تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

يَنْصُرُونَهُمْ) ط للعطف فيهما مع الابتداء بالقسم (لا يُنْصَرُونَ) ه (مِنَ اللهِ) ط (لا يَفْقَهُونَ) ه (جُدُرٍ) ط (شَدِيدٌ) ه (لا يَعْقِلُونَ) ه ج لتعلق الكاف بـ (لا يَعْقِلُونَ) أو بمحذوف أو مثلهم كمثل (أَمْرِهِمْ) ط لاحتلاف الجملتين (أَلِيمٌ) ه ج لما قلنا (اكْفُرْ) ط (الْعالَمِينَ) ه (فِيها) ط (الظَّالِمِينَ) ه (لِغَدٍ) ج لاعتراض خصوص بين العمومين أي لم يتق الله كل واحد منكم فلتنظر لغدها نفس واحد منكم (وَاتَّقُوا اللهَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (أَنْفُسَهُمْ) ط (الْفاسِقُونَ) ه (الْجَنَّةِ) الأولى ط (الْفائِزُونَ) ه (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (إِلَّا هُوَ) ج لاحتمال كون ما بعده خبر مبتدأ محذوف (وَالشَّهادَةِ) ج لاحتمال كون الضمير بدلا من عالم أو مبتدأ (الرَّحِيمُ) ه (إِلَّا هُوَ) ط لما قلنا (الْمُتَكَبِّرُ) ط (يُشْرِكُونَ) ه (الْحُسْنى) ط (وَالْأَرْضِ) ط (الْحَكِيمُ) ه.

التفسير: قال المفسرون: صالح بنو النضير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رايه ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبين إلى مكة فعاهدوا قريشا عند الكعبة ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة وكان أخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم: اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أحب إلينا من ذاك. فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة. فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم ، فذهبوا إلى اريحاء وأذرعات من الشام إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة. واللام في قوله (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) بمعنى الوقت كقولك «جئت ليوم كذا». وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان ، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين. وقيل: هذا أول حشرهم ، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما جاء في الحديث «نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب» (١) قاله

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب ١٢. الترمذي في كتاب الفتن باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٨. أحمد في مسنده (٢ / ٨) (٤ / ٧).

٢٨١

قتادة. وقيل: آخر حشرهم اجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل: معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال في الكشاف: الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل «وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم» هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلا على فرط وثوقهم بحصانتها ، وفي نصب ضميرهم اسما لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم. قلت: حاصل كلامه رضي‌الله‌عنه الحصر. ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمُ) ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة: ٢١٠] (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام: ١٥٨] ومعنى (لَمْ يَحْتَسِبُوا) أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه. وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما مر في آل عمران (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [آل عمران: ١٥١] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ولهذا قالوا في صفة الأسد «مقذف» فكأنما قذف باللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه. قال الفراء (يُخْرِبُونَ) بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها. وكان أبو عمرو ويقول: الإخراب أن يترك الشيء خرابا ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو «فرحته» و «أفرحته» و «حسنه الله» و «أحسنه». قال المفسرون: إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج. قلت: ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الازقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج. وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال ، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك. ثم أمر أهل الابصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع ، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس. ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله ، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء. واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا ، ورب

٢٨٢

ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي. وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم. وقيل: معنى الاعتبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته. والجلاء أن لم يبق لهم بالمدينة دار ولا فيها منهم ديار وهذا عندهم أشدّ من الموت فلهذا قال (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) بعد ما عاينوا في الدنيا (عَذابُ النَّارِ ذلِكَ) التخريب أو الجلاء أو العذاب بسبب مخالفتهم وعصيانهم الله ورسوله. قالت الفقهاء: فيه دليل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها فليس أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى (ما قَطَعْتُمْ) محله نصب و (مِنْ لِينَةٍ) بيان له كأنه قيل: أي شيء قطعتم من لينة وهي النخلة من الألوان ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل. وياؤها واو في الأصل كالديمة. وقيل: هي النخلة الكريمة من اللين فتكون الياء أصلية ، فبين الله تعالى أن ذلك جائز غيظا لقلوب الكفرة. واحتج الفقهاء بها على جواز هدم حصون الكفار وقلع أشجارهم. وعن ابن مسعود: قطعوا منها ما كان موضعا للقتال. وروي أن رجلين كان يقطع أحدهما العجوة والآخر يترك فسألهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال هذا: تركتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار. وقد يستدل بهذا على جواز الاجتهاد ولو بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أن كل مجتهد مصيب.

