تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

تقرر في المعقول والأصول أن العناية الأزلية هي الكفاية الأبدية ، ولهذا كانت الأمور بخواتيمها «وكل ميسر لما خلق له» (١) فلو لم يكن للشخص سعادة مقدرة في الأزل لم تفده الطاعة ثلاثين ألف سنة وأكثر ، فإنزال القرآن في هذه الليلة عبارة عن الإحصاء في اللوح المحفوظ والإمام المبين ، وهو في وقت صدور الروح الأعظم والملائكة المقربين بسبب كل أمر هو كن من غير توسط مادة ومدة ولكنها سالمة عن شوائب الجسمانية والعلائق الجرمانية إلى ظهور فجر عالم الأشباح الظاهرة للحواس المعرضة للتعهد والقوى وإليه المصير والمآب.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩٢ باب ٣ ، ٥ ، ٧. مسلم في كتاب القدر حديث ٦ ـ ٨. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠. أحمد في مسنده (١ / ٦ ، ٢٩ ، ٨٢) (٢ / ٥٢ ، ٧٧) (٣ / ٢٩٣).

٥٤١

(سورة لم يكن مدنية حروفها ثلاثمائة وستة وتسعون

كلمها أربع وتسعون آياتها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

القراآت البريئة بالهمزة نافع وابن ذكوان.

الوقوف: (الْبَيِّنَةُ) لا (مُطَهَّرَةً) ه كـ (قَيِّمَةٌ) ه كـ (الْبَيِّنَةُ) ه ط (الْقَيِّمَةِ) ه ط (فِيها) ط (الْبَرِيَّةِ) ه ط (الصَّالِحاتِ) ه لا (الْبَرِيَّةِ) ه ط (أَبَداً) ط (عَنْهُ) ط (رَبَّهُ) ه

التفسير: استصعب بعض العلماء ومنهم الواحدي حل هذه الآية لأنه تعالى لم يبين أنهم منفكون عن أي شيء إلا أن الظاهر أنه يريد انفكاكهم عن كفرهم ، ثم إنه فسر البينة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعلوم أن «حتى» لانتهاء الغاية ، فالآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول وهذا ينافي قوله (وَما تَفَرَّقَ) الآية. والجواب على ما قال صاحب الكشاف ، أن هذه حكاية كلام الكفار ، وتقديره أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه. ثم قال (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والإنفاق على الحق إذا جاءهم الرسول. ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم

٥٤٢

على الكفر ، إلا مجيء الرسول ونظيره من كلام البشر أن يقول الفاسق لمن يعظه: لست بممتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى ، فلما رزقه الغنى ازداد فسقا ، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما لأن الذي وقع كان خلاف ما ادعى. وقيل: إن «حتى» للمبالغة فيؤل المعنى إلى قولك مثلا لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة. وقال قوم: إنا لا نحمل قوله (مُنْفَكِّينَ) على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمناقب والفضائل ، ثم لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفرقوا وقال كل واحد فيه قولا آخر رديئا ، فتكون الآية كقوله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة: ٨٩] ولا يبعد في هذا الوجه أن يكون بعضهم قد قال في محمد قولا حسنا وآمن به لأن التفرق يحصل بأن لا يكون الجميع باقين على حالهم الأولى ، فإذا صار بعضهم مؤمنا وبعضهم كافرا على اختلاف طرق الكفر حصل التفرقة. ولا يبعد أيضا أن يراد أنهم لم يكونوا منفكين عن اتفاق كلمتهم على كفرهم حتى جاءهم الرسول فحينئذ تفرقوا ، وما بقوا على ذلك الائتلاف واضطربت أقوالهم. وفي قوله (مُنْفَكِّينَ) إشارة إلى هذا لأن انفكاك الشيء هو انفصاله عنه بعد التحامه والتئامه كالعظم إذا انفك عن مفصله ، فالمعنى أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وعن الجزم بصحتها إلا بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) بيان للذين كفروا ، والمراد أن الكفار فريقان بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس ، وبعضهم مشركون وقيل: المشركون هم أهل الكتاب أيضا ، وذلك أن النصارى هم أهل التثليث واليهود أهل التشبيه. وقد يقول القائل: جاءني العقلاء والظرفاء وأراد قوما بأعيانهم. وفائدة الواو أنهم جامعون بين الوصفين ، ومما يؤيد هذا الوجه أنه لم يعد إلا ذكر أهل الكتاب في قوله (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والأولون اعتذروا عن ذلك بأنهم إنما خصصوا بالذكر لفضلهم وبركة علمهم ولمزيد توبيخهم فإن العصيان والعناد من العالم أقبح ، ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرهم أولا. والبينة الحجة الواضحة ، وإطلاقها على الرسول كإطلاق النور والسراج عليه. والصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن المطهر من النقائص ومس المحدث إياه ، ومعنى تلاوة الصحف إملاؤه إياها. وعن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب ولعل هذا من معجزاته. والكتب المكتوبات. والقيمة المستقيمة أو المستقلة بالدلالة من قولهم «قام فلان بأمر كذا». وقال أبو مسلم: البينة مطلق الرسل وهم الملائكة أي رسل من السماء يتلون عليهم صحفا كقوله (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ

٥٤٣

السَّماءِ) [النساء: ١٥٣] وكقوله (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر: ٥٢] قال الجبائي: في قوله وما تفرقوا إلا من بعد كذا دلالة على أن الشقاوة والسعادة لم يثبتا في الأزل ولا في أصلاب الآباء. وزيف بأن المراد ظهور التفرق منهم لا حصوله في علم الله وهو ظاهر. قوله (وَما أُمِرُوا) أي وما أمروا بما أمروا به في التوراة والإنجيل إلا لأجل أن يعبدوا الله على حالة الإخلاص والميل عن الأديان الباطلة. فقوله (حُنَفاءَ) حال مترادفة أو متداخلة (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) موصوفها محذوف أي دين الملة القيمة. ويعلم من هذا الإخبار أن الأمر المذكور ثابت في شرعنا أيضا كما في شرعهم ، ويحتمل أن يراد وما أمروا على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله مقاتل. استدل بالآية من قال: إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والعمل بيانه أن الله تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد ، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم أشار إلى المجموع بقوله (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ورد بالمنع من أن المشار إليه هو المجموع ، ولم لا يجوز أن يكون إشارة إلى التوحيد فقط؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد بدين القيمة الدين الكامل المستقل بنفسه وهو أصل الدين ونتائجه وثمراته؟ ثم ذكر وعيد الكفار ووعد الأبرار. وقدم في الوعيد أهل الكتاب على المشركين ، والسر فيه بعد ما مر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقدم حق الله على حق نفسه ولهذا حين كسروا رباعيته قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وحيث فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا فقال الله تعالى: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حقي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر ، ومن طعن فيك بوجه يكفر. ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك فقدمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ ، وأيضا المشركون رأوه صغيرا يتيما فيما بينهم. ثم إنه بعد النبوة سفه أحلامهم وكسر أوثانهم وهذا أمر شاق يوجب العداوة الشديدة عند أهل الظاهر. وأما أهل الكتاب فقد كانوا مقرين بنبي آخر الزمان وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثبتا لنبيهم وكتابهم فلم يوجب لهم ذلك عداوة شديدة ، فطعنهم في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعن في غير موقعه فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك وكانوا شر البرية ، وهذه جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا على سفلتهم طريق الحق ، وشر من الجهال لأن العناد أقبح أنواع الكفر ، وفيه دلائل على أن وعيد علماء السوء أفظع. قوله في هذه الآية (خالِدِينَ فِيها) وفي آية الوعد (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إشارة إلى كمال كرمه وسعة رحمته كما قال «سبقت رحمتي غضبي» (١) قال العلماء: هذه الآية مخصوصة في صورتين إحداهما

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

٥٤٤

أن من تاب منهم وأسلم خرج من الوعيد ، والثانية أن من مضى من الكفرة ويجوز أن لا يدخل فيها لأن فرعون كان شرا منهم. قوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مقابلة الجمع بالجمع فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات بل لكل مكلف حظ. فحظ الغني الإعطاء وحظ الفقير الأخذ. احتج بعضهم بقوله (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) على تفضيل البشر على الملك قالوا: روى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: «أتعجبون من منزلة الملائكة من الله والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك وقرأ هذه الآية» أجاب المنكرون بأن الملك أيضا داخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أو المراد بالبرية بنو آدم لأن اشتقاقها من البرء وهو التراب لا من برأ الله الخلق ، وتمام البحث في المسألة قد سبق في أول البقرة. قوله (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) مع قوله (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر: ٢٨] ظاهر في أن العلماء بالله هم خير البرية اللهم اجعلنا منهم والله أعلم.

٥٤٥

(سورة إذا زلزلت مكية

حروفها مائة وتسعة وأربعون

كلمها خمس وثلاثون

آياتها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

القراآت يره ساكنة الهاء في الحرفين: الحلواني عن هشام.

الوقوف: (زِلْزالَها) ه لا (أَثْقالَها) لا (ما لَها) ه لا لاحتمال حذف عامل «إذا» أي أذا كانت هذه الأمور ترى ما ترى واحتمال أن يكون العامل (تُحَدِّثُ) و (يَوْمَئِذٍ) بدلا من «إذا» (أَخْبارَها) ه لا (لَها) ه ط (أَعْمالَهُمْ) ه ط (يَرَهُ) ه ط (يَرَهُ) ه.

التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بالوعيد والوعد أتبعه بذكر وقت الجزاء وعدد من إماراته الزلزلة الشديدة التي تستأهلها الأرض وهي معنى إضافة الزلزال إلى ضمير الأرض. قال أهل المعاني: هو كقولك «أكرم التقي إكرامه وأهن الفاسق إهانته» يريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. وقريب منه قول من قال: أراد بزلزالها كل الزلزال وجميع ما هو ممكن منه أي يوجد من الزلزلة كل ما يحتمله المحل. وقيل: زلزالها الموعود والمكتوب عليها لما أنها قدرت تقدير الحي. يروى أنها تتزلزل من شدة صوت إسرافيل عليه‌السلام. ومن امارات الساعة إخراج الأرض أثقالها أي ما في جوفها من الدفائن والأموات قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها وسمي الإنس والجن بالثقلين لذلك. يروى أنها تخرج كنوزها فيملأ ظهر الأرض ذهبا ولا أحد يلتفت إليه ، وكأن الذهب يصيح ويقول: أما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي؟ ويمكن أن تكون الفائدة في إخراجها أن يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها الجباه والجنوب والظهور قالوا: إنها عند النفخة الأولى تتزلزل فتلفظ بالكنوز والدفائن ، وعند النفخة الثانية

