تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

(سورة المطففين مكية وقيل مدنية حروفها سبعمائة وثلاثون

كلمها مائة وتسعون آياتها ٣٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

القراآت (بَلْ رانَ) حفص يقف على (بَلْ) وقفة يسيرة ومع ذلك يصل. وقرأ الحلواني عن قالون مظهرا (رانَ) بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وحماد ويحيى تعرف مبنيا للمفعول نضرة بالرفع: يزيد ويعقوب خاتمه بالألف بعد الخاء والتاء مفتوحة: عليّ. (أَهْلِهِمُ) بكسر الهاء والميم: أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضمهما. الباقون: بضم ميم الجمع فقط (فَكِهِينَ) مقصورا: يزيد وحفص (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) بالإدغام: حمزة وعلى وهشام.

٤٦١

الوقوف (لِلْمُطَفِّفِينَ) ه لا (يَسْتَوْفُونَ) ه للفصل بين تناقض الحالين ولكن يلزم تفريق الوصفين مع اتفاق الجملتين (يُخْسِرُونَ) ه للاستفهام (عَظِيمٍ) ه لا لأن التقدير لأمر يوم عظيم في يوم كذا وهو بدل بني على الفتح للإضافة إلى الجملة (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ه ط لأن «كلا» لتحقيق أنّ بمعنى «ألا» التي للتنبيه أو حقا أو هو ردع عن التطفيف وكذا أخواتها في السورة (سِجِّينٍ) ه ط (ما سِجِّينٌ) ه ط للحذف أي هو كتاب (مَرْقُومٌ) ه ط لأن (وَيْلٌ) مبتدأ (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه لا (الدِّينِ) ه ط للابتداء بالنفي (أَثِيمٍ) ه لأن الشرطية بعده صفة أخرى له (الْأَوَّلِينَ) ه والوقف لما ذكر (يَكْسِبُونَ) ه (لَمَحْجُوبُونَ) ه لأن «ثم» لترتيب الأخبار (الْجَحِيمِ) ه كـ لاختلاف الجملتين (تُكَذِّبُونَ) ه كـ (عِلِّيِّينَ) ه كـ (عِلِّيُّونَ) ه كـ (مَرْقُومٌ) ه لا لأن ما بعده صفة (الْمُقَرَّبُونَ) ه ط (نَعِيمٍ) ه لا لأن ما بعده حال أو صفة (يَنْظُرُونَ) ه لا لذلك (النَّعِيمِ) ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا أو حالا (مَخْتُومٍ) ه لا لأن ما بعده وصف (مِسْكٌ) ط (الْمُتَنافِسُونَ) ه ط (تَسْنِيمٍ) ه لا بناء على أن (عَيْناً) حال كما قال الزجاج. فإن أريد النصب على المدح جاز الوقف (الْمُقَرَّبُونَ) ه ط (يَضْحَكُونَ) ه ط للآية ولكن إتمام الكلام أولى (يَتَغامَزُونَ) ه كـ لذلك (فَكِهِينَ) ه كـ (لَضالُّونَ) ه لا لأن المنفية حال (حافِظِينَ) ه ط لتبدل الكلام معنى (يَضْحَكُونَ) ه لا (يَنْظُرُونَ) ه ط (يَفْعَلُونَ) ه.

التفسير: إنه سبحانه لما ذكر في السورة المتقدمة بعض أشراط الساعة وأخبر عن طرف من أحوالها وأهوالها صدّر هذه السورة بالنعي على قوم آثروا الحياة الزائلة على الحياة الباقية ، وتهالكوا في الحرص على استيفاء أسبابها حتى اتسموا بأخس السمات وهي التطفيف. والتركيب يدل على التقليل وطف الشيء جانبه وحرفه ، وطف الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلئ. وقال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكون الذي يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا الكيل. قلت: إن كانت السورة مدنية فظاهر ، وإن كانت مكية فلعل النبي حين قدم المدينة قرأها عليهم. وهكذا الوجه فيما روي أن أهل المدينة كانوا تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة يعني بيع الغرر كالطير في الهواء فنزلت ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها عليهم فقال «خمس بخمس. قيل: يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا

٤٦٢

الزكاة إلا حبس عنهم القطر» (١) وعن علي رضي‌الله‌عنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أخبره بالتسوية أوّلا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين. والاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالوزن. قال الفراء: «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع. فمعنى اكتلت عليك أخذت ما عليك ، ومعنى أكتلت منك استوفيت منك. وقال أهل البيان: وضع «على» مكان «من» للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال فيه ضرر. وجوز أن يتعلق الجار بـ (يَسْتَوْفُونَ) والتقديم للتخصيص أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها. والضمير في (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) منصوب راجع إلى الناس والأصل كالوا لهم ووزنوا لهم فحذف الجار وأصل الفعل. قال الكسائي والفراء: هذه لغة الحجاز ومنه المثل «الحريص يصيدك لا الجواد» أي الحريص يصيد لك لا الفرس الجواد. ويجوز أن يكون على حذف المضاف والتقدير وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم. وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين للمطففين على أنهما توكيد للمرفوع ويقفان عند الواوين وقفة يبينان بها ما أرادا. وخطأهما بعضهم بأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ، ولو كان الضميران للتأكيد لم يكن يد من الألف ، وزيفت هذه التخطئة بأن خط المصحف لا يقاس عليه فكم من أشياء فيه خارجة عن اصطلاح الخط. وقد ذكر الزمخشري في إبطال قولهما أن المعنى حينئذ يؤل إلى قول القائل وإذا تولوا الكيل والوزن هم على الخصوص بأنفسهم اخسروا أي نقصوا ، وهذا كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. قلت: النظم على قولهما باق على حالته من الإعجاز والفصاحة لأنه يفيد ضربا من التوبيخ ، فإنهم إذا أخسروا وقد تولوا الكيل أو الوزن بأنفسهم ولم يمنعهم من ذلك مانع من الدين والمروءة ، فلأن يرضوا بالإخسار وقد تولاه لأجلهم من تعلق بهم يكون أولى ، ومن قلة مروأتهم ودينهم أنهم كانوا متمكنين في الإعطاء من البخس في الكيل وفي الوزن جميعا ولهذا قال سبحانه (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) وأما في الأخذ فالميزان غالبا يكون بيد البائع فلا يتمكن المشتري من التصرف فيه بالزيادة المعتد بها فإن الكفة تميل بأدنى ثقل ، وإنما يتمكن في الاكتيال بأن يحتال في مكياله بالتحريك ووضع اليد عليه بقوّة فلهذا لم يقل هناك «أو اتزنوا». وأعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم لأن مدار معاملات الخلق عليهما ، ولهذا جرى على قوم شعيب بسببه ما جرى. وذهب بعض العلماء إلى أن المطفف لا يتناوله

