تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم

سورة هود مكية غير آية قوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ)

وحروفها ٧٦٠٥ وكلامها ١٧١٥ وآياتها ١٢٣

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ

٣

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

القراآت : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) بإظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح (فَإِنِّي أَخافُ) بفتح الياء ، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. (عَنِّي إِنَّهُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابو عمرو.

الوقوف : (الر) ق كوفي (خَبِيرٍ) ه لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله (إِلَّا اللهَ) ط (وَبَشِيرٌ) ه لا للعطف (فَضْلَهُ) ج (كَبِيرٍ) ه (مَرْجِعُكُمْ) ج لاحتمال الحال والاستئناف (قَدِيرٌ) ه (مِنْهُ) ط (ثِيابَهُمْ) لا بناء على أن عامل (حِينَ) قوله : (يَعْلَمُ يُعْلِنُونَ) ج (الصُّدُورِ) ه (وَمُسْتَوْدَعَها) ط (مُبِينٍ) ه (عَمَلاً) ط (مُبِينٌ) ه (ما يَحْبِسُهُ) ط (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (مِنْهُ) ج لحذف جواب (لَئِنْ) أي لييأسن. وقيل : جوابها إنه والأول أوجه (كَفُورٌ) ه (عَنِّي) ط (فَخُورٌ) لا للاستثناء (الصَّالِحاتِ) ط (كَبِيرٌ) ه (مَلَكٌ) ط (نَذِيرٌ) ه (وَكِيلٌ) ه ط «أم» استفهام تقريع (افْتَراهُ) ط (صادِقِينَ) ه (إِلَّا هُوَ) ج ط للاستفهام مع الفاء. (مُسْلِمُونَ) ه (يُبْخَسُونَ) ه (إِلَّا النَّارُ) ز بناء على أن «ليس» بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن «ليس» فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء. (يَعْمَلُونَ) ه (رَحْمَةً) ط (يُؤْمِنُونَ بِهِ) ط (مَوْعِدُهُ) ج لاختلاف الجملتين مع الفاء (لا يُؤْمِنُونَ) ه (كَذِباً) ط (عَلى رَبِّهِمْ) الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الأشهاد أو ابتداء إخبار. (الظَّالِمِينَ) ه لا (عِوَجاً) ط (مِنْ أَوْلِياءَ) م لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء (الْعَذابُ) ط (يُبْصِرُونَ) ه (يَفْتَرُونَ) ه (الْأَخْسَرُونَ) ه (إِلى رَبِّهِمْ) لا لأن ما بعده خبر «إن». (الْجَنَّةِ) ج (خالِدُونَ) ه (وَالسَّمِيعِ) ط (مَثَلاً) ط (تَذَكَّرُونَ) ه.

التفسير : (الر) إن كان اسما للسورة فما بعده خبره ، وإن كان واردا على سبيل

٤

التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله : (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب. والإشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى (أُحْكِمَتْ) نظمت نظما رصينا من غير نقض ونقص ، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيما ، أو منعت من الفساد والبطلان من قولهم : أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع ، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص ، لكل معنى من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولا سورة سورة وآية وآية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد. ومعنى «ثم» التراخي في الحال كقولك : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. و (أُحْكِمَتْ) صفة كتاب. و (مِنْ لَدُنْ) صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله : (حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله : (أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ) على كون القرآن محدثا لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل ، وكذا بقوله : (مِنْ لَدُنْ) لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون «أن» مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل : ثم قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهم لا تعبدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلاما مبتدأ منطقعا عما قبله محكيا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال : ترك عبادة غير الله مثل (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] والضمير في (مِنْهُ) لله عزوجل حالا من (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد ، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون (مِنْهُ) صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه ، ويكون صلة بشير محذوفا أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا) قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب ، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة. وقيل : استغفروا أي توبوا ثم قال : (تُوبُوا) أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل : استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل : الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في

٥

إزالة ما لا ينبغي ، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين : الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].