٥٤٦

ترجف فتخرج الأموات أحياء كالأم تلد حيا. وقيل: تلفظهم أمواتا ثم يحييهم الله تعالى. وقيل: أثقالها أسرارها فيومئذ تكشف الأسرار ولذلك قال (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي تشهد لك وعليك (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) تعجبا من حالها. وقيل: والكافر لأنه كان لا يؤمن بالبعث فيقول (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس: ٥٢] وأما المؤمن فيقول (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس: ٥٢] والباء في قوله (بِأَنَّ رَبَّكَ) إما أن تتعلق بـ (تُحَدِّثُ) والإيحاء بمعنى الأمر أي تحدث بسبب أن ربك أمرها بالتحديث ومفعول (تُحَدِّثُ) محذوف أي تحدث الناس ، أو متروك لأن المقصود تحديثها لا من تحدثه. وقيل: تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بأخبارها كما تقول «نصحتني كل النصيحة بأن نصحتني في الدين». وقيل: بدل من (أَخْبارَها) لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا. وأوحى لها بمعنى أوحى إليها وهو مجاز عند صاحب الكشاف. وأبي مسلم كأنها بلسان الحال تبين لكل أحد جزاء عمله ، أو تحدث أن الدنيا قد انقضت والآخرة قد أقبلت. والجمهور على أنه تعالى يجعل الأرض ذات فهم ونطق ويعرفها جميع ما عمل عليها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصى. وكان علي رضي‌الله‌عنه إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول: اشهدي أني ملأتك بحق وفرغتك بحق. وقيل: لفظ التحديث يفيد الاستئناس ، فلعل الأرض تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته ، وقالت المعتزلة: إن الله تعالى يخلق في الأرض وهي جماد أصواتا مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على هذا التقدير هو الله. قوله (يَصْدُرُ) الصدر ضد الورود فالوارد الجائي والصادر المنصرف ، (أَشْتاتاً) أي متفرقين جمع شت أو شتيت أي يذهبون من مخارج قبورهم إلى الموقف. فبعضهم إثر بعض راكبين مع الثياب الحسنة وبياض الوجه وينادي مناد بين يديه هذا ولي الله ، وبعضهم مشاة عراة حفاة سود الوجوه مقيدين بالسلاسل والأغلال والمنادي ينادي هذا عدو الله. وقيل: أشتاتا أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني وقيل: من كل قطر من أقطار الأرض ليروا صحائف أعمالهم أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار وما يناسب كلا منهما. والذرة أصغر النمل أو هي الهباءة ، وعن ابن عباس إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق بها من التراب مثقال ذرة ، فليس من عبد عمل خيرا أو شرا ، قليلا كان أو كثيرا إلا أراه الله تعالى إياه. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الدهر: ٨] كان أحدهما يأتيه السائل فيسأم أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ويقول: ما هذا بشيء وإنما مؤجر على ما نعطي وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير ويقول: لا شيء علي من هذا فرغب الله تعالى

٥٤٧

في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر ، وحذر من الذنب اليسير فإنه يوشك أن يعظم ، فلهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (١) والتحقيق أن المقصود النية فإن كان العمل قليلا والنية خالصة حصل المطلوب ، وإن كان العمل كثيرا والنية فاسدة فالمقصود فائت ، ولهذا قال كعب الأحبار: لا تحقروا شيئا من المعروف فإن رجلا دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة. وعن عائشة أنه كان بين يديها عنب قدمته إلى نسوة بحضرتها فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك ، فضحك بعض من كان عندها فقالت: إن فيما ترون مثاقيل وتلت هذه الآية. قال جار الله: إن حسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن مكفرة باجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء لمثاقيل الذر من الخير والشر؟ وأجاب على مذهبه بأن المعنى فمن يعمل من فريق السعداء مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل من فريق الأشقياء مثقال ذرة شرا يره. وذلك أن الحكم جاء بعد قوله (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) والأولى في جوابه ما روي عن ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله تعالى إياه. فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثاب بحسناته وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته. وقيل: إن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره لكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر. وعن محمد بن كعب القرظي: معناه فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه أو أهله أو ماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها خير ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن فإنه يرى عقوبة ذلك في الدنيا في نفسه أو أهله أو ماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها شر ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا ويؤيده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر: يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة. فإن قيل: إن كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ قلت: هذا هو الكرم لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف والكريم لا يحتمله ، والطاعة تعظيم وإن قلت فالكريم لا يضيعه. قال أهل العرفان: كأنه تعالى يقول: ابن آدم أنك مع ضعفك وعجزك لم تضيع ذرة من مخلوقاتي بل نظرت فيها واعتبرت بها واستدللت بوجودها على وجود الصانع ، فأنا مع كمال قدرتي وكرمي كيف أضيع ذرتك والله الكريم.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٣٤. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٦٦ ، ٦٧. الترمذي في كتاب القيامة باب ١. النسائي في كتاب الزكاة باب ٦٣ ، ٦٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢٤. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٨ ، ٤٤٦) (٤ / ٢٥٦).

٥٤٨

(سورة العاديات مدنية وقيل مكية

حروفها مائة وثلاثة وستون

كلمها أربعون

آياتها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

القراآت (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) بالإدغام: أبو عمر وغير عباس (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أبو عمرو غير عباس وخلاد عن حمزة.