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٢.

٤٦٣

الوعيد إلا إذا بلغ تطفيفه نصاب السرقة. والأكثرون على أن قليله وكثيره يوجب الوعيد. وبالغ بعضهم حتى عد العزم عليه من الكبائر.

وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه‌الله: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ومن لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف. والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة ، ومن طلب حق من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلب لنفسه فهو من هذه الجملة ، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقا. ويحكى أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن؟ ثم زاد في توبيخهم بقوله (أَلا يَظُنُ) فإن كانوا من أهل الإسلام كما روي أن أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك فالظن بمعنى العلم ، وإن كانوا كفارا منكري البعث فالظن بمعناه الأصلي. والمراد به أنهم لا يقطعون بالبعث أفلا يظنونه أيضا كقوله (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية: ٣٢] وفي الإشارة إليهم بـ (أُولئِكَ) وقد ذكرهم عما قريب تبعيد لهم عن رتبة الإعتبار بل عن درجة الإنسانية. وفي هذا الإنكار ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لرب العالمين بيان بليغ لعظم هذا الذنب كما إذا قال الحالف والله الطالب الغالب الحي القيوم. ففيه تعظيم شأن المقسم عليه. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر». قال ابن عباس: هو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة. وفيه أنه إذا ظهر التطفيف الذي يظن به أنه حقير فكيف بسائر الظلامات؟ وحمل بعضهم هذا القيام على ردّ الأرواح إلى أجسادها حتى يقوموا من مراقدهم. وعن أبي مسلم: أراد به الخضوع التام كقوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة: ٢٣٨] ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر فإنه مكتوب عند الله. وقدم ديوان الشرور لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور. وسجين «فعيل» من السجن وهو الحبس والتضييق جعل علما لديوان الشر الجامع لأعمال الكفرة والفسقة والشياطين ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا العلمية (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسيرا للسجين بل التقدير: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وإن كتاب الفجار مرقوم. وموقع قوله (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) اعتراض تعظيما لأمر السجين ، ولأن ذلك لم يكن مما كانت العرب تعرفه أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. وقيل: مرقوم أي مطروح وعلى هذا يكون سجين اسم مكان. ثم اختلفوا ، فعن ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وعن البراء مرفوعا أنه أسفل أرضين وفيها إبليس وذريته. وعن أبي هريرة مرفوعا أنه جب في جهنم. وقال الكلبي: صخرة تحت

٤٦٤

الأرض السابعة. والتحقيق أنه سبحانه أجرى أمور عباده على ما تعارفوه فيما بينهم ، ولا شك أن السفلة والظلمة والضيق وحضور الشياطين الملاعين من صفات البغض فوصف الله كتاب الفجار بأنه في هذا الموضع استهانة بهم وبأعمالهم ، كما أنه وصف كتاب الأبرار بأنه في عليين وتشهده الملائكة المقربون تعظيما لحالهم. ثم أوعد المكذبين ووصفهم بقوله (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى فهو كقولك «فعل فلان الفاسق الخبيث». وإنما خص التكذيب بالبعث لتقدّم ذكره وذكر ما يتعلق به. ثم بالغ في الذم بقوله (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) متجاوز عن حد الاعتدال في استعمال القوة النظرية إما في طرف الإفراط وهو الجريرة حتى عدّ الممكن محالا وأقدم على التكذيب ، وإما في طرف التفريط وهو البله والغباوة حتى قنع بالاستبعاد المحض وأعرض عن النظر في دلائل البعث من الخلق الأوّل وغيره. أثيم في إعمال القوى البدنية في غير مواقعها حتى أثمر له الباطل بدل الحق ، وحكم على آيات الله بأنها أساطير الأوّلين ، وفيه إنكار للنبوّة أيضا. ثم أضرب عن أن يكون لهم اختيار فيما قالوه أو يكون لهم ارعواء عما ارتكبوه ، لأن ما كسبوه قدران على قلوبهم أي ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها. قال أهل اللغة: ران النعاس والخمر في الرأس يرين رينا وريونا إذا رسخ فيه ، ولهذا قال الحسن: هو الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب. قلت: الغين هو الحجاب الرقيق الذي يزول عن كثب ومثله الغيم. والرين هو الغليظ الذي لا يرجى زواله ولهذا جاء في الحديث «إنه ليغان على قلبي» وأما الرين فمن صفة الكفار الذين صارت ملكاتهم الذميمة في غاية الرسوخ حتى أظلم سطوح قلوبهم بل دخلت الظلمة أجوافها وبلغت الكدورة صفاقها.

