِ) إما مزيدة أو للتعدية على أن قدّم بمعنى تقدّم أو هو حال والمفعول جملة. قوله (ما يُبَدَّلُ) إلى آخره. أي قدّمت إليكم هذا الكلام مقرونا بالوعيد. قال في الكشاف: فإن قلت: إن قوله (وَقَدْ قَدَّمْتُ) حال من ضمير (لا تَخْتَصِمُوا) فاجتماعهما في زمان واحد واجب وليس كذلك لأن التقديم في الدنيا والاختصام في الآخرة. قلت: معناه لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدّمت إليكم بالوعيد وصحة ذلك عندهم في الآخرة. وأقول: لا حاجة إلى هذا التكلف والسؤال ساقط بدونه لأن مضيّ الماضي ثابت في أيّ حال فرض بعده. وقوله (لَدَيَ) إما أن يتعلق بالقول أي ما يبدّل القول الذي هو لديّ يعني ألقيا في جهنم ، أو لأملأن جهنم ، أو الحكم الأزلي

١٧٦

بالسعادة والشقاوة. وإما أن يتعلق بقوله (ما يُبَدَّلُ) أي لا يقع التبديل عندي. والمعاني كما مرت. ويجوز أن يراد لا يكذب لديّ ولا يفتري بين يديّ فإني عالم بمن طغى وبمن أطغى. ويحتمل أن يراد لا تبديل للكفر بالإيمان فإن إيمان اليأس غير مقبول. فقولكم «ربنا وإلهنا» لا يفيدكم. (يَوْمَ نَقُولُ) منصوب بـ (بِظَلَّامٍ) أو بـ «أذكر» قال أهل المعاني: سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تقرير المعنى في النفس. وقوله (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي من زيادة ، أو هو اسم مفعول كالمبيع لبيان استكثار الداخلين كما أن من يضرب غيره ضربا مبرحا أو شتمه شتما فاحشا يقول له المضروب: هل بقي شيء آخر يدل عليه قوله سبحانه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) فلا بدّ أن يحصل الامتلاء فكيف يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد؟ ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة وتضيقا للمكان عليهم ، أو لعل هذا الكلام يقع قبل إدخال الكل. وفيه لطيفة وهي أن جهنم تغيظ على الكفار فتطلبهم ، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المسلمين فتطلب الامتلاء من الكفار كيلا ينقص إيمان العاصي حرها ، فإذا أدخل العصاة النار سكن غيظها وسكن غضبها وعند هذا يصح ما ورد في الأخبار ، وإن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار فيها قدمه والمؤمن جبار يتكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله. وروي أنه لا يلقى فيها فوج إلا ذهب ولا يملؤها شيء فتقول: قد أقسمت لتملأني فيضع تعالى فيها قدمه أي ما قدّمه في قوله «سبقت رحمتي غضبي» (١) أي يضع رحمته فتقول: قط قط ويزوي بعضها إلى بعض ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنون فضول الجنة. قلت: لا ريب أن جهنم الحرص والشهوة والغضب لا تقر ولا تسكن ولا تنتهي إلى حدّ معلوم ، بل تقول دائما بلسان الحال هل من مزيد إلا أن يفيض الله سبحانه عليها من سجال هدايته ورحمته فيتنبه صاحبها وينتهي عن طلب الفضول ويقف في حدّ معين ويقنع بما تيسر ، وكذا الترقي في مدارج الكمالات ليس ينتهي إلى حدّ معلوم إلا إذا استغرق في بحر العرفان وكان هنالك ما كان كما قال (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قربت للمتقين يحتمل أن تكون الواو للاستئناف وأن تكون للعطف على (نَقُولُ) والمضي لتحقيق الوقوع المستدعي لمزيد البشارة ولم يكن المنذرون مذكورين في الآية المتقدّمة فلم يحتج إلى تحقيق الإنذار. وقوله (غَيْرَ بَعِيدٍ) نصب على الظرف أي مكانا غير بعيد عنهم ، أو على الحال. ووجه تذكيره مع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢ ، ٢٨ مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦ الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩ ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣ أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨)