الوقوف: (ضَبْحاً) ه لا (قَدْحاً) ه لا (صُبْحاً) ه لا (نَقْعاً) ه لا (جَمْعاً) ه لا (لَكَنُودٌ) ه ج لأن ما بعده يصلح عطفا واستئنافا (لَشَهِيدٌ) ه لذلك (لَشَدِيدٌ) ه ط (الْقُبُورِ) لا (الصُّدُورِ) ه لا (لَخَبِيرٌ) ه

التفسير: إنه سبحانه ذكر في هذه السورة رداءة ما عليه جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر والحرص على المال بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي ، وعن المعاد الذي إليه مآل حال العباد ، فأقسم على ذلك بالأمور والتي هي مركوزة في خزانة خيالهم ولا تكاد تخلو في الأغلب عن الخطور ببالهم. وفي تفسيرها قولان مرويان: الأول أن العاديات هي الإبل. يروى عن ابن عباس أنه قال: بينا أنا جالس في الحجر إذ جاء رجل فسألني عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) ففسرتها بالخيل فذهب إلى علي رضي‌الله‌عنه وهو بجنب سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام يعني بدرا وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد. (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) الإبل تعدو من عرفة إلى مزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ، والضبح على هذا مستعار لأن أصل استعماله في الخيل وهو صوت أنفاسها إذا عدون وهذا الصوت غير الصهيل وغير الحمحمة ، وانتصابه على «يضبحن ضبحا» أو بالعاديات لأن العدو

٥٤٩

لا يخلو عن الضبح ، أو على الحال. وهكذا القول في (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) لأن الإبل قلما توري أخفافها. يقال: قدح فأورى وقدح فأصلد (فَالْمُغِيراتِ) أي المسرعات يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى (فَأَثَرْنَ) من الإثارة أي هيجن وهو حكاية الماضي أو هو نحو (وَنادى) [الأعراف: ٤٨] (وَسِيقَ) [الزمر: ٧٢] (بِهِ) أي بالعدو أو بذلك الوقت (نَقْعاً) غبارا (فَوَسَطْنَ) أي توسطن (بِهِ) بذلك الوقت أو بالعدو أو متلبسة بالنقع (جَمْعاً) وهو المزدلفة لاجتماع الحاج بها. القول الثاني عن مجاهد وقتادة والضحاك وأكثر المحققين أن العاديات الخيل ، ويروى ذلك مرفوعا. قال الكلبي: بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى ناس من كنانة فمكثت ما شاء الله أن تمكث لا يأتيه منهم خبر ، فتخوف عليها فنزل جبرائيل بخبر مسيرها. وعلى هذا فاللام في (الْعادِياتِ) للعهد. ويحتمل أن تكون للجنس ويدخل خيل السرية فيها دخولا أوليا. وقوله (فَالْمُغِيراتِ) على هذا يكون من أغار على العدو إذا شن عليهم الغارة والجمع جماعة الغزاة أو الكفرة. وقيل: الإيراء عبارة عن شبيب نيران الحرب وإيقادها كقوله (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة: ٦٤] وقيل: هي نيران الغزاة بالليل لحاجة طعامهم أو غيره. وعن عكرمة: هي الأسنة. وقيل: هي المنجحات في الأمور فيحتمل أن تكون الخيل أو الإبل لأنه وجد بها المقصود من الغزو والحج. ويحتمل أن يراد جماعة الغزاة أنفسهم. يقال للمنجح في حاجته ورى زنده. وفي إقسام الله تعالى بالإبل دلالة على عظم شأنهن وكثرة منافعهن دينا ودنيا كما قال (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية: ١٧] (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس: ٧٢] وكذا في الإقسام بالخيل وذلك مشاهد من عدوها وكرها وفرها بحسب مشيئة الراكب ولأمر ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الخيل معقود بنواصيها الخير» (١) وقالت العقلاء: ظهرها حرز وبطنها كنز. قال الواحدي: أصل الكنود منع الحق والخير بهذا فسر ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة الكنود قالوا: ومنه سمي الرجل المشهور بكندة لأنه كند أباه ففارقه. وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة العاصي ، وبلسان بني مالك البخيل ، وبلسان مضر وربيعة الكفور ، وروى أبو أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الكنود الكفور الذي يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده» وفي تقديم الظرف مزيد تقريع يعني أنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران فكيف نعمة غيره مثل الأبوين ونحوهما؟ وقال الحسن: الكنود اللوام لربه

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٤٣ ، ٤٤. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٢٥. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٤١. الترمذي في كتاب الجهاد باب ١٩. النسائي في كتاب الخيل باب ١ ، ٧ ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ١٤. الدارمي في كتاب الجهاد باب ٣٣. الموطأ في كتاب الجهاد حديث ٤٤. أحمد في مسنده (٢ / ٤٩) (٣ / ٣٩) (٤ / ١٠٤ ، ١٨٣).

