تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

قال علماء المعاني: قوله (فِي ذُرِّيَّتِي) كقوله «يجرح في عراقيبها نصلي» فكأنه سأل أن يجعل ذرّيته موقعا للصلاح ومظنة له. وقوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إما بمعنى الحسن أو المراد الواجب والندب دون المباح. وقوله (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) في موضع الحال أي معدودين فيهم. عن ابن عباس وجم غفير من المفسرين أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق ، وفيه أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير ، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، ولم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالده وبنوه وبناته غير أبي بكر. قالوا: ومما يؤيد هذا القول أنه سبحانه حكى عن ذلك الإنسان أنه قال بعد أربعين سنة رب أوزعني إلخ. ومعلوم أنه ليس كل إنسان قد يقول هذا القول. والأظهر أن هذا عام لهذا الجنس ، وأن الإنسان قد يقول هذا القول ولا أقل من أن يكون واردا على طريقة الإرشاد والتعليم. سلمنا ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله (وَالَّذِي قالَ) مبتدأ خبره (أُولئِكَ) والمراد بالذي جنس القائل فلذلك أورد الخبر مجموعا. ويجوز أن يكون الخبر عاما في القائل وفي أمثاله فيندرج فيه القائل. وقيل: تقديره واذكر الذي ومن القائل. عن الحسن وقتادة: هو الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وذهب السدّي إلى أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وأنه كان يقول (لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) وهي كلمة تضجر وتبرم كما مر في «سبحان» و «الأنبياء» (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من القبر (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فلم يرجع أحدهم (وَهُما) يعني أبويه (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي بالله فحذف الجار وأوصل الفعل والمراد يسألانه أن يوقفه للإيمان ويقولان له (وَيْلَكَ آمِنْ) بالله وبالبعث. والمراد بالدعاء عليه الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. قال السدّي: فاستجاب الله دعوة أبي بكر فيه فأسلم وحسن إسلامه ولما أسلم نزل فيه (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) وأكثر المفسرين ينكرون هذا القول لأنه سبحانه قال فيه (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) كائنين (فِي أُمَمٍ) إلى آخره. وأن عبد الرحمن لم يبق كافرا بل كان من سادات المسلمين. وروي عن عائشة إنكاره أيضا. وذلك أنه حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ابن أبي العاص بأن يبايع الناس ليزيد ، ردّ عليه عبد الرحمن وقال مروان: يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه. ثم ميز حال المؤمن من حال الكافر بقوله (وَلِكُلٍ) أي من الجنسين (دَرَجاتٌ) من جزاء ما عملوا فغلب أهل الدرجات على أهل الدركات ، أو الدرجات هي المراتب متصاعدة أو متنازلة ، والباقي واضح مما مرّ. والاستكبار عن قبول الحق ذنب القلب ، والفسق عمل الجوارح ، والأوّل أولى بالتقديم لعظم موقعه. وقد يحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع. قال مؤلف

١٢١

الكتاب: والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها لقوله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: ٣٢] ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم ، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له وقد يجر بعضه بعضا إلى أن يقع المرء في حدّ البعد عن الله. وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها ورقاعا فقال: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر البيت كما تستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير. قال: بل أنتم اليوم خير. وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ولكنني أستبقي طيباتي لأن الله وصف قوما فقال (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) وعنه أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع وقال: رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال (أَذْهَبْتُمْ) الآية. فقال الرجل: اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولست منهم فأكل وسرّه ما سمع. والتحقيق أن المراد هو أنه ما كتب للكافر حظ من الطيبات إلا الذي أصابه في دنياه ، وليس في الآية إن كل من أصاب الطيبات في الدنيا فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة والله أعلم بالصواب.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ

١٢٢

دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

القراآت: إني أخاف بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف. (لا يُرى) بالياء التحتانية مبنيا للمفعول (إِلَّا مَساكِنُهُمْ) بالرفع: عاصم وحمزة وخلف وسهل ويعقوب. الباقون لا ترى على خطاب كل راء مساكنهم بالنصب (بَلْ ضَلُّوا) بإدغام اللام في الضاد: عليّ. (وَإِذْ صَرَفْنا) بإدغام الذال في الصاد وكذا ما يشبهه: أبو عمرو وعليّ وهشام وحمزة في رواية خلاد وابن سعدان وأبي عمرو يقدر فعلا مضارعا من القدرة: سهل ويعقوب.

الوقوف: (عادٍ) ط لأن «إذ» يتعلق بأذكر محذوفا وهو مفعول به. هذا قول السجاوندي ، وعندي أن لا وقف. وقوله «إذ» بدل الاشتمال من (أَخا عادٍ). (إِلَّا اللهَ) ط (عَظِيمٍ) ه (آلِهَتِنا) ج لتناهي الاستفهام مع تعقيب الفاء (الصَّادِقِينَ) ه (عِنْدَ اللهِ) ز لاختلاف الجملتين لفظا ولكن التقدير وأنا أبلغكم (تَجْهَلُونَ) ه (مُمْطِرُنا) ط لتقدير القول (بِهِ) ط لأن التقدير هذه ريح (أَلِيمٌ) ه لا لأن ما بعده صفة (مَساكِنُهُمْ) ط (الْمُجْرِمِينَ) ه (وَأَفْئِدَةً) ز لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى للفاء واتحاد الكلام (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (آلِهَةً) ج لتمام الاستفهام (عَنْهُمْ) ج لعطف الجملتين (يَفْتَرُونَ) ه (الْقُرْآنَ) ج لكلمة المجازاة مع الفاء (أَنْصِتُوا) ج لذلك (مُنْذِرِينَ) ه (مُسْتَقِيمٍ) ه (أَلِيمٍ) ه (أَوْلِياءُ) ط (مُبِينٍ) ه (الْمَوْتى) ط (قَدِيرٌ) ه (النَّارِ) ط لتقدير القول (بِالْحَقِ) ط (وَرَبِّنا) ط (تَكْفُرُونَ) ه (لَهُمْ) ط (يُوعَدُونَ) ه لا لأن ما بعده خبر «كأن» (نَهارٍ) ط (بَلاغٌ) ج للاستفهام مع الفاء (الْفاسِقُونَ) ه.