ثم قال (كَلَّا) حقا وهو ردع عن الكسب الرائن على القلب (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وذلك أن النور لا يرى إلا بالنور ، فإذا كانت نفوسهم في غاية الظلمة الذاتية والعرضية الحاصلة من الملكات الردية احتجبوا عن نور الله ومنعوا من رؤيته. قال أهل السنة كثرهم الله: وفي تخصيصهم بالحجب دلالة على أن أهل الإيمان والأعمال الصالحة لا يكونون محجوبين عن ربهم. وقالت المعتزلة: المضاف محذوف أي عن رحمة ربهم أو كرامته. وقال في الكشاف: هو تمثيل للاستخفاف بهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين. ثم أخبر بقوله (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي داخلوها عن بقية حالهم وأنهم لا يتركون على حجب الحرمان بل يعذبون بنار القطيعة والهجران لأنهما متلازمان (ثُمَّ يُقالُ) في معرض التوبيخ (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) جمعا بين عذاب الوجل وعذاب الخجل.

٤٦٥

ثم شرع في قصة الأبرار. وعليون جمع «عليّ» «فعيل» من العلو وإعرابه كإعراب الجمع لأنه على صورته وإن صار مفردا كقنسرين من حيث إنه جعل علما لديوان الخير الذي فيه أعمال الملائكة وصلحاء الثقلين ، إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يحضره الملائكة المقربون. وقال مقاتل: هو في ساق العرش. وعن ابن عباس: هو لوح من زبرجد معلق تحت العرش. وبالجملة كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانية كما عرفت من بقية حال الأبرار. ومفعول (يَنْظُرُونَ) محذوف ليشمل أنواع نعيمهم في الجنة من الحور العين والأطعمة والأشربة والملابس والمراكب والمساكن وكل ما أعدّ الله لهم. قال عليه‌السلام «يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم منزلة من له مثل سعة الدنيا» وقال مقاتل: ينظرون إلى عدوّهم حين يعذبون ولا يحجب الحجاب أبصارهم عن الإدراك. وقال بعضهم: ينظرون إلى الله تعالى بدليل قوله (تَعْرِفُ) يا من له أهل العرفان (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ) وقوله في موضع آخر (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة: ٢٢ ، ٢٣] ولا ريب أن هناك قرائن وأحوالا تعرف بها بهجتهم وازدهاؤهم بالضحك والاستبشار بل بتجلي الأنوار والآثار. والرحيق الخمر الصافية التي لا غش فيها (مَخْتُومٍ) أوانيه (خِتامُهُ) أي ما يختم به (مِسْكٌ) مكان الطينة أو الشمعة. وإنما ختم تكريما وصيانة على ما جرت به العادة فكأنها أشرف من الخمر الجارية في أنهارها من الجنة. وقيل: ختامه أي مقطعه رائحة المسك إذا شرب. وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة. قال الفراء: الختام آخر كل شيء ومنه يقال: ختمت القرآن ، والأعمال بخواتيمها ، والخاتم مثله وأنت خاتم النبيين. والتركيب يدل على القطع والانتهاء بجميع معانيه. عن أبي الدرداء مرفوعا: هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربهم ، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحه الطيبة. قال بعضهم: مزج الخمر بالأدوية الحارة مما يعين على الهضم وتقوية الشهوة ، فلعل فيه إشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم. ثم رغب في العمل الموجب لهذه الكرامة قائلا (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله. قال أهل اللغة: نفست عليه الشيء نفاسة إذا ضننت به وأن لا تحب أن يصير إليه ، والتنافس تفاعل منه فإن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به لما يظهر من نفسه من الجد والاعتمال في الطاعة والعبودية. والجملة معترضة ، وفي تقديم الجار إشارة إلى أن السعي والإتعاب يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم لا في النعيم الزائل. وتسنيم علم لعين بعينها في الجنة من سنمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب هناك ، ولأنها تأتيهم من فوق على ما

٤٦٦

روي أنها تجري في الهواء متسنمة فتصب في أوانيهم ، أو لأنها لكثرة مائها تعلو على كل شيء تمرّ به ، أو يرى فيها ارتفاع وانخفاض. والتركيب يدل على الارتفاع ومنه سنام البعير عن ابن عباس: أشرف شراب أهل الجنة هو التسنيم فالمقرّبون يشربونها صرفا وتمزج لأصحاب اليمين. فقال بعض أهل العرفان: وذلك أن المقرّبين السابقين لا يشتغلون إلا بمطالعة وجه الله الكريم ، وأما أهل اليمين فإنه يكون شرابهم ممزوجا لأن نظرهم تارة إلى الله وتارة إلى الخلق. ثم حكى قبائح أفعال الكافرين على أن التكلم واقع في يوم القيامة بدليل قوله عقيبه (فَالْيَوْمَ) قال المفسرون: هم مشركو مكة أبو جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما ، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين. وقيل: جاء علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآي قبل أن يصل علي كرم الله وجهه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتغامز تفاعل من الغمز وهو الإشارة بالعين أو الحاجب أو الشفة ، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث. ومعنى (فَكِهِينَ) متلذذين بذكرهم والسخرية منهم. قوله (وَما أُرْسِلُوا) حال معترضة إنكارا من الله عليهم وتهكما بهم أي ينسبون المسلمين إلى الضلال والحال أنهم لم يرسلوا على المسلمين موكلين بهم حافظين عليهم أحوالهم. وجوز في الكشاف أن تكون المنفية من جملة قول الكفار فيكون إنكارا لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام. قلت: لو كان من جملة قولهم لكان الظاهر أن يقال: وما أرسلوا أي المسلمون علينا. يروى أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها. فإذا وصلوا إليها أغلق الباب دونهم يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك المؤمنون منهم ناظرين إليهم على الأرائك. ولا يخفى ما في هذا الإخبار والحكاية من تسلية المؤمنين وتثبيتهم على الإسلام والتصبر على متاعب التكاليف وأذية الأعداء في أيام معدودة لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية. قال المبرد: ثوّب وأثاب بمعنى ، وقد تستعمل الإثابة في الشر كالمجازاة ، ويجوز أن يراد التهكم نحو (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ) [آل عمران: ٢١] وفي هذا القول مزيد غيظ وتوبيخ للكافرين ونوع سرور وتنفيس للمؤمنين. ويحتمل أن يكون الاستفهام للتقرير أي هل قدرنا على الإثابة نحو (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف: ٤٤]