قوله (وَما أَفاءَ اللهُ) أدخل العاطف هاهنا دون الأخرى لأن تلك بيان لهذه فهي غير أجنبية عنها والأولى معطوفة على ما قبلها. ومعنى أفاء جعله فيئا من فاء إذا رجع وذلك لرجوعه من ملك الكفار إلى ملك المسلمين. والإيجاف من الوجيف وهو السير السريع. وقوله (عَلَيْهِ) أي على ما أفاء. والركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها ، وقلما تطلق العرب الراكب إلا على راكب البعير ، بين الله سبحانه الفرق بين الغنيمة والفيء حين طلب الصحابة أن يقسم أموال أولئك اليهود بينهم اعترض بعضهم بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة لا من الفيء. وأجاب المفسرون من وجهين: الأول أنها لم تنزل في بني النضير وإنما نزلت في فدك ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق على نفسه وعلى عياله من غلة فدك ويجعل الباقي في السلاح والكراع. الثاني تسليم

٢٨٣

أنها نزلت فيهم ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا على أرجلهم ولم يركب إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان راكب جمل ، فلما كانت المعاملة قليلة ولم يكن خيل ولا ركاب أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة. ثم روي أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهو أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن أبرهة قال الواحدي: كان الفيء مقسوما في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة أسهم: أربعة منها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وكذا خمس الباقي ، والأسهم الأربعة من هذا الباقي لذي القربى ولد بني هاشم والمطلب ، واليتامى والمساكين وابن السبيل. وأما بعد الرسول فللشافعي فيه قولان: أحدهما أنه للمجاهدين المترصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رباط الثغور. والثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سدّ الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر الأهم فالأهم. هذا في الأربعة الأخماس التي كانت له ، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقد مر سائر ما يتعلق بقسمة الغنائم في سورة الأنفال. ثم بين الغرض من قسمة الفيء على الوجه المذكور فقال (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) قال المبرد: هي اسم للشيء الذي يتداوله الناس بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة كالغرفة اسم لما يغرف. والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم. قال جار الله: هي بالضم ما يدول للانسان أي يدور من الجد يقال دالت له الدولة. فعلى قول المبرد معناه كيلا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء ، وعلى قول جار الله: كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء جدا بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو لكيلا يكون الفيء دولة جاهلية كان الرؤساء منهم يستأثرون بالغنائم لأنهم أهل الرياسة والجد والغلبة وكانوا يقولون من عزبر ومنه قول الحسن «اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا» يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به. ومن قرأ على «كان» التامة فالمعنى كيلا يقع شيء متعاورا بينهم غير مخرج إلى الفقراء ، أو كيلا تقع دولة جاهلية أي ينقطع أثرها. قوله (وَما آتاكُمُ) الآية. قيل: يختص بأنه يقسم الغنائم وأن على المؤمنين أن يرضوا بما يعطيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، والأولى عند المحققين العموم. قوله (لِلْفُقَراءِ) بدل من قوله (وَلِذِي الْقُرْبى) إلى آخر الأصناف الأربعة. ولا يجوز أيضا أن يكون ابتداء البدل من قوله (فَلِلَّهِ) لأنه يخل بتعظيم الله على ظاهر اللفظ وإن كان المعنى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يجوز أيضا أن يكون الابتداء من قولهم (وَلِلرَّسُولِ) لأنه تعالى أخرجه عن الفقراء بقوله (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ولترفع منصبه عن التسمية بالفقير. ولئن صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الفقر فخري» فذاك معنى آخر وهو غنى

٢٨٤

القلب وانقطاع التعلق عما سوى الله وجعل الهموم هما واحدا وهو الافتقار بالكلية إلى الله. استدل بعض العلماء بقوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) على إمامة أبي بكر لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلو لم تكن خلافته حقة لزم كذبهم وهو خلاف الآية. وقال في الكشاف: أراد صدقهم في إيمانهم وجهادهم. قوله (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) معطوف على المهاجرين وكذا قوله (وَالَّذِينَ جاؤُ) وذلك عند من يجعل الغنائم حلا للمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أو التابعين لهم إلى يوم القيامة وعلى هذا يكون قوله (يُحِبُّونَ) و (يَقُولُونَ) حالين أي الغنائم لهم محبين قائلين. ومن جعل المراد بيان غنائم بني النضير وقف على (هُمُ الصَّادِقُونَ) و (الْمُفْلِحُونَ) وجعل الفعلين خبرين. وعلى هذا يكون الآيتان ثناء على الأنصار على الإيثار ، وللتابعين على الدعاء. قال مقاتل: أثنى على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم. وهاهنا سؤالان أحدهما: أنه لا يقال تبوؤا الإيمان. الثاني بتقدير التسليم أن الأنصار ما تبوؤا الإيمان قبل المهاجرين. والجواب عن الأول أن المراد تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله:

