تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

(سورة ألم نشرح مكية حروفها مائة وثلاثة كلمها تسع وعشرون آيها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

الوقوف (صَدْرَكَ) ه لا (وِزْرَكَ) ه لا (ظَهْرَكَ) ه لا (ذِكْرَكَ) ه ط (يُسْراً) ه ط (فَانْصَبْ) ه لا (فَارْغَبْ) ه

التفسير: روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان: هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة فكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة من غير فصل بالبسملة. والذي دعاهما إلى ذلك ما رأيا من المناسبة في معرض تعديد النعم بين قوله (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) [الضحى: ٦] وبين قوله (أَلَمْ نَشْرَحْ) وفيه ضعف ، لأن القرآن كله في حكم وكلام واحد فلو كان هذا القدر يوجب طرح البسملة من البين لزم ذلك في كل السور أو في أكثرها ، على أن الاستفهام الأول وارد بصيغة الغيبة ، والثاني بصيغة التكلم ، وهذا مما يوجب المباينة لا المناسبة. قال جار الله: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك ولذلك عطف عليه (وَضَعْنا) اعتبارا للمعنى. قلت: اعتبار المعنى من جانب (وَضَعْنا) أصوب وأنسب ليكون الكل داخلا في الاستفهام الإنكاري كأنه قيل: ألم نشرح ولم نضع ولم نرفع ومثله ما مر في والضحى ألم يجدك يتيما أو لم يجدك ضالا. ونقول: معنى (أَلَمْ نَشْرَحْ) أما شرحنا فيصح العطف عليه بهذا الاعتبار ليشمل الاستفهام مجموع الأفعال وهكذا في «والضحى». وفائدة العدول من المتكلم الواحد إلى الجمع إما تعظيم حال الشرح وإما الإعلام بتوسط الملك في ذلك الفعل كما روي أن جبرائيل أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علما وإيمانا ووضعه في صدره. وطعن القاضي فيه من جهة أن هذه الواقعة من قبيل الإعجاز فكيف

٥٢١

يمكن تصديقها قبل النبوة؟ ومن جهة أن الأمور المحسوسة لا يقاس بها الأمور المعنوية. وأجيب عن الأول بأن الإرهاص جائز عندنا ، وعن الثاني بأنه يفعل ما يشاء ، ولا يبعد أنه تعالى جعل ذلك الغسل والتنقية علامة تعرف الملائكة بها عصمته عن الخطايا. والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي وهو إما نقيض ضيق العطن بحيث لا يتأذى من كل مكروه وإيحاش يلحقه من كفار قومه فيتسع لأعباء الرسالة كلها ولا يتضجر من علائق الدنيا بأسرها ، وإما خلاف الضلال والعمه حتى لا يرى إلا الحق ولا ينطق إلا بالحق ولا يفعل إلا للحق. قال المحققون: ليس للشيطان إلى القلب سبيل ولهذا لم يقل «ألم نشرح قلبك» وإنما يجيء الشيطان إلى الصدر الذي هو حصن القلب فيبث فيه هموم الدنيا والحرص على الزخارف فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإيمان حلاوة ولا على الإسلام طلاوة ، فإذا طرد العدو بذكر الله والإعراض عمّا لا يعينه حصل الأمن وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية. وفوائد إقحام لك دون أن يقتصر على قوله (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ما مر في قوله (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه: ٢٥] من الإجمال ثم التفصيل ، ومن إرادة الاختصاص أو كونه أهم. قال أهل المعاني ومنهم جار الله: الوزر الذي أنقض ظهره أي أثقله مثل لما صدر عنه من بعض الصغائر قبل النبوة ولما جهله من الأحكام والشرائع ، أو لما كان تهالك عليه من إسلام أولي العناد فيغتم بسبب ذلك ، ووضعه عنه أن غفر له أو أنزل عليه الكتاب. أو قيل له: إن عليك إلا البلاغ لست عليهم بمصيطر. والأصل في الإنقاض أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي كصوت المحامل والرحال وكل ما فيه انتقاض وانفكاك. وقيل: المراد بالوزر أعباء الرسالة وبوضعه تسهيل الله تعالى ذلك عليه ومن جملتها أنه كان يفزع في الأوائل حتى كاد يرمي بنفسه من الجبل فقوي وألف بالوحي حتى كاد يرمي بنفسه إذا فتر الوحي أو تأخر. وقيل: المراد إزالة الحيرة التي كانت له قبل البعث ، كان يريد أن يعبد ربه وما كانت نفسه تسكن إلى الشرائع المتقدمة لوقوع التحريف فيها. ورفع ذكره أن قرن اسمه باسم الله في الشهادة والأذان والتشهد والخطب. وجاء ذكره في القرآن مقرونا بذكر الله في غير موضع ، وعلى سبيل التعظيم مثل النبي والرسول. ومن رفع الذكر أن جاء انعته في الكتب السماوية كلها وأخذ على أمم الأنبياء كلهم أن يؤمنوا به. ثم إنهم كانوا يعيرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر فقيل له: لا يحزنك قولهم (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي بعد العسر الذي أنتم فيه يسر وأي يسر جعل الزمان القريب كالمتصل والمقارن زيادة في التسلية وقوة الرجاء. روى مقاتل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين. فقال الفراء والزجاج: العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود

٥٢٢

سابق فينصرف إلى الحقيقة فيكون المراد بالعسر في الموضعين شيئا واحدا ، وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير فكان أحدهما غير الآخر وزيفه الجرجاني بأنه من المعلوم أن القائل إذا قال: إنّ مع الفارس سيفا إن مع الفارس سيفا. لم يلزم منه أن يكون هناك فارس واحد معه سيفان. وأقول: إذا كان المراد بالعسر الجنس لا العهد لزم اتحاد العسر في الصورتين. وأما اليسر فمنكر فإن حمل الكلام الثاني على التكرار مثل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن: ١٣] ونحوه كان اليسران واحدا. وإن حمل على أنه جملة مستأنفة لزم أن يكون اليسر الثاني غير الأول وإلا كان تكرارا والمفروض خلافه. وإن كان المراد العسر المعهود فإن كان المعهود واحدا وكان الثاني تكرارا كان اليسران أيضا واحدا ، وإن كان مستأنفا كانا اثنين وإلا لزم خلاف المفروض ، وإن كان المعهود اثنين فالظاهر اختلاف اليسرين وإلا لزم أو حسن أن يعاد اليسر الثاني معرفا بلام العهد فهو واحد والكلام الثاني تكرير للأول لتقريره في النفوس إلا أنه يحسن أن يجعل اليسر فيه مغايرا للأول لعدم لام العهد. ولعل هذا معنى الحديث إن ثبت والله أعلم ورسوله. وإذا عرفت هذه الاحتمالات فإن لم يثبت صحة الحديث أمكن حمل الآية على جميعها ، وإن ثبت صحته وجب حملها على وجه يلزم منه اتحاد العسر واختلاف اليسر. وحينئذ يكون فيه قوة الرجاء ومزيد الاستظهار برحمة الكريم. وأما اليسران على تقدير اختلافهما فقيل: يسر الدنيا ويسر الآخرة أي إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر العاجل إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر الآجل. وقيل: ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم في أيام الخلفاء الراشدين ، والأظهر الجنس ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر. وحين عدد عليه النعم السابقة ووعده النعم اللاحقة من اليسر والظفر رتب عليه (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال قتادة والضحاك ومقاتل: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب أي اتعب للدعاء وأرغب إلى ربك في إنجاز المأمول لا إلى غير يعطك خير الدارين. وعن الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وعن مجاهد: إذا فرغت من أمور دنياك لما وعدناك من اليسر والظفر فانصب للعبادة والدعوة. وعن شريح أنه مر برجلين يتصارعان فقال: ما بهذا أمر الفارغ وقعود الرجل فارغا من غير شغل قريب من العبث والاشتغال بما لا يعني ، فعلى العاقل أن لا يضيع أوقاته في الكسل والدعة ويقبل بجميع قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين والله تعالى عالم بحقائقه.

٥٢٣

(سورة التين وهي مكية حروفها مائة وثلاثة كلمها تسع وعشرون آيها ثمان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

الوقوف: (وَالزَّيْتُونِ) ه لا (سِينِينَ) ه لا (الْأَمِينِ) ه لا (تَقْوِيمٍ) ه ز للعطف (سافِلِينَ) ه ط بناء على أن المراد بالرد هو الخذلان إلى الكفر ، ولو حمل إلى الرد إلى أرذل العمر لأن الاستثناء منقطع جاز الوقف عند قوم (مَمْنُونٍ) ه ط (بِالدِّينِ) ه ط (الْحاكِمِينَ) ه.

التفسير: إن التين والزيتون كيف أقسم الله بهما من بين سائر المخلوقات الشريفة؟ للمفسرين فيه قولان: فعن ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذان من خواص التين أنه غذاء فاكهة ودواء لأنه طعام لطيف سريع الهضم ما بين الطبع ، ويخرج بطريق الرشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال. وروي أنه أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس.» وعن علي بن موسى الرضا رضي‌الله‌عنه: التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج. ومن خواصه أن ظاهره كباطنه ماله قشر ولا نواة له وأنها شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى تأتي بالثمرة ثم بالنور خلاف المشمس واللوز ونحوهما ، وسائر الأشجار كأرباب المعاملات في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (١)

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث ٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٦. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٣٩ ، ٤٠. أحمد في مسنده (٢ / ٩٤).

٥٢٤

لأنها تلبس نفسها أولا بورد أو ورق ثم تظهر ثمرتها ، وشجرة التين كالمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبدأ بغير ثم يبدأ بنفسه كما قال (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر: ٩] وإنها تعود ثمرتها في العام مرة أخرى ، وإنها في المنام رجل خير وغنى فمن رآها نال خيرا وسعة ، ومن أكلها رزقه الله أولادا. ويروى أن آدم عليه‌السلام تستر بورقها حين نزع عنه ثيابه فلما نزل وكان مستورا بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها الله الجمال والملاحة صورة ، والمسك وطيبه معنى ، وحين تفرقت الظباء ورأى غيرهن منها ما أعجبها جاءت من الغد على أثرهن فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال والملاحة دون طيب المسك ، وذلك أن الطائفة الأولى جاءت إلى آدم لا لأجل الطمع ، والطائفة الثانية جاءت للطمع سرا وإلى آدم ظاهرا ، فلا جرم غير ظاهرها دون باطنها. وأما الزيتون فإنه من الشجرة المباركة وهو فاكهة من وجه ودواء من وجه كما تقدم وصفه في سورة النّور. قال مريض لابن سيرين: رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللاءين تشفى فقال: كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية. وقيل: من أخذ ورق الزيتون في النوم استمسك بالعروة الوثقى. فهذه المصالح والمنافع هي التي جوزت الإقسام بهما. القول الثاني: إنه ليس المراد بهما هذه الثمرة ثم اختلفوا. فعن ابن عباس في رواية: هما جبلان في الأرض المقدسة يقال لهما طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا التين والزيتون. وهما منشأ عيسى ومبعثه ومبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل ، كما أن طور سينين مبعث موسى ، والبلد الأمين مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق ، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقيل: التين مسجد الكهف ، والزيتون مسجد إيليا. وعن ابن عباس أيضا: التين مسجد نوح على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، وعن كعب: أن التين دمشق ، والزيتون بيت المقدس. وعن شهر بن حوشب: التين الكوفة والزيتون الشام. وعن الربيع: هما جبلان من بين همذان وحلوان ، وأما طور سينين فالطور جبل موسى عليه‌السلام وسينين الحسن بلغة الحبشة. وقال مجاهد: المبارك. وقال الكلبي ومقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط. قال الواحدي: الأولى أن يكون سينين اسما للمكان الذي فيه الطور سمي بذلك لحسنه أو لبركته ، ثم أضيف إليه الطور للبيان. لإضافته إليه وسميت مكة أمينا لأنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين وما يؤتمن عليه ، ويجوز أن يكون «فعيلا» بمعنى «مفعولا» لأنه مأمون الغوائل كما جعله آمنا لكونه ذا أمن أقول: من المعلوم أن الإقسام ينبغي في باب البلاغة أن يكون مناسبا وكذا القسم والمقسم عليه ، وكان الله سبحانه أقسم بالمراتب الأربع التي للنفس الإنسانية من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد إن الإنسان خلق في أحسن تقويم وهو كونه مستعدا

