تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

وبالتشديد (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) مظهرا روى النقاش عن ابن ربيعة عن أصحابه والحلواني عن قالون وحفص والنجاري وعن ورش فقدرنا مشددا: أبو جعفر عن نافع وعلي ، انطلقوا إلى ظل بفتح اللام: رويس: جمالت على التوحيد: حمزة وعلي وخلف وحفص وجمالات بضم الجيم مجموعة: يعقوب. الآخرون: بالكسر مجموعا.

الوقوف: (عُرْفاً) ه لا (عَصْفاً) ه لا (نَشْراً) ه لا (فَرْقاً) ه لا (ذِكْراً) ه لا (نُذْراً) ه لا (لَواقِعٌ) ه ط (طُمِسَتْ) ه لا (فُرِجَتْ) ه لا (نُسِفَتْ) ه لا (أُقِّتَتْ) ه لا بناء على أن عامل «إذا» محذوف أي إذا كانت هذه الأمور يفصل بين الخلق (أُجِّلَتْ) ه ط للفصل بين الجواب والسؤال (الْفَصْلِ) ج (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه ط لأن ما بعده مستأنف أي ثم نحن نتبعهم (الْآخِرِينَ) ه (بِالْمُجْرِمِينَ) ه (مَهِينٍ) ه لا (مَعْلُومٍ) ه لا (فَقَدَرْنا) ه (الْقادِرُونَ) ه (كِفاتاً) ه لا (وَأَمْواتاً) ه لا (فُراتاً) ه لا (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (تُكَذِّبُونَ) ه ج للتكرار مع الآية ووجه الوقف لمن قرأ بفتح اللام أوضح لأنه ابتداء إخبار عن موجب عملهم بما أمروا به (شُعَبٍ) ه لا (اللهَبِ) ه ط (كَالْقَصْرِ) ه ج لأن ما بعده وصف لشرر لا للقصر (صُفْرٌ) ه ط (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (لا يَنْطِقُونَ) ه لا (فَيَعْتَذِرُونَ) ه (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (الْفَصْلِ) ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي أشير إلى يوم مجموعا فيه (وَالْأَوَّلِينَ) ه (فَكِيدُونِ) ه (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (يَشْتَهُونَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (الْمُحْسِنِينَ) ه (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (مُجْرِمُونَ) ه (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (لا يَرْكَعُونَ) ه (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه (يُؤْمِنُونَ) ه

التفسير: الكلمات الخمس في أول هذه السورة يحتمل أن يكون المراد بها جنسا واحدا أو أجناسا مختلفة. أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوها الأول: أنها الملائكة أقسم رب العزة بطوائف الملائكة الذين أرسلهم بأوامره حال كونهن عرفا أي متتابعة كشعر العرف. يقال: جاؤا عرفا واحدا وهم عليه كعرف الضبع إذا اجتمعوا عليه ، ويجوز أن يكون العرف خلاف النكر أي أرسلهن للاحسان والمعروف. فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فمعنى الإحسان حينئذ ظاهر ، وإن كانوا قد بعثوا لأجل العذاب فذلك إن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله من الكفار لأجلهم. ومعنى الفاء في (فَالْعاصِفاتِ) أنهن عقيب الأمر عصفن في مضيهن كما عصفت الرياح بدرا إلى امتثال الأمر. قيل: هو من قولهم «عصفت الحرب بالقوم» أي ذهبت بهم وأهلكتهم. ويقال «ناقة عصوف» أي عصفت براكبها فمضت كأنها ريح من السرعة فالمراد أنهن حين أرسلن للعذاب طرن بروح الكافر. ثم أقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهن في الجو عن