التفسير: إنه سبحانه بعد حكاية شبه المكذبين والأجوبة عنها ، وبعد إتمام ما انجر الكلام إليه ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر قومه بقصة هود أعني أخا عاد لأنه واحد منهم. والأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، ويقال له الشحر من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. والنذر جمع نذير مصدر أو

١٢٣

صفة. الواو في قوله (وَقَدْ خَلَتِ) إما أن تكون للحال والمعنى أنذرهم وهم عالمون بإنذار الرسل من قبل ومن بعده ، وإما أن يكون اعتراضا والمعنى واذكروا وقت إنذار هود قومه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك فأذكرهم قوله (لِتَأْفِكَنا) أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا. قوله (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي لا علم لي بالوقت الذي عينه الله لتعذيبكم فلا معنى لاستعجالكم ولهذا نسبهم إلى الجهالة ، وأيّ جهل أعظم من نسبة نبي الله إلى الكذب. ومن ترك طريقة الاحتياط ومن استعجال ما فيه هلاكهم ، والضمير في قوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ) عائد إلى الموعود ، أو هو مبهم يوضحه قوله (عارِضٌ) أي سحاب عرض في نواحي السماء. والإضافة في قوله (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) و (مُمْطِرُنا) لفظية ولهذا صح وقوعها صفة للنكرة. والتدمير الإهلاك والاستئصال. وفي قوله (بِأَمْرِ رَبِّها) إشارة إلى إبطال قول من زعم أن مثل هذه الآثار مستند إلى تأثيرات الكواكب بالاستقلال. ثم زاد في تخويف كفار مكة وذكر فضل عاد في القوة الجسمانية وفي الأسباب الخارجية عليهم فقال (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) قال المبرد: «ما» موصولة و «إن» نافية أي في الذي لم نمكنكم فيه. وقال ابن قتيبة: «إن» زائدة وهذا فيه ضعف لأن الأصل حمل الكلام على وجه لا يلزم منه زيادة في اللفظ ، ولأن المقصود فضل أولئك القوم على هؤلاء حتى يلزم المبالغة في التخويف ، وعند تساويهما يفوت هذا المقصود. وقيل: «إن» للشرط والجزاء مضمر أي في الذي إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر. قوله (مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا من الإغناء وهو القليل منه. وقوله (إِذْ كانُوا) ظرف لما أغنى وفيه معنى التعليل كقولك «ضربته إذ أساء». قوله (مِنَ الْقُرى) يريد من قريات عاد وثمود ولوط وغيرهم بالشام والحجاز واليمن ، وتصريف الآيات أي تكريرها. قيل: للعرب المخاطبين والأظهر أنه للماضين لقوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن شركهم ، والأوّلون حملوه على الالتفات. ثم وبخهم بأن أصنامهم لم يقدروا على نصرتهم وشفاعتهم. فقوله (آلِهَةً) مفعول ثان لـ (اتَّخَذُوا) والمفعول الأول محذوف وهو الراجع إلى (الَّذِينَ) و (قُرْباناً) حال أو مفعول له أي متقربين إلى الله ، أو لأجل القربة بزعمهم. والقربان مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله عزوجل. ويجوز أن يكون (قُرْباناً) مفعولا ثانيا و (آلِهَةً) بدلا أو بيانا. قوله (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم ، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله.

وحين بيّن أن الإنس من آمن وفيهم من كفر ، أراد أن يبين أن نوع الجن أيضا كذلك. وفي كيفية الواقعة قولان: أحدهما عن سعيد بن جبير وعليه الجمهور: كانت الجن تسترق

١٢٤

فلما رجموا قالوا: هذا إنما حدث في السماء لشيء حدث في الأرض. فذهبوا يطلبون السبب فوافوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة يصلي بأصحابه أو منفردا. فمنهم من قال صلاة العشاء الآخرة ومنهم من قال صلاة الصبح ، فقرأ فيها سورة «اقرأ» فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب. وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أوحى الله إليه. والقول الثاني أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بذلك فقال لأصحابه: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني؟ فأتبعه ابن مسعود ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال: لا تبرح حتى آتيك. قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم علا بالقرآن أصواتهم. فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألته عن اللغط فقال: اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم. وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أمعك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر. فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال: تمرة طيبة وماء طهور. واختلفوا في عددهم: عن ابن عباس: كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى. وقال عكرمة: كانوا عشرة من جزيرة الموصل ، وزر بن حبيش: كانوا تسعة ومنهم زوبعة. وقيل: اثني عشر ألفا.

ولنرجع إلى التفسير. قوله (وَإِذْ صَرَفْنا) معطوف على قوله (اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ) ومعنى صرفنا أملناهم إليك ، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار. والضمير في (حَضَرُوهُ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) والإنصاف السكوت لاستماع الكلام (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القراءة. وإنما قالوا (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) لأنهم كانوا يهودا أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) عنوا رسول الله أو أنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قومهم ، ومنه يعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجن أيضا وهذا من جملة خصائصه. وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم (وَآمِنُوا بِهِ) لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف. و «من» في قوله (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في «إبراهيم». واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب. قوله (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) أي لا يفوته هارب. قوله (وَلَمْ يَعْيَ) يقال: عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه. قوله (بِقادِرٍ) في محل الرفع لأنه خبر «أن» وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل: أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من

١٢٥

دلائل البعث والنبوّة. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) وقوله (مِنَ الرُّسُلِ) بيان لأن جميع الرسل أرباب عزم وجد في تبليغ ما أمروا بأدائه ، أو هو للتبعيض فنوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحق على الذبح ، ويعقوب على فراق الولد ، ويوسف على السجن ، وأيوب على الضر ، وموسى على سفاهة قومه وجهالاتهم ، وأما يونس فلم يصبر على دعاء القوم فذهب مغاضبا ، وقال الله تعالى في حق آدم (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه: ١١٥] (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لا تدع لكفار قريش بتعجيل العذاب فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى ظنوا أنها ساعة من نهار (هذا) الذي وعظهم به كفاية في بابه وقد مر في آخر سورة «إبراهيم» عليه‌السلام.

