تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الجزء السابع عشر من أجزاء القرآن الكريم

سورة الأنبياء مكية

حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون

كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون

آياتها مائة وست عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

٣

القراآت (قالَ رَبِّي) بالألف : حمزة وعلي وحفص. الباقون قل على الأمر (نُوحِي) بالنون مبنيا للفاعل : حفص غير الخراز. الباقون : بالياء مجهولا.

الوقوف : (مُعْرِضُونَ) ج للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا. (يَلْعَبُونَ) لا لأن (لاهِيَةً) حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير (يَلْعَبُونَ) وهي لقلوبهم في المعنى. (قُلُوبُهُمْ) ط (مِثْلُكُمْ) ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول (تُبْصِرُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى (الْعَلِيمُ) ه (شاعِرٌ) ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول (الْأَوَّلُونَ) ه (أَهْلَكْناها) ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول (يُؤْمِنُونَ) ه (لا تَعْلَمُونَ) ه (خالِدِينَ) ه (الْمُسْرِفِينَ) ه (ذِكْرُكُمْ) ه (تَعْقِلُونَ) ه (آخَرِينَ) ه (يَرْكُضُونَ) ه ط لتقدير القول (تُسْئَلُونَ) ه (ظالِمِينَ) ه (خامِدِينَ) ه (لاعِبِينَ) ه (مِنْ لَدُنَّا) ه على جعل «إن» نافية والأصح أنها للشرط (فاعِلِينَ) ه (زاهِقٌ) لا (تَصِفُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ط لأن ما بعده مبتدأ (يَسْتَحْسِرُونَ) ه ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا ، (لا يَفْتُرُونَ) ه.

التفسير : قال جار الله : اللام في قوله (لِلنَّاسِ) إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل ، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام ، ثم تزيد تأكيدا آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافا إليه الرحيل ، موضع لام التعريف فيه فتقول : أزف للحي رحيلهم. والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] فإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره ، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله (فَسَتَعْلَمُونَ) بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب. فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آت قريب ، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل : شعر

فلا زال ما تهواه أقرب من غد

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

على أنه لم يمض بعد يوم من أيام الله (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» (١) وقد وعد بعث خاتم النبيين في آخر الزمان ، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين. فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٩. مسلم في كتاب الجمعة حديث ٤٣. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ٧. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤٦. أحمد في مسنده (٤ / ٣٠٩).

٤

المكلفين. وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما. والذكر الطائفة النازلة من القرآن ، وقرىء (مُحْدَثٍ) بالرفع صفة على المحل ، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث ، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول ، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول. وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي‌الله‌عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث لأن قوله (مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) لا يدل على حدوث كل ما كان ذكرا بل على أن ذكرا ما محدث ، كما أن قول القائل : لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه ، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلا ، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا «الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس» وإنه لا ينتج شيئا لأن كلية الكبرى شرط في إنتاج الشكل الأول كما عرف في علم الميزان. قلت : إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله «بعض الذكر محدث» لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث. وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة ، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه ، ثم لقائل أن يقول تتميما لقول المعتزلة : إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان : أحدهما ذهب إلى قدم كله ، والثاني إلى حدوث كله ، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة (مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) لموافقة قوله بعد هذا (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ) وقال في الشعراء (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) [الآية : ٥] لكثرة ذكر الرحيم فيها. فكان «الرحمن بالرحيم» أنسب.

قوله تعالى (يَلْعَبُونَ) اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله (لاهِيَةً) هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل. وفيه إن هم إلا كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه.

ومعنى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي «واو» أسروا وجهان : أحدهما أنه على لغة من يجوز إلحاق علامة

٥

التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدما على فاعله ، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل منهم. أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره (أَسَرُّوا النَّجْوَى) مقدما عليه. وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هؤلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ) إلى قوله (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم ، أو تعلمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله (هَلْ هذا) إلى آخره مفعولا لقالوا مضمرا ، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحريا لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء. ويرفع أيضا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين : إن كان ما تدعون حقا فأخبرونا بما أسررنا. من قرأ (قالَ رَبِّي) فعلى حكاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال : إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك ، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب ، ووصف نفسه هاهنا بأنه يعلم القول. قال جار الله : هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق ، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص. بل نقول : العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) خصص علمه بالمسموعات أولا ثم عمم وقال الإمام قدم «السميع» على «العليم» لأنه لا بد من استماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه. قلت : هذا قياس للغائب على الحاضر قوله (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) معنى هذه الإضرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولا كون الرسول من جنس البشر ، ثم كأنهم قالوا : سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة ، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزا فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة ، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف. سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء ، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا. (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات. ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أنها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن

٦

المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف. ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الآيات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون البتة وحينئذ يجب إهلاكهم ، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال.

ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بقوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل. وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة ، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان قولهم عندهم حجة. وقيل : أهل الذكر أهل القرآن. وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء ، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة ، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) وقوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) بغير «من» وليس إلا هاهنا وفي أوائل الفرقان (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ) [الآية : ٢٠] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) الآية كأنهم قالوا : إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت ، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل : وما جعلنا لهم جسدا. ووحد الجسد لإرادة الجنس أي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله : (صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض ، ثم فسر الوعد بقوله (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) وهم المؤمنون ، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله ، (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي شرفكم وصيتكم ، أو فيه بيان مكارم الأخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل ، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال (وَكَمْ قَصَمْنا) والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء ، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى (مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية لقوله (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) وللضمائر في قوله (فَلَمَّا أَحَسُّوا) إلى آخر القصة. والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس المشاهد. والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب ، قال الجوهري :

٧

الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثا لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجلهم فقيل لهم لا تركضوا. والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم ، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) غدا عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم ، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم ، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء ، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم (فَما زالَتْ تِلْكَ) الدعوى وهي قولهم (يا وَيْلَنا) لأن المولول كأنه يدعو الويل (دَعْواهُمْ) الأول اسم «ما زال» والثاني خبره أو بالعكس. والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] والحصيد المحصود كقوله (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رمادا أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد ، ووحد (حَصِيداً) لأن المراد زرعا حصيدا ، ولأن «فعيلا» قد يستوي فيه الواحد والجمع ، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثوبين سحوليين. وروى حضوريين بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء.

قال أهل النظم : لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس ، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلا ومجازاة لا عبثا ولا مجازفة فقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ) الآية أي وما سوينا هذا السقف المرفوع والمهاد الموضوع (وَما بَيْنَهُما) من الأركان والمواليد كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب ، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول «البقرة» ويمكن أن يقال : المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه ، فإن كان صادقا فهو المطلوب ، وإن كان كاذبا كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه. قال القاضي عبد الجبار : فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعبا وعورض بمسألتي العلم والداعي. ثم بين أن

٨

السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه ، معنى (مِنْ لَدُنَّا) من جهة قدرتنا وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة ، وقيل : من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس ردا على من قال : عزير ابن الله والمسيح ابن الله. ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا تسمعون اسمه فيكون الرد شاملا لكل من ادعى لله ولدا ولو من الملائكة. ثم أضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلا (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ) يعني الباطل (زاهِقٌ) أي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل ، قال علماء المعاني : هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي : فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة ، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل ، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق ، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي تصفونه به. ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة. فأما عندية المكان ففيها بحث طويل. قال الزجاج : (لا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء. قال جار الله : كان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو «استفعل» لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور ، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدّونها تعبا عليهم. ثم أكد ذلك بقوله (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) منصوبان على الظرفية (لا يَفْتُرُونَ) لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله ، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب الأحبار : أرأيت قول الله عزوجل (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ثم قال : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ) [البقرة : ١٦١] أليس الرسالة واللعن مانعين لهم عن التسبيح؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر. واعترض بأن آلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم. وأجيب بأنه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة ، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به.

التأويل : اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم كقوله (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ

٩

قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد : ١٦] (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) وعظ وتذكير من عالم رباني (مُحْدَثٍ) إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي والولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج ، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى. قال بعض المشايخ ، لو لا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله (وَما كانُوا خالِدِينَ) والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا على أنفسهم بالركون إلى أسفل سافلين الطبائع. (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ) أهل (قَرْيَةٍ) قالت (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد (لا تَرْكُضُوا) منا بل ففروا إلينا (وَارْجِعُوا) إلى التنعمات الروحانية (وَمَساكِنِكُمْ) الأصلية (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) عزة وكرامة (وَما خَلَقْنَا) سموات الأرواح وأرض الأجساد ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية ، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) للحق ثلاث مراتب : مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق ، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد ، أرهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال ، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته ، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول : أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفا بالوجود المجازي.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ

١٠

وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

القراآت : (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) بالنون : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد (إِنِّي إِلهٌ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان. الم ير بغير واو : ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ولا تسمع من الاسماع خطأ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصم بالنصب : ابن عامر. الآخرون على الغيبة من السماع. (الصُّمُ) بالرفع (مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالرفع على «كان» التامة وكذلك في سورة لقمان : أبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب.