سؤال : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الزخرف : ٣٣] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن» (١) ، «البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء»؟ (٢) وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان. والجواب الثاني أن الإنسان إذا كان مشغولا بطاعة الله مستغرقا في نور معرفته وعبادته كان مبتهجا في نفسه مسرورا في ذاته ، هينا عليه ما فاته من اللذات العاجلة ، قانعا بما يصيبه من الخيرات الزائلة. الثاني قوله : (وَيُؤْتِ) أي في الآخرة (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلا تشريف ويجوز أن يعود الضمير في (فَضْلَهُ) إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضا (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الدهر : ٢٧]. ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه ، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة والاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزنا. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطنا كالتولي عنها ظاهرا فقال : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ) يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحا.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث : ١. الترمذي في كتاب الزهد باب : ١٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب : ٣. أحمد في مسنده (٢ / ١٩٧ ، ٣٢٣).

(٢) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب : ٥٧. البخاري في كتاب المرضى باب : ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب : ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب : ٦٧. أحمد في مسنده (١ / ١٧٢ / ١٨٠).

٦

قال المفسرون : وهاهنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي من الله. ثم كرر كلمة (أَلا) تنبيها على وقت استخفائهم وهو (حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكلبي : ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل : إنه حقيقة ، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يتلو من القرآن ، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) تنبيها على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر. ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بكونه كافلا لأرزاق جميع الحيوانات ضامنا لمصالحها ومهامها فضلا وامتنانا وكرما وإحسانا فقال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) الآية. والمستقر مكانها من الأرض ، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلا أو نهارا ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام. واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنسانا لا يأكل من الحلال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقا. ثم ختم الآية بقوله : (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل واحد من الدواب. ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت. في علم الله أو في اللوح المحفوظ. وقد ذكرنا فائدته في قوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] يروى أن موسى عليه‌السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية ، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة ، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قال كعب الأحبار : خلق الله ياقوتة خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصم : هذا كقولك : لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقا بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضا عرشه على الماء. وقال في الكشاف : المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض ،

٧

وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبروا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثا إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم : العرش البناء أي بناؤه للسموات كان على الماء. وقال حكماء الإسلام : المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) فالمعتزلة قالوا : اللام للتعليل ، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكلفين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا : إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلا لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك : انظر أيهم أحسن وجها واسمع أيهم أحسن كلاما. قال في الكشاف : الذين هم أحسن عملا هم المتقون ، وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وراءهم من الفساق والكفار تشريفا لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين. ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ) الآية. والإشارة في قوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ) إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث. وقال القفال : معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا واجتذابهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم. ومن قرأ ساحر فالإشارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم بين أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ) الآية. والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد والمراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود. وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين. فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس. وقال في الكشاف : أي جماعة من الأوقات. والعذاب عذاب الآخرة. وقيل : عذاب يوم بدر. عن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين. ومعنى (ما يَحْبِسُهُ) أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم. واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع. ثم قال : (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ

٨

يَسْتَهْزِؤُنَ) أراد يستعجلون ولكنه وضع (يَسْتَهْزِؤُنَ) موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء. وإنما قال : (وَحاقَ) بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع. ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) الآية. واختلف المفسرون فقيل : الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات. وقيل : المراد الكافر ، والاستثناء منقطع واللام للعهد. وقد مر ذكر الكافر ، ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر ، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية ، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد ، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الله بل يكفره ، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذهوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد. وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير. أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم ، وفيه دليل على أن الإنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عليه ، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين. والرحمة النعمة من صحة أو أمن أو جدة ، ونزعها سلبها. واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة ، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة كذلك. قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء. والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ) قال ابن عباس : إن رؤساء مكة قالوا : إن كنت رسولا فاجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له : ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال الحسن : طلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك قوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) [طه : ١٥] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إليه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة ، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب عدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها ، أو لعله كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين محذورين : أحدهما ترك أداء شيء من الوحي ، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء ، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما ، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره : لعلك تفعل كذا أي لا