٥٥٠

يعد المحن والمصائب وينسى النعم والراحات ، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر لقوله بعد ذلك (أَفَلا يَعْلَمُ) ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه الله بلطفه وتوفيقه (أَفَلا يَعْلَمُ) يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه. والضمير في قوله (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ) أما أن يعود إلى الرب وهو أقرب فيكون كالوعيد من حيث إن الله يحصى عليه أعماله ، وإما أن يعود إلى الإنسان أي أنه على كنوده (لَشَهِيدٌ) لا يقدر أن يجحده لظهور أماراتها عليه ، وقد يرجح هذا الوجه بأن الضمير في قوله (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) للإنسان فناسب أن يكون الأول له أيضا لئلا ينخرم النسق. والخير المال كقوله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة: ١٨٠] والشديد البخيل الممسك يريد إنه لأجل حب المال لبخيل وقيل: الشديد القوي أي إنه لأجل إيثار الدنيا وطلب ما فيها مطيق قوي ، ولأجل عبادة ربه عاجز ضعيف. أو إنه لحب الخيرات الحقيقية غير ميسر منبسط ولكنه شديد منقبض. وقال الفراء: إنه لحب الخير لشديد الحب أي أنه يحب المال ويحب كونه محبا له فاكتفى بالحب الأول من الثاني. وقال قطرب: اللام بمنزلة قولك «إنه لزيد ضروب». والتقدير إنه شديد حب الخير. ثم وبخه وخوفه بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده و (بُعْثِرَ) مثل بحثر كما مر في «انفطرت» وإنما لم يقل من في القبور بل قال (ما فِي الْقُبُورِ) بحكم التغليب فإن أكثر ما في الأرض ليسوا مكلفين ، والذين هم مكلفون يجوز أن يكونوا حال البعثرة أمواتا غير عقلاء ويصيروا أحياء بعد البعثرة ، قال أبو عبيدة (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي ميز ما فيها فلكل واحد من الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور حكم خاص. وقيل: معناه جمع ما في الصدور في الصحف أي أظهر محصلا مجموعا. وقيل: يكشف ما في البواطن من الأخبار وما في الأستار من الأسرار ويندرج فيه أعمال الجوارح تبعا. وإنما لم يقل ما في القلوب لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله تعالى إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلها ما يقرب من الصدر ، وإنما جمع الضمير في قوله (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ) حملا على معنى الإنسان. ومعنى تقييد العلم بذلك الزمان حيث قال (يَوْمَئِذٍ) وهو عالم بأحوالهم أزلا وأبدا التوبيخ وكأنه تعالى قال: إن من لم يكن عالما في الأزل فإنه يصير بعد الاختبار عالما ، فالذي هو عالم في الأزل كيف لا يكون خبيرا بهم في الأبد؟ ويجوز أن يكون سبب التقييد هو أن ذلك وقت المجازاة على حسب العلم بالأعمال والأقوال والأحوال وإليه المصير والمآب

٥٥١

(سورة القارعة وهي مكية

حروفها مائة واثنان وخمسون

كلمها ست وثلاثون

آياتها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

القراآت ما هي بغير هاء السكت في الوصل: حمزة وسهل ويعقوب. الآخرون: بالهاء وإن كانت وصلا اتباعا لخط المصحف.

الوقوف: (الْقارِعَةُ) ه لا (مَا الْقارِعَةُ) ه لا (الْمَبْثُوثِ) ه ج للآية والعطف (الْمَنْفُوشِ) ه ط للابتداء بالشرط (مَوازِينُهُ) ه لا لأن ما بعده جواب فأما (راضِيَةٍ) ه ط (مَوازِينُهُ) ه لا (هاوِيَةٌ) ه ط (ما هِيَهْ) ه ط (حامِيَةٌ) ه.

التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بأحوال المعاد ذكر في هذه السورة بعض أحوال الآخرة ، والقرع الاصطكاك بشدة واعتماد ثم سميت الحادثة الهائلة قارعة والمراد هاهنا القيامة ولا أهول منها ولذلك قال في الإخبار عنها (مَا الْقارِعَةُ) لأنه يفيد زيادة التهويل ثم قال (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) وانتصب (يَوْمَ) بفعل محذوف دل عليه القارعة أي تقرع الناس يوم كذا ، وهذا القرع عبارة عن الصيحة التي يموت فيها الخلائق ثم يحييهم عند النفخة الثانية كما روي أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة فيحيى الله بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة. وقيل: القرع هو اصطكاك الأجرام العلوية والسفلية حين التخريب والتبديل ، أو هو نفس انفطارها وانتثارها واندكاكها قاله الكلبي وقال مقاتل: إنها تقرع أعداء الله بالعذاب ، وأما أولياؤه فهم من القرع آمنون. والفراش اسم لهذه الدواب التي تتهافت فتقع في النار سمي فراشا لتفرشه وانتشاره وأكد هذا المعنى بقوله

٥٥٢

(الْمَبْثُوثِ) وشبه الناس يومئذ بها لكثرتهم وانتشارهم ذاهبين في كل أوب كما شبههم بالجراد المنتشر في موضع آخر لذلك لا لصغر الجثة والنحول والضعف. وجوز بعضهم أن يكونوا أولا أكبر جثة فشبههم وقتئذ بالجراد ثم يؤل حالهم إلى الهزال والضعف لحر الشمس ولسائر أصناف المتاعب ، فشبهوا للضعف بالفراش. ويمكن أن يكون وجه التشبيه الذلة والضعف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الناس اثنان: عالم ومتعلم وسائر الناس همج» (١) وشبه الجبال بالعهن لاختلاف أجزائها في الحمرة والبياض والسواد كما مر في «المعارج». وزاد هاهنا وصفه بالمنفوش لتفرق أجزائها وزوال تأليفها ثم قسم الناس فيه إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها وقد مر تحقيقه في «الأعراف». وقوله (راضِيَةٍ) من الإسناد المجازي كما مر في «الحاقة». وأما قوله (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ففيه وجوه أحدها: أن الأم هي المعروفة والهاوية والهالكة وهذا من مستعملات العرب يقولون: هوت أمه أي هلكت وسقطت يعنون الدعاء عليه بالويل والثبور والخزي والهوان. وقال الأخفش والكلبي وقتادة: فأم رأسه هاوية في النار لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم. وقيل: الأم الأصل والهاوية من أسماء النار لأنها نار عتيقة والمعنى: منزله ومأواه الذي يأوي إليه هو النار ويؤيد هذا الوجه قوله (ما هِيَهْ) أي ما الهاوية ، هذا هو الظاهر. والأولون قالوا: الضمير للداهية التي يدل عليها قوله (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) وفي قوله (نارٌ حامِيَةٌ) إشارة إلى أن نيران الدنيا بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية والله أعلم.