١١

الوقوف : (يُنْشِرُونَ) ه (لَفَسَدَتا) ج للابتداء بـ (فَسُبْحانَ) للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلا للتنزيه (يَصِفُونَ) ه (يُسْئَلُونَ) ه (آلِهَةً) ط (بُرْهانَكُمْ) ج لاتحاد المقول من غير عاطف (قَبْلِي) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه لا لأن ما بعده مفعول (مُعْرِضُونَ) ه (فَاعْبُدُونِ) ه (سُبْحانَهُ) ط (مُكْرَمُونَ) ه ط لأن ما بعده صفة بعد صفة (يَعْمَلُونَ) ه (وَلا يَشْفَعُونَ) ه لا للاستثناء (مُشْفِقُونَ) ه (جَهَنَّمَ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (فَفَتَقْناهُما) ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار (حَيٍ) ط (يُؤْمِنُونَ) ه (يَهْتَدُونَ) ه (مَحْفُوظاً) ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال (مُعْرِضُونَ) ه (وَالْقَمَرَ) ط (يَسْبَحُونَ) ه (الْخُلْدَ) ط (الْخالِدُونَ) ه (الْمَوْتِ) ط (فِتْنَةً) ط (تُرْجَعُونَ) ه (هُزُواً) ط (آلِهَتَكُمْ) ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال (كافِرُونَ) ه (مِنْ عَجَلٍ) ط (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ه (صادِقِينَ) ه (يُنْصَرُونَ) ه (يُنْظَرُونَ) ه (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه ط (مِنَ الرَّحْمنِ) ط (مُعْرِضُونَ) ه (مِنْ دُونِنا) ط فصلا بين الاستفهام والإخبار (يُصْحَبُونَ) ه (الْعُمُرُ) ط (مِنْ أَطْرافِها) ط (الْغالِبُونَ) ه (بِالْوَحْيِ) ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول ، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول (يُنْذَرُونَ) ه (ظالِمِينَ) ه (شَيْئاً) ط (أَتَيْنا بِها) ط (حاسِبِينَ) ه (لِلْمُتَّقِينَ) ه لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. (مُشْفِقُونَ) ه (أَنْزَلْناهُ) ط (مُنْكِرُونَ).

التفسير : إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالا وجوابا فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة «أم» المنقطعة (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) نسبت إلى الأرض كما يقال «فلان من مكة» لأنها أصنام تعبد من الأرض ، لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال : أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بادعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلا عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية. ومعنى (هُمْ) أفادت الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم ، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما) أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما (آلِهَةٌ إِلَّا

١٢

اللهُ) أي غير الله. قال النحويون : إلا هاهنا بمعنى غير لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور ، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلا في المستثنى منه لو لا الاستثناء وقد يقال : إن «إلا» في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان : أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما (لَفَسَدَتا) وفيه دلالة على أمرين : الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا ، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه لقوله غير الله وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال : لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه ، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد ، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما ، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح للإلهية. والاعتراض على هذا التقدير من وجهين : الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع.

والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان : أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول ، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتي عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان ، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلّا منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة ، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضا اختلاف. ولو قيل : إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير ، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر ، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب ، بل العاجز لا يصلح للإيجاد أصلا فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها : أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت : يقدر. كان كل منهما مقهورا للآخر ، وإن قلت : لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد

١٣

منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزا ولهذا لا يمكن أن يقال : إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئا نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلا عن غيرها. ولقائل أن يقول : إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الآية : ١٦٣] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق : إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين ، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعا لقلة جهات الافتقار وكثرتها ، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد ، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحدا كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و «لو» هذه بمعنى «أن» والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا ، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلها غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيرة قوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) [الزمر : ٢٩] وفيه قول زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه :

أربا واحدا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعا

كذلك يفعل الرجل البصير

ثم أكد تفرده بالإلهية بقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وفيه رد على الثنوية والمجوس