٤٢١

انحطاطهن بالوحي أو نشرن الشرائع في الأرض. أو أحيين النفوس الميتة بما أوحين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء (عُذْراً) للمحقين (أَوْ نُذْراً) للمبطلين. قال الأخفش والزجاج: هما بالسكون مصدران كالشكر والكفر ، والضم لغة في كل منهما كالنكر والنكر ، والمعنى إعذارا أو إنذارا وكل منهما بدل من (ذِكْراً) أو مفعول له. وقال أبو عبيد: بالثقل جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير بمعنى الإنذار أو بمعنى العاذر والمنذر فيكونان حالين من الإلقاء أي عاذرين أو منذرين الوجه الثاني أنها الرياح أقسم الله سبحانه برياح عذاب أرسلهن متتابعة فعصفن عصفا ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) [الروم: ٤٨] فألقين ذكرا إي صرن سببا في حصول الذكر لأن الإنسان العاقل إذا شاهد تلك الرياح التجأ إلى ذكر الله والتضرع إليه فيكون عذرا للذين يعتذرون إلى الله عزوجل بالتوبة والاستغفار ، وإنذارا للذين يغفلون عن الله ويغفلون شكره إذ ينسبونها إلى الأنواء. والوجه الثالث إنها القرآن وآياته أرسلت متتابعة أو بكل معروف وخير فعصفت أي قهرت سائر الملل والأديان والكتب أي ابتدأن بالقهر والنسخ عقيب الإرسال ، ونشرن بعد ذلك بالتدريج آثار الحكم وأنوار الهداية في قلوب العالمين ففرقت بين الحق والباطل وألقت الذكر والشرف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته كما قال (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: ٤٤] الرابع أنها طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المستعقب لكل خير ومفتاحه «لا إله إلا الله» فأخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته وانتشرت دعوتهم ففرقوا بين المؤمن والكافر ، والمقر والجاحد ، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة أو إلى طائفة معينين. الخامس وهو بالتأويل أشبه أن المرسلات هي الدواعي والإلهامات الربانية أرسلت فأخذت في العصوف والاشتداد بحيث أزالت عن القلب حب ما سوى الله وانبثت آثارها في سائر الأعضاء والجوارح ، فلا يسمع إلا بالله ولا يبصر إلا بالله ، وكذا البطش والمشي وسائر الحركات والسكنات ، ففرقت بين الوجود المجازي وهو وجود سوى الله وبين الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله ، وألقت الذكر على كل الجوارح فلم يذكر غير الله. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه أيضا أحدها: وهو المنقول عن الزجاج واختاره القاضي أن الثلاث الأول هي الرياح كما في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ، والباقيتان الملائكة كما مر في الوجه الأول منها. ووجه الجمع بين الرياح والملائكة هو اللطافة وسرعة الحركة. وثانيها أن الأولين هما الرياح والثلاثة الأخيرة هي الملائكة لأنها تنشر الوحي ، ثم يعقبه أثران ظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ودوران ذكر الله على القلوب والألسن. وقد يتأيد هذا الوجه بعطف الثانية على الأولى بفاء الوصل المنبئ عن التعقيب والتسبيب. ثم التنسيق بالواو

٤٢٢

وعطف الباقيين عليها بالفاء وثالثها أن الأولى ملائكة العذاب والباقية آيات القرآن على منوال ما سبق. قوله (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم ومعناه على ما قال الكلبي: كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع. والأكثرون يخصونه بمجيء القيامة بدليل ذكر أماراتها بعده وهو قوله (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي أزيلت عن أماكنها بالانتثار وأذهب ضوءها بالانكدار وقد ورد كل منهما (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [فاطر: ٢] (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير: ٢] فذكروا في وجه الجمع بينهما أنه يجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر بمحوق النور. وفسر الانتثار في الكشاف بمحق الذوات وفيه بعد لأن الانتثار غير الانعدام وإن أراد بالمحق غير هذا فعليه بالبيان قوله (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي فتحت السماء فكانت أبوابا (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي سيرت أجزاؤها في الهواء كالحب إذا نسف بالمنسف وقد مر في «طه» في قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه: ١٠٥] قال مجاهد والزجاج: المراد بأقتت الرسل تعيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وكان هذا الوقت مبهما عليهم قبل ذلك وقريب منه قول جار الله: إن معنى وقتت بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. ثم عجب العباد من هول ذلك اليوم فقال (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من صدقهم وظهور ما كانوا يوعدون الأمم إليه ويخوفونهم به من العرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين. ثم أجاب بأنهم أجلوا (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بين الخلائق ، ثم عظم ذلك اليوم ثانيا فقال (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) وأي شيء شدته ومهابته. ثم عقبه بتهويل ثالث فقال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ كان كذا وكذا من الأهوال (لِلْمُكَذِّبِينَ) وإعرابه كإعراب (سَلامٌ عَلَيْكَ) [مريم: ٤٧] وقد سبق. وقد كرر هذا التهويل في تسعة مواضع أخر لمزيد التأكيد والتقرير كما مر في سورة الرحمن. ثم هددهم بقوله (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) كعاد وثمود وغيرهما إلى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) وهم كفار مكة أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن قوله (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإهلاك الفظيع (نَفْعَلُ) بكل مجرم. ثم وبخهم بتعديد النعم وآثار القدرة عليهم فقال (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) حقير لا يعبأ به وهو النطفة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وهو الرحم وهو أنه يتمكن فيه ما يتكون منه الولد (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي إلى مقدار معلوم من الزمان المقدر ولهذا قال (فَقَدَرْنا) بالتشديد (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) أي فنعم المقدرون له نحن. ومن قرأ بالتخفيف فبمعنى التقدير أيضا لتتوافق القراءتان. قال الفراء: قدر وقدّر بالتخفيف والتشديد لغتان ، ويجوز أن يكون المخفف من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا فنعم أصحاب القدرة نحن حيث خلقناهم في أحسن تقويم. وفي

