تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

القراآت: (رَبِّ السَّماواتِ) بالجر على البدل (مِنْ رَبِّكَ): عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالرفع أني آتيكم بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ترجموني فاعتزلوني بالياء في الحالين: يعقوب وأفق ورش وسهل وعباس في الوصل لي بالفتح: ورش فكهين بغير الألف: يزيد (يَغْلِي) على التذكير والضمير للطعام: ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون: بتاء التأنيث والضمير للشجرة فاعتلوه بضم التاء: ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الآخرون: بالكسر ذق أنك بفتح الهمزة على حذف لام التعليل. في مقام بضم الميم من الإقامة: أبو جعفر ونافع وابن عامر.

الوقوف: (حم) كوفي ه (الْمُبِينِ) ه لا ومن لم يقف على (حم) وقف على (الْمُبِينِ مُنْذِرِينَ) ه (حَكِيمٍ) ه ط بناء على أن التقدير أمرنا أمرا (مِنْ عِنْدِنا) ط (مُرْسِلِينَ) ه ج لاحتمال أن (رَحْمَةً) مفعول له أو به أو التقدير رحمنا رحمة (مِنْ رَبِّكَ) ط (الْعَلِيمُ) ه لا لمن خفض (رَبِ بَيْنَهُما) ط (مُوقِنِينَ) ه (وَيُمِيتُ) ط (الْأَوَّلِينَ) ه (يَلْعَبُونَ) ه (مُبِينٍ) ه ط (النَّاسَ) ط (أَلِيمٌ) ه (مُؤْمِنُونَ) ه (مُبِينٌ) ه لا للعطف (مَجْنُونٌ) ه لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار (عائِدُونَ) ه م لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود (الْكُبْرى) ج لاحتمال التعليل (مُنْتَقِمُونَ) ه (كَرِيمٌ) ه لا (عِبادَ اللهِ) ط (أَمِينٌ) ه (عَلَى اللهِ) ج (مُبِينٍ) ه ج (تَرْجُمُونِ) ه (فَاعْتَزِلُونِ) ه (مُجْرِمُونَ) ه (مُتَّبَعُونَ) ه لا (رَهْواً) ط (مُغْرَقُونَ) ه (وَعُيُونٍ) ه لا (كَرِيمٍ) ه لا (فاكِهِينَ) ه لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت (آخَرِينَ) ه (مُنْظَرِينَ) ه (الْمُهِينِ)

١٠١

ه لا (مِنْ فِرْعَوْنَ) ط (الْمُسْرِفِينَ) ه (الْعالَمِينَ) ه ج (مُبِينٌ) ه (لَيَقُولُونَ) ه لا (بِمُنْشَرِينَ) ه (صادِقِينَ) ه (تُبَّعٍ) لا للعطف (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار (أَهْلَكْناهُمْ) ج لأن التعليل أوضح (مُجْرِمِينَ) ه (لاعِبِينَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه لا لأن ما بعده بدل (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ه لا (رَحِمَ اللهُ) ط (الرَّحِيمُ) ه (الْأَثِيمِ) ه ج لاحتمال أن يكون (كَالْمُهْلِ) خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف (فِي الْبُطُونِ) لا (الْحَمِيمِ) ه (الْجَحِيمِ) ه (الْحَمِيمِ) ه ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق (الْكَرِيمُ) ه (تَمْتَرُونَ) ه (أَمِينٍ) ه لا (وَعُيُونٍ) ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال (مُتَقابِلِينَ) ه ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك (عِينٍ) ه ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور (آمِنِينَ) ه لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به (الْأُولى) ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا بإضمار قد (الْجَحِيمِ) ه لا لأن (فَضْلاً) مفعول له (مِنْ رَبِّكَ) ط (الْعَظِيمُ) ه (يَتَذَكَّرُونَ) ه (مُرْتَقِبُونَ) ه.

التفسير: أقسم بالقرآن (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب وإنما أنزل في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية ، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة فالجملتان ـ أعني قوله (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) كالتفسير لجواب القسم قال صاحب النظم: ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه فجواب القسم (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) اعتراض. والجمهور على الأول ولا بأس لأن المعنى إنا أنزلنا القرآن على محمد ولم يتقوله ، ويحتمل أن القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة. وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: ١] وليلة القدر عند الأكثرين من رمضان. ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لاثنتي عشرة مضت ، والإنجيل لثمان عشرة منه ، والفرقان لأربع وعشرين مضت ، والليلة المباركة هي ليلة القدر. وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان. وما رأيت لهم دليلا يعوّل عليه. قالوا: وتسمى ليلة البراءة أيضا وليلة الصك لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة من النار في هذه الليلة. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرا يدفعون عنه مكايد الشيطان.» وقال «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد

١٠٢

شعر أغنام بني كلب.» وقال: «إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو ساخر أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا» ومما أعطى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر منها فأعطى الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير. ومن عادة الله عزوجل في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة. وبعضهم أراد أن يجمع بين القولين فقال: ابتدئ بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر. والمباركة الكثيرة الخير ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة. ومعنى (يُفْرَقُ) يفصل ويكتب (كُلُّ أَمْرٍ) هو ضد النهي أو كل أمر له شأن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى العام القابل ، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسوف إلى جبرائيل ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وقيل: يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته. وفي انتصاب (أَمْراً) وجوه: إما أن يكون حالا من (أَمْرٍ حَكِيمٍ) لأنه قريب من المعرفة أو من الهاء في (أَنْزَلْناهُ) أو من الفاعل أي آمرين ، أو على المصدر لأمر ، أو على الاختصاص لأن كونه من عند الله يوجبه مزيد شرف وفخامة ، أو يكون مصدرا من غير لفظ الفعل وهو (يُفْرَقُ) لأنه إذا حكم بالشيء وفصله وكتبه فقد أوجبه وأمر به قوله (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يجوز أن يكون بدلا من قوله تعالى (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة ، ويحتمل كونه تعليلا ليفرق ، أو لقوله (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) وقوله (مِنْ رَبِّكَ) وضع للظاهر موضع الضمير إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة. ثم حقق ربوبيته بقوله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إلى قوله الأولين. ومعنى الشرط في قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) نظير ما هو في أول الشعراء وذلك أنهم كانوا مقرين بأنه رب السموات والأرض. قيل لهم: إن كنتم على بصيرة وإيقان من ذلك فلا تشكوا فيه ، أو إن كنتم موقنين بشيء فأيقنوا بما أخبرتكم ، أو إن كنتم تريدون اليقين فاعلموا ذلك. وقيل: إن نافية ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) في الدنيا أو يستهزؤن بنا فلا جرم أوعدهم بقوله (فَارْتَقِبْ) و (يَوْمَ) مفعول به أي انتظره. والأكثرون على أن هذا الدخان من أمارات القيامة فإن الدنيا ستصير كبيت لاخصاص له مملوء دخانا يدخل في أنوف الكفار وآذانهم فيكونون كالسكارى ، ويصيب المؤمن فيه كالزكام فيبقى ذلك أربعين. وعن حذيفة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال

١٠٣

«أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر» (١) أبين بكسر الهمزة وفتحها اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها. وقيل: الدخان يكون في القيامة إذا خرجوا من قبورهم يحيط بالخلائق ويغشاهم. وقيل: الدخان الشر والفتنة. وعن ابن مسعود: خمس قد مضت الروم والدخان والقمر والبطشة واللزام. وذلك أن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني ويوسف. فأصابهم اللزام وهو القحط حتى أكلوا الجيف ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان فيسمع كلام صاحبه ولا يراه من الدخان. فمشى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم ، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم من الدخان رجعوا إلى شركهم وذلك قوله (هذا عَذابٌ) أي قائلين هذا إلى آخره.

ثم استبعد منهم الاتعاظ بقوله (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ) ما هو أعظم من كشف الدخان وهو القرآن المعجز وغيره فلم يتذكروا و (تَوَلَّوْا عَنْهُ) واتهموه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه إنما يعلمهن بشر ونسبوه إلى الجنون. ومعنى «ثم» تبعيد الحالتين. ثم بين أنهم يعودون إلى الكفر عقيب كشف العذاب عنهم زمانا قليلا. واعلم أن ارتدادهم إلى الكفر أمر ممكن سواء يجعل الدخان من أمارات القيامة أو يقال إنه قد مضى. والبطشة الكبرى القيامة أو يوم بدر على التفسيرين. و (يَوْمَ) ظرف لما دل عليه منتقمون فإن ما بعد «أن» لا يعمل فيما قبله. وقيل: بدل من (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) ثم سلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة موسى. ومعنى (فَتَنَّا) امتحنا وقد وصفه بالكرم لأنه كان حبيبا في قومه أو بكرم خلقه ، أو المراد أنه لم يخاشنهم في التبليغ كما قال (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه: ٤٤] و «أَنْ» مفسرة لأن مجيء الرسول يتضمن القول ، أو مخففة من الثقيلة ، أو مصدرية والياء محذوف. و (عِبادَ اللهِ) مفعول به لقوله (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [طه: ٤٧] أو منادى والمعنى أدوا إليّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان والطاعة. والقصة مذكورة في «الشعراء» وغيرها و (أَنْ تَرْجُمُونِ) أن تقتلون أو تشتمون بالنسبة إلى الكذب والسحر (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) أي لم تصدقوني ففارقوني وكونوا بمعزل عني لا عليّ ولا لي (فَدَعا رَبَّهُ) شاكيا (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) مصرون على الكفر (فَأَسْرِ) أي فأجبنا دعاءه وقلنا له أسر وكان من دعائه اللهم عجل لهم

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الفتن باب ٣٩ أبو داود في كتاب الملاحم باب ١٢ ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٨ أحمد في مسنده (٤ / ٦) بلفظ «ترون عشر آيات: الدخان والدجال .... ونزول عيسى ....»