١٢٦

(سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي مدنية حروفها ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون

كلماتها خمسمائة وأربعون آياتها ثمان وثلاثون)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

١٢٧

القراآت: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) مبنيا للمفعول ثلاثيا: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص. الباقون قاتلوا. ويثبت من الإثبات: المفضل. الباقون: بالتشديد أسن بغير الألف كحذر: ابن كثير أنفا بدون الألف كما قلنا: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل.

الوقوف: (أَعْمالَهُمْ) ه (بالَهُمْ) ه (مِنْ رَبِّهِمْ) ط (أَمْثالَهُمْ) ه (الرِّقابِ) ط (الْوَثاقَ) لا للفاء ولتعلق (بَعْدُ) بما قبلها أي بعد ما شددتم الوثاق (أَوْزارَها) ج (ذلِكَ) ط أي ذلك كذلك ، وقد يحسن اتصاله بما قبله لانقطاعه عن خبره أو عن المبتدأ أو الفعل أي الأمر ذلك ، أو فعلوا ذلك (بِبَعْضٍ) ط (أَعْمالَهُمْ) ه (بالَهُمْ) ه ج للآية مع العطف واتحاد الكلام (لَهُمْ) ه (أَقْدامَكُمْ) ه (أَعْمالَهُمْ) ه ج (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط لتناهي الاستخبار (عَلَيْهِمْ) ج للابتداء بالتهديد مع الواو (أَمْثالُها) ه (لَهُمْ) ه (الْأَنْهارُ) ط (لَهُمْ) ه (أَخْرَجَتْكَ) ج لاحتمال أن ما بعده صفة (قَرْيَةٍ) أو ابتداء إخبار (لَهُمْ) ه (أَهْواءَهُمْ) ه (الْمُتَّقُونَ) ط للحذف أي صفة الجنة فيما نقص عليكم ثم شرع في قصتها. (آسِنٍ) ج (طَعْمُهُ) ج (لِلشَّارِبِينَ) ه ج لتفصيل أنواع النعم مع العطف (مُصَفًّى) ج (مِنْ رَبِّهِمْ) ط لحذف المبتدأ والتقدير أفمن هذا حاله كمن هو خالد (أَمْعاءَهُمْ) ه (إِلَيْكَ) ج لاحتمال أن يكون حتى للانتهاء وللابتداء (آنِفاً) ط (أَهْواءَهُمْ) ه (تَقْواهُمْ) ه (بَغْتَةً) ه لتناهي الاستفهام مع مجيء الفاء بعده في الإخبار (أَشْراطُها) ج لعكس ما مر (ذِكْراهُمْ) ه.

التفسير: قال أهل النظم: إن أول هذه السورة مناسب لآخر السورة كأنه قيل: كيف يهلك الفاسق إن كان له أعمال صالحة؟ فأجاب (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) منعوا الناس عن الإيمان صدا أو امتنعوا عنه صدودا (أَضَلَ) الله (أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ثوابها وكانوا يصلون الأرحام ويطعمون الطعام ويعمرون المسجد الحرام. وعن ابن عباس أنها نزلت في المطعمين يوم بدر. وقيل: هم أهل الكتاب. والأظهر العموم. قال جار الله: حقيقة إضلال الأعمال جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يثيب عليها كالضالة من الإبل لا رب لها يحفظها ، أو أراد أنه يجعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم مغلوبة بها كما يضل الماء في اللبن. وقيل: أراد إبطال ما عملوه من الكيد للإسلام وذويه بأن نصر المسلمين عليهم وأظهر دينه على الدين كله. وحين بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين قائلا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالهجرة والنصرة وغير ذلك (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) يعني القرآن وهو تخصيص بعد تعميم ، ولم يقتصر على هذا التخصيص الموجب للتفضيل ولكنه أكده بجملة اعتراضية هي قوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ولأن الحق الثابت ففيه دليل على أن دين