٥٢٥

للوصول إلى المرتبة الرابعة في العلم والعمل ، ثم إذا لم يجتهد في الوصول إلى كماله اللائق به فكأنه رد إلى أسفل سافلين الطبيعة ، وإنما عبر عن العقل الهيولاني بالتين لضعف شجرته ، ولأنه زمان الصبا واللهو والالتذاذ والاشتغال بالأمور التي لا طائل تحتها ولا درك فيها بخلاف زمان العقل بالملكة لقوة المعقولات فيها لكونه بحيث يطلب للأشياء حقائق ومعاني ، وهي بمنزلة الزيت ، وفي زمان العقل بالفعل يكون قد ازدادت المعاني رسوخا حتى صارت كالجبل المبارك ، وفي آخر المراتب اجتمعت عنده صور الحقائق دفعة بمنزلة المدينة الفاضلة ، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة مفردة فلنقتصر في التفسير على هذا القدر من التأويل. ثم إن أكثر المفسرين قالوا: معنى (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في أحسن تعديل شكلا وانتصابا. وقال الأصم: في أكمل عقل وفهم وبيان. والأولون قالوا: لو حلف إنسان أن زوجته أحسن من القمر لم يحنث لأنه تعالى أعلم بخلقه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وكان بعض الصالحين يقول: إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب. ومعنى (أَسْفَلَ سافِلِينَ) قال ابن عباس: أرذل العمر ومثله قول ابن قتيبة: السافلون هم الضعفاء والزمنى ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلا. قال الفراء: لو قيل «أسفل سافل» حملا على لفظ الإنسان كان صوابا أيضا. وقال مجاهد والحسن: هو النار ومثله ما قال علي رضي‌الله‌عنه: أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ويبدأ بالأسفل فيملأ. وعلى هذا القول تقدير الكلام رددناه إلى أسفل سافلين أي في أسفل سافلين (إِلَّا الَّذِينَ) الآية. أي الذين استكملوا بحسب القوتين النظرية والعلمية فلهم ثواب دائم غير منقطع. إما بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان مع ضعف البنية وفتور الآلات. أو بواسطة حصول الكمالات لهم. فهذا الاستثناء على القول الأول منقطع بمعنى لكن. وعلى الثاني متصل. ولا يبعد أن يكون أيضا متصلا والمعنى. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال الاستطاعة فلهم ثواب جزيل في حالة الشيخوخة والضعف وإن لم يقدروا على مثل تلك الأعمال. فكأنهم لم يردوا إلى أسفل من سفل. ثم خاطب الإنسان بقوله (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) يعني فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيب الجزاء ، لأن كل مكذب بالحق فهو كاذب ، ولا ريب أن خلق الإنسان من نطفة إلى أن يصير كاملا في الخلق والخلق ، ثم تنكيسه إلى حال تخاذل القوى وتقويس الظهر وابيضاض الشعر وتناثره أوضح دليل على قدرة الصانع وحده ، ومن قدر على هذا كله لم يعجز عن إعادة مخلوقه بعد تفرق أجزائه. هذا بالنظر إلى القدرة ، وأما

٥٢٦

بالنظر إلى الحكمة والعدالة فإيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء والفرق بين الصنفين واجب. وأشار إلى هذا الدليل بقوله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فأمر المعاد بالنظر إلى القدرة ممكن الوقوع وبالنظر إلى الحكمة والعدل واجب الوقوع. وقال الفراء: الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى: فمن يكذبك بالجزاء أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل؟ قالت المعتزلة: قوله (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) دليل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يفعل أفعال العباد في ما فيها من السفه والظلم ، ولو خلق ذلك لكان هو أولى بأن يدعى سفيها وظالما. وأجيب بأن خلق السفه لا يلزم منه الاتصاف بالسفه كما أن إيجاد الحركة لا يلزم منه الاتصاف بالحركة. ويمكن أن يقال: نحن لا ندعي لزوم الاتصاف به ولكن ندعي أن خلق السفه نفسه نوع سفه. والجواب الصحيح بعد المعارضة بالعلم والداعي أن يعارض بقوله (ثُمَّ رَدَدْناهُ) فإنه دليل على أنه أضاف الشيء إلى ذاته. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا قرأ السورة قال: بلى وأنا بذلك من الشاهدين.

٥٢٧

(سورة العلق مكية

حروفها مائتان وثمانون

كلمها اثنتان وسبعون

آياتها تسع عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

القراآت: (اقْرَأْ) بالألف: الأوقية والأعشى وحمزة في الوقف (رَآهُ) ممالة مكسورة الراء: حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس والخزاز وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش بفتح الراء وكسر الهمزة. روى ابن مجاهد وأبو عون غير قنبل مفتوحة الراء مقصورة على وزن «رعه».

الوقوف: (الَّذِي خَلَقَ) ه ج لاتباع صلة بلا عطف فإن الجملة الثانية مفسرة للأولى المبهمة ، ولو جعل المعنى الذي خلق كل شيء ثم خص خلق الإنسان ازداد الوقف حسنا (عَلَقٍ) ه ج لأن (اقْرَأْ) يصلح مستأنفا وتكرارا للأول (الْأَكْرَمُ) ه لا (بِالْقَلَمِ) ه لا (يَعْلَمْ) ه لا (لَيَطْغى) ه لا (اسْتَغْنى) ه ط (الرُّجْعى) ه ط (يَنْهى) ه لا (صَلَّى) ه ط (الْهُدى) ه لا (بِالتَّقْوى) ه ط (وَتَوَلَّى) ه ط (يَرى) ه لا (خاطِئَةٍ) ه لا (نادِيَهُ) ه لا (الزَّبانِيَةَ) ه لا (كَلَّا) ط على الردع (وَاقْتَرِبْ) ه.