١٠٤

ما يستحقونه بإجرامهم. ويحتمل أن يكون الدعاء وهو ما في «يونس» (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) [الآية: ٨٨] وفي (رَهْواً) وجهان: أحدهما ساكنا أي لا تضربه. ثانيا واتركه على هيئته من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا. وذلك أن موسى أراد أن يضربه ثانيا حتى ينطبق ويزول الانفاق خوفا من أن يدركهم قوم فرعون ، والله تعالى أراد أن يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم ، وثانيهما أن الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحا منفجرا على حاله. والنعمة بفتح النون التنعم والباقي مذكور في «الشعراء». وقوله (فَما بَكَتْ) كان إذا مات الرجل الخطير قالوا في تعظيم مصيبته بكت عليه السماء والأرض وأظلمت الدنيا ، ومنه الحديث «وما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء» وفيه تمثيل وتخييل وتهكم بهم أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك ، فأخبر ما كانوا في هذا الحد بل كانوا أنهم دون ذلك. وجوز كثير من المفسرين أن يكون البكاء حقيقة وجعلوا الخسوف والكسوف والحمرة التي تحدث في السماء وهبوب الرياح العاصفة من ذلك. قال الواحدي في البسيط: روي أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية.» ثم إن هؤلاء الكفار لم يكن لهم عمل صالح يصعد إلى السماء فلا جرم لم تبك عليهم. وعن الحسن: أراد أهل السماء والأرض أي ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا. قوله (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب بل جعل في نفسه عذابا مهينا لشدة شكيمته وفرط عتوه. وقيل: المضاف محذوف أي من عذابه. وقيل: تقديره المهين الصادر من فرعون ، وفي قراءة ابن عباس (مِنْ فِرْعَوْنَ) على الاستفهام أي ما ظنكم بعذاب من تعرفونه أنه عال قاهر عات مجاوز حد الاعتدال. ثم ثنى على بني إسرائيل بقوله (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) بإيتاء الملك والنبوة (عَلى عِلْمٍ) منا باستحقاقهم ذلك وقيامهم بالشكر عليه على عالمي زمانهم. ولا ريب أن هذا قبل التحريف. وقيل: أي على علم منا بأنه يبدو منهم بوادر وتفريطات والبلاء النعمة أو المحنة ، والآيات هي التسع وغيرها.

ثم عاد إلى ما انجر الكلام فيه وهو قوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) فقال (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفار قريش (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) قال المفسرون: يؤل إلى ما حكى عنهم في موضع آخر (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [المؤمنون: ٣٧] وذلك أن النزاع إنما وقع في موتة تعقبها حياة فأنكروا أن تكون موتة بهذا الوصف إلا الموتة الأولى وهو

١٠٥

حال كونهم نطفا. ويحتمل أن يراد إن هي أي الصفة أو النهاية أو الحالة أو العاقبة إلا الموتة الأولى ، وليست إثباتا لموتة ثانية إنما هو كقولك: حج فلان الحجة الأولى ، ومات (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أنشر الله الموتى أحياهم (فَأْتُوا) أيها النبي والذين آمنوا معه (بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يروى أنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل الله لهم إحياء الموتى فينشر كبيرهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة البعث ، فلم يجبهم الله تعالى إلى ذلك ولكنه أوعدهم بقوله (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) أي ليسوا بخير منهم في العدد والعز والمنعة. ابن عباس: تبع نبي. أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا أدري تبع نبيا كان أم غير نبي» رواه الثعلبي عن عائشة كان رجلا صالحا ذم الله قومه ولم يذمه. وإنما خصهم بالذكر لقربهم من العرب زمانا ومكانا. وعن سعيد بن جبير كسا البيت. وقال قتادة: كان من حمير سار فبنى الحيرة وسمرقند. وقال أبو عبيدة: هم ملوك اليمن يسمى كل واحد منهم تبعا لكثرة تبعه ، أو لأنه يتبع صاحبه وهو بمنزلة الخليفة للمسلمين ، وكسرى للفرس ، وقيصر للروم ، وجمعه تبابعة ، وكان يكتب إذا كتب بسم الذي ملك برا وبحرا. ثم برهن على صحة البعث بقوله و (ما خَلَقْناهُما) إلى آخره ، وقد مر في «الأنبياء» وفي «ص» نظيره. وإنما جمع السموات هاهنا لموافقة قوله في أول السورة (رَبِّ السَّماواتِ) وسمى يوم القيامة يوم الفصل لأنه يفصل بين عباده في الحكم والقضاء ، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار ، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون وللكافرين بينهم وبين ما يشتهونه فيفصل بين الوالد وولده والرجل وزوجته والمرء وخليله. والمولى في الآية يحتمل الولي والناصر والمعين وابن العم ، والمراد أن أحدا منهم بأي معنى فرض لا يتوقع منه النصرة. والضمير في (لا هُمْ يُنْصَرُونَ) للمولى الثاني لأنه جمع في المعنى لعمومه وشياعه. وقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) في محل الرفع على البدل أو في محل النصب على الاستثناء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على من عصى (الرَّحِيمُ) لمن أطاع. ثم أراد أن يختم السورة بوعيد الفجار ووعد الأبرار فقال (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) وقد مر تفسيرها في الصافات. و (الْأَثِيمِ) مبالغة الآثم ولهذا يمكن أن يقال: إنه مخصوص بالكافر. والمهل دردي الزيت وقد مر في «الكهف». ولعل وجه التشبيه هو بشاعة الطعم كما أن الوجه في قوله (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات: ٦٥] هو كراهة المنظر ثم وصفه بشدة الحرارة قائلا (يَغْلِي) إلى آخره. ثم أخبر أنه سبحانه يقول للزبانية (خُذُوهُ) أي خذوا الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) جروه بعنف وغلظة كأن يؤخذ بتلبيبه فيجر إلى وسط النار. ومنه العتل للجافي الغليظ. وقوله (مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) دون أن يقول «من الحميم» تهويل سلوك لطريق الاستعارة لأنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته. يروي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: ما بين