٤٦٧

(سورة الانشقاق مكية حروفها أربعمائة وأربعون كلمها مائة وسبع كلمات آياتها

خمسة وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

القراآت (وَيَصْلى) ثلاثيا مفتوح العين مبنيا للفاعل: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وحمزة وعاصم وخلف. الباقون يصلى بالتشديد مبنيا للمفعول (لَتَرْكَبُنَ) بفتح الباء للتوحيد والخطاب للإنسان: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالضم على خطاب أفراد الجنس.

الوقوف (انْشَقَّتْ) ه لا (وَحُقَّتْ) ه كـ (مُدَّتْ) ه كـ (وَتَخَلَّتْ) ه كـ (وَحُقَّتْ) ه ط لأن الجواب محذوف أي إذا كانت هذه الأمارات ظهر ما ظهر (فَمُلاقِيهِ) ه ط وقد يقال عامل «إذا» (فَمُلاقِيهِ) أي إذا السماء انشقت لاقى كدحه فلا وقف إلى قوله (فَمُلاقِيهِ) وقيل: قوله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) الشرط مع جوابه جواب للشرط الأول ، وقوله (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) إلى قوله (فَمُلاقِيهِ) اعتراض ولا وقف على (بِيَمِينِهِ يَسِيراً) ه كـ (مَسْرُوراً) ه ط (ظَهْرِهِ) ه لا (ثُبُوراً) ه لا (سَعِيراً) ه ط (مَسْرُوراً) ه (يَحُورَ) ه لا (بَلى) ج لجواز تعلق بلى بما قبله وبما بعده (بَصِيراً) ه ط للإبتداء بالقسم (بِالشَّفَقِ) ه لا (وَسَقَ) ه لا (اتَّسَقَ) ه لا (طَبَقٍ) ه كـ (لا يُؤْمِنُونَ) ه كـ (لا يَسْجُدُونَ) ه ط

٤٦٨

(يُكَذِّبُونَ) ه ز للآية والوصل أوجب لأن الواو للحال (يُوعُونَ) ه ز لفاء التعقيب (أَلِيمٍ) ه لا (مَمْنُونٍ) ه.

التفسير: عن علي رضي‌الله‌عنه أن السماء تنشق من المجرّة. ومعنى (أَذِنَتْ لِرَبِّها) استمعت له ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» (١) والمراد أنها لم تمتنع عن قبول ما أريد بها من الانشقاق والانفطار فعل المأمور والمطواع الذي أصغى لحديث آمره (وَحُقَّتْ) بذلك لأن الممكن لا بدّ له أن يقع تحت قدرة الواجب لذاته. ومدّ الأرض تسوية جبالها وآكامها بحيث لا يبقى فيها عوج. عن ابن عباس: مدّت مدّ الأديم العكاظي لأن الأديم إذا مدّ زال ما فيه من الانثناء واستوى. وقيل: من مدّه بمعنى أمدّه أي زيد في سعتها أو بسطتها ليمكن وقوف الخلائق الأوّلين والآخرين عليها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت بما في جوفها من الكنوز والأموات (وَتَخَلَّتْ) أي خلت غاية الخلو كأنها تكلفت أقصى ما يمكنها من الفراغ. وقوله (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ليس بمكرر لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض وحذف جواب «إذا» ليذهب الوهم كل مذهب ، أو اكتفاء بما مر في سورتي «التكوير» و «الانفطار». وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والمعنى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) إذا السماء انشقت ، والأقرب أن الإنسان للجنس بدليل التفصيل بعده. وقيل: هو رجل بعينه إما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى إنك تكدح فى تبليغ رسالات الله فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وإما أمية بن خلف وإنه يجتهد في إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن عباس. والكدح جهد النفس في العمل حتى تأثرت من كدحت جلده إذا خدشته أي جاهد إلى وقت لقاء ربك وهو الموت وما بعده. وفيه أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها. والضمير في قوله (فَمُلاقِيهِ) للرب أي فملاق له البتة فهو كالتأكيد للمذكور ، ويجوز أن يكون للكدح أي لجزائه يؤيده التفصيل الذي بعده. عن عائشة أن الحساب اليسير هو أن يعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من يحاسب يعذب فقيل: يا رسول الله (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال: ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب» (٢) أقول (فَسَوْفَ) من الكريم إطماع فيمكن أن تكون الفائدة في إيراده أن يكون

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٣٢ ، ٥٢. مسلم في كتاب المسافرين حديث ٢٣٢ ، ٢٣٣. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٠. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٧. النسائي في كتاب الافتتاح باب ٨٣. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧١. أحمد في مسنده (٢ / ٢٧١ ، ٢٨٥).

(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ٣٥. مسلم في كتاب الجثّة حديث ٧٩ أبو داود في كتاب الجنائز باب ١. الترمذي في كتاب تفسير سور ، ٨٤ باب ٢. أحمد في مسنده (٦ / ٤٧ ، ٩١).