«علفتها تبنا وماء باردا»

أو هو مجاز من تمكنهم واستقامتهم على الإيمان كأنهم جعلوه مستقرا لهم كالمدينة أو هو مجاز بالنقصان. والمعنى تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من الثاني ، أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مكان ظهور الإيمان وهذا يؤل بالحقيقة إلى الوجه الذي تقدمه. وعن الثاني أن المراد من قبل هجرتهم أو هو من تمام تبوء الدار ، ولا شك أن الأنصار سبقوهم في ذلك وإن لم يسبقوهم في الإيمان (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي حسدا وغيظا مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره. وإطلاق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة من إطلاق اسم اللازم على الملزوم لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة. وقال جار الله: المحتاج إليه يسمى حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي خلة فهي من خصاص البيت أي فرجه ، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة. ومفعول (يُؤْثِرُونَ) محذوف أي يؤثرونهم ويخصونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم. عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم ، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم. فقالوا: لا بل نقسهم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فنزلت. والشح المنع الذاتي الذي تقتضيه الحالة النفسانية ولهذا أضيف إلى النفس ، والبخل المنع المطلق من غير اعتبار صيرورته غريزة

٢٨٥

وملكة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وذكر المفسرون أنواعا من إيثار الأنصار الضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى شبع الضيف. والظاهر أنها نزلت في الفيء كما مر ويدخل فيه غيره. قوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي هاجروا بعد المهاجرين الأوّلين. وقيل: هم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ، فتشمل الآيات الثلاث جميع المؤمنين. ثم عجب من أحوال أهل النفاق من أهل المدينة كعبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن زيد ، كانوا في الظاهر من الأنصار ولكنهم يوالون اليهود في السر فصاروا إخوانهم في الكفر وقالوا لهم لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم أحدا. ثم شهد إجمالا عليهم بأنهم كاذبون ، ثم فصل ذلك قائلا (لَئِنْ أُخْرِجُوا) إلى قوله (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) وهذا على سبيل الفرض لأنه تعالى كما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون. والمعنى لو فرض نصر المنافقين اليهود ليهزمن المنافقون (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) بعد ذلك أي لا يمنعهم من عذاب الله مانع لظهور كفرهم. وقيل: ليهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين. وعلى هذا يكون «ثم» لترتيب الأخبار كقوله (ثُمَّ اهْتَدى) [طه: ٨٢] ثم بيّن الحكمة في الغزو فقال (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) قال في الكشاف: أي مرهوبية هي مصدر رهب المبني للمفعول. وقوله (فِي صُدُورِهِمْ) دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله خوفا شديدا ورهبتهم في السر منكم أشد من ذلك لأنهم لا يفقهون عظمة الله فلا يخشونه حق خشيته. وجوز أن يكون المراد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله وكانوا يتشجعون للمسلمين مع إضمار الخيفة في صدورهم. قلت: الأظهر أن المراد أنتم فيه أكثر مكانة من مواعظ الله أو لثمرة جهادكم معهم أوفر من ثمرة ترهبهم بعقاب الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) من سر التكاليف وتبعة الكفر والنفاق في الآخرة فلا يرتدعون إلا خوفا من العقوبة العاجلة. ومن هذا أخذ عمر فقال: ما يزع السلطان أي يمنع أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر:

السيف أصدق إنباء من الكتب

وقيل: العبد لا يردعه إلا العصا. ثم شجع المسلمين بقوله (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) غاية التحصين (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) لا مبارزين مكشوفين في الأراضي المستوية (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) لا بينكم لأنكم منصورون بنصرة الله مؤيدون بتأييده ، أو لأنهم يحسبون في أنفسهم وفيما بينهم أمورا يعلم الله أنها لا تقع في الخارج على وفق حسبانهم وعن ابن عباس: معناه بعضهم لبعض عدوّ يؤيده قوله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) مجتمعين ذوي تآلف ومحبة (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة وهو فعلى من