التفسير: وقد مر في أوائل الكتاب أن أكثر المفسرين زعموا أن هذه السورة أول ما نزل من السماء. وفي الباء وجهان: الأول إنها زائدة وزيف بأنه خلاف الأصل وبأن معناه حينئذ: اذكر اسم ربك فلا يحسن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول: ما أنا بقارئ كما جاء في الحديث ، وبأنه كتحصيل الحاصل لأنه لم يكن له شغل سوى ذكر الله. والثاني وهو الأصح أنه نصب على

٥٢٨

الحال أي اقرأ القرآن مفتتحا أو متلبسا باسم ربك وهو لغو. والباء للآلة وقد مر وجهه في تفسير البسملة. وكذا وجه من جعله متعلقا بـ (اقْرَأْ) الثانية أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك. وقيل: هي بمعنى اللام أي اجعل هذا الفعل واقعا لله كقولك «بنيت الدار باسم الأمير». «وصنفت الكتاب باسم الوزير». فالعبادة صارت لله تعالى لم يكن للشيطان فيها نصيب. وفي تخصيص الرب بالذكر في هذا الموضع معنيان: أحدهما ربيتك فلزمك القضاء والشكر فلا تتكاسل. والثاني أن الشروع ملزم للإتمام وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك بعد هذا فلا تفزع. ثم دل على كونه ربا بقوله (الَّذِي خَلَقَ) أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات ، ثم خص الإنسان بالذكر لشرفه أو لعجيب فطرته ، أو لأن سوق الآية لأجله. ويجوز أن يكون الأول متروك المفعول إشارة إلى أنه لا خالق سواه ولا يتصف بهذا الاسم غيره ، وحينئذ يستدل به على إبطال مذهب المعتزلة في أن العبد خالق أفعال نفسه. قال أهل العلم: إن الحكيم إذا أراد أمر استعمل فيه التدريج كما يحكى أن زفر حين بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه لم يلتفتوا إلى قوله وأبوا عن قبوله ، فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال: إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل المتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك هاهنا قول آخر واذكر قولي وحجتي ، فإذا تمكن ذلك في قلبهم قل هذا قول أبي حنيفة فإنهم يقبلونه حينئذ. والمقصود من الحكاية أن الله تعالى كان يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء عبدة الأوثان والفطام من المألوف شديد ، فلو خالفتهم أول مرة وصرحت عن محض الحق أبوا أن يقبلوه فاذكر لهم أولا أنّهم المخلوقون من العلقة فلا يمكنهم الإنكار ، ثم قل ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه ، فإذا تأملوا أنصفوا أن من لم يخلق لم يكن إلها ، والعلق جمع العلقة وإنما لم يقل علقة لأن الإنسان في معنى الجمع وفي تكرار اقرأ وجوه: اقرأ لنفسك ثم اقرأ للتبليغ ، أو اقرأ في خارج صلاتك ، أو الأول للتعلم والثاني للتعليم وهذا قريب من الأول. والأوجه أن يراد بالأول أوجد القراءة ويكون قوله (بِاسْمِ رَبِّكَ) متعلقا بـ (اقْرَأْ) الثاني كما مر في تفسير البسملة ، قلت: ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى كونه قارئا بالقوة ولهذا رتب عليه خلق الإنسان من علق ، والثاني إشارة إلى كونه قارئا بالفعل ولهذا وصف نفسه بالأكرمية ورتب عليه تعليم الخط والعلم. وفضائل الخط كثيرة حتى مدح بالرسائل والأشعار وكفاك في مدحه أنه تعالى حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة وصف نفسه بالكرم قائلا (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار: ٦] وحيث من عليه بالخط والتعليم مدح ذاته بالأكرمية فقال متعرضا

٥٢٩

(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علم الإنسان بواسطة القلم أو علمه الكتابة بالقلم. يروى أن سليمان عليه‌السلام سأل عفريتا عن الكلام فقال: ريح لا يبقى. قال: فما قيده؟ قال: الكتابة فإن القلم صياد يصيد العلوم يبكي تارة ويضحك بركوعه يسجد الأنام وبحركته تبقى العلوم على ممر الليالي والأيام ، وقوله (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) يجوز أن يكون بيانا للأول أي علمه بالقلم كقول القائل «أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات.» ويحتمل أن يراد علم بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك. وفي الآية إشارة إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة بل إلى إثبات النبوة كما أن أول السورة يدل على الأوصاف الإلهية. قوله سبحانه (كَلَّا) ذكر بعض العلماء أنه بمعنى حقا لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع. وقال صاحب الكشاف: إنه ردع لمن كفر بنعمة الله عليه وطغى وهذا معلوم من سياق الكلام وإن لم يذكر. وقال مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان أنه خلق من علقة وصار عالما بعد أن كان جاهلا وذلك لاستغراقه في حب المال والجاه فلا يتأمل في هذه الأحوال. ومعنى (أَنْ رَآهُ) لأن رأى نفسه فحذف حرف الجر على القياس ، وحذف النفس لخاصية فعل القلب وهي جواز الجمع بين ضميري الفاعل والمفعول فيه. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هاهنا إنسان واحد هو أبو جهل. ومنهم من يقول: خمس آيات من أول هذه السورة نزلت أولا ثم نزل باقيها في أبي جهل بعد ذلك بزمان فضم إليها. وقيل: نزلت فيه من قوله (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) إلى آخر السورة والإنسان عام فإن قيل: لم قال في حق فرعون (إِنَّهُ طَغى) [النازعات: ١٧] وفي حق أبي جهل (لَيَطْغى) قلنا: إنما أخبر بذلك عن فرعون قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة ، وأما هذه الآية فنزلت تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رد أبو جهل عليه أقبح الرد. وأيضا إن فرعون مع كمال سلطنته ما كان يؤذي موسى إلا بالقول وأبو جهل مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرعون كان قد أحسن إلى موسى أولا وقال آخرا (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [يونس: ٩] وأما أبو جهل فكان يحسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صباه وقال في آخر عمره: بلغوا عني محمدا أني أموت ولا أجد أبغض إليّ منه. وأيضا إنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين ، والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا كانت المبالغة هاهنا أكثر. واعلم أن المال ليس سببا للطغيان على الإطلاق ولهذا ذهب جم غفير إلى أن الإنسان في الآية مخصوص وكيف لا وإنه لم يزد سليمان عليه‌السلام إلا تواضعا وعبودية. روي أنه كان يجالس المساكين ويقول: مسكين جالس مسكينا. وكان عبد الرحمن بن عوف من كبار الصحابة كثير المال ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم المال الصالح للرجل