١٢٨

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرد عليه النسخ أبدا. وتكفير السيئات من الكريم سترها بما هي خير منها فهو في معنى قوم (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان: ٧] والبال الحال والشأن لا يثنى ولا يجمع. وقيل: هو بمعنى القلب أي يصلح أمر دينهم. والحاصل أن قوله (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) بإزاء قوله (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فأولئك امتنعوا عن اتباع سبيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء حثوا أنفسهم على إتباعه فلا جرم حصل لهؤلاء ضدّ ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء ، وقد أشير إلى هذا الحاصل بقوله (ذلِكَ) الإضلال والتكفير بسبب اتباع أولئك الباطل الشيطان وحزبه وأولئك الحق محمدا والقرآن (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضرب (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ) كلهم أمثال أنفسهم أو أمثال المذكورين من الفريقين على معنى إنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم. وضرب المثل في الآية هو أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، ولا ريب أن إخباره عن الفريقين بغير تصريح مثل لحالهما وهذا حقيقة ضرب المثل. وقيل: إن الإضلال مثل لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثل لفوز المؤمنين. وقيل: إن قوله (كَذلِكَ) لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب ، ولكنه لما بين حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته ، وبين السبب فيهما كان ذلك نهاية الإيضاح فقال (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان يضرب الله للناس أمثالهم ويبين أحوالهم. قال أصحاب النظم: لما بيّن أن عمل الكفار ضلال والإنسان حرمته باعتبار عمله نتج من ذلك قوله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي في دار الحرب أو في القتال (فَضَرْبَ الرِّقابِ) وأصله فأضربوا الرقاب ضربا إلا أنه اختصر للتوكيد لأنه بذكر المصدر المنصوب دل على الفعل وكان كالحكم البرهاني. وليس ضرب الرقبة مقصودا بالذات ولكنه وقع التعبير عن القتل به لأنه أغلب أنواع القتل ، ولما في ذكره من التخويف والتغليظ. وفيه ردّ على من زعم أن القتل بل إيلام الحيوان قبيح مطلقا لأنه تخريب البنيان ، فبين الشرع أن أهل الكفر والطغيان يجب قتلهم لأن فيه صلاح نوع الإنسان كما أن الطبيب الحاذق يأمر بقطع العضو الفاسد إبقاء على سائر البدن. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشيء الثخين ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى لا يمكنهم النهوض وقد مر في آخر «الأنفال». (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) وهو بالفتح والكسر اسم ما يوثق به والمراد فأسروهم وشدّوهم بالحبال والسيور. فإما تمنون منا وإما تفدون فداء ، وهذا مما يلزم فيه حذف فعل المفعول المطلق لأنه وقع المفعول تفصيلا لأثر مضمون جملة متقدمة. وقال الشافعي: للإمام أن يختار أحد أربعة أمور هي: القتل والاسترقاق والمنّ وهو الإطلاق من غير عوض والفداء بأسارى المسلمين أو بمال. لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منّ على أبي عروة الجهني وعلى ابن أثال الحنفي ، وفادى

١٢٩

رجلا برجلين من المشركين. وذهب بعض أصحاب الرأي أن الآية منسوخة. وأن المنّ والفداء إنما كان يوم بدر فقط وناسخها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة: ٥] وليس للإمام إلا القتل أو الاسترقاق. وعن مجاهد: ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق. وقوله (حَتَّى تَضَعَ) يتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء. والمراد عند الشافعي أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وأوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم الحرب إلا بها. قال الأعشى:

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

فإذا أنقضت الحرب فكأنها وضعت أسبابها. وقيل: أوزارها آثامها والمضاف محذوف أي حتى يترك أهل الحرب. وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. وعلى هذا جاز أن يكون الحرب جمع حارب كالصحب جمع صاحب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. وفسر بعضهم وضع الحرب أوزارها بنزول عيسى عليه‌السلام. عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى عليه‌السلام إماما هاديا وحكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير وتضع الحرب أوزارها حتى تدخل كلمة الإخلاص كل بيت من وبر ومدر» (١) وعند أبي حنيفة: إذا علق بالضرب والشدّ فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك إذا لم تبق شوكة للمشركين. وإذا علق بالمنّ والفداء فالحرب معهودة وهي حرب بدر. ثم بين أنه منزه في الانتقام من الكفار عن الاستعانة بأحد فقال (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بغير قتال أو بتسليط الملائكة أو أضعف خلقه عليهم (وَلكِنْ) أمركم بقتالهم (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فيمتحن المؤمنين بالكافرين هل يجاهدون في سبيله حق الجهاد أم لا ، ويبتلي الكافرين بالمؤمنين هل يذعنون للحق أم لا إلزاما للحجة وقطعا للمعاذير. ومعنى الابتلاء من الله سبحانه قد مر مرارا أنه مجاز أي يعاملهم معاملة المختبر ، أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين.

ثم وعد الشهداء والمجاهدين بقوله (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) أو قاتلوا على القراءتين (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) خلاف الكفرة (سَيَهْدِيهِمْ) إلى الثواب ويثبتهم على الهداية (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أمر معاشهم في المعاد أو في الدنيا ، وكرر لأن الأوّل سبب النعيم ، والثاني نفس

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المظالم باب ٣١ مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٤٢ ، ٣٤٣ أبو داود في كتاب الملاحم باب ١٤ الترمذي في كتاب الفتن ٥٤ ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٣٣ أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٠) إلى قوله «ويقتل الخنزير»