٢٨٦

الشت. وإنما قال هاهنا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) وفي الأوّل (لا يَفْقَهُونَ) لأن الفقه معرفة ظاهر الشيء وغامضه فنفي عنهم ذلك كما قلنا ، وأراد هاهنا أنهم لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا فتشتتهم دليل عدم عقلهم لأن العقل يحكم بأن الاجتماع معين على المطلوب والتفرق يوهن القوى ولا سيما إذا كانوا مبطلين. ثم شبه حالهم بحال من قتلوا قبلهم ببدر في زمان قريب. قال جار الله: انتصب (قَرِيباً) بمحذوف أي كوجود مثل أهل بدر قريبا. قلت: لا يبعد أن يتعلق بصلة الذين. ثم ضرب مثلا آخر لإغراء المنافقين اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، والمراد إما عموم دعوة الشيطان للإنسان إلى الكفر وإما خصوص إغراء إبليس قريشا يوم بدر كما مر في الأنفال في قوله سبحانه (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) إلى قوله (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) [الأنفال: ٤٨] قال مقاتل: وكان عاقبة اليهود والمنافقين مثل عاقبة الشيطان والإنسان حتى صار إلى النار. قال جار الله: كرر الأمر بالتقوى تأكيدا أو لأن الأول في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل والثاني في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد. وسمى القيامة بالغد تقريبا لمجيئها. عن الحسن: لم يزل بقربه حتى جعله كالغد. وقيل: جعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة. قال أهل المعاني: تنكير (نَفْسٌ) للتقليل كما مر في الوقوف وتنكير (لِغَدٍ) للتعظيم والتهويل. قال مقاتل: ونسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم حتى لم يشعروا لها بما ينفعها ، أو فأراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم. قلت: يجوز أن يراد نسوا ذكر الله فأورثهم القسوة وفساد الاستعداد بالكلية. وحين نهى المؤمنين عن كونهم مثل الناسين الغافلين ذكرهم بأنه لا استواء بين الفريقين ففيه شبه قرع العصا كأنهم غفلوا عن هذا الواضح البين كما تقول لمن يعصي أباه «هو أبوك». استدل أصحاب الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وإلا استويا ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا. واحتج بعض المعتزلة بها على أن صاحب الكبيرة لو دخل الجنة وهو من أهل النار لزم خلاف الآية. والجواب ظاهر لأنه على تقدير إمكان العفو لا يحكم أنه من أهل النار. ثم عظم أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان. قال الكشاف: هو مثل وتخييل بدليل قوله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) يعني هذا وغيره من أمثال التنزيل. وقال غيره: المعنى إشارة إلى قوله (كَمَثَلِ الَّذِينَ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) ولما وصف القرآن بما وصف عظم شأنه بوجه آخر وهو التنبيه على أوصاف منزله ، وقد سبق شرح أكثر هذه الأسماء في هذا الكتاب ولا سيما في البسملة. والقدّوس مبالغة القدس وهو التبليغ في الطهارة والبراءة عما يشين وهذا بالنسبة إلى زمان الماضي والحال. والسلام إشارة إلى كونه سالما عن الآفات والعاهات والنقائص في زمان الاستقبال ، ويجوز أن يراد أنه المعطي للسلامة. المؤمن الواهب الأمن والمصدق

٢٨٧

لأنبيائه بالمعجزات. وقد مر معنى المهيمن وأصل اشتقاقه في المائدة في قوله (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [الآية: ٤٨] وأن معناه الرقيب الحافظ لكل شيء. ولمكان تعداد هذه الأوصاف كرر قوله (يُسَبِّحُ لَهُ) إلى آخر السورة. فمن عزته كان منزها عن النقائص أهلا للتسبيح ، ومن حكمته أمر المكلفين في السموات والأرضين بأن يسبحوا له ليربحوا لا ليربح هو عليهم وهو تعالى أعلم بمراده وبالله التوفيق للخير وإليه المآب.

٢٨٨

(سورة الممتحنة وهي مدنية حروفها ألف وخمسمائة وعشرة

كلماتها ثلاثمائة وثمان وأربعون آياتها ثلاث عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ

٢٨٩

أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

القراآت (يَفْصِلُ) ثلاثيا معلوما: عاصم غير المفضل وسهل ويعقوب يفصل بالتشديد: حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن مجهولا: ابن ذكوان. الآخرون: ثلاثيا مجهولا في إبراهام كنظائره (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بتشديد التاء: البزي وابن فليح تمسكوا بالتشديد: أبو عمرو وسهل ويعقوب.