٤٦٩

المؤمن على ثقة واطمئنان بالوعد ، ويمكن أن يكون إشارة إلى طول الامتداد بين مواقف ذلك اليوم (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) من الحور العين في الجنة أو إلى قرنائه من المؤمنين أو إلى عشيرته كقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [الرعد: ٢٣] ومعنى (وَراءَ ظَهْرِهِ) أن تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره. وقيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. وقيل: تجعل وجوههم إلى خلف فيكون الكتاب قد أوتي من جانب ظهره ولكن بشماله كما في «الحاقة». والوراء هاهنا بمعنى مجرد الجانب ، أو معنى قدام. والثبور الهلاك ودعاؤه أن يقول «وا ثبوراه». وسمي المواطأة على الشيء مثابرة لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه والنفس تمنعه عن ذلك أنه كان أي في الدنيا مسرورا في أهله كقوله (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين: ٣١] وفيه أن الفرح في الدنيا يعقب الغم في الآخرة لقوله (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [التوبة: ٨٢] ومن كان في الدنيا حزينا متفكرا في أمر الآخرة كان حاله في الآخرة بالعكس. والفرح المنهي عنه ما يتولد من البطر والترفه لا الذي يكون من الرضا بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس: ٥٨] ثم بين أن سروره إنما كان لأجل أن البعث والنشور لم يكن محققا عنده فقال (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي أن يرجع إلى الله أو إلى خلاف حاله من السرور والتنعم. عن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنت لها: حوري أي ارجعي. ثم نفى منطوقه بقوله (بَلى) أي بلى يحور. وفي قوله (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) إشارة إلى أن العلم التام بأحوال المكلفين يوجب إيصال الجزاء إليهم ، فلا بد من دار سوى دار التكليف وإلا كان قدحا في القدرة والحكمة. قال الكلبي: (كانَ بِهِ بَصِيراً) من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقال عطاء: بصيرا بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ثم أكد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال بقوله (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) وهو الحمرة الباقية من آثار الشمس في الأفق الغربي قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وعن الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وعن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض ، وأنه روى أنه رجع عنه لأن البياض يمتد وقته فلا يصلح للتوقيت ، ولأن التركيب يدل على الرقة ومنه الشفقة لرقة القلب. ثم إن الضوء يأخذ من عند غيبة الشمس في الرقة والضعف. وعن مجاهد أن الشفق هاهنا النهار لما في النور من الرقة واللطافة كما أن في الظلمات الغلظ والكثافة ، لأن القسم بالنهار يناسب القسم بالليل في قوله (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) والتركيب يدل على الاجتماع والضم ومنه الوسق لأنه جامع لستين صاعا. واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت ، وقد وسقها الراعي أي جمعها ونظيره في وقوع

٤٧٠

«افتعل» و «استفعل» مطاوعين لفعل «اتسع» و «استوسع». أقسم الله سبحانه بجميع ما ضمه الليل وآواه وستره من النجوم والدواب وغيرها. ويمكن أن يكون من جملته أعمال العباد الصالحين. ثم أقسم بالقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وتكامل كما يقال «أمور فلان متسقة» أي مجتمعه على الصلاح كما يقال منتظمة. والطبق ما يطابق غيره ومنه قيل للغطاء «الطبق». ثم قيل للحال المطابقة لغيرها طبق.

وقوله (عَنْ طَبَقٍ) حال من فاعل (لَتَرْكَبُنَ) أو صفة أي طبقا مجاوزا لطبق ، فـ «عن» تفيد البعد والمجاوزة أي حالا بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. وجوز أن يكون جمع طبقة أي أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة ، فبعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله سبحانه أن ذلك كائن وأن الناس يلقون بعد الموت شدائد متنوّعة وأحوالا مترتبة حتى يتبين السعيد من الشقي والمحسن من المسيء. وقيل: لتركبن سنة الأولين من المكذبين المهلكين. عن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه. والركوب على هذه التفاسير مجاز عن الحصول على تلك الحالة. وقد يقال على قراءة فتح الباء: إنها صيغة الغائبة والضمير للسماء وأحوالها المختلفة انشقاقها ثم انفطارها ، ولعل هذا كمال الانحراف ثم صيرورتها وردة كالدهان أو كالمهل وهذا القول مناسب لأول السورة وهو مرويّ عن ابن مسعود. وقيل: الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أعباء الرسالة وأنه يجب عليه أن يتلقاه بالصبر والتحمل إلى أوان الظفر والغلبة كقوله (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: ٨٦] وعن ابن عباس وابن مسعود أن المراد حديث الإسراء وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب أطباق السماء. وبين القسم والمقسم عليه مناسبة لأنه أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على صحة إيجاد سائر التغايير من أحوال القيامة وغيرها ، ولا شك أن القادر على بعض التغايير المعتبرة قادر على أمثالها فلا جرم قال على سبيل الاستبعاد (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وتأويل الآية أن النفس إذا استغرقت في بعض المجهولات التصورية والتصديقية كانت المناسبة شبيهة بالشمس الغاربة ، فإذا أقبلت على تحصيل قضية من تلك القضايا المجهولة مثلا تجلى عليها نور من النفس يترجح به عندها أحد طرفي النقيض على الآخر ، لكن ما لم تكن جازمة فذلك النور كالشفق بالنسبة إلى ضياء الشمس ، ثم إذا سبحت في لجة المعلومات لها طالبة للحد الأوسط عرضت هناك شبهة شبيهة بالليل وما وسقه ، فإذا حصل الحدّ الأوسط بالتحقيق وانتقل الذهن منه إلى النتيجة الحقة صارت المسألة كالبدر التم وهو المستفاد ضوءه من النفس الناطقة القدسية التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. و (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) هي مراتب العلوم النظرية من