١٣٠

النعيم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) جعل كل واحد بحيث يعرف ماله في الجنة كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا. وعن مقاتل: يعرفها لهم الحفظة وعسى أنه عرفها بوصفها في القرآن. وقيل: طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة. ثم حث على نصرة دين الله بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه أو رسوله (يَنْصُرْكُمْ) على عدوّكم ويفتح لكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في مواقف الحرب أو على جادّة الشريعة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حالهم بالضد. يقال: تعسا له في الدعاء عليه بالعثار والتردّي. عن ابن عباس: هو في الدنيا القتل ، وفي الآخرة الهويّ في جهنم. وهو من المصادر التي يجب حذف فعلها سماعا والتقدير: أتعسهم الله فتعسوا تعسا ولهذا عطف عليه قوله (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ثم بين سبب بقائهم على الكفر والضلال بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن والتكاليف لألفهم بالإهمال وإطلاق العنان (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) التي لا استناد لها إلى القرآن أو السنة. ثم هدّدهم بحال الأقدمين وهو ظاهر. ودمر عليه ويقال دمره فالثاني الإهلاك مطلقا ، والأوّل إهلاك ما يختص به من نفسه وماله وولده وغيره (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) الضمير للعاقبة أو العقوبة. والأوّل مذكور ، والثاني مفهوم بدلالة التدمير فإن كان المراد الدعاء عليهم فاللام للعهد وهم كفار قريش ومن ينخرط في سلكهم ، وإن كان المراد الإخبار جاز أن يراد هؤلاء. والقتل والأسر نوع من التدمير وجاز أن يراد الكفار الأقدمون (ذلِكَ) النصر والتعس (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي وليهم وناصرهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) بمعنى النصرة والعناية ، وأما بمعنى الربوبية والمالكية فهو مولى الكل لقوله (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [يونس: ٣٠] ثم برهن على الحكم المذكور وهو أن ولايته مختصة بالمؤمنين فقال (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ) الآية. فشبه الكافرين بالأنعام من جهة أن الكافر غرضه من الحياة التنعم والأكل وسائر الملاذ لا التقوى والتوسل بالغذاء إلى الطاعة وعمل الآخرة ، ومن جهة أنه لا يستدل بالنعم على خالقها ، ومن جهة غفلتهم عن مآل حالهم وأن النار مثوى لهم. ثم زاد في تهديد قريش بقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية هم (أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ) أهل (قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) تسببوا لخروجك. وقوله (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) حكاية تلك الحال كقوله (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ) [الكهف: ١٨] ثم بين الفرق بين أهل الحق وحزب الشيطان بقوله على طريق الإنكار (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة وحجة باهرة (مِنْ رَبِّهِ) يريد محمدا وأمته قوله (وَاتَّبَعُوا) محمول على معنى «من» وهو تأكيد للتزيين كما أن كون البينة من الرب تأكيد لها. وحين أثبت الفرق بين الفريقين أراد أن يبين الفرق بين جزائهما فقال (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي صفتها العجيبة الشأن. وفي إعرابه وجهان: أحدهما ما مر في الوقوف ، والثاني قول الزمخشري في الكشاف أنه على حذف حرف الاستفهام ، والتقدير:

١٣١

أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار ، أو كمثل من هو خالد؟ وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين. وقوله (فِيها أَنْهارٌ) كالبدل من الصلة أو حال. والآسن المتغير اللون أو الريح أو الطعم ومصدره الأسون والنعت آسن مقصورا ، واللذة صفة أو مصدر وصف به كما مر في «الصافات» ، والباقي ظاهر. قال بعض علماء التأويل: لا شك أن الماء أعم نفعا للخلائق من اللبن والخمر والعسل فهو بمنزلة العلوم الشرعية لعموم نفعها للمكلفين كلهم ، وأما اللبن فهو ضروري للناس كلهم ولكن في أوّل التربية والنماء فهو بمنزلة العلوم الغريزية الفطرية ، وأما الخمر والعسل فليسا من ضرورات التعيش فهما بمنزلة العلوم الحقيقة السببية إلا أن الخمر يمكن أن تخص بالعلوم الذوقية. والعسل بسائرها وقد يدور في الخلد أن هذه الأنهار الأربعة يمكن أن تحمل على المراتب الإنسانية الأربع. فالعقل الهيولاني بمنزلة الماء لشموله وقبوله الآثار ، والعقل بالملكة بمنزلة اللبن لكونه ضروريا في أوّل النشوء والتربية ، والعقل بالفعل بمنزلة الخمر فإن حصوله ليس بضروري لجميع الإنسان إلا أنه إذا حصل وكان الشخص ذاهلا عنه غير ملتفت إليه كان كالخمر الموجب للغفلة وعدم الحضور ، والعقل المستفاد بمنزلة العسل من جهة لذته ومن جهة شفائه لمرض الجهل ومن قبل ثباته في المذاق للزوجته ودسومته والتصاقه والله تعالى أعلم بمراده. وقوله (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) إن قدر ولهم مغفرة من الله قبل ذلك فلا إشكال ، وإن قدر لهم فيها مغفرة أمكن أن يقال: إنهم مغفورون قبل دخول الجنة فما معنى الغفران بعد ذلك؟ والجواب أن المراد رفع التكليف يأكلون من غير حساب ولا تبعة وآفة بخلاف الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عذاب. ثم ذكر نوعا آخر من قبيح خصال الكافرين وقيل أراد المنافقين فقال (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) كانوا يحضرون مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجمعات ويسمعون كلامه ولا يعونه كما يعيه المسلم (حَتَّى إِذا خَرَجُوا) انصرفوا وخرج المسلمون (مِنْ عِنْدِكَ) يا محمد قال المنافقون للعلماء وهم بعض الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء: أيّ شيء قال محمد (آنِفاً) أي في ساعتنا هذه. وأنف كل شيء ما تقدمه ومنه فولهم «استأنفت الأمر» ابتدأته. ولا يستعمل منه فعل ثلاثي بهذا المعنى. وإنما توجه الذم عليهم لأن سؤالهم سؤال استهزاء وإعلام أنهم لم يلتقتوا إلى قوله ، ولو كان سؤال بحث عما لم يفهموه لم يكن كذلك ، على أن عدم الفهم دليل قلة الاكتراث بقوله. ثم مدح أهل الحق بقوله (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بالإيمان (زادَهُمْ) الله (هُدىً) بالتوفيق والتثبيت وشرح الصدر ونور اليقين (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أعانهم عليها أو أعطاهم جزاء تقواهم. وعن السدي: بين لهم ما يتقون. وقيل: الضمير في (زادَهُمْ) للاستهزاء أو لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم خوف أهل الكفر

١٣٢

والنفاق باقتراب القيامة. وقوله (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل اشتمال من (السَّاعَةَ) وأشراط الساعة إماراتها من انشقاق القمر وغيره. ومنه مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه نبي آخر الزمان ولهذا قال «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى (فَأَنَّى لَهُمْ) من أين لهم (إِذا جاءَتْهُمْ) الساعة (ذِكْراهُمْ) أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ فالذكرى مبتدأ و (فَأَنَّى لَهُمْ) الخبر. وقيل: فاعل (جاءَتْهُمْ) ضمير يعود إلى «الذكرى». وجوّز أن يرتفع «الذكرى» بالفعل والمبتدأ مقدر أي من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الذكرى؟ والقول هو الأول ولله المرجع والمآب وإليه المصير.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ

١٣٣

الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

القراآت: وتقطعوا بالتخفيف من القطع: سهل ويعقوب. والآخرون: بالتشديد من التقطيع. وأملى لهم مبنيا للمفعول ماضيا: أبو عمرو ويعقوب (وَأَمْلى) مضارعا مبنيا للفاعل: سهل ورويس. الباقون: ماضيا مبنيا للفاعل (إِسْرارَهُمْ) بكسر الهمز على المصدر: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد وليبلونكم حتى يعلم ويبلوا بالياءات: أبو بكر وحماد. الآخرون: بالنون في الكل. وقرأ يعقوب ونبلو بالنون مرفوعا السلم بكسر السين: حمزة وخلف وأبو بكر وحماد.