١٧٧

تأنيث ذي الحال كما تقرر في قوله (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف: ٥٦] أنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل ، أو هو على حذف الموصوف أي شيئا غير بعيد. قال جار الله: معناه التوكيد كما تقول هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل ، وذلك أنه يجوز أن يتناول العزيز ذلّ ما من بعض الوجوه إلا أن الغالب عليه العز فإذا قيل عزيز غير ذليل أزيل ذلك الوهم ، وهكذا في كل تأكيد. فمعنى الآية أن الجنة قريب منهم بكل الوجوه وجميع المقايسات. وقال آخرون: إنه صفة مصدر محذوف أي إزلافا غير بعيد عن قدرتنا ، وذلك إن المكان لا يقرب وإنما يقرب منه فذكر الله سبحانه إن إزلاف المكان ليس ببعيد عن قدرتنا بطيّ المسافة وغير ذلك. ويحتمل أن يقال: الإزلاف بمعنى قرب الحصول كمن يطلب من الملك أمرا خطيرا فيقول الملك بعيد عن ذلك أو قريب منه ، ولا ريب أن الجنة بعيدة الحصول للمكلف لو لا فضل الله ورحمته ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من عبد يدخل الجنة إلا بفضل الله. فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (١) وقوله (غَيْرَ بَعِيدٍ) يراد به القرب المكاني كأنه تعالى ينقل الجنة من السماء إلى الأرض فيحصل فيها المؤمن. ومما سنح لهذا الضعيف وقت كتبه تفسير هذه الآية أن الشيء ربما يقرب من شخص ولكن لا يوهب منه ، وقد يملكه ولكن لا يكون قريبا منه فذكر الله سبحانه في الآية إن الجنة تقرب لأجل المتقين غير بعيد الحصول لهم بل كما قربت دخلوها وحصلوا فيها لا كما قيل:

على أن قرب الدار ليس بنافع

إذا كان من تهواه ليس بذي ود

وفي المثل البعيد القريب خير من القريب البعيد وذلك لأنهم حصلوا استعداد دخول الجنة وهو التقوى بخلاف الفاجر فإنه لا ينفعه القرب من الجنة لأن ملكاته الذميمة تحول بينه وبينها. ولك أن تشبه حالهما بحال الكبريت الجيد والحطب الرطب إذا قربا من الجمر ، وذلك أن تعتبر هذه الحالة في الدنيا فإن أهل الصلاح وأرباب النفوس المطمئنة يقبلون بل يستقبلون كل خير يعرض عليهم ، وأهل الشقاوة وأصحاب النفوس الأمارة يكون حالهم بالعكس يفرون من الخيرات والكمالات ويألفون الشرور واللذات الزائلات. ووجه آخر وهو أن الجنة قربت لهم حال كون كل واحد منهم غير بعيد عن لقاء الله ورضاه ، وفيه أن المتقين هم أهل الله وخاصته ليسوا بمن شغلوا بالجنة عن الاستغراق في لجة العرفان بل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ١٨ مسلم في كتاب المنافقين حديث ٧١ ـ ٧٣ ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٢٠ الدارمي في كتاب الرقاق باب ٢٤ أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٥ ، ٢٥٦)

١٧٨

لهم مع النعيم المقيم لقاء الرب الكريم. قوله عز من قائل (هذا ما تُوعَدُونَ) قال جار الله: إنه جملة معترضة. وقوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) بدل من قوله (لِلْمُتَّقِينَ) قلت: ولو جعل خبرا ثانيا لهذا لم يبعد. والمشار إليه الثواب أو الإزلاف. والأوّاب الرجاع إلى الله بالإعراض عما سواه ، والحفيظ الحافظ لحدود الله أو لأوقات عمره أو لما يجده من المقامات والأحوال فلا ينكص على عقبيه فيصير حينئذ مريدا لطريقه. قوله (مَنْ خَشِيَ) قد مر وجوه إعرابه في الوقوف. وجوز أن يكون منادى كقولهم «من لا يزال محسنا أحسن إليّ» وحذف حرف النداء للتقريب والترحيب ، وقرن بالخشية اسمه الدال على وفور الرحمة للثناء على الخاشي من جهة الخشية أوّلا ومن جهة خشيته مع علمه بسعة جوده ورحمته ومن جهة الخشية مع الغيب وقد مر مرارا ، وقد يقال: إنها الخشية في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال أهل الاشتقاق: إن تركيب خ ش ى يلزمها الهيبة ومنه للسيد ولكبير السن وتركيب الخوف يدل على الضعف ومنه الخفاء ، وكل موضع ذكر فيه الخشية أريد بها معنى عظمة المخشي عنه ، وكل موضع ذكر فيه الخوف فإنه أريد ضعف الخائف كقوله (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل: ٥٠] أو ضعف المخوف منه كقوله (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) [العنكبوت: ٣٣] يريد أنه لا عظمة لهم وقال (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) [الإنسان: ١٠] لأن عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله هينة. ووصف القلب بالمنيب باعتبار صاحبه أو لأن الإنابة المعتبرة هي الرجوع إلى الله بالقلب لا اللسان والجوارح (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي سالمين من الآفات أو مع سلام من الله وملائكته (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (يَوْمَ نَقُولُ) أي ذلك اليوم (يَوْمُ) تقدير (الْخُلُودِ) في النار أو في الجنة ويجوز أن يكون إشارة إلى وقت القول أي حين يقال لهم ادخلوها هو وقت تقدير الخلود في الجنة يؤيده قوله بعده (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) مما لم يخطر بالقلوب. ويجوز أن يراد به الذي ذكر في قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس: ٢٦] ويروى أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور فتقول الحور: نحن المزيد الذي قال الله تعالى (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).