٤٧١

أوّل بدايتها وهي كونها عقلا هيولانيا إلى نهايتها وهي كونها عقلا مستفادا فكأنه سبحانه أقسم بأحوال المعلومات المستخلصة على إمكان حصول العلم بها. ثم وبخهم على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن. وقوله (لا يُؤْمِنُونَ) و (لا يَسْجُدُونَ) في موضع الحال والعامل معنى الفعل في (فَما لَهُمْ) عن ابن عباس ، عباس والحسن وعطاء والكسائي ومقاتل: المراد من السجود هاهنا الصلاة. وقال أبو مسلم وغيره: أراد به الخضوع والاستكانة. والأكثرون على أنه السجود نفسه. ثم اختلفوا فعن أبي حنيفة وجوبه لأنه ذمهم على الترك. وعن الحسن وهو قول الشافعي أنه سنة كسائر سجدات التلاوة عنده. ثم بين بقوله (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أن الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها تقليدا للإسلاف أو عنادا. ثم أجمل وعيدهم بقوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي يجمعون ويضمرون في صدورهم من الشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة فهو يجازيهم على ذلك. وقيل: بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء. ثم صرح بالوعيد قائلا (فَبَشِّرْهُمْ) وقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع عند الزمخشري ولا بأس بكونه متصلا كأنه قال: إلا من آمن منهم فله أجر غير مقطوع أو هو من المنة ، بني الكلام هاهنا على الاستئناف فلم يحتج إلى الفاء ، وعلى التعقيب في التين فأورد الفاء والاستئناف أجمع مقدّمة.

٤٧٢

(سورة البروج مكية حروفها أربعمائة وثمانية وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

القراآت المجيد بالجر صفة للعرش: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بالرفع خبرا بعد خبر محفوظ بالرفع صفة للقرآن: نافع.

الوقوف (الْبُرُوجِ) ه لا (الْمَوْعُودِ) ه (وَمَشْهُودٍ) ه ط بناء على أن جواب القسم محذوف وأن معنى قتل لعن وأصحاب الأخدود هم أهل الظلم ، وإن جعل قتل بمعناه الأصلي وأصحاب الأخدود هم المظلومون صح جوابا للقسم بتقدير: لقد قتل ولا وقف على (الْأُخْدُودِ) لأن النار بدل اشتمال منه (الْوَقُودِ) ه لا (قُعُودٌ) ه لا (شُهُودٌ) ه ط (الْحَمِيدِ) ه لا (وَالْأَرْضِ) ط (شَهِيدٌ) ه ط (الْحَرِيقِ) ه ط (الْأَنْهارُ) ط (الْكَبِيرُ) ه ط إلا لمن جعل (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) جوابا للقسم وسائر الوقوف هاهنا لا بد منها لطول الكلام (لَشَدِيدٌ) ه كـ (وَيُعِيدُ) ه ج لاختلاف الجملتين (الْوَدُودُ) ه لا (الْمَجِيدُ) ه لا (يُرِيدُ) ه ج لابتداء الاستفهام (الْجُنُودِ) ه لا لأن ما بعده بدل (وَثَمُودَ) ه ط للإضراب (تَكْذِيبٍ) ه لا لأن الواو للحال (مُحِيطٌ) ه ج (مَجِيدٌ) ه لا (مَحْفُوظٍ) ه.

٤٧٣

التفسير: لما أخبر في خاتمة السورة المتقدمة أن في الأمة مكذبين سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك كأصحاب الأخدود وكفرعون وثمود. أما البروج فأشهر الأقوال أنها الأقسام الاثنا عشر من الفلك الحمل والثور إلى آخرها. وإنما أقسم بها لشرفها حيث نيط تغيرات العالم السفلي بحلول الكواكب فيها. وقيل: هي منازل القمر الثمانية والعشرون. وقيل: وقت انشقاق السماء وانفطارها وبطلان بروجها. أما الشاهد والمشهود فأقوال المفسرين فيهما كثيرة ، وقد ضبطها القفال بأن اشتقاقهما إما من الشهود الحضور ، وإما من الشهادة والصلة محذوفة أي مشهود عليه أو به. والاحتمال الأول فيه وجوه الأول: وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن بن عليّ وابن المسيب والنخعي والثوري ، أن المشهود يوم القيامة والشاهد الجمع الذي يحضرون فيه من الملائكة والثقلين الأولين والآخرين لقوله (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم: ٣٧] (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) [هود: ١٠٣] قال جار الله: وطريق تنكيرهما ما مرّ في قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير: ١٤] كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. ويجوز أن يكون للتعظيم أي شاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما. وإنما حسن القسم بيوم القيامة لأنه يوم الفصل والجزاء وتفرد الله بالحكم والقضاء. الثاني وهو قول ابن عمر وابن الزبير أن المشهود يوم الجمعة وأن الشاهد الملائكة. روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود نشهده الملائكة». الثالث أنّه يوم عرفة والشاهد من يحضره من الحجاج قال الله تعالى (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) [الحج: ٢٧] وحسن القسم به تعظيما لأمر الحج. يروى أنه تعالى يقول للملائكة يوم عرفة «انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى في ذلك اليوم من نزول الرحمة» (١) الرابع أنه يوم النحر لأن أهل الدنيا يحضرون في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة. الخامس أنهما كل يوم فيه اجتماع عظيم للناس فيتناول الأقوال المذكورة كلها ، والدليل عليه تنكيرهما لأن القصد لم يكن فيه إلى يوم بعينه. والاحتمال الثاني فيه أيضا وجوه أحدها: أن الشاهد هو الله تعالى والمشهود به هو التوحيد لقوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران: ١٨] وثانيها الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء: ٤١] وثالثها العكس لقوله (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء: ٤١] ورابعها الشاهد الحفظة والمشهود عليه المكلفون لقوله (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق: ٢١] (وَإِنَّ

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٢٤ ، ٣٠٥).