٥٣٠

الصالح» (١) ولو أنصف العاقل وتأمل وجد نفسه في حال الغنى أشد افتقارا إلى الله لأن الفقير لا يتمنى إلا سلامة نفسه والغني يتمنى سلامة نفسه وماله وأهله وجاهه: وقيل: السين في (اسْتَغْنى) للطلب والمعنى أن الإنسان قد ينسى فضل الرب وعنايته في حالة أن رآه طلب الغنى فنال المنى بسبب الجهد والكد فينسب ذلك إلى كفاءته لا إلى عناية الله ، ولم يدر أنه كم من باذل وسعه في الحرص والطلب لم يحصل إلا على خفي حنين ، وأنه تعالى قد يرجع الغني آخر الأمر إلى حالة الفقر ليتحقق أن ذلك الغني لم يكن بفعله وكسبه ، وإنما ذلك بحول الله وقوته. وهاهنا نكتة وهي أن أول السورة دل على فضيلة العلم وبعدها دل علي مذمة المال فكفى ذلك مرغبا في العلم ومنفرا عن الدنيا. وفي قوله (إِنَّ إِلى رَبِّكَ) يا إنسان (الرُّجْعى) أي الرجوع وعيد وتذكير كأنه قيل: مصيرك إلى الله وإلى حيث لا يدفع عنك المال والكسب فما هذه الحيلة والعصيان والكبر والطغيان؟ يروى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبرائيل فقال: يقول الله إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. وروي أن أبا جهل لعنه الله قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم قال: فو الذي يحلف به لئن رأيته توطأت عنقه فجاءه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ثم نكص على عقبيه فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار فنزلت (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أخبرني عمن ينهي بعض عباد الله وهذا خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه التعجب ، وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول: اللهم أعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل بن هشام ، وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعز به الإسلام وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام وكان يلقب بأبي الحكم فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ويأمر بعبادة الجماد؟ وفي تنكير العبد دلالة على التفخيم كأنه قال: هو عبد لا يكتنه كنه إخلاصه في العبودية ولا يوصف شرح أخلاقه بالكلية. يروى أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته وقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلب من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالا دل على فاطمة عليها‌السلام وهي دلته على علي رضي‌الله‌عنه. فلما سأل عليا رضي‌الله‌عنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال اليهودي: هذا لا يتيسر لي فقال علي رضي‌الله‌عنه: عجزت عن وصف الدنيا وقد حكم الله بقلته حيث قال (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ)

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٩٧ ، ٢٠٢).

٥٣١

[النساء: ٧٧] فكيف أصف أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد شهد الله بأنه عظيم في قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: ٤] والحاصل أنه سبحانه كأنه قال: ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة ، والنهي عن الصلاة مذموم عند العقلاء. يروى أن عليا رضي‌الله‌عنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد فقال: ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) فلم يصرح بالنهي. وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال له أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال: يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي عن الدعاء. ويحتمل أن يراد بالتنكير الوحدة كأنه قيل: أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي وهو عبد واحد لا أجد ساجدا غيره ولي من الملائكة المقربين ما لا يحصيه إلا الله. وفيه تفخيم شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان من شهرته بالعبودية لا يحتاج إلى سبق الذكر كقوله (أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء: ١] (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان] وعن الحسن أن الناهي أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة. وأما الخطاب في قوله (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) فالأكثرون على أنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ليكون الكلام على نسق واحد. وقال في الكشاف: معناه أخبرني أن ذلك الناهي إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى. أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد. أو كان على سيرة التكذيب والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ويطلع على أحواله من هداه أو ضلاله فيجازيه على ذلك وهو وعيد. فقوله (الَّذِي يَنْهى) مفعول أول لـ (أَرَأَيْتَ) الأول و (أَرَأَيْتَ) الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام ، وقوله (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) مع ما عطف عليه مفعول ثان له ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله (أَلَمْ يَعْلَمْ) ويجوز أن يكون (أَرَأَيْتَ) الثالث أيضا مكررا والجواب بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية كأنه قيل: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى فإن الله مجازيه. وقيل: إن جواب الشرط الأول شيء آخر يدل عليه سياق الكلام والمراد: أرأيت إن صار هذا الكافر على حالة الهدى أو أمر بالتقوى بدل النهي عن عبادة الله ، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة. ففيه تعجيب من حاله أنه كيف فوت على نفسه مراتب الكمال والإكمال واختار بدلها طريقي الضلال والإضلال. وقيل: الخطاب في (أَرَأَيْتَ) الثاني للكافر كأن الظالم والمظلوم عبدان قاما بين يدي مولاهما أو هما اللذان حضرا عند الحاكم أحدهما المدعي والآخر المدعى عليه ، فيخاطب هذا مرة وهذا مرة ، فلما قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) التفت إلى الكافر