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢.

٥٥٣

(سورة التكاثر مكية حروفها مائة واثنان وخمسون

كلمها ست وثلاثون آياتها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

القراآت: (لَتَرَوُنَ) بضم التاء من الإراءة مجهولا: ابن عامر وعلي.

الوقوف (التَّكاثُرُ) ه لا (الْمَقابِرَ) ه كـ لأن (كَلَّا) بمعنى حقا وقد يحمل على الردع عن التكاثر (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ه لا (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ه (الْيَقِينِ) ه ط لأن جواب «لو» محذوف وقوله (لَتَرَوُنَ) جواب قسم (الْجَحِيمَ) ه لا (الْيَقِينِ) ه (النَّعِيمِ) ه.

التفسير: لما ذكر القارعة وأهوالها قال (أَلْهاكُمُ) أي شغلكم التكاثر وهو المغالبة بالكثرة أو تكلف الافتخار بها مالا وجاها عن التدبر في أمر المعاد فنسيتم القبر حتى زرّتموه. ويروى أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرهم أي غلبهم بالكثرة بنو عبد مناف فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات أي عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ففعلوا فزاد بنو سهم فنزلت الآية. وهذه الرواية شديدة الطباق لظاهر الآية لقوله (زُرْتُمُ) بصيغة الماضي وفيه تعجب من حالهم أنهم زاروا القبور في معرض المفاخرة والاستغراق في حب ما لا طائل تحته من التباهي بالكثرة والتباري فيها ، مع أن زيارة القبور مظنة ترقيق القلب وإزالة القساوة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي فزوروها فإن في زيارتها تذكرة» (١) من هنا قال بعضهم: أراد أن الحرص على المال قد شغلكم عن الدين فلا تلتفتون إليه إلا إذا زرتم المقابر فحينئذ ترق قلوبكم يعني أن حظكم من دينكم ليس إلا هذا القدر ونظيره

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب ٧٧.

٥٥٤

قوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الملك: ٢٣] أي لا أقنع منكم بهذا القدر من الشكر. وقيل: معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك ، ويندرج فيه من يمنع الحقوق المالية إلى حين الموت ثم يقول: أوصيت لفلان بكذا ولفلان بكذا ، واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يا ابن آدم تقول مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» (١) ثم قرأ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى متم. وأورد عليه أن الزائر هو الذي يجيء ساعة ثم ينصرف. والميت يبقى في قبره مدة مديدة. وأيضا إن قوله (زُرْتُمُ) صيغة الماضي فكيف يحمل على المستقبل؟ ويمكن أن يجاب عن الأول بأن مدة اللبث في القبر بالنسبة إلى الأبد أقل من لحظة كما قال (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف: ١٩] وعن الثاني بأن المشرف على الموت كأنه على شفير القبر أو هو خبر عمن تقدمهم والخبر عنهم كالخبر عن متأخريهم لأنهم كانوا على طريقتهم. وقال أبو مسلم: إنه تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور. والمقابر جمع المقبرة فتحا أو ضما ، والتاء فيه غير قياسي. قالت العلماء: التكاثر مطلقا ليس بمذموم لأن التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة ليس بمذموم إذا كان المراد أن يقتدى به غيره كما مر في قوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: ١١] وإنما المذموم ما يكون الباعث عليه الاستكبار وحب الجاه والغلبة والفخر بما لا سعادة حقيقية فيه ، وليست السعادة الحقيقية إلا فيما يرجع إلى العلم والعمل أو إلى ما يعين عليهما من الأمور الخارجية. عن الحسن رضي‌الله‌عنه: لا تغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك وتبعث وحدك وتحاسب وحدك ، وتكرير الوعيد وهو سوف تعلمون للتأكيد. وقيل: الأول عند الموت حين يقال له لا بشرى. والثاني في سؤال القبر إذ يقال من ربك ، وفيه دليل على عذاب القبر على ما روي عن علي عليه‌السلام: أو حين ينادي المنادي فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا ، أو حين يقال (وَامْتازُوا الْيَوْمَ) [يس: ٥٩] وعن الضحاك: أراد سوف تعلمون أيها الكفار ثم كلا سوف تعلمون أيها المؤمنون ، فالأول وعيد ، والثاني وعد. وقيل: إن كل واحد يعلم قبح الكذب والظلم وحسن الصدق والعدل لكن لا يعرف مقدار آثارها ونتائجها فالله يقول سوف تعلمون علما تفصيليا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب ٥٢ ، ٥٣. مسلم في كتاب اللعان حديث ٥. أبو داود في كتاب الطلاق باب ٢٧. الترمذي في كتاب الزهد باب ٣١. النسائي في كتاب الوصايا باب ١. أحمد في مسنده (٢ / ٣٦٨).