الوقوف: (وَالْمُؤْمِناتِ) ط (وَمَثْواكُمْ) ه (نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ج للشرط مع الفاء (الْقِتالُ) لا (الْمَوْتِ) ط للابتداء بالدعاء عليهم (لَهُمْ) ه ج لاحتمال أن يكون الأولى بمعنى الأقرب كما يجيء (مَعْرُوفٌ) قف (الْأَمْرُ) ز لاحتمال أن التقدير فإذا عزم الأمر كذبوا وخالفوا (خَيْراً لَهُمْ) ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء (أَرْحامَكُمْ) ه (أَبْصارَهُمْ) ه (أَقْفالُها) ه (الْهُدَى) لا لأن الجملة بعده خبر «إن» (سَوَّلَ لَهُمْ) ط لأن فاعل (وَأَمْلى) ضمير اسم الله ويجوز الوصل على جعله حالا أي وقد أملى ، أو على أن فاعله ضمير الشيطان من حيث أنه يمنيهم ويعدهم ، والوقف أجوز وأعزم. والحال على قراءة (وَأَمْلى) بفتح الياء أجوز والوقف به جائز ، ومن سكن الياء فالوقف به أليق لأن المستقبل لا ينعطف على الماضي. ومع ذلك لو جعل حالا على تقدير وأنا أملى جاز (لَهُمُ) ه (الْأَمْرِ) ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا والوقف أجوز لأن الله يعلم الأسرار في الأحوال كلها (إِسْرارَهُمْ) ه (وَأَدْبارَهُمْ) ه (أَعْمالَهُمْ) ه (أَضْغانَهُمْ) ه (بِسِيماهُمْ) ط للابتداء بما هو جواب القسم (الْقَوْلِ) ط (أَعْمالَكُمْ) ه (وَالصَّابِرِينَ) ط لمن قرأ (وَنَبْلُوَا) بسكون الواو أي ونحن نبلو (أَخْبارَكُمْ) ه (الْهُدى) لا لأن ما بعده خبر «إن» (شَيْئاً) ط (أَعْمالَهُمْ) ه (أَعْمالَكُمْ) ه (لَهُمْ) ه (إِلَى السَّلْمِ) قف قد قيل: على أن قوله (وَأَنْتُمُ) مبتدأ ، وجعله حالا أولى (الْأَعْلَوْنَ) قف كذلك (أَعْمالَكُمْ*) ه قف (وَلَهْوٌ) ط (أَمْوالَكُمْ) ه (أَضْغانَكُمْ) ه (سَبِيلِ اللهِ) ج لانقطاع النظم مع الفاء (مَنْ يَبْخَلُ) ج لابتداء الشرط مع العطف (عَنْ نَفْسِهِ) ط (الْفُقَراءُ) ه للشرط مع العطف (غَيْرَكُمْ) لا للعطف (أَمْثالَكُمْ) ه.

التفسير:لما ذكر حال الفريقين المؤمن والكافر من السعادة والشقاوة قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم: فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومن هضم النفس باستغفار ذنبك أو ذنوب أمتك. أو

١٣٤

المراد فاعلم خبرا يقينا على ما علمته نظرا واستدلالا. أو أراد فاذكر لا إله إلا الله. والهاء في (أَنَّهُ) لله أو للأمر والشأن ، أو الأول إشارة إلى أصول الحكمة النظرية ، والثاني إلى أصول الحكمة العملية ، أمره بالحكمة العملية بعد الحكمة النظرية. عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فتلا هذه الآية. وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم. والفاءات في هذه الآية وما تقدّمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال. وفي الآية نكتة وهي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له أحوال ثلاث: حال مع الله وهي توحيده ، وحال مع نفسه وهي طلب العصمة من الذنوب وأن يستر الله عليه جنس الآثام حتى لا يقع فيها ، وحال مع غيره وهي طلب ستر الذنوب عليهم بعد وقوعهم فيها أو أعم ويندرج فيها الشفاعة. ثم قال (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) فقيل: التقلب في الأسفار والمثوى في الحضر. وقيل: أراد منتشركم في النهار ومستقركم بالليل. وقيل: الأوّل في الدنيا والثاني في الآخرة. وقيل: لكل متقلب مثوى فيتقلب من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الجنة أو النار. والمقصود بيان كمال علمه بحال الخلائق فعليهم أن لا يهملوا دقائق الطاعة والخشية ويواظبوا على طلب المغفرة خوفا من التقصير في العبودية. ثم ذكر طرفا آخر من نصائح أهل النفاق ومن ينخرط في سلكهم من ضعفة الإسلام ، وذلك أنهم كانوا يدّعون الحرص على الجهاد ويقولون بألسنتهم (لَوْ لا نُزِّلَتْ) سورة في باب القتال (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) مبينة غير متشابهة لا تحتمل النسخ (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) عن قتادة: كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة وهي أشدّها على المنافقين. قال أهل البرهان: نزل بالتشديد أبلغ من أنزل فخص بهم ليكون أدل على حرصهم فيكون أبلغ في باب التوبيخ. قوله (فَأَوْلى لَهُمْ) كلمة تحذير أي وليك شر فاحذره. هذه عبارة كثير من المفسرين. وقال المبرد: يقال للإنسان إذا كاد يعطب ثم يفلت: أولى لك. أي قاربت العطب ثم نجوت. وهو في الفرقان على معنى التحذير. وقال جار الله: هو وعيد معناه فويل لهم والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. وقيل: أراد طاعة وقول معروف أولى من الجزع عند الجهاد فلا يكون للوعيد ، وعلى هذا فلا وقف على (لَهُمْ) كما أشير إليه في الوقوف. واعترض عليه بأن الأفصح أن يستعمل وقتئذ بالباء لا مع اللام كما قال (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال: ٧٥] والأصح أنه فعل متعد من الولي وهو القرب أي أولاه الله المكروه فاقتصر لكثرة الاستعمال. ويحتمل أن يكون «فعلى» من آل يؤل أي يؤل أمرك إلى شر فاحذره. ثم حثهم على الامتثال بقوله (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة الله وقول حسن أو ما عرف صحته خير من الجزع عند فرض الجهاد فهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو أمرنا طاعة فيكون خبر مبتدأ محذوف كما مر في سورة النور في قوله (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)