١٠٦

جبليها أعز ولا أمنع مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي «شيئا» فنزلت الآية. أي يقال له ذق لأنك أنت العزيز الكريم عند نفسك وفيه من التهكم ما فيه (إِنَّ هذا) العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكون. ثم شرع في وعد الأبرار والمقام الأمين ذو الأمن ، أو أصله من الأمانة لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. وقوله (وَزَوَّجْناهُمْ) اختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزوج أم لا. والأكثرون على نفيه ، وأن المراد قرناهم بهن. وقيل: زوجته امرأة وزوجته بامرأة لغتان. وهكذا اختلفوا في الحور. فعن الحسن: هن عجائزكم ينشئهن الله خلقا آخر. وقال أبو هريرة: لسن من نساء الدنيا. (يَدْعُونَ) أي يحكمون ويأمرون في الجنة بإحضار ما يشتهون من الفواكه في أي وقت ومكان (آمِنِينَ) من التخم والتبعات ، ثم أخبر عن خلودهم بقوله (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) قال جار الله: هو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها. وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها. وقال أهل التحقيق: إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله وبمحبته. فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة. وفي الآخرة أيضا في الجنة فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى. ثم ختم الكلام بفذلكته والمعنى ذكرناهم بالكتاب المبين فأسهلناه حيث أنزلناه بلغتك إرادة تذكرهم فانتظر ما يحل فإنهم يتربصون بك الدوائر.

١٠٧

(سورة الجاثية مكية حروفها ألفان ومائة وأحد وستون

كلمها أربعمائة وثمان وثمانون آياتها سبع وثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا

١٠٨

يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

القراآت: (وَفِي خَلْقِكُمْ) مدغما: عباس. آيات بالنصب في الموضعين: حمزة وعلي ويعقوب الريح على التوحيد: حمزة وعلي وخلف (يُؤْمِنُونَ) على الغيبة: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص (أَلِيمٌ) مذكور في «سبأ» لنجزي بالنون: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف (لِيَجْزِيَ) بالياء مبنيا للمفعول قوم بالرفع: يزيد. الباقون: مبنيا للفاعل (قَوْماً) سواء بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد غشاوة بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف: حمزة وعلي وخلف ٣ كل أمة تدعي بالنصب على الإبدال من الأول: يعقوب الساعة بالنصب: حمزة (لا يُخْرَجُونَ) من الخروج حمزة وعلي وخلف.

الوقوف: (حم) كوفي ه (الْحَكِيمِ) ه (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه ط ومن نصب ، (آياتٌ) لم يقف لأنه عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين (يُوقِنُونَ) ه لا للعطف على عاملين كما يجيء (يَعْقِلُونَ) ه (بِالْحَقِ) ج للاستفهام مع الفاء (يُؤْمِنُونَ) ه (أَثِيمٍ) ه (يَسْمَعْها) ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب (أَلِيمٍ) ه (هُزُواً) ط (مُهِينٌ) ه ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف (عَذابٌ) جهنم ج لعطف المختلفين (أَوْلِياءَ) ج لذلك (عَظِيمٌ) ه (هُدىً) ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف (أَلِيمٌ) ه

١٠٩

(تَشْكُرُونَ) ه ج للآية مع العطف (مِنْهُ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ج (يَكْسِبُونَ) ه (فَلِنَفْسِهِ) ج (فَعَلَيْها) ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة (تُرْجَعُونَ) ه (الْعالَمِينَ) ه ج للآية والعطف (مِنَ الْأَمْرِ) ج لعطف المختلفين (بَيْنَهُمْ) ط (يَخْتَلِفُونَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (شَيْئاً) ج (بَعْضٍ) ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين (الْمُتَّقِينَ) ه (يُوقِنُونَ) ه (الصَّالِحاتِ) قف ومن نصب (سَواءً) لم يقف. (وَمَماتُهُمْ) ط (يَحْكُمُونَ) ه (لا يُظْلَمُونَ) ه (غِشاوَةً) ط (مِنْ بَعْدِ اللهِ) ط (تَذَكَّرُونَ) ه (الدَّهْرُ) ج لاحتمال الواو الحال (مِنْ عِلْمٍ) ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى (يَظُنُّونَ) ه (صادِقِينَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (الْمُبْطِلُونَ) ه (جاثِيَةً) قف لمن قرأ (كُلَ) بالرفع (كِتابِهَا) ط (تَعْمَلُونَ) ه (بِالْحَقِ) ه ط (تَعْمَلُونَ) ه (فِي رَحْمَتِهِ) ط (الْمُبِينُ) ه (مُجْرِمِينَ) ه (مَا السَّاعَةُ) لا تحرزا عن الابتداء بقول الكفار (بِمُسْتَيْقِنِينَ) ه (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (ناصِرِينَ) ه (الدُّنْيا) ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة (يُسْتَعْتَبُونَ) ه (الْعالَمِينَ) ه (وَالْأَرْضِ) ص لعطف الجملتين المتفقتين (الْحَكِيمُ) ه.