٥٣٢

وقال: أرأيت يا كافر إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى أتنهاه مع ذلك؟ ثم إن كان الخطاب في (أَرَأَيْتَ) الثالث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمعنى: أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وتولى عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة حتى يصير زاجرا عنها؟ وإن كان الخطاب للكافر فالمراد إن كان محمد كاذبا أو متواليا ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي فلا يحتاج إلى نهيك؟ قالت العلماء: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل إلا أن كل من ينهى عن طاعة الله فهو شريك في وعيد أبي جهل ولا يرد عليه المنع عن الصلاة في الدار المغصوبة وفي الأوقات المكروهة ومنع المولى عبده عن قيام الليل وصلاة التطوع وزوجته عن الاعتكاف ، لأن ذلك لاستيفاء مصالح أخرى بإذن الله وحده ، ثم ردع أبا جهل عن نهيه أو عن عدم علمه بإحاطة الله بجميع الكائنات أو عن عزمه على أن يقتل محمدا أو يطأ رقبته ، فإن تلميذ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يقتله ويطأ صدره ، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة ومنه سفع النار للفحها كأنها تأخذ من الجسد بياضه وطراوته. وقد كتب (لَنَسْفَعاً) في المصحف بالألف على حكم الوقف لأن النون الخفيفة المؤكدة يوقف عليها بالألف ، واللام في قوله (بِالنَّاصِيَةِ) للعهد والمراد لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ثم إن هذا السفع إما أن يكون إلى نار الآخرة وهو ظاهر ، وإما أن يكون في الدنيا كما روي أنه عاد إلى النهي فمكن الله المسلمين يوم بدر حتى جروه بالناصية. يحكى أنه لما نزلت سورة الرحمن قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: من يقرأوها على رؤساء قريش؟ فتثاقل القوم مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود فقال: أنا. فأجلسه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان يعلم من صعفه ثم قال: من يقرأوها عليهم؟ فلم يقم إلا ابن مسعود فأجلسه ثم قال في الثالثة كذلك فلم يقم إلا هو فأذن له ، فحين دخل عليهم وكانوا مجتمعين حول الكعبة قرأ السورة فقام أبو جهل فلطمه فانشق أذنه فأدماه فانصرف وعينه تدمع ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما فإذا جبرائيل جاء ضاحكا مستبشرا فقال: يا جبرائيل تضحك وابن مسعود يبكي ، فقال: ستعلم فلما كان يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين. فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه. ولعل هذا معنى قوله (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم: ١٥] ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا. فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ثم قال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال حياتي

٥٣٣

ولا أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي فروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمع ذلك قال: فرعوني أشد من فرعون موسى عليه‌السلام فإنه قال «آمنت» وهو قد زاد عتوا. ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع. فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله. قال أهل العلم: ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفا لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه منها: أنه كلب والكلب يجر. والثاني ليشق أذنه فتقتص الأذن بالأذن. والثالث تحقق الوعد المذكور في قوله (لَنَسْفَعاً) فإن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبرائيل عليه‌السلام بين يديه يضحك ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس هاهنا مع الأذن. والناصية شعر الجبهة ، وقد يسمى مكان الشعر ناصية ، وقد كنى هاهنا عن الوجه والرأس بالناصية قالوا: والسبب فيه أن أبا جهل كان مهتما بترجيل الناصية وتطييبها فلقاه الله نقيض المقصود حين أعرض عن حكم المعبود. ثم وصف الناصية بأنها (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) كذب صاحبها وخطأه حين سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادق ساحرا كذابا ، أو حين زعم أنه أكثر أهل الوادي ناديا ، والخاطئ أفظع من المخطئ ولهذا قال (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [الحاقة: ٣٧] فالخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ لا يكون مأخوذا ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. وقوله (ناصِيَةٍ) بدل الكل من الأول ، ووجه حسنها كونها موصوفة كما علم من قواعد النحو. يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أغلظ في القول لأبي الجهل وتلا عليه هذه الآيات قال: يا محمد بمن تهددني وإني أكثر هذا الوادي ناديا أي أهل مجلس ، لأملأن عليك هذا الوادي خيلا جردا ورجالا مردا فزاد الله في تهديده قائلا (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) والزباني كل متمرد من جن وإنس ومثله «زبنية» بتخفيف الياء كعفريت وعفرية وأصله من الزبن الدفع ، ولعل كسر الزاي لتغيير النسب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا. قال مقاتل: هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء. قال قتادة: الزبانية الشرط بلغة العرب أي الحرس ، وقيل: هي جمع لا واحد له. ثم ردع أبا جهل عن قبائح أحواله وأفعاله بقوله (كَلَّا) وشجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (لا تُطِعْهُ) ثم قال (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي دم على سجودك وتقرب به إلى ربك ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد» (١) وقيل: صل وتوفر على عبادة الله فعلا وإبلاغا. وقيل: اسجد يا محمد واقترب يا أبا جهل وضع قدمك عليه فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه وهذا تهكم به وتعريض بأن الله سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه والله أعلم.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢١٥. النسائي في كتاب المواقيت باب ٣٥. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١١٨. أحمد في مسنده (٢ / ٤٢١).

٥٣٤

(سورة القدر مكية

حروفها مائة وعشرون

كلمها ثلاثون

آيها خمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

القراآت شهر تنزل بتشديد التاء: البزي وابن فليح (مَطْلَعِ) بكسر اللام: علي وخلف.

الوقوف (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ه ج للنفي والاستفهام والوصل أولى لاتصال المبالغة في التعظيم به (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) ه ط لأن ما بعدها مبتدأ (شَهْرٍ) ه ط لأن ما بعده مستأنف (رَبِّهِمْ) ج لاحتمال تعلق (مِنْ كُلِ) بقوله (تَنَزَّلُ) ولاحتمال تعلقه بقوله (سَلامٌ) أي هي من كل عقوبة سلام أو من كل واحد من الملائكة سلام من المؤمنين قاله ابن عباس: وعلى هذا يوقف على (أَمْرٍ) ويوقف على (سَلامٌ) وقيل: لا يوقف على (سَلامٌ) أيضا والتقدير: هي سلام من كل أمر حتى مطلع (الْفَجْرِ) ه

التفسير: الضمير في (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) للقرآن إما لأن القرآن كله في حكم سورة واحدة وإما لشهرته ومن نباهة شأنه كأنه مستغن عن التصريح بذكره ، وقد عظم القرآن في الآية من وجوه أخر هي إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلا ، وصيغة الجمع الدالة على عظم رتبة المنزل ، إذ هو واحد في نفسه نقلا وعقلا والرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه وهو ليلة القدر. وهاهنا مسائل الأولى: كيف حكم بأنه أنزل في هذه الليلة مع أنه أنزل نجوما في نيف وعشرين سنة؟ والجواب كما مر في البقرة في قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: ١٨٥] أي أنزل فيها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها إلى الأرض نجوما ، ووجه حسن المجاز أنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا فقد شارف النزول إلى الأرض فيكون من فوائد التشويق كما قيل:

٥٣٥

وأبرح ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الخيام من الخيام

وقال الشعبي : ابتدئ بإنزاله في هذه الليلة لأن المبعث كان في رمضان. وقيل: أراد إنا أنزلنا القرآن يعني هذه السورة في فضل ليلة القدر والقدر بمعنى التقدير. قال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى قدر كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية نظيره قوله (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: ٤] في أحد الوجوه والمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة فإن المقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ ، وهذا قول أكثر العلماء. ونقل عن الزهري أنه قال: ليلة القدر يعني ليلة الشرف والعظمة من قولهم «لفلان قدر عند فلان» أي منزلة وخطر ، ويؤيد هذا التأويل قوله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ثم هذا الشرف ما أن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر وشرف. وإما أن يرجع إلى الفعل لأن الطاعة فيها أكثر ثوابا وقبولا. وعن أبي بكر الوراق: من شرفها أنه أنزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر إلى أمة ذوي قدر. ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب. وقيل: القدر الضيق وذلك أن الأرض في هذه الليلة تضيق عن الملائكة. الثانية هذه الليلة هل تضاف إلى يومها الذي بعدها؟ قال الشعبي: نعم يومها كليلتها لقوله (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [مريم: ١٠] وفي موضع ، (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [آل عمران: ٤١] ولهذا لو نذر أن يعتكف ليلتين ألزمناه يومهما. الثالثة قال الخليل: من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول: انقطعت وكان مرة والجمهور على أنها باقية. ثم إنه روي عن ابن مسعود أنها في جميع السنة فمن حافظ على الليالي كلها أدركها. وعن عكرمة أنها ليلة البراءة. والأكثرون على أنها في رمضان لقوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: ١٨٥] وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فيجب من الآيتين أن تكون ليلة القدر في رمضان. ثم في تعيينها خلاف فقال ابن رزين: هي الليلة الأولى من رمضان لما روي عن وهب أن كتب الأنبياء كلهم إنما نزلت في رمضان وكانت الليلة الأولى منه في غاية الشرف. وعن الحسن البصري: السابعة عشرة لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها. وعن أنس مرفوعا: التاسعة عشرة. وقال محمد بن إسحق: هي الحادية والعشرون لما روي من حديث الماء والطين. ومعظم الأقوال أنها السابعة والعشرون. وذكروا فيها أمارات ضعيفة منها أن السورة ثلاثون كلمة وقوله (هِيَ) السابعة والعشرون منها ، روي هذا عن ابن عباس. وعنه أيضا أنّ ليلة القدر تسعة أحرف وهي مذكورة ثلاث مرات وروي أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه في ليلة من الشهر فقال: إذا كان تلك الليلة فأعلمني

٥٣٦

فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان. قلت: ومن الأمارات التي يحتمل اعتبارها أن الضعيف مؤلف الكتاب وصل إلى تفسير هذه السورة في السابعة والعشرين من رمضان سنة تسع وعشرين وسبعمائة من هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعل لله سبحانه فيه سرا ما لا يطلع عليه إلا هو وحده وأنا أرجو من فضله العميم أن يجعل ذلك سببا لبركات الدارين لي ولمن نظر في هذا الكتاب من إخواني في الدين وما الاعتصام إلا بحوله. وقيل: هى الليلة الأخيرة لأن الطاعات في الشهر تتم وقتئذ بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاء في الحديث «يعتق في في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر» وأول الليالي ليلة شكر وآخرها ليلة فراق وصبر وكم بين الشكر والصبر ، فإن الصبر أمر من الصبر. الرابعة الحكمة في إخفاء ليلة القدر في الليالي كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة ويوم القيامة حتى يرغب المكلف في الطاعات ويزيد في الاجتهاد ولا يتغافل ولا يتكاسل ولا يتكل. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد فرأى نائما فقال: يا علي نبهه ليتوضأ فأيقظه علي ثم قال: يا رسول الله إنك سابق إلى الخيرات فلم نبهته بنفسك؟ فقال: لأن رده على كفر ورده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لورد. فإذا كان هذا رحمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقس عليه رحمة الله تعالى عليه وكأنه سبحانه يقول: إذا عرفت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر ، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب ، فالإشفاق أن لا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وأيضا إذا اجتهد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة باهى الله تعالى ملائكته ويقول: كنتم تقولون فيهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فهذا جدهم في الأمر المظنون ، فكيف لو جعلتها معلومة لهم فهنالك يظهر سر قوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: ٣٠]. الخامسة معنى كونها خيرا من ألف شهر أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة ، وذلك لما فيها من الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية. وقال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي ، فعل ذلك ألف شهر ، فتعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون من ذلك فأنزل الله تعالى السورة فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي ويؤيده ما روي عن مالك ابن أنس أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم أري أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم ، فأعطاه الله ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتى يعبد الله ألف شهر. وذكر القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن علي رضي‌الله‌عنه: يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعته. يعني معاوية فقال: إن رسول

٥٣٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري في منامه بني أمية يطؤن منبره واحدا بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) إلى قوله (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يعني ملك بني أمية. قال القاسم: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص ، وزيف بأن أيامهم كانت مذمومة فكيف تذكر في مقام التعظيم؟ وأجيب بأنها كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك الأيام في بابها. السادسة في الآية بشارة عظيمة للمطيعين وتهديد بليغ للعاصين. أما الأول فلأنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير من ألف شهر ولم يبين قدر الخيرية وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مبارزة علي مع عمرو بن عبد ودّ أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة» وكأنه قال: هذا لك بذلك والباقي عليّ أعطيتك به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فمن أحيا ليلة القدر فكأنه عبد الله نيفا وثمانين سنة ، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارا كثيرة ، ومن أحيا ليالي الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ليلة القدر ثلاثين قدرا. يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة ، ويجاء برجل من هذه الأمة وقد عبد الله أربعين سنة ، فيكون ثوابه أكثر. فيقول الإسرائيلي: أنت العدل وأرى ثوابه أكثر فيقول: لأنكم تخافون العقوبة المعجلة فعبدتموني وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا آمنين لقوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال: ٣٣] ثم إنهم كانوا يعبدونني فلهذا السبب كانت عباداتهم أفضل ، وأما التهديد فلأن الظالم لا يخلصه من المظلوم أحد وإن أحيا مائة ليلة من القدر وكذا من عنده مظلمة لأحد وإن كانت بتطفيف حبة. السابعة أنه صح عن رسول الله قوله «أجرك على قدر نصبك» ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة فما التوفيق بين الحديث والآية؟ والجواب أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الاعتبارات الشرعية أو العقلية. فصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بكذا درجة لأجل شرف الاجتماع. ولو قلت: لمن يرجم إنما يرجم لأنه زان فهو قول حسن ، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزير ، ولو قلته للمحصن فهو موجب للحد ، ولو قلته في حق عائشة كان كفرا وبهتانا عظيما وذلك لأنه طعن في حق عائشة التي كانت رجلا في العلم لقوله: «خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء» وطعن في صفوان وهو رجل بدري وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كافرا ، بل طعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو أشرف المخلوقات ، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية ، فتبين أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب باختلاف الجهات وبحسب الأزمنة والأمكنة ، وذلك من فضل الله وعنايته