٩

تفعل. وإنما قال : (وَضائِقٌ) ولم يقل وضيق (بِهِ صَدْرُكَ) دلالة على أنه ضيق حادث لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومعنى (أَنْ يَقُولُوا) مخافة أن يقولوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ) أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه. ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها الى إنزال المقترحات ، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء ، ومن كمال قدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ) الآية. وقد مر مثله في سورة يونس. عن ابن عباس : السور العشر هي من أول القرآن إلى هاهنا. واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة عليها مدنية ، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد. فالأولى أن يقال : إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه. تحداهم أوّلا بمجموع القرآن في قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] الآية. وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود ، ثم بسورة في يونس وفي البقرة ، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه : اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال : اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر : قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله ، ثم إذا أراد غاية المبالغة قال : قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال الانفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان (لَكُمْ) أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم ، أو الجمع لتعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة والغائبة. ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة. ثم ختم الآية بقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وازددتم بصيرة وطمأنينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة. وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) لمن في (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) والخطاب في (لَكُمْ) للمشركين ، وكذا في قوله : (فَاعْلَمُوا) وفي (أَنْتُمْ) والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب. ثم رغبهم في أصل الإسلام وهددهم على تركه بقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ) بعد لزوم الحجة (مُسْلِمُونَ) ثم أوعد من كانت

١٠

همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلا عن الدين جهلا أو عنادا فقال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) الآية. عن أنس أنهم اليهود والنصارى. وقيل : المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسهم لهم فيها. وقال الأصم : هم منكر والبعث. وقال آخرون : هي عامة في الكافر والمسلم المرائي. وقال القاضي : المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والمنافع. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له : ما عملت فيه؟ فيقول : يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار. فيقول الله : كذبت أردت أن يقال فلان قارئ. وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه؟ فيقول : وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله : كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول : قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء. قال أبو هريرة : ثم ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركبتي وقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة» (١). وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال : صدق الله ورسوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) الآيتان. ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتا بينا فقال : (أَفَمَنْ كانَ) والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عند الله ولا يقاربونهم؟ نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول : الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولا ثم الجهال. ويمكن أن يقال : التقدير أفمن كان (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٣٥] (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) [الزمر : ٩] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة : الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو؟ الثاني ما المراد بالبينة؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو؟ الرابع الشاهد من هو؟ وللمفسرين فيها أقوال : أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق ، والذي هو على البينة مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٥٢. الترمذي في كتاب الزهد باب : ٤٨. النسائي في كتاب الجهاد باب : ٢٢. أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٢).

١١

بتأويل البيان والبرهان ، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها (إِماماً) أو أعني إماما كتابا مؤتما به في الدين قدوة فيه (وَرَحْمَةً) ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. والحاصل أن المعارف اليقينية المكتسبة إما أن يكون طريق اكتسابها بالحجة والبرهان ، وإما أن يكون بالوحي والإلهام ، وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق. ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق ، ثم إنه حصل في تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعا : البينة. وهي الدلائل العقلية اليقينية ، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي ، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به ، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب. وقيل : أفمن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبينة القرآن ، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه ، أو شاهد هو بعض محمد يعني علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، أو يتلوه أي يعقب ذلك البرهان شاهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو صورته ومخايله ، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولا كاهن. وقيل : الكائن على البينة هم المؤمنون ، والبينة القرآن ، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجودا قبله ، أو ذلك الشاهد كون القرآن واقعا على وجه يعرف المتأمل فيه إعجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم. ثم مدح الكائن على البينة بقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن. ثم أوعد غيرهم بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) في شك (مِنْهُ) من القرآن أو من الموعد ، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا) ومن إنكارهم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ). ثم قال : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ) لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام ، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف. أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد. ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب. والسؤال أو المراد عرضهم على من

١٢

يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين ، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب. قال مجاهد : الأشهاد الملائكة الحفظة. وقال قتادة : هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس. وقيل : هم الأنبياء لقوله : (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي : وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في «الأعراف». (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) تنصرهم وتمنعهم من عقابه. جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة. وقيل : هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) من قبل الكفر والصد أي الضلال والإضلال. (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب وعمى البصائر. ثم إن الأشاعرة قالوا : إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق ، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال : إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ) الآية. وفي الآخرة كما قال : (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم : ٤٢]. وقالت المعتزلة : المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل : هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره. والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال : الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء. ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية؟ وعلى هذا يكون قوله : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) اعتراضا بوعيد. واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة. الأولى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) الثانية (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ) أي في موقف الذل والهوان. الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) الرابعة اللعنة عليهم. الخامسة الصد عن سبيل الله. السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً). السابعة كونهم كافرين بالآخرة. الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا). التاسعة (وَما كانَ لَهُمْ