التفسير: إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول «المؤمن» وتفسيره وقوله (إِنَّ فِي السَّماواتِ) إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها ، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما. استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين مختلفين وهما في قراءة النصب «أن» وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف الليل ، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي. وخرج لسيبويه في جوابه وجهان: أحدهما أن قوله (لَآياتٍ) تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول: إن في الدار زيدا وفي الحجرة زيدا والمسجد زيدا ، وأنت تريد أن في الدار زيدا والحجرة والمسجد. والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه ، ويحتمل أن ينتصب (لَآياتٍ) على الاختصاص. ويرتفع بإضمار هي. وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مرارا ولا سيما في أواسط «البقرة» ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولا ثم قال (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ثم (يَعْقِلُونَ) فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه‌الله: أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، وقال جار الله: معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات

١١٠

والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال. وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض ، ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس ، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا ، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم. وأقول: الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان: نفسية وخارجية. فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه ، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية. فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق ، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر ، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود. (تِلْكَ) مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة و (نَتْلُوها) في محل الحال. وقوله (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) كقولهم: أعجبني زيد وكرمه. وأصله بعد آيات الله. والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه. وقيل: معناه القرآن آخر كتب الله ، ومحمد آخر رسله. فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي. ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان. قوله (وَإِذا عَلِمَ) أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء ، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كاعتراض ابن الزبعري في قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنبياء: ٩٨] وإنما أنّث الضمير في قوله (اتَّخَذَها) لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزوا ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. قوله (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر ، وقد مر في سورة إبراهيم عليه‌السلام (هذا هُدىً) أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد. ثم ذكر دليلا آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مرارا. وقوله (وَلِتَبْتَغُوا) أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري. ثم عمم بعد التخصيص وقوله (مِنْهُ) في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه ، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه. عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر ـ يقال لها المريسيع ـ فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي

١١١

وقرب أبي بكر وملأ لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني عمر (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم ، والمراد الصفح والإعراض. عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس: لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [البقرة: ٢٤٥] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه ، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه. وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين ، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية ، وإنما نكر (قَوْماً) مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل: لنجزي قوما كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء بما يكسبون من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ، وقيل: القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق. ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) الآية.

ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين. وقال ابن عباس: يريد أنه تبين لهم من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل: هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى. (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فيه احتمالان: أحدهما علموا ثم عاندوا ، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسدا. (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) أي منهاج وطريقة (مِنَ الْأَمْرِ) أمر الدين وقيل: من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله (وَلا تَتَّبِعْ) إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك. ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله (وَلا تَتَّبِعْ) أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة ، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه. ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته (هذا) القرآن. وقيل: ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشارا إليه أولى لقوله (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى آخره. وقد مر في آخر «الأعراف» مثله. ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلا (أَمْ حَسِبَ) قال جار الله: «أم» منقطعة والآية نظيرة ما سلف في «ص» (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ) [الآية: ٢٨] والاجتراح الاكتساب. من قرأ

١١٢

(سَواءً) بالنصب فمعناه مستويا والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي (نَجْعَلَهُمْ) وهو الكاف. ومن قرأ بالرفع فخبر و (مَحْياهُمْ) مبتدأ والجملة بدل أيضا لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا. والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا ، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة ، ومات هؤلاء على الضد. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق ، بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن. فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة. وقيل: إنه كلام مستأنف ، والمراد أن كلا من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كما تعيشون تموتون» وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله (وَخَلَقَ اللهُ) الآية. قال جار الله: (وَلِتُجْزى) معطوف على (بِالْحَقِ) لأنه في معنى التعليل أي للعدل ، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء. ويجوز أن يكون المعلل محذوفا وهو فعلنا ونحوه. والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة. ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلا (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) بحاله أنه من أهل الخذلان والقهر ، أو على علم الضلال في سابق القضاء ، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها. وقيل: أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ) إضلال (اللهُ) قال بعض العلماء: قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في «البقرة» لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة ، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه. ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فورد ما في كل سورة على ترتيبه. ثم ذكر من أسباب الضلال سببا آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة إلا هذه. وليس قولهم الدنيا تسلما لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم (نَمُوتُ وَنَحْيا) فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب. وقيل: يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء ، أو يموت بعض ، ويحيا بعض ، أو أرادوا بكونهم أمواتا حال كونهم نطفا ، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر. ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون

١١٣

الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب. ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادئ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظنا تخمينا واستبعادا فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم ، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا وأطوارا. وليس قولهم (ائْتُوا بِآبائِنا) من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس ، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله:

تحية بينهم ضرب وجيع

وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) إلى آخره. ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) العامل فيه يخسر وقوله (يَوْمَئِذٍ) بدل من (يَوْمَ) وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف. قال ابن عباس: الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها. وقيل: باركة جلسة المدعي عند الحاكم. وقيل: مستوفزا لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله. والجثو للكفار خاصة. وقيل: عام بدليل قوله بعد ذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا تُدْعى إِلى كِتابِهَا) يريد كتاب الحفظة ليقرؤه. وقال الجاحظ: إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا. ويقال: يا أهل التوراة يا أهل القرآن. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله (هذا كِتابُنا) إلى قوله (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) أي نأمر بالنسخ. وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عزوجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه. قوله (أَفَلَمْ تَكُنْ) القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) قال أبو علي والأخفش: هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن ، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظنا. وقال المازني: تقديره إن نظن نحن إلا ظنا منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون. وقال جار الله: أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن فحسب. فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول: الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم ، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم.

تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون أوله تفسير سورة الأحقاف.

١١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السادس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(سورة الأحقاف مكية غير آية نزلت في عبد الله بن سلام (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) الآية

حروفها ألفان وثلاثمائة كلماتها ثلاثمائة وأربع وأربعون آياتها خمس وثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا

١١٥

يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

القراآت: لتنذر على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون: على الغيبة. والضمير للكتاب (إِحْساناً): حمزة وعلي وخلف وعاصم. الباقون: حسنا كرها في الموضعين بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وجبلة وهشام. الباقون: بالضم وفصله يعقوب. الآخرون وفصاله (أَوْزِعْنِي أَنْ) بالفتح: ابن كثير غير القوّاس والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني (نَتَقَبَّلُ) بالنون (أَحْسَنَ) بالنصب (وَنَتَجاوَزُ) بالنون: حمزة وعلي وخلف وحفص. الآخرون بياء الغيبة مبنيا للمفعول في الفعلين أحسن بالرفع (أُفٍ) بالكسر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص والمفضل. وقرأ ابن كثير بالفتح من غير تنوين. الباقون: بالكسر ولا تنوين أتعدانني أن بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وقرأ هشام مدغمة النون (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) بالياء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الباقون: بالنون أأذهبتم بتحقيق الهمزتين: ابن ذكوان آذهبتم بالمدّ: ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وهشام. الباقون: بهمزة واحدة.

الوقوف: (حم) ه كوفي (الْحَكِيمِ) ه (مُسَمًّى) ط (مُعْرِضُونَ) ه (السَّماواتِ) ه لانتهاء الاستفهام إلى الخطاب (صادِقِينَ) ه (غافِلُونَ) ه (كافِرِينَ) ه (مُبِينٌ) ه لأن «أم» تتضمن استفهام إنكار (افْتَراهُ) ط (شَيْئاً) ط (فِيهِ) ط (وَبَيْنَكُمْ) ط (الرَّحِيمُ) ه (بِكُمْ) ط (مُبِينٌ) ه ط (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (إِلَيْهِ) ط (قَدِيمٌ) ه (وَرَحْمَةً) ط (لِلْمُحْسِنِينَ) ه (يَحْزَنُونَ) ه (فِيها) ج لأن (جَزاءً) يصلح مفعولا له ومفعول فعل محذوف أي يجزون جزاء (يَعْمَلُونَ) ه (إِحْساناً) ط (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) ط (شَهْراً) ط (سَنَةً) لا لأن ما بعده جواب «إذا» (ذُرِّيَّتِي) ط للابتداء بإن مع اتحاد الكلام (الْمُسْلِمِينَ) ه (الْجَنَّةِ) ط لأن التقدير وعد الله وعدا صدقا وهو مصدر مؤكد لأن قوله (نَتَقَبَّلُ) في معنى الوعد (يُوعَدُونَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (وَالْإِنْسِ) ط (خاسِرِينَ) ه

١١٦

(عَمِلُوا) ج لأن الواو تكون مقحمة ويتصل اللام بما قبله وقد يكون المعلل محذوفا كأنه قيل: وليوفيهم أعمالهم قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم (لا يُظْلَمُونَ) ه ط لتقدير القول وهو العامل في يوم (بِها) ج لابتداء التهديد مع الفاء (تَفْسُقُونَ) ه.