٤٧٤

عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار: ١١] وخامسها وهو قول عطاء الخراساني: الشاهد الجوارح والمشهود عليه الإنسان (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) [النور: ٢٤] وسادسها الشاهد والمشهود عيسى وأمته كقوله (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة: ١١٧] وسابعها أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأمم (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: ١٤٣] وثامنها قال الإمام في تفسيره: الشاهد جميع الممكنات والمشهود له واجب الوجود أخذا من قول الأصوليين إنه استدلال بالشاهد على الغائب. وتاسعها الحجر الأسود والحجيج للحديث «الحجر الأسود يمين الله في أرضه يؤتى به يوم القيامة له عينان يبصر بهما يشهد على من زاره» أو لفظ هذا معناه. وعاشرها الأيام والليالي وأعمال بني آدم كما روي عن الحسن: ما من يوم إلا وينادي إني يوم جديد وإني على ما تعمل فيّ شهيد.

أما جواب القسم فعن الأخفش أنه (قُتِلَ) واللام مقدّر والكلام على التقديم والتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج. وعن ابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج أن الجواب هو قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) وقيل: إن الذين فتنوا وما بينهما اعتراض. واختار الزمخشري وطائفة من المتقدمين أنه محذوف. ثم اختلفوا فقال المتقدمون: المحذوف هو إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال. وقال في الكشاف: هو ما دل عليه قتل فكأنه أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش ، أي لعنوا كما قتل أصحاب الأخدود وهو الخد أي الشق في الأرض يحفر مستطيلا ونحوهما بناء. ومعنى الخق والأخقوق بالخاء الفوقانية منه الحديث «فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان» عني به فرس سراقة حين تبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد خروجه من الغار. والمعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما جاء في الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر. وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس ، فمال قلب الغلام إلى حديثه. فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر فقتلها. وكان الغلام بعد ذلك يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الداء. وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله: من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي. فغضب فعذبه فدل على الغلام ، فعذب الغلام حتى دل

٤٧٥

على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهبوا به إلى قرقور وهي سفينة صغيرة فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا. وقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام. ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق ، وما هي إلا غميضة فصبرت واقتحمت. وعن علي رضي‌الله‌عنه أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس ، وكان بعض ملوكهم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها فسكر فوقع على أخته ، فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت: إن المخرج أن تخطب الناس فتقول: إن الله عزوجل أحل لكم نكاح الأخوات ثم تخطبهم إن الله حرمه. فخطب فلم يقبلوا منه قالت له: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا. فقالت: ابسط فيهم السيف فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفا. وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله (ذاتِ الْوَقُودِ) أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس. وهذه الروايات لا تعارض بينها ولا منافاة فيحتمل أن يكون الكل واقعا والمجموع مراد الله أو بعضه هو أعلم به.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا وصل إلى ذكر أصحاب الأخدود قال: نعوذ بالله من جهد البلاء. و (إِذْ) ظرف لقتل و (هُمْ) عائد إلى الأصحاب و (قُعُودٌ) جمع قاعد فإن كانوا مقتولين فمعنى قعودهم على النار إما أن يكون هو أن طرحوا عليها وقعدوا حواليها للإحراق وذلك أنهم كانوا يعرضون المؤمنين على النار فكل من ترك دينه تركوه ومن صبر على دينه ألقوه في النار ، وإما أن يكون «على» بمعنى «عند» كقوله (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي عندي فالمراد بالقتل على هذا التفسير اللعن ويعضده قوله (وَهُمْ) أي الظالمون (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي حضور ، وفيه وصفهم بقسوة القلب ، ووصف المؤمنين بالصلابة في دينهم حيث لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على الحق ، أو هو من الشهادة والمعنى أنهم

٤٧٦

وكلوا بذلك وجعلوا شهودا يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به من التعذيب ، ويجوز أن يراد شهادة جوارحهم على ذلك يوم القيامة. ثم ذم أولئك الجبابرة بما في ضمنه مدح المؤمنين قائلا (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي وما عابوا وما أنكروا عليهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) وإنما اختير بناء الاستقبال رمزا إلى أنهم كانوا يطلبون منهم ترك الإيمان في المستقبل ولم يعذبوهم على الإيمان في الماضي أي عذبوهم على ثباتهم وصبرهم على إيمانهم بمن يستحق أن يؤمنوا به لكونه إلها قادرا لا يغالب بليغا في الكمال بحيث استأهل الحمد كله مالكا لجميع المخلوقات. وفيه إشارة إلى أنه لو شاء لمنعهم عن ذلك التعذيب لكنه أخرهم إلى يوم الجزاء ودل عليه بقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ثم عم الوعيد في آيتين أخريين والفتنة البلاء والإيذاء والإحراق. وفي قوله (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) دلالة على أن توبة القاتل عمدا مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس. وعذاب جهنم وعذاب الحريق إما متلازمان كقوله:

إلى الملك القرم

وابن الهمام

والغرض التأكيد وإما مختلفان في الدركة: الأول لكفرهم ، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وجوز أن يكون الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ثم رغب ورهب بوجه آخر في آيات والبطش الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدّة كان نهاية. ثم أكده بقوله (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) البطش (وَيُعِيدُ) أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يدل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه وقوته. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم كما بدأهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة. قال ابن عباس: إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم خلقا جديدا فذلك قوله (هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) والودود بليغ الودادة والمراد به إيصال الثواب لأهل طاعته إلى الوجه الأتم فيكون كقوله ويحبهم [المائدة: ٥٤] وإن شئت قلت: هو بمعنى مفعول فيكون كقوله (وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة: ٥٤] وقال القفال: ويكون بمعنى الحليم من قولهم «فرس ودود» وهو المطيع القياد. قال في الكشاف (فَعَّالٌ) خبر مبتدأ محذوف. قلت: الأصل عدم الإضمار فالأولى أن يكون خبرا آخر بعد الأخبار السابقة ، ولعله حمله على ذلك كونه نكرة وما قبله معارف والعذر عنه من وجهين: أحدهما قطع النسق بقوله (ذُو الْعَرْشِ) ولا سيما عند من يجوّز (الْمَجِيدُ) صفة العرش. والثاني تخصيص (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فإنه صيره مضارعا للمضاف. قال: وإنما قيل (فَعَّالٌ) لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. قلت: ويجوز أن يكون المعنى أن ما يريده فإنه يفعله البتة لا يصرفه عنه صارف. ثم ذكرهم وسلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) من