الوقوف (مِنَ الْحَقِ) ج لأن ما بعده يحتمل الحال من ضمير (كَفَرُوا) والاستئناف (بِاللهِ رَبِّكُمْ) ط (أَعْلَنْتُمْ) ط (السَّبِيلِ) ه (تَكْفُرُونَ) ه (أَوْلادُكُمْ) ج لاحتمال تعلق الظرف بـ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ) أو يفصل (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ج بناء على المذكور (بَيْنَكُمْ) ط (بَصِيرٌ) ه (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ج لأن الظرف قد يتعلق باذكر محذوفا أو أسوة (مِنْ دُونِ اللهِ) ط لأن ما بعد مستأنف في النظم وإن كان متصلا في المعنى (مِنْ شَيْءٍ) ط (الْمَصِيرُ) ه (لَنا رَبَّنا) ه للإبتداء بأن مع أن التقدير فإنك (الْحَكِيمُ) ه (الْآخِرَ) ط (الْحَمِيدُ) ه (مَوَدَّةً) ط (قَدِيرٌ) ه (رَحِيمٌ) ه (إِلَيْهِمْ) ط (الْمُقْسِطِينَ) ه (تَوَلَّوْهُمْ) ج للشرط مع العطف (الظَّالِمُونَ) ه (فَامْتَحِنُوهُنَ) ط (بِإِيمانِهِنَ) ط (الْكُفَّارِ) ط (لَهُنَ) ط (ما أَنْفَقُوا) ط (أُجُورَهُنَ) ط (ما أَنْفَقُوا) ط (حُكْمُ اللهِ) ط (بَيْنَكُمْ) ط (حَكِيمٌ) ه ز (ما أَنْفَقُوا) ط (مُؤْمِنُونَ) ه (لَهُنَّ اللهَ) ط (رَحِيمٌ) ه (الْقُبُورِ*) ه.

التفسير: يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها ، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا واستحملها كتابا إلى أهل مكة هذه نسخته «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. اعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم». فخرجت سارة ونزل جبريل عليه‌السلام بالخبر ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضي‌الله‌عنه وعمارا وعمرو فرسانا أخر وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي‌الله‌عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسل سيفه وقال:

٢٩٠

أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاطب: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريبا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدّقه وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم وأنزلت السورة. و (تُلْقُونَ) مستأنف أو حال من ضمير (لا تَتَّخِذُوا) أو صفة لأولياء ، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلا ملقين أنتم والإلقاء عبارة عن الإيصال التام. والباء في (بِالْمَوَدَّةِ) إما زائدة كما في قوله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة: ١٩٥] أو للسببية ومفعول (تُلْقُونَ) محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب المودة. و (أَنْ تُؤْمِنُوا) تعليل لـ (يُخْرِجُونَ) أي يخرجونكم لإيمانكم. و (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) تأكيد متعلق بـ (لا تَتَّخِذُوا) وجوابه مثله. وانتصب (جِهاداً) و (ابْتِغاءَ) على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولوا أعدائي. وقوله (تُسِرُّونَ) مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء. ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان. قال علماء المعاني: إنما عطف قوله (وَوَدُّوا) وهو ماض لفظا على ما تقدمه وهو مضارع تنبيها على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) [عبس: ٣٤] الآية. ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم. ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه‌السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله ، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة. ثم استثنى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة: ١١٣] أما قوله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فليس بداخل في

٢٩١

حكم الاستثناء لأنه قول حق ، وإنما أورده إتماما لقصة إبراهيم مع أبيه. وقال في الكشاف: هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) الآية. ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد توجيه. ثم أكد أمر الائتساء بقوله (لَقَدْ كانَ) فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله (لَكُمْ) قوله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا) وختم الآية بنوع من الوعيد. ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة (وَاللهُ قَدِيرٌ) على تقليب القلوب وتصريف الأحوال (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين ، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي. ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل (لا يَنْهاكُمُ اللهُ) وقوله (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) وكذا قوله (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) من (الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ) والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء. ومعنى (تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطا. وعدّي بـ «إلى» لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف: تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد: الذين آمنوا بمكة. وقيل: هم النساء والصبيان. وعن قتادة: نسختها آية القتال.