١٣

مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ). العاشرة مضاعفة العذاب لهم. الحادية عشرة والثانية عشرة (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ) الآية. الثالثة عشرة (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) وقد مر في «الأنعام». الرابعة عشرة (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وقد سبق في «يونس». الخامسة عشرة (لا جَرَمَ) قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا. وقال النحويون : «لا» حرف نفي وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) وقال الزجاج «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و «جرم» معناه كسب ، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين. قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأرض المطمئنة ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله. وقيل : المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده. وقيل : المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال. ثم ضرب للفريقين مثلا وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع ، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع. ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة ، وأما الفريق المؤمن فقيل : المراد به قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) وقيل : المذكورون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي تشبيها. وفي قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه.

التأويل : (الر) الألف إشارة إلى الله ، واللام الى جبرائيل ، والراء إلى الرسول. يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الكهف : ٦٥] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) مما ضاع من عمركم في غير طلب الله (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار. (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) هو الترقي في المقامات العلية (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول ، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات. والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله. (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو عذاب الانقطاع عن

١٤

الله الكبير (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ) ثياب الجسمية على وجه الروح كان (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب (وَما يُعْلِنُونَ) من ثني الصدور (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائما لمزاجه. فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقا لمزاج كل منها ، ثم يهديها إلى ما هو أوفق لها (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها (وَمُسْتَوْدَعَها) الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل. (لِيَبْلُوَكُمْ) فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقياء. (وَلَئِنْ قُلْتَ) للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي كلام مموه لا أصل له. (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ) عذاب البعد (إِلى أُمَّةٍ) إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ

١٥

قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

القراآت : (إِنِّي لَكُمْ) بكسر الهمزة : نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. والآخرون بفتحها (بادِيَ) بالهمزة : أبو عمرو ونصير. (الرَّأْيِ) بالياء : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف (فَعُمِّيَتْ) مجهولا مشددا : حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون بضدهما (أَنُلْزِمُكُمُوها) باختلاس ضمة الميم : عباس (أَجرِيَ إِلَّا) بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص (وَلكِنِّي أَراكُمْ) بالفتح حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (نُصْحِي إِنْ) أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (بِأَعْيُنِنا) مدغما. حيث كان : عباس (مِنْ كُلٍ) بالتنوين حيث كان : حفص والمفضل (مَجْراها) بفتح الميم بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وحفص (مَجْراها) بالضم وبالإمالة : أبو عمرو. والباقون بالضم مفخما. (يا بُنَيَ) بفتح الياء : عاصم (ارْكَبْ مَعَنا) مظهرا : عاصم وحمزة عمل على أنه فعل غير بالنصب : علي وسهل ويعقوب. الآخرون (عَمَلٌ) غير بالرفع فيهما (تَسْئَلْنِ) بالنون المشددة المكسورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في

١٦

الحالين : ابن عامر وقالون : بإثبات الياء في الوصل : أبو جعفر ونافع غير قالون بفتح النون المشددة : ابن كثير (تَسْئَلْنِي) بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير ياء في الحالين (إِنِّي أَعِظُكَ إِنِّي أَعُوذُ) بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو.