٤٢٣

قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) توبيخ وتخويف من وجهين أحدهما: أن النعمة كلما كانت أعظم كان كفرانها أفحش. والثاني أن القادر على الإبداء أقدر على الإعادة فالمنكر لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ. ثم عد عليهم نعم الآفاق بعد ذكر الأنفس. والكفات اسم ما يكفت أي يضم ويجمع ، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به مبينا للمفعول كالشداد لضمام يشد به رأس القارورة. وانتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) بفعل مضمر دل عليه هذا الاسم أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها. والتنكير للتفخيم أي أحياء وأمواتا لا تعد ولا تحصى. وجوز انتصابهما على الحال والضمير الذي هو ذو الحال محذوف للعلم به أي تكفتكم في حال حياتكم وفي حال مماتكم. وقيل: معنى كونها كفاتا أنها تجمع ما ينفصل منهم من المستقذرات وقيل: معناه أنه جامعة لما يحتاجون إليه في التعيش. وقيل: هما راجعان إلى الأرض يعني ما ينبت وما لا ينبت. والكل بتكلف. والوجه هو الأول. وباقي الآية ظاهر مما سلف مرارا. ثم أخبر عما يقال للمكذبين في يوم الفصل فقال (انْطَلِقُوا) أي يقال لهم انطلقوا لما كذبتم به من العذاب. ثم بين ما أجمل بقوله (انْطَلِقُوا) يروى أن الشمس تقرب يوم القيامة لرؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ، ويحمي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلاله فهناك يقولون (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) [الطور: ٢٥] ويقال للمكذبين (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من عذاب الله وعقابه (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) قال الحسن: ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه بشيء فقال قوم: سمى النار بالظل مجازا. وشعبها الثلاث كونها من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم. وعن قتادة: هو الدخان شعبة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم والثالثة من فوق ، تظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وقال في الكشاف: هو عبارة عن عظم الدخان. فالدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقال أهل التأويل: الشعب الثلاث هي القوة الغضبية ومنشؤها القلب في الجانب الأيسر ، والشهوية ومنشؤها الكبد في الجانب الأيمن ، والشيطانية ومنشؤها الدماغ من فوق ، فيتولد من اتباع هذه الثلاثة ثلاثة أنواع من الظلمات. وقال أبو مسلم: هي الأوصاف الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عقيبه وهي (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) وفيه تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين أي ذلك الظل غير مانع حر الشمس وغير مغن من حر اللهب شيئا أي لا روح كما قال في الواقعة (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الآية: ٤٤] يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه. وإنما عدي في الآية بـ «من» لأنه أراد أن ابتداء الإغناء منه ، وعن قطرب أن اللهب هاهنا هو العطش. ثم شبه الشرر وهو ما يتطاير