قال المفسرون: إن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتابا وختموه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافرا المخزومي. وقيل: صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآية. فكانت بيانا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وعن الضحاك: كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها. وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى (فَامْتَحِنُوهُنَ) فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر. وفائدة قوله (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن ، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى) أزواجهن

٢٩٢

(الْكُفَّارِ) لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) مثل ما دفعوا إليهن من المهور. ثم نفى عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن. قال العلماء: إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوّجهن تقديم أدائه ، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق. احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملا (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس: أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نسائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وقال مجاهد: هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من مهور نسائهم المهاجرات. أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية الإنصاف. ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله. قال جار الله: (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى (وَإِنْ فاتَكُمْ) أي سبقكم وانفلت منكم (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أحد منهن قال أهل المعاني: فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه. ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم. ومعنى (فَعاقَبْتُمْ) فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) إلى الكفار (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر. وقال الزجاج: معنى (فَعاقَبْتُمْ) فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر. قال بعض المفسرين: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر. أعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. وفي قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة.

٢٩٣

ثم نبّه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شرائط المبايعة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة ، والمراد هاهنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين. وقيل: البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلقة من تلقاء أنفسهنّ. وقيل: قذف المحصنين. قال ابن عباس: في قوله (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) إنما هو شرط شرطه الله تعالى على النساء ، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات. واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل: دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم غمسن أيديهنّ. وقيل: صافحهنّ وكان على يده ثوب. وقيل: كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة يملكها إنما كان كلاما. وعن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: فيما استطعتن وأطقتن. قلنا ؛ الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله. قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة. يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعا في ثمارهم فنزلت (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً) الآية. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول ثم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى.

٢٩٤

(سورة الصف مدنية وقيل مكية كلماتها مائتان وإحدى وعشرون

وحروفها تسعمائة وستة وعشرون وآياتها أربع عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

القراآت: (زاغُوا) بالإمالة مثل (زاغَ الْبَصَرُ) [النجم: ١٧] بعدي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحماد وأبو بكر غير ابن غالب (مُتِمُّ نُورِهِ) بالإضافة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وحفص. الآخرون: بالتنوين ونصب (نُورِهِ) تنجيكم بالتشديد: ابن عامر أنصارا بالتنوين لله جارا ومجرورا: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والباقون: بالإضافة (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) بالفتح كما مر في «آل عمران».

٢٩٥

الوقوف: (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (الْحَكِيمُ) ه ج (تَفْعَلُونَ) ه (تَفْعَلُونَ) ه (مَرْصُوصٌ) ط (إِلَيْكُمْ) ط (قُلُوبَهُمْ) ط (الْفاسِقِينَ) ه (أَحْمَدُ) ط (مُبِينٌ) ه (الْإِسْلامِ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (الْكافِرُونَ) ه (الْمُشْرِكُونَ) ه (أَلِيمٍ) ه ز (وَأَنْفُسِكُمْ) ط (تَعْلَمُونَ) ه لا لأن قوله (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب (تُؤْمِنُونَ) على أنه خبر في معنى الأمر (عَدْنٍ) ط (الْعَظِيمُ) ه ج للعطف (تُحِبُّونَها) ط لحق الحذف أي هي نصر (قَرِيبٌ) ه لانقطاع النظم واختلاف المعنى (الْمُؤْمِنِينَ) ه (إِلَى اللهِ) ط (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) ه لاتفاق الجملتين مع تخصيص الثانية ببيان حال أحد الفريقين (ظاهِرِينَ) ه.