التفسير: إنما كرر تنزيل الكتاب لأنه بمنزلة عنوان الكتب ثم ذكر ما أنزل فقال (ما خَلَقْنَا) إلى قوله (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وقد مر في أوّل «الروم» أنه الوقت الذي عينه لإفناء الدنيا. وحين بين الدليل على وجود الإله ووقوع الحشر فرع عليه الردّ على عبدة الأوثان بقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) وقد مر في «فاطر». والمراد أنهم لا يستحقون العبادة أصلا لأنهم ما خلقوا شيئا في هذا العالم لا في الأرض ولا في السماء ، ولم يدل وحي من الله على عبادتهم لأن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك وما من كتاب قبله إلا هو ناطق بمثل ذلك. فقوله (ائْتُونِي) من باب إرخاء العنان وتوسيع المجال على الخصم أي إن كنتم في شك مما قلت فقد أمهلتكم حتى تأتوني بعد الاستقراء (بِكِتابٍ) فيه شيء من ذلك (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال الواحدي: كلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أوجه: أحدها البقية من قولهم «سمنت الناقة على إثارة من شحم» أي على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. والثاني أنه من الأثر بمعنى الرواية. والثالث من الأثر بمعنى العلامة والمراد ما بقي أو روي عن أسلافهم ويعدّونه علما. عن ابن عباس مرفوعا أنه الخط. قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم علمه. ثم زاد في تبكيتهم وتوبيخهم بقوله (وَمَنْ أَضَلُ) الآية. وبالجملة فالدليل الأوّل دل على نفي القدرة عنهم من كل الوجوه ، وهذا الدليل دل على نفي العلم عنهم من كل الوجوه ، فإذا انتفى العلم والقدرة عن الجسم لم يكن إلا جمادا وعبادة الجماد محض الضلال. وقوله (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) تأبيد على عادة العرب ، ويحتمل أن يكون توقيتا بدليل قوله (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) وهذا التبري والتخاطيب نوع من الاستجابة. ثم قرر غاية عنادهم بقوله (وَإِذا تُتْلى) ثم عجب من حالهم بقوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) الآية أي إن كذبت على الله كما زعمتم عاجلني بالعقوبة فلا تقدرون على دفع عذابه عني فأي فائدة لي في الافتراء. ثم فوّض أمرهم إلى الله قائلا (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ) أي تتدفعون فيه من القدح في الوحي ، وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى وفي قوله (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إشارة إلى أنهم لو رجعوا إلى الحق وتابوا عن الشرك قبل الله توبتهم ، وفيه إشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه. ثم أراد أن يزيل شبهتهم بنوع آخر من البيان فقال (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً) هو بمعنى البديع كالخف بمعنى الخفيف أي لست بأوّل رسول أرسله الله ولا جئتكم بأمر بديع

١١٧

لم يكن إلى مثله سابق. وفيه إن اقتراح الآيات الغريبة فيه غير موجه لأنه لا يتبع إلا الوحي وما هو إلا نذير وليس إليه أن يأتي بكل ما يقترح عليه ، وفيه أنه غير عالم بالمغيبات إلا بطريق الوحي فلا وجه لاستدعاء الغيوب عنه سواء تتعلق بأحوال الدنيا أو بأحوال الآخرة من الأحكام والتكاليف وما يؤل أمر المكلفين إليه ، وفيه أنه لا وجه لتعييره بالفقر وبأكل الطعام والمشي في الأسواق لأن الرسل كلهم أو جلهم كانوا كذلك. قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتدّ البلاء على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله الآية. وعنه في رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بأمته ، فأنزل الله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) إلى قوله (فَوْزاً عَظِيماً) [الفتح: ١] فبين الله تعالى ما يفعل به وبأمته ونسخت هذه الآية. والأصح عند العلماء أنه لا حاجة إلى التزام النسخ ، فإن الدراية المفصلة غير حاصلة ، وعلى تقدير حصولها فإنه لم ينف إلا الدراية من قبل نفسه ، وما نفي الدراية من جهة الوحي. وقوله (وَلا بِكُمْ) في حيز النفي ولا أدري ما يفعل بكم. و «ما» موصولة أو استفهامية ، ومحل الأولى نصب ، والثانية رفع.

ثم قرر أنه لا أظلم منهم فقال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) الآية. وقد مر نظيره في آخر «حم السجدة» إلا أنه زاد هاهنا حديث الشاهد وفيه أقوال: أحدها أنه عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة نظر إلى وجهه وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فآمن به. وعن سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزل (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) على مثل القرآن. والمعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة للقرآن من التوحيد والمعاد. وعلى هذا فقوله (عَلى مِثْلِهِ) يتعلق بشاهد أي ويشهد على صحة القرآن. ويجوز أن يعود الضمير في (مِثْلِهِ) إلى المذكور وهو كونه من عند الله ، فيكون الجار متعلقا بـ (شَهِدَ) قال جار الله: الواو الأخيرة عاطفة لـ (اسْتَكْبَرْتُمْ) على (شَهِدَ) وأما الواو في (وَشَهِدَ) فقد عطفت جملة قوله (وَشَهِدَ) إلى آخره على جملة قوله (كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) والمعنى أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قلت: هذا كلام حسن. ويجوز