٥٥٥

استدراجيا شيئا فشيئا عند الموت ، ثم عند البعث ، ثم في النار أو في الجنة ، قوله (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) اتفقوا على أن جواب «لو» محذوف لأن قوله (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) أمر واقع قطعا فلو كان قوله (لَتَرَوُنَ) جوابا للشرط كانت الرؤية أمرا مشكوكا فيه فيلزم المخالفة بين المعطوفات أو الشك فيما هو واقع قطعا وكلاهما غير سديد ، ثم في تقدير الجواب وجوه قال الأخفش: لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر. وقال أبو مسلم: لو علمتم ما يجب عليكم وما خلقتم لأجله لاشتغلتم به. وقال أهل البيان: الأولى تقدير ما هو عام في كل شيء وهو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه كنهه ولكنكم ضلال جهلة. ومعنى (عِلْمَ الْيَقِينِ) علم يقين فأضيف الموصوف إلى الصفة نحو ولدار الآخرة. ويحتمل أن يكون اليقين هو الموت كقوله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: ٩٩] إن الشك حينئذ يزول والأحوال إلى اليقين تؤول ، والإنسان إذا علم ما يلقاه حين الموت وبعده لم يلهه التكاثر ، وإضافة العلم إلى بعض أنواعه جائزة كعلم الطب وعلم الحساب ، وفي الآية بعث للعلماء على أن يعملوا بعلمهم وإلا لم يكن بعد فوات إبان العمل سوى الحسرة والندامة. يروى أن ذا القرنين لما دخل الظلمات أمر لمن معه بأن يأخذوا من الخرز الذي كانت عنده فأخذ بعضهم وترك بعضهم ، فلما خرجوا من الظلمات وجدوا الخرز جواهر وكان للآخذين فرحا وسرورا وللتاركين غما وحسرة. أما تكرار رؤية الجحيم فقيل: إن الأول رؤيتها من بعيد كما قال (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [الفرقان: ١٢] والثاني رؤيتها من قريب إذا وصلوا إلى شفيرها. وقيل: الأولى عند الورود ، والثانية بعد الدخول. وأورد قوله (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) فيها فإن السؤال قبل الدخول. وقيل: التثنية للتكرير والمراد تتابع الرؤية واتصالها فكأنه قيل لهم: إن كنتم اليوم شاكين فيها فسترونها رؤية دائمة متصلة ، فيجوز أن يكون قوله (عِلْمَ الْيَقِينِ) متعلقا بالرؤيتين جميعا ، ويجوز أن يكون متعلقا بالثانية لأن علمهم بها وبأحوالها وآلامها يزداد شيئا فشيئا حتى يصير الخبر عينا. ومعنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قد مر في آخر «الواقعة». وفي السؤال عن النعيم وجهان: الأول أنه للكفار لما روي أن أبا بكر لما نزلت الآية قال: يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب ، أتكون من النعيم الذي يسأل عنه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: إنما ذلك للكفار ثم قرأ (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: ١٧] ولأن الخطاب في أول السورة للذين ألهاهم التكاثر عن المعاد فناسب أن يكون الخطاب في آخر السورة أيضا لهم. ويكون الغرض من السؤال التقريع حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببا للسعادة هو أعظم أسباب الشقاء لهم. الثاني العموم لوجوه منها خبر أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أول ما يسأل

٥٥٦

عنه العبد يوم القيامة النعيم فيقال له ألم نصحح لك جسمك ألم نروك من الماء البارد» (١). ومنها قول محمود بن لبيد: لمّا نزلت السورة قالوا: يا رسول الله إنما هو الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر فعن أي نعيم يسأل؟ فقال: أما إنه سيكون وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل علي من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به» (٢) وعن الباقر رضي‌الله‌عنه أن النعيم العافية. وعنه أن الله أكرم من أن يطعم عبدا ويسقيه ثم يسأله عنه ، وإنّما النعيم الذي عنه هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما سمعت قوله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) [آل عمران: ١٦٤] وقيل: هو الزائد على الكفاية. وقيل: خمس نعم: شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق ، وعن ابن مسعود: الأمن والصحة والفراغ ، وعن ابن عباس: ملاذ المأكول والمشروب. وقيل: الانتفاع بالحواس السليمة. وعن الحسين بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن. وقال ابن عمر: الماء البارد. والظاهر العموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصى وكفر ، وسؤال المؤمن للتشريف فإنه أطاع وشكر. والظاهر أن هذا السؤال في الموقف وهو متقدم على مشاهدة جهنم. ومعنى «ثم» الترتيب في الإخبار أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة عن النعيم. وقيل: هو في النار توبيخا لهم كقوله (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك: ٨] وقوله (ما سَلَكَكُمْ) [المدثر: ٤٢] ونحوه

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٠٢ باب ٥.

(٢) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ١.

٥٥٧

(سورة العصر وهي مكية

وقال المعدل وقتادة مدنية

حروفها ثمانية وستون

كلمها أربع عشرة

آياتها ثلاث)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

الوقوف (وَالْعَصْرِ) ه لا (لَفِي خُسْرٍ) ه لا (بِالصَّبْرِ) ه

التفسير: لما بين في السورة المتقدمة أن الاشتغال بأمور الدنيا والتهالك عليها مذموم ، أراد أن يبين في هذه السورة ما يجب الاشتغال به من الإيمان والأعمال الصالحات وهو حظ الآدمي من جهة الكمال ومن التواصي بالخيرات وكف النفس عن المناهي ، وهو حظه من حيث الإكمال وأكد ما أراد بقوله (وَالْعَصْرِ) وللمفسرين فيه أقوال: الأول أنه الدهر لوجوه منها ما جاء في القراءة الشاذة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ «والعصر ونوائب الدهر» وحمله العلماء إن صح على التفسير لا على أنه من القرآن لهذا لا يجوز قراءته في الصلاة. ومنها أن الدهر يشتمل على الأعاجيب الدالة على كمال قدرة خالقها من تغاير الملل والدول وسائر الأحوال الكلية والجزئية ، بل نفس الدهر من أعجب الأشياء لأنه موجود يشبه المعدوم ومتحرك يضاهي الساكن.