التفسير: يروى أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فدلهم الله على الجهاد فولوا يوم أحد فعيرهم. وروي أن الله تعالى حين أخبر بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالا إلى الله لنفرغن فيه وسعنا ففرّوا يوم أحد ولم يفوا. وقيل ؛ كان الرجل يقول: قلت ولم يقل وطعنت ولم يطعن فأنزل الله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ) واللام الجارة إذا دخلت على «ما» الاستفهامية أسقطت الألف لكثرة الاستعمال. وقد عرفت مرارا أن خصوص سبب النزول لا ينافي عموم الحكم ، وهذا التفسير يتناول إخلاف كل وعد. وقال الحسن: نزلت في الذين آمنوا بلسانهم لا بقلوبهم. ثم عظم أمر الإخلاف في قلوب المنافقين فقال (كَبُرَ) الآية. وفيه أصناف مبالغة من جهة صيغة التعجب والتعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، ومن جهة إسناد الفعل إلى (أَنْ تَقُولُوا) ونصب (مَقْتاً) على التمييز ومن قبل أن المقت أشدّ من البغض أو من وصفه بأنه (عِنْدَ اللهِ) لأن الممقوت عنده ممقوت عند كل ذي لب. ثم حث على الجهاد بنوع آخر وذلك أنه نسب أوّلا ترك الجهاد بعد تمنيه إلى المقت ثم نسب الجهاد إلى الحب. وانتصب (صَفًّا) على المصدر بمعنى الحال. وقوله (كَأَنَّهُمْ) مع الأول حالان متداخلان أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كأنهم في تراميهم من غير فرجة ولا خلل (بُنْيانٌ) رص بعضه على بعض أي رص صف. وجوزوا أن يراد صف معنوي وهو اتفاق كلمتهم واستواء نياتهم في الثبات. وعلى الأول استدل بعضهم به على تفضيل القتال راجلا بناء على أن الفرسان لا يصطفون من غير فرجة ، ثم ذكرهم قصة موسى عليه‌السلام مع قومه كيلا يفعلوا بنبيهم مثل ما فعل به بنو إسرائيل. وتفسير الإيذاء مذكور في آخر «الأحزاب» وسائر أصناف إيذائهم إياه من عبادة العجل وطلب الرؤية والالتماسات المنكرة مشهورة (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال. وفائدة «قد» تأكيد العلم لا تقليله وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم إذا عكسوا القضية وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذاءه. والزيغ الميل عن الحق والإزاغة الإمالة فكأنهم تسببوا

٢٩٦

لمزيد الانحراف عن الجادة ، فالطاعة تجر الطاعة والمعصية تجر المعصية. قال بعض العلماء: إنما قال عيسى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل يا قوم كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم. قلت: ممنوع لقوله تعالى في «الأنعام» (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ) إلى قوله (وَعِيسى) [الآية: ٤٨] قال النحويون: قوله (مُصَدِّقاً) و (مُبَشِّراً) حالان والعامل فيهما معنى الإرسال في الرسول فلا يجوز أن يكون (إِلَيْكُمْ) عاملا لأنه ظرف لغو. عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة محمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. قوله (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) نظير ما مر من قوله (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ) ففي كل منهما تعكيس القضية إذ جعل مكان إجابة النبي إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين افتراء الكذب على الله وهو قولهم للمعجزات هي سحر ، لأن السحر كذب وتمويه ولهذا عرف الكذب بخلاف آخر «العنكبوت». ثم ذكر غرضهم من الافتراء بقوله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) ولهذا خص هذه السورة باللام كأنه قال: يريدون الافتراء لأجل هذه الإرادة كما زيدت اللام في «لا أبالك» لتأكيد معنى الإضافة. وباقي الآيتين سبق تفسيره في «براءة». وإنما قال هاهنا (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) لمكان الفصل بالعلة كأنه قال: يريدون الافتراء لغرض إطفاء نور الله والحال أن الله متم نوره ، وأما هنالك فإنه عطف قوله (وَيَأْبَى) على قوله (يُرِيدُونَ).

ثم دل أهل الإيمان على التجارة الرابحة وهي مجاز عن وجدان الثواب على العمل كما قال (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) إلى قوله (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) [التوبة: ١١١] قال أهل المعاني: فائدة إيقاع الخبر موقع الأمر هي التنبيه على وجوب الأمر وتأكيده كأنه أمتثل فهو يخبره به كأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان؟ وعن الفراء أن قوله (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب (هَلْ أَدُلُّكُمْ) بتأويل أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم (ذلِكُمْ) يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من أموالكم وأنفسكم وهو اعتراض. وقوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) اعتراض زائد على اعتراض ومعناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيرا. ثم قال (وَ) لكم مع هذه النعم الآجلة نعمة (أُخْرى) عاجلة (تُحِبُّونَها) وهي فتح مكة كما قال وأثابكم فتحا قريبا [الفتح: ١٨] وعن الحسن: هو فتح فارس والروم. قال في الكشاف: في قوله (تُحِبُّونَها) شيء من التوبيخ على محبة العاجلة. وعندي أنه سبحانه رتب أمرين على أمرين: المغفرة وإدخال الجنة على الإيمان ، والنصر والفتح على