١١٨

أن يكون قوله (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) معطوفا على قوله (فَآمَنَ). ويجوز أن يكون الواو في (وَشَهِدَ) للحال بإضمار «قد». قال: وقد جعل الإيمان في قوله (فَآمَنَ) مسببا عن الشهادة لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى وأنصف من نفسه اعترف بصحته وآمن. القول الثاني ما ذكر الشعبي في جماعة أن السورة مكية وقد أسلم ابن سلام بالمدينة ، فالشاهد هو موسى وشهادته هو ما في التوراة من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانه تصديقه ذلك. القول الثالث أن الشاهد ليس شخصيا معينا وتقدير الكلام لو أن رجلا منصفا عارفا بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم ، ألم تكونوا ظالمين ضالين؟ والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله ، وثبت بشهادة الثقات أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق بالعاقل إنكار نبوته؟ ثم ذكر شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجلهم وفي حقهم (لَوْ كانَ) ما أتى به محمد (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وقيل: اللام كما في قولك «قلت له». وضعف بأنه لو كان كذلك لقيل ما سبقتمونا إليه. وأجيب بأنه وارد على طريقة الالتفات ، أو المراد أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين بأنه لو كان هذا الدين خيرا لما سبقنا إليه أولئك الغائبون. قال المفسرون: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيرا ما سبقونا إليه ، ونحن أرفع منهم حالا وأكثر مالا وهؤلاء رعاة الغنم. وقيل: قاله أغنياء قريش للفقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود. وقيل: هم اليهود قالوه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. والعامل في قوله (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) محذوف وهو ظهر عنادهم وذلك أن «إذ» للمضي ، والسين للاستقبال وبينهما تدافع. والإفك القديم كقولهم أساطير الأوّلين. وقيل: كذب ككذب عيسى عليه‌السلام قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) خبر ومبتدأ وقوله (إِماماً) أي قدوة يؤتم به في أصول شرائع الله ، نصب على الحال كقولك «في الدار زيد قائما». وقوله (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير الكتاب في (مُصَدِّقٌ) أي لما بين يديه وهو العامل فيه ويجوز أن يكون حالا من (كِتابُ) لأنه موصوف والعامل معنى الإشارة. وجوز أن يكون مفعولا لـ (مُصَدِّقٌ) على حذف المضاف أي يصدّق ذا لسان عربي هو الرسول. قوله (وَبُشْرى) معطوف على محل لتنذر لأنه مفعول له. وحين قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبه المنكرين مع أجوبتها ، أراد أن يذكر طريقة المحقين فقال (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا) الآية. وقد مر في «حم السجدة» إلا أنه رفع واسطة الملائكة هاهنا من البين. ثم إن أعظم

١١٩

أنواع الاستقامة كان هو الشفقة على خلق الله ولا سيما على الوالدين فلذلك قال (وَوَصَّيْنَا) الآية. وقد مرّ في «الروم» و «لقمان». والكره بالضم ، والفتح المشقة أي ذات كره أو حملا ذاكره. والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى ، والمقصود بيان مدّة الرضاع. ولما كان منتهيا بالفصال صح التعبير عن آخر الرضاع بالفصال ، والفائدة فيه الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال. وقد يستدل من هذه الآية ومن قوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة: ٢٣٣] أن مدة الحمل ستة أشهر. وعن عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فرفعت إليه فأمر برجمها ، فأخبر عليا رضى الله عنه بذلك فمنعه محتجا بالآية فصدّقه عمر وقال: لو لا علىّ لهلك عمر. قال جالينوس: إني كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة. وزعم أبو علي بن سينا أنه شاهد ذلك. وذكر أهل التجارب قاعدة كلية قالوا: إن لتكوّن الجنين زمانا مقدّرا ، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين ، ثم إذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين. وعلى هذا فلو تمت خلقة الجنين في ثلاثين يوما فإذا أتى عليه مثل ذلك أي تصير مدة علوقه ستين تحرك ، فإذا انضاف إلى هذا المقدار مثلاه وهو مائة وعشرون وصار المبلغ مائة وثمانين انفصل ، ولو تمت خلقته في خمسة وثلاثين يوما تحرك في سبعين وانفصل في مائتين وعشرة وهو سبعة أشهر ، ولو تمت خلقته في أربعين تحرك في ثمانين وانفصل في مائتين وأربعين وهو ثمانية أشهر ، وقلما يعيش هذا المولود إلا في بلاد معينة مثل مصر ، وقد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب. ولو تمت في خمسة وأربعين تحرك في تسعين وانفصل في مائتين وسبعين وهي تسعة أشهر وهو الأكثر ، أما أكثر مدّة الحمل فليس يعرف له دليل من القرآن. وذكر أبو علي بن سينا في كتاب الحيوان من الشفاء في الفصل السادس من المقالة التاسعة ، أن امرأة ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولدا قد نبتت أسنانه وعاش. وعن أرسطاطاليس أن زمان الولادة لكل الحيوان مضبوط سوى الإنسان. هذا وقد روى الواحدي في البسيط عن عكرمة أنه قال: إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحدا وعشرين شهرا. وعلى هذا قوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أكثر المفسرين كما مر في آخر «الأنعام» وأوّل «يوسف» و «القصص». على أن وقت الأشد هو زمان الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وهو ثلاث وثلاثون سنة تقريبا ، وإن في الأربعين يتم الشباب وتأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتفاص ، والقوّة العقلية والنطقية في الاستكمال ، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ومن جملة الكمال أنه حينئذ يقول (رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني ووفقني كما مر في «النمل».

١٢٠