١٤

الذين أثبتوا لله شريكا فاعلا للشرور والآلام ، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا : لو كان مدبر العالم واحدا لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر ، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله ، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت ، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض وله بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله ، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا : إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنيا عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن «لم» وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم ، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيدا بقوله (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا : إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال ، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثا. وأيضا التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق ، وأيضا سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث ، وإن كان فيه فائدة فإن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا مستكملا ، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف ، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم ، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب ، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال : إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم ما لا يطيقون وهو يناقض القاعدة الممهدة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم كرر (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استفظاعا لكفرهم وليرتب عليه قوله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك عقلا أو نقلا. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذرا من

١٥

الفساد ، وأما النقل فقوله (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه أراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) صفة للقرآن أيضا لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) تنبيها على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل ، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه ، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند ، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع.

ثم قرر آي التوحيد خصوصا قوله (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) على أحد التفسيرين بقوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله (سُبْحانَهُ) ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله (مُكْرَمُونَ) مقربون (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي بقولهم أي يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وأفعالهم (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) وقد مر تفسيره في «طه» وفي آية الكرسي (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) كقوله في طه (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي متوقعون من أمارة ضعيفة. قلت : لعله أراد أنهم يتوقعون ما هو سبب لخشيته وهو العقاب من أدنى أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية. ويحتمل أن يقال : إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى جبرئيل عليه‌السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله عزوجل. ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] وفي قوله (فَذلِكَ) دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك ، وأراد بالظلم هاهنا الشرك ، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق

١٦

والأنفس قائلا (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي جماعة السموات وجماعة الأرض (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الرتق بالسكون السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحا توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعا وكذلك الأرضون. وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر. ويشبه أن يراد بالسماوات على هذا التفسير السحب نظيره قوله (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) [الطارق : ١٢] ويؤيده قوله عقيبه (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم «ثوب أخلاق» «وبرمة أعشار» وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقال أبو مسلم الأصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد.

وهاهنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقا حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ [الكهف : ٥١] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من

١٧

مخصص وهو القديم سبحانه. قوله (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) قال السكاكي صاحب المفتاح : أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساما مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعديا إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود ، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله (وَجَعَلْنا) داخلا في حيز الاستفهام كأنه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملا للنبات أيضا كقوله (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الجاثية : ٥] قوله (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) قد مر تفسيره في أول «النحل» وباقي الآية كقوله في طه (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) [الآية : ٥٣] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة (سُبُلاً) قدمت عليه فصارت حالا عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) [نوح : ٢٠] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد ، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله (وَجَعَلْنا) فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر أنه قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجا وجعل فيها طرقا. قال علماء الإسلام : ليس في قوله (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله ، ولكنه أطلق عليها اسم السقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان : أي (مَحْفُوظاً) بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) من مقلوب الكل. والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي : ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله (يَسْبَحُونَ)

١٨

والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء : هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والالتئام والنمو والذبول ، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكنا ، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك.

قال صاحب الكشاف : التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان : أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟ وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والأقمار لذلك. ويمكن أن يقال : أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعا لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة ، وأجاب بأنه أراد جنس الفلك كقولك «كسانا الأمير حلة» ، أو أراد كل واحد. قلت : لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله (يَسْبَحُونَ) مجموعا. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت : قد يسبح كثير من الحيوانات ، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وهاهنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية ، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال : وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض ، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفلك الأعظم بحركته وبحركاتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت : أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز أسرع حركة فإقناعي ، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين ، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى ، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الاظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة ، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك ، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضا. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما

١٩

خلقت للابتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال : (وَما جَعَلْنا) الآية ، عن مقاتل أن ناسا كانوا يقولون إن محمدا لا يموت فنزلت وقيل : لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء ، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل :

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا.

قوله (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره.

قوله (وَنَبْلُوكُمْ) أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. و (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي البتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله (وَإِلَيْنا) أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو ، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه ، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له ، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا ، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك (ثُمَّ إِلَيْنا) ولم يذكر قوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في «ثم». قال السدي ومقاتل : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف! فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهما فقال لأبي جهل : ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي ما يتخذونك (إِلَّا هُزُواً) ثم فسر ذلك بقوله (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء ، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من

٢٠