الوقوف : (مُبِينٌ) ه لا (إِلَّا اللهَ) ط (أَلِيمٍ) ه (الرَّأْيِ) ج (كاذِبِينَ) ه (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) ط (كارِهُونَ) ه (مالاً) ط (آمَنُوا) ط (تَجْهَلُونَ) ه (طَرَدْتُهُمْ) ط (تَذَكَّرُونَ) ٥ (خَيْراً) ط (أَنْفُسِهِمْ) ج (الظَّالِمِينَ) ه (الصَّادِقِينَ) ه (بِمُعْجِزِينَ) ه (أَنْ يُغْوِيَكُمْ) ط (تُرْجَعُونَ) ه ط (افْتَراهُ) ط (تُجْرِمُونَ) ه (يَفْعَلُونَ) ه ج للآية والعطف (ظَلَمُوا) ج لاحتمال التعليل. (مُغْرَقُونَ) ه (سَخِرُوا مِنْهُ) ه (تَسْخَرُونَ) ه ط (تَعْلَمُونَ) ه لا لأن ما بعده مفعول (مُقِيمٌ) ه (التَّنُّورُ) ه لا لأن ما بعده جواب «إذا» (وَمَنْ آمَنَ) ط (قَلِيلٌ) ه ط (وَمُرْساها) ط (رَحِيمٌ) ه (الْكافِرِينَ) ه (مِنَ الْماءِ) ط ، (رَحِمَ) ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل. (الْمُغْرَقِينَ) ه (الظَّالِمِينَ) ه (الْحاكِمِينَ) ه (مِنْ أَهْلِكَ) ج (عِلْمٌ) ط (الْجاهِلِينَ) ه (عِلْمٌ) ط (الْخاسِرِينَ) ه (مَعَكَ) ط (أَلِيمٌ) ه (إِلَيْكَ) ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف (هذا) ط وعلى قوله : (فَاصْبِرْ) أحسن للابتداء بـ «أن» (لِلْمُتَّقِينَ) ه.

التفسير : لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى (إِنِّي لَكُمْ) أي متلبسا بهذا الكلام وهو قوله : (إِنِّي لَكُمْ) فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. و (أَنْ لا تَعْبُدُوا) بدل من (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) أي أرسلناه بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ) أو يكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازا. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات : الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا : لو كنت صادقا لا تبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل : جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى (بادِيَ الرَّأْيِ) أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية ، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر ، ومنه البادية للبرية لظهورها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من

١٧

قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه ، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق (بادِيَ الرَّأْيِ) بقوله : (أَراذِلُنا) أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عيانا ، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ إلا الذين هم أراذلنا رأي العين وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه ، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعنا في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته ، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) برهان (مِنْ رَبِّي وَآتانِي) بإيتاء تلك البينة (رَحْمَةً) وعلى هذا البينة هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس (فَعُمِّيَتْ) خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازا باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيرا اهتدوا وإن كان أعمى بقوا خابطين متحيرين. ثم قال : (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي أنكرهكم على قبول البينة (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنيا أو فقيرا (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم ، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم ، أو المراد أنهم معتقدون لقاء ربهم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) لقاء ربكم وأنهم خير منكم ، أو قوما تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل.

ثم أكد عدم طردهم بقوله : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) من يمنعني من عقابه (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال : إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نهي عنه بقوله : (وَلا

١٨

تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طردا مطلقا وإنما عين لأجلهم أوقاتا مخصوصة ، ولأشراف قريش أوقاتا أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى ، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالا فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلا عليهم من هذه الجهة. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في «الأنعام» سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى (تَزْدَرِي) تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق (إِنِّي إِذاً) أي إن قلت شيئا من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) قال أهل المعاني : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقولك : جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) كقول القائل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز. ولهذا قال الفقهاء : المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر. وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه ، ولعل نوحا إنما قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة ، ولو تشبت الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك ، أو يراد به الخيبة كقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] أي خيبة من خير الآخرة ، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مرارا. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله : (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي عقاب إثمي وهو الافتراء. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي من

١٩

إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وهاهنا إضمار كأنه قيل : لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقعت في أثناء قصة نوح.

قوله سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ) إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله : (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) فإن «قد» للتوقع. وقوله : (فَلا تَبْتَئِسْ) تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة : إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أوفي أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) إلى قوله : (إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز ، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك ، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل : أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) في موضع الحال أي متلبسا بذلك. والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين : أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله : (بِأَعْيُنِنا) وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالما بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل : المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي في شأنهم. وقيل : علل عدم الخطاب بقوله : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة. وقيل : لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) والحال أنه (كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) يحتمل أن يكون هذا جوابا لـ «كلما» وقوله : (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا) استئناف

٢٠