١٣٥

[الآية: ٥٣] ويجوز أن يكون أمرا للمنافقين أي قولوا طاعة وقول معروف. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جدّ وصار معزوما عليه وهو إسناد مجازي لأن العزم لأصحاب أمر القتال. ثم التفت وخاطب كفار قريش بقوله (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) هو من أفعال المقاربة وقد مر وجوه استعمالاته في «البقرة» في قوله (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [الآية: ٢١٦] فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ ومعناه هل يتوقع منكم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم عن الدين أو توليتم أمور الناس (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر ما كنتم عليه في الجاهلية من أنواع الإفساد ، وفي سلوك طريقة الاستخبار المسمى في غير القرآن بتجاهل العارف ، إمالة لهم إلى طريق الإنصاف وحث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال ، فقد كانوا يقولون كيف يأمرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتال والقتال إفناء لذوي أرحامنا وأقاربنا ، فعرض الله سبحانه بأنهم إن ولوا أمور الناس أو أعرضوا عن هذا الدين لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أبواب المفاسد كعادة أهل الجاهلية. ثم صرح بما فعل الله بهم واستقر عليه حالهم فقال (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) بعدهم عن رحمته. ثم بين نتيجة اللعن قائلا (فَأَصَمَّهُمْ) أي عن قبول الحق بعد استماعه وهذا في الدنيا (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي في الآخرة أو عن رؤية الحق والنظر إلى المصنوعات. قال بعض العلماء: إنما لم يقل فأصم آذانهم لأن الأذن عبارة عن الشحمة المعلقة ، والسمع لا يتفاوت بوجودها وعدمها ، ولذلك يسمع مقطوع الأذن. وأما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه ، فالتأكيد هناك إنما يحصل بترك ذكر الأذن وهاهنا بذكر الأبصار والله أعلم. قال جار الله: يجوز أن يريد بالذين آمنوا المؤمنين الخلص الثابتين وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي. فإذا أبطأ عليهم التمسوه ، فإذا نزلت سورة في معنى الجهاد رأيت المنافقين يضجرون منها.

سؤال: لما أثبت لهم الصمم والعمى فكيف وبخهم بقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)؟ وأجيب على مذهب أهل السنة بأن تكليف ما لا يطاق جائز. ويمكن أن يقال: لما أخبر عنهم بما أخبر حكى أنهم بين أمرين: إما أن لا يتدبروا القرآن لأن الله أبعدهم عن الخير ، وإما أن يدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة. قال جار الله: إنما نكرت القلوب لأنه أريد البعض وهو قلوب المنافقين أو أريد على قلوب قاسية مبهم أمرها. وإنما أضيفت الأقفال إلى ضمير القلوب لأنه أريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر والعناد التي استغلقت فلا تنفتح. ثم أخبر عن حال المنافقين أو اليهود الذين غيروا حالهم من بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام أو نعت محمد في التوراة فقال (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا) الآية.

١٣٦

(ذلِكَ) الإملاء أو الإضلال أو الارتداد بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا أي قال اليهود للمنافقين ، أو قال المنافقون ليهود قريظة والنضير ، أو قاله اليهود أو المنافقون للمشركين (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) الذي يهمكم كالتظافر على عداوة محمد والقعود عن الجهاد معه أو في بعض ما تأمرون به ، وهو ما يتعلق بتكذيب محمد لا في إظهار الشرك واتخاذ الأصنام وإنكار المعاد (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) فلذلك أفشى الذي قالوه سرا فيما بينهم وسيجازيهم على حسب ذلك يدل عليه قوله (فَكَيْفَ) يعملون وما حيلتهم حين توفتهم ملائكة الموت (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) التي كانوا يتقون أن يصيبها آفة في القتال ، أو يضربون وجوههم عند الموت وأدبارهم عند السوق إلى النار. وقيل: يضربون وجوههم عند الطلب وأدبارهم حين الهرب (ذلِكَ) الإذلال والإهانة (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) كأنهم ضربوا وجوههم لأنهم أقبلوا على مواجب السخط ، وضربوا أدبارهم لأنهم أعرضوا عما فيه رضا الله. وقد يخص السخط بكتمان نعت الرسول ومعاونة أهل الشرك والرضا بالإيمان به والنصرة للمؤمنين. وإنما قال (ما أَسْخَطَ اللهَ) ولم يقل «ما أرضى الله» لأن رحمته سبقت غضبه ، فالرضا كالأمر الحاصل والإسخاط كالأمر المترتب على شيء. ثم زاد في تعيير المنافقين بقوله (أَمْ حَسِبَ) وهي منقطعة. والضغن إضمار سوء يتربص به إمكان الفرصة. وإخراج الأضغان إبرازها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين كما قال (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لو شئنا أريناك أماراتهم (فَلَعَرَفْتَهُمْ) كررت لام جواب «لو» في المعطوف لأجل المبالغة (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم. عن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب «هذا منافق». ومعنى لحن القول نحوه وأسلوبه وفحواه أي يقولون ما معناه النفاق كقولهم (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) [المنافقون: ٨] (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب: ١٣] أو لتعرفنهم في فحوى كلام الله حيث قال ما يعلم منه حال المنافقين كقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة: ٨] (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) [التوبة: ٧٥] وحقيقة اللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته. وقيل: اللحن أن تميل كلامك إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال:

ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا

واللحن يعرفه ذوو الألباب

ويقال للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال الكلبي: لحن القول كذبه. ولم يتكلم بعد نزولها منافق عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عرفه. وعن ابن عباس هو قولهم

١٣٧

ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيميز خيرها من شرها وإخلاصها من نفاقها (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي لنأمرنكم بما لا يكون متعينا للوقوع بل يحتمل الوقوع واللاوقوع كما يفعل المختبر حتى يظهر المجاهد والصابر من المنافق والمضطرب. (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) التي تحكي عنكم كقولكم (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة: ٨] أو عهودكم كقوله (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) [الأحزاب: ١٥] أو أسراركم أو ما ستفعلونه أو أخباركم الأراجيف كقوله (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) [الأحزاب: ٦٠] عن الفضل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا. ثم أنزل في اليهود من قريظة والنضير أو في رؤساء قريش المطعمين يوم بدر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. وأعمالهم طاعاتهم في زمن اليهودية ، ومكايدهم التي نصبوها في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إطعامهم. ثم أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله بالتوحيد والتصديق مع الإخلاص وأن لا يبطلوا إحسانهم بالمعاصي والرياء وبالمن والأذى. عن أبي العالية قال: كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون إنه لا يضر مع «لا إله إلا الله» ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت الآية ، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وعن قتادة: رضي الله عن عبد لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. ثم أراد أن يبين أن أعمال المكلف إذا بطلت فإن فضل الله باق يغفر له إن شاء ما لم يمت على الكفر فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. قال مقاتل: نزلت في رجل سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن والده وقال: إنه كان محسنا في كفره. وعن الكلبي: نزلت في رؤساء أهل بدر. (فَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا ولا تجبنوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار «أن» بعد الواو في جواب النهي (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الغالبون المستولون عليهم (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالنصرة والكلاءة (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم جزاء أعمالكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو قريب أو سلبت ماله وأصله من الوتر وهو الفرد ، كأنك أفردته من قريبه أو ماله. وفي الحديث «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (١) وهو من فصيح الكلام. ثم زادهم حثا على الجهاد بتحقير الدنيا في أعينهم وبأنه سبحانه إنما يحثهم على الإيمان والجهاد وسائر أبواب التقوى لتعود

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب ١٤ مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٠٠ ، ٢٠١ أبو داود في كتاب الصلاة باب ٥ الترمذي في كتاب المواقيت باب ١٤ النسائي في كتاب الصلاة باب ١٧ ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ٦ الدارمي في كتاب الصلاة باب ٢٧ الموطأ في كتاب الوقوت حديث ٢١ أحمد في مسنده (٢ / ٨ ، ١٣)

١٣٨

فائدتها عليهم كما قال «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم» قوله (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي كل أموالكم ولكنه يقتصر منها على ربع العشر ، أو لا يسألكم أموالكم لنفسه ولكن لتكون زادا لكم في المعاد. وقيل: لا يسألكم أموالكم رسولي لنفسه. وقيل: إنهم لا يملكون شيئا وإن المال مال الله وهو المنعم بإعطائه. والقول هو الأوّل لقوله (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أي يجهد كم يبلغ الغاية فيها من أحفى شاربه استأصله كأنه جعله حافيا مما في ملكه أي عاريا (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ) الإحفاء أو الله تعالى على طريق التسبب (أَضْغانَكُمْ) أي تضطغنون على الرسل وتظهرون كراهة هذا الدين. ثم بين أنه كيف يأمركم بإخراج كل المال وقد دعاكم إلى إنفاق البعض (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) و «ها» للتنبيه وكرر مع أولاء للتوكيد وأنتم أولاء جملة مستقلة أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون. ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا وما وصفنا فقيل (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وهو الزكاة أو الغزو ، فمنكم ناس يبخلون به. وقيل: (هؤُلاءِ) موصول صلته (تُدْعَوْنَ) وهو مذهب الكوفيين وقد سلف في «البقرة» و «آل عمران». ثم قبح أمر البخل بقوله (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي وباله على نفسه أو عن داعى ربه. قال في الكشاف: يقال بخلت عليه وعنه. وفيه نظر لأن البخل عن النفس لا يصح بهذا التفسير. نعم لو قال عن ماله كان تفسيره مطابقا. ثم مدح نفسه بالغنى المطلق وبين بقوله (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أنه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ولكن لفقركم إلى الثواب. ثم هددهم بقوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) وهو معطوف على (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) ومعنى (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يخلق قوما سواكم راغبين فيما ترغبون عنه من الإيمان والتقوى كقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر: ١٦] ومعنى «ثم» التراخي في الرتبة أي لا يكونون أشباهكم في حال توليكم. وقيل: في جميع الأحوال. وعن الكلبي: شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل قوما وهم العرب أهل اليمن أو العجم. قاله الحسن وعكرمة لما روي أو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس والله تعالى أعلم.

١٣٩

(سورة الفتح مدنية حروفها ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون كلماتها خمسمائة وستون آياتها تسع وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى

١٤٠