٢٩٧

الجهاد ، ومحبة النصر من الله والفتح القريب لا تقتضي التوبيخ وإنما ذلك مطلوب كل ذي لب ودين. وقال في قوله (وَبَشِّرِ) إنه معطوف على (تُؤْمِنُونَ) لأنه بمعنى الأمر. والأظهر عند علماء المعاني أنه معطوف على «قل» مقدرا قل يا أيها الذين آمنوا يؤيد تقدير قل. قوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ) فإن نسبة هذا الاستفهام إلى رسوله أولى من نسبته إلى الله سبحانه على ما لا يخفى. قوله (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أي أعوان دينه (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) أي أصفيائه وقد مر ذكرهم في «آل عمران» (مَنْ أَنْصارِي) متوجها (إِلَى) نصرة دين (اللهِ) قال أهل البيان: فيه تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى وإنه لا يصح على الظاهر لأن الكون يشبه بالكون لا القول ، فوجهه أن يحمل التشبيه على المعنى وبيانه أن كون الحواريين أنصار الله يعرف من سياق الآية بعدها وهو قول الحواريين (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) وارد بطريق الاستئناف كأن سائلا سأل: فماذا قال الحواريون حينئذ؟ فأجيب بما أجيب. وقولهم لا يخالف كونهم فيعود معنى الآية إلى قول القائل: كونوا أنصار الله مثل كون الحواريين أنصار عيسى وقت قوله (مَنْ أَنْصارِي) على أن «ما» مصدرية والمصدر يستعمل مقام الظرف اتساعا كقولك «جئتك قدوم الحاج» و «خفوق النجم» أي وقت القدوم والخفوق والسر في العدول عن العبارة الواضحة إلى العبارة الموجودة هو أن سوق الكلام بطريق الكناية حيث جعل المشبه به لازم ما هو المشبه به أبلغ من التصريح ، وأن بناء الكلام على السؤال والجواب أوكد ، وأن المجاز وهو استفادة كونهم من قولهم أبلغ من الحقيقة ، ولعل في الآية أسرارا أخر لم نطلع عليها. ومعنى (ظاهِرِينَ) غالبين. عن زيد بن علي: كان ظهورهم بالحجة.

٢٩٨

(سورة الجمعة وهي مكية حروفها سبعمائة وثمانية وأربعون

كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

القراآت: (كَمَثَلِ الْحِمارِ) و (التَّوْراةَ) بالإمالة قد سبق ذكرهما.

الوقوف (وَما فِي الْأَرْضِ) لا (الْحَكِيمِ) ه (مُبِينٍ) ه لا للعطف أي وفي آخرين (بِهِمْ) ط (الْحَكِيمُ) ه (مَنْ يَشاءُ) ط (الْعَظِيمِ) ه (أَسْفاراً) ط (بِآياتِ اللهِ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (صادِقِينَ) ه (أَيْدِيهِمْ) ط (بِالظَّالِمِينَ) ه (تَعْلَمُونَ) ه (الْبَيْعَ) ط (تَعْلَمُونَ) ه (تُفْلِحُونَ) ه (قائِماً) ط (التِّجارَةِ) ط (الرَّازِقِينَ) ه.

٢٩٩

التفسير: في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى. وقد مر سائر الوجوه في «الأعراف» في قوله (النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) [الآية: ١٥٧] وباقي الآية مذكور في «البقرة» و «آل عمران». والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة. ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنهم حاملو التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحمار الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب. ومعنى (حُمِّلُوا) كلفوا العمل بما فيها. ومحل (يَحْمِلُ) جر صفة للحمار كما في قوله «على اللئيم يسبني» وهذا مثل كل من علم علما يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به. ثم قبح مثلهم بقوله (بِئْسَ) مثلا (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ) وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم: إن كان قولكم حقا (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرع وقد مر مثله في أول «البقرة» إلا أنه قال هاهنا (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن «لن» أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص الأبلغ بتلك السورة. ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة. قال أهل النظم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث: زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفارا ، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة. قال جار الله: يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه ، وضمّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسرة. قلت: ومما يدل على أن أصلها السكون جمعها على جمع كقدرة وقدر. وفي الكشاف أن (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان «إذا» وتفسير له. وأقوال: إن اليوم أعم من وقت النداء والعام. لإبهامه لا يصير بيانا ظاهرا فالأولى أن تكون «من» للتبعيض. والنداء الأذان في أول وقت الظهر ، وقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك ، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذنا آخر ، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة. وعن ابن عباس: إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجمعة اجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة. وكنيته أبو إمامة وقالوا: هلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأول جمعة جمعها رسول

٣٠٠