٥٣٨

بمخلوقاته على حسب مشيئته وإرادته ، قول سبحانه (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) ظاهره يقتضي نزول كل الملائكة إما إلى سماء الدنيا وإما إلى الأرض وهو قول الأكثرين وعلى التقديرين فإن المكان لا يسعهم إلا على سبيل التناوب والنزول فوجا فوجا كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجا. وعن كعب: إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ، ومقام جبرائيل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين ، ينزلون مع جبرائيل ليلة القدر فلا يبقى بقعة في الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وجبرائيل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم ، وعلامة ذلك أن يقشعر جلده ويرق قلبه وتدمع عيناه ، من قال فيها لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحد وأدخله الجنة بواحدة ، وأول من يصعد جبرائيل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ثم يدعو ملكا ملكا فيصعد الكل فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل فيقيم جبرائيل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ، ولمن صام رمضان احتسابا ، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا: ما فعل فلان كيف وجدتموه؟ فيقولون: وجدناه عام أول مبتدعا وفي هذا العام متعبدا وفي بعضهم بالعكس ، فيدعون للأول دون الآخر. ووجدنا فلانا تاليا وفلانا راكعا وفلانا ساجدا ، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا إلى السماء الثانية ، وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة المنتهى ، فتقول لهم السدرة: يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقا وإني أحب من أحب الله. وتقول الجنة: عجلهم اللهم إليّ ، والملائكة وأهل السدرة يقولون: آمين. وإنما نزول الملائكة على فضيلة هذه الليلة لأن الجماعة كلما كانت أكثر كان نزول الرحمة أوفر والطاعة في حضور الملائكة الذين هم العلماء بالله والعباد له تكون أدخل في الإخلاص وأجلب لأسباب القبول. أما الروح فالأظهر أنه جبرائيل ، خص بالذكر لزيادة شرفه. وقيل: ملك يقوم صفا والملائكة كلهم صفا ، وقيل: طائفة من الملائكة لا يراهم غيرهم إلا في هذه الليلة. وقيل: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة. وقيل: عيسى عليه‌السلام ينزل في جماعة من الملائكة ليطالع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل: القرآن (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى: ٥٢] وقيل: الرحمة. وقيل: هم كرام الكتابين. يروى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلفين مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيهم أرخى الستر فلا يرونها فحينئذ يقولون: سبحان من أظهر

٥٣٩

الجميل وستر القبيح ، ويشتاقون إلى لقائهم فينزلون لذلك. ومن فوائد نزولهم أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروها في سكان السموات ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا. ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة ، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا. وفي قوله (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) إشارة إلى أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن الله لقوله (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم: ٦٤] وفي قوله (رَبِّهِمْ) توبيخ للعصاة وتعظيم لشأن الملائكة كأنه قال: كانوا لي فكنت لهم. يروى أن داود عليه‌السلام في مرض الموت قال: إلهي كن لسلمان كما كنت لي فنزل الوحي قل لسليمان: فليكن لي كما كنت لي. وقوله (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) إشارة عند الأكثرين إلى فائدة نزولهم أي من أجل كل أمر قدر في تلك الليلة إلى قابل. ومعنى العدول من لام التعليل إلى «من» أن السائل كأنه يقول: من أين جئتم؟ فيقولون: ما لكم وهذا السؤال ولكن قولوا لأي أمر جئتم لأنه حظكم. وقيل: من كل أمر أي من أجل كل مهم فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم للتسليم. يروى أنهم لا يتلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يقدر المقدر في ليلة البراءة ، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها.» وقيل: يقدر ليلة البراءة للآجال والأرزاق وليلة القدر للخير والبركة. وقيل: يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به صلاح معاش المكلف ومعاده ، ويكتب في ليلة البراءة أسماء من يموت فتسلم إلى ملك الموت. ومعنى (سَلامٌ هِيَ) أن هذه الليلة ما هي إلا سلامة وخير ، فأما سائر الليالي فيكون فيها بلاء وسلامة أو ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على المؤمنين. وقال أبو مسلم: يعني أن هذه الليلة ما هي إلا سلامة عن الرياح المزعجة والصواعق ونحوها ، أو هي سلامة عن تسلط الشيطان وجنسه ، أو سالمة عن تفاوت العبادة في شيء من أجزائها بخلاف سائر الليالي فإن الفرض فيها يستحب في الثلث الأول. والنفل في الأوسط ، والدعاء في السحر ، والمطلع بالفتح المصدر بمعنى الطلوع ، وبالكسر اسم زمان أو مصدر عند بعضهم ، ومنهم أبو علي. هذا ما تقرر عندنا وعند سائر العلماء في تفسير هذه السورة الشريفة ، وأقول أيضا في تأويله: يمكن أن يفهم من ليلة القدر طرف الأزل من الامتداد الوهمي الزماني قدر فيه ما كان وما سيكون إلى يوم الدين بل إلى الأبد وإنما عبر عنه بالليلة لأن الأشياء كلها إذ ذاك في حيز العدم أو الخفاء «كنت كنزا مخفيا» وإنما كانت خيرا من ألف شهر بل من ثلاثين ألف ليلة بل من ثلاثين ألف سنة كما قال (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: ٤٧] وهي الدور الأعظم دور الثواب لما

٥٤٠