ثم عاد إلى التهديد بوجه أجمل وأشمل قائلا (وَكَمْ أَهْلَكْنا) الآية. ومعنى الفاء في قوله (فَنَقَّبُوا) للتسبيب عما قبله من الموت كقوله «هو أقوى من زيد فغلبه» أي شدّة بطشم أقدرتهم على التنقيب وأورثتهم ذلك وساروا في أقطار الأرض وسألوا (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي مهرب من عذاب الله فعلموا أن لا مفر (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من أوّل السورة إلى هاهنا أو من حديث النار والجنة أو من إهلاك الأمم الخالية (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) واع فإن الغافل في حكم عديم القلب وإلقاء السمع الإصغاء إلى الكلام وفي قوله (وَهُوَ شَهِيدٌ)

١٧٩

إشارة إلى أن مجرد الإصغاء لا يفيد ما لم يكن المصغي حاضرا بفطنته وذهنه. وفي الآية ترتيب حسن لأنه إن كان ذا قلب ذكيّ يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك وإلا فلا بد أن يكون مستمعا مصغيا إلى كلام المنذر ليحصل له التذكير. قال المفسرون: زعمت اليهود أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش فردّ الله عليهم بقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا) إلى قوله (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي إعياء. ثم سلى رسوله فأمره بالصبر على أذى الكفار. وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى مع كمال قدرته واستغنائه صبر على أذى الجهلة الذين نسبوه إلى اللغوب والاحتياج إلى الاستراحة ، فكيف لا يصبر رسوله على إيذاء أمته؟ بل كيف لا يصبر أحدنا على أذى أمثالنا وخاصة إن كانوا مسلطين علينا؟ اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا وادفع عنا بقدرتك شر كل ذي شر وواغوثاه وواغوثاه وواغوثاه. وقد سبق نظير الآية في آخر «طه» ودلالتها على الصلوات الخمس ظاهرة (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أعقاب الصلوات فإن السجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة ، والأظهر أنه الأدعية والأذكار المشتملة على تنزيه الله تعالى وتقديسه. وقيل: النوافل بعد المكتوبات. وعن ابن عباس: هي الوتر بعد العشاء. ومن قرأ بكسر الهمزة أراد انقضاء الصلاة وإتمامها وهو مصدر وقع موقع الظرف أي وقت انقضاء السجود كقولك «آتيك خفوق النجم». قال أهل النظم: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له شغلان: أحدهما عبادة الله ، والثاني هداية الخلق. فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له: اصبر واقبل على شغلك الآخر وهو العبادة. ثم بين غاية التسبيح بقوله (وَاسْتَمِعْ) يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: ٩٩] ومفعول (اسْتَمِعْ) متروك أي كن مستمعا لما أخبرك به من أهوال القيامة ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين. قال جار الله: وفي ترك المفعول وتقديم الأمر بالاستماع تعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل: يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك. وانتصب يوم ينادي بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. والمنادي قيل الله كقوله (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) [القصص: ٣٢] (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات: ٢٢] والأظهر أنه إسرافيل صاحب الصيحة ينفخ في الصور فينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر. والمكان القريب صخرة بيت المقدس. يقال إنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية وهذا يؤيد القول بأن

١٨٠