٤٧٧

متأخري الكفار ومتقدميهم ، والمراد بفرعون هو وجنوده. ثم أضرب عن التذكير إلى التصريح بتكذيب كفار قريش والتنبيه على أنه محيط أي عالم بهم فيجازيهم ، ويجوز أن يكون مثلا لغاية اقتداره عليهم وأنهم في قبضة حكمه كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسدّ عليه مسلكه بحيث لا يجد مهربا. ويجوز أن تكون الإحاطة بمعنى الإهلاك (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس: ٢٢] ثم سلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجه آخر وهو أن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حد الإعجاز وهو مصون عن التغيير والتحريف بقوله (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر: ٩] قال بعض المتكلمين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا الله حسبي.

٤٧٨

(سورة الطارق مكية حروفها مائتان وأحد وتسعون كلمها اثنتان وسبعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

القراآت: (لَمَّا) بالتشديد: ابن عامر وعاصم وحمزة ويزيد.

الوقوف (الطَّارِقِ) ه لا (الطَّارِقُ) ه كـ (الثَّاقِبُ) ه كـ (حافِظٌ) ه ط (مِمَّ خُلِقَ) ه ط للفصل بين الاستخبار والإخبار. (دافِقٍ) ه لا (وَالتَّرائِبِ) ه ط (لَقادِرٌ) ه كـ بناء على أن الظرف مفعول «اذكر» ومن جعل (يَوْمَ) ظرفا للرجع وهو أولى لم يقف. (السَّرائِرُ) ه لا (وَلا ناصِرٍ) ه ط (الرَّجْعِ) ه (الصَّدْعِ) ه كـ (فَصْلٌ) ه كـ (بِالْهَزْلِ) ه ط (كَيْداً) ه لا (كَيْداً) ج ه (رُوَيْداً) ه.

التفسير: إنه سبحانه أكثر في كتابه الكريم الأقسام بالسماويات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة. أما الطارق فهو كل ما ينزل بالليل ولهذا جاء في الحديث التعوّذ من طوارق الليل. وذكر طروق الخيال في أشعار العرب كثير لأن تلك الحالة تحصل في الأغلب ليلا ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي الرجل أهله طروقا. ثم إنه تعالى بين أنه أراد بالطارق في الآية (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر وهو جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البحر والبر. قال علماء اللغة: سمي ثاقبا لأنه يثقب الظلام بضوئه كما سمي دريا لأنه يدرأوه أي يدفعه ، أو لأنه يطلع من المشرق نافذا في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء ، أو لأنه إذا رمي به الشيطان ثقبه أي نفذ فيه وأحرقه. وقد خصه

٤٧٩

بعضهم بزحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات. وقال ابن زيد: هو الثريا. وروي أن أبا طالب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتحفه بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ما ثم نورا ففزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت السورة. من قرأ (لَمَّا) مشدّدة بمعنى «إلا» فـ «إن» نافية. ومن قرأها مخففة على أن «ما» صلة كالتي في قوله (فَبِما رَحْمَةٍ) [آل عمران: ١٥٩] فـ «إن» مخففة من المثقلة. والآية على التقديرين جواب القسم. والحافظ هو الله أو الملك الذي يحصي أعمال العباد كقوله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار: ١٠] أو الذي يحفظ الإنسان من المكاره حتى يسلمه إلى القبر. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» أو الذي يحفظ عليه رزقه وأجله حتى يستوفيهما. وحين ذكر أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في مبدئه ومعاده. والدفق صب فيه دفع ، ولا شك أن الصب فعل الشخص فهو من الإسناد المجازي أو على النسبة أي ماء ذي دفق كما مر في (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة: ٢١] ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن ، والذي ينفصل من اليدين ومن الدماغ يمر عليهما أيضا. وطالما أعطى للأكثر حكم الكل وهذا المعنى يشمل ماء الرجل وماء المرأة ، ويحتمل أن يقال: أريد به ماء الرجل فقط إما بناء على حكم التغليب وإما بناء على مذهب من لا يرى للمرأة ماء ولا سيما دافقا. وذهب جم غفير إلى أن الذي يخرج من بين الصلب ومادّته من النخاع الآتي من الدماغ هو ماء الرجل ، والذي يخرج من الترائب وهي عظام الصدر الواحدة تربية هو ماء المرأة. وإنما لم يقل من ماءين لاختلاطهما في الرحم واتحادهما عند ابتداء خلق الجنين. وقد يقال: العظم والعصب من ماء الرجل ، واللحم والدم من ماء المرأة ، وقد ورد في الخبر أن أيّ الماءين علا وغلب فإن الشبه يكون منه. ثم بين قدرته على الإعادة بقوله (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ) أي على إعادة الإنسان (لَقادِرٌ) يعني بعد ثبوت قدرته على تكوين الإنسان ابتداء من نطفة حقيرة وجب الحكم بأنه قادر على رجعه. وعن مجاهد أن الضمير في (رَجْعِهِ) يعود إلى الماء والمراد إنه قادر على ردّ الماء إلى الإحليل. وقيل: إلى الصلب والترائب وهذا قول عكرمة والضحاك. وقال مقاتل بن حيان: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة. والقول هو الأول بدليل قوله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي يمتحن ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال الحسنة أو القبيحة ، وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار كقوله (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد: ٣١] ويحتمل أن يعود البلاء إلى المكلف كقوله (هُنالِكَ تَبْلُوا

٤٨٠