وأرى الزمان سفينة تجري بنا

نحو المنون ولا ترى حركاته

ومنها أن عمر الإنسان كبعض منه قال:

إذا ما مر يوم مر بعضي

ولا شيء أنفس من العمر

وفي تخصيص القسم به إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والنوائب إليه ويحيل شقاءه وخسرانه عليه فإقسام الله تعالى به دليل على شرفه وأن الشقاء والخسران إنما لزم

٥٥٨

الإنسان لعيب فيه لا في الدهر ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» (١) القول الثاني وهو قول مقاتل وأبي مسلم إن العصر هو آخر النهار أقسم الله به كما أقسم بالفجر والضحى لأن آخر النهار يشبه تخريب العالم وإماتة الأحياء كما أن أول النهار يشبه بعث الأموات وعمارة العالم ، فعند ذلك إقامة الأسواق ونصب الموازين ووضع المعاملات ، وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا ما بقي إلا بقدر ما بين العصر إلى المغرب فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها فإن الوقت قد ضاق وقد لا يمكن تدارك ما فات. وقال قتادة: إنه صلاة العصر لشرفها وفضلها ولهذا فسربها الصلاة الوسطى عند كثير وقد مر في «البقرة» وقيل: أقسم بعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بزمانه الذي هو عصر نهار الدنيا كما جاء في حديث طويل ، وقد أقسم بمكانه في قوله (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد: ١] وبحياته في قوله (لَعَمْرُكَ) [الحجر: ٧٢] وكل ذلك تشريف له وتوبيخ لمن لم يوقره حق توقيره أما اللام في الإنسان فإما المعهود معين كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب. وعن مقاتل أنه أبو لهب. وفي خبر مرفوع أنه أبو جهل كانوا يقولون: إن محمدا لفي خسار فأقسم الله تعالى إن الأمر بالضد مما توهموه ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا. والأكثرون على أن اللام للجنس ، ثم إن كان المراد بالخسر أي الخسران كالكفر والكفران هو الهلاك كان المراد جنس الإنسان على الإطلاق ، وإن كان المعنى بالخسر الضلال والكفر كان المراد جنس الكافر هكذا قال بعضهم ، ولقائل أن يمنع لفرق. ولا يخفى ما في «إن» ولام التأكيد وكلمة «في» وتنكير خسر من المبالغات فكأنه أثبت له جهات الخسر كلها والأعظم حرمانه عن جناب ربه. قال بعضهم: إن الإنسان لا ينفك من خسر لأن عمره رأس ماله ، فإفناء العمر فيما يمكن أن يكون خيرا منه عبارة عن الخسران. ووجهه أنه إن أفنى عمره في المعصية فخسره وحسرته ظاهران ، وإن كان مشغولا بالمباحات فكذلك لأنه يمكنه أن يعمل فيه عملا يبقى أثره ولذته دائما ، وإن كان مشغولا بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها على وجه أحسن لأن مراتب الخضوع والعبادة غير متناهية كما أن جلال الله وجماله ليس لهما نهاية. والتحقيق فيه أن الإنسان لا يكلف إلا ما هو وسعه وطوقه لا بالنسبة إلى نوعه بل بالنسبة إلى شخصه ، فإذا اجتنب المعاصي بقدر الإمكان واستعمل المباح بمقدار الضرورة والحاجة وأتى بالطاعة على حسب إمكانه لم يسم خاسرا ولكنه يكون أكمل الأشخاص البشرية فلهذا استثناه الله تعالى بقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره. وعن بعضهم أنه قال في «التين» (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٩٩ ، ٣١١).

٥٥٩

فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين: ٤] فابتدأ من الكمال إلى النقصان وقال هاهنا (لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فعكس القضية لأن ذلك مذكور في أحوال البدن وهذا مذكور في أحوال النفس. قلت: يمكن أن يقال: إن كلتا الآيتين في شأن النفس إلا أنه أراد في «التين» ذكر استعداده الفطري وهو كرأس المال ، وهاهنا أراد حكاية معاملته بعد ما أعطى رأس المال. ولا ريب أن أكثرهم منهمكون في طلب اللذات العاجلة المضيعة للاستعداد الأصلي إلا الموفقين الموصوفين بالكمال والإكمال ، وفي إجمال الخسر وتسريحه إلى بقعة الإبهام ، ثم في تفصيل الربح بأنه منوط بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق وبالصبر دليل على غاية الستر والكرم وأن رحمته سبقت غضبه ، وفي لفظ التواصي دون الدعاء أو النصيحة تأكيد بليغ كأنه أمر مهتم به كالوصية ، وفيه أنهم من الذين ماتوا بالإرادة عن الشهوات الفانية فيكون أمرهم ونصيحتهم بمنزلة قول من أشرف على الوفاة ، والحق خلاف الباطل ، ويشتمل جميع الخيرات وما يحق فعله. وقوله و (بِالصَّبْرِ) يشتمل على جميع المناهي فهم بالحقيقة آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، وفي لفظ المضي إشارة إلى تحقيق وقوعه منهم والله أعلم وبالله التوفيق.

٥٦٠