٤٢٤

من النار متبددا في كل جهة بالقصر. والأكثرون على أنه واحد القصور. وعن سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك أنه الغليظ من أصول الشجر العظام الواحدة قصرة كجمرة وجمر. وروي عن ابن عباس أنه سئل عن القصر فقال: خشب كنا ندخره للشتاء. ثم زاد في البيان أن أتبعه تشبيها آخر قائلا كأنه جمالات صفر وهي جمع جمالة بمعنى جمل. ويجوز أن يكون جمع جمال كرجالات وقال أبو علي: التاء في (جِمالَتٌ) لتأكيد الجمع كحجر وحجارة. أما الجمالة بالضم فهي قلوس سفن البحر أي حبالها كما مر في قوله (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف: ٤٠] وعن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وابن عباس أنها قطع النحاس. ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه. وقال الفراء: يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل. يقال: أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين. والمعنى أن هذه الشرر ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. قال الفراء: لا ترى أسود في الليل إلا وهو مشرب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كأنه أشبه شيء بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة. وقال آخرون: الشرر إنما يسمى شررا ما دام مرتفعا وحينئذ يكون نارا وإذا كان نارا كان أصفر فاقعا. واعلم أنه عز اسمه شبه الشرر في العظم والارتفاع بالقصر ثم شبهه مع ذلك في اللون والكثرة والتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر. ثم نقل عن ابن عباس أنه قال: هذا التشبيه إنما ورد على ما هو معتاد في بلاد العرب. وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة. فسمع أبو العلاء ذلك فشبه الشرر بالطراف وهو الخيمة من الأديم قال:

حمراء ساطعة الذوائب في الد

جى ترمي بكل شرارة كطراف

فزعم صاحب الكشاف أنه أراد معارضة المعجز. قال الإمام فخر الدين الرازي: كان الأولى بصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك لأنه أخذ مقتبسا تابعا ، والمعجز أظهر حالا وأجل منصبا من أن يتصدى لمعارضته أحد بعد استقرار أمره ويلتفت إلى المعارض ، وإذ قد ذكر صاحب الكشاف ذلك فلنذكر التفاوت بين القرآن وبين كلام أبي العلاء وذلك من وجوه الأول: قيل: إن لون الأديم قريب من لون الشرارة إلا أن الجمالات متحركة كالشرارة دون الخيمة. الثاني أن القصر موضع الأمن وتشيبه الشرارة به إشارة إلى أن الكافر إنما يعذب بآفة من الموضع الذي يتوقع منه الأمن وهو دينه وملته التي ظن أنه منها على شيء ، وليست الخيمة موضع الأمن الكلي الثالث أن الشرر متتابعة كالجمال ولا كذلك الطراف الرابع أن العرب اعتقدوا أن الجمال في ملك الجمال وتمام النعم في حصول النعم. ففي الآية إشارة إلى أنكم كنتم تعدون الجمال فخذوا هذه الشرارات التي هي كالجمالات وهذا التهكم غير

٤٢٥

موجود في الشعر. الخامس أن الإبل إذا نفرت وشردت متتابعة نال من وقع فيما بينها بلاء شديد. فتشبيه الشرر بها يفيد كمال الضرر والطراف ليس كذلك. السادس أن القصر يكون أعظم غالبا من الطراف والجمالات وهي جمع الجمع تكون أكثر عددا من الطراف والغرض التوكيد فيكون تشبيه القرآن أبلغ في المعنى المقصود. السابع أن التشبيه بشيئين كالقصر والجمالات في إثبات الوصفين كالعظم والصفرة أقوى في ثبوت الوصفين من التشبيه بشيء واحد للوصفين بعينهما ، لأن الأول كالمبين المفصل ، والثاني كالمجمل المبهم إذ يحتمل أن يكون وجه التشبيه واحدا منهما فقط. الثامن أن الإنسان إنما يكون طيب العيش إذا كان وقت الانطلاق راكبا ووقت النزول راقدا في الظل فكأنه قيل في الآية على سبيل التهكم مركوبكم هذه الجمالات من الشرر وظلكم في مثل هذا القصر ولو شبه بالطرف لم يحصل هذا المقصود. التاسع أن تطاير القصر وهو من اللبن والحجر والخشب في الهواء أغرب من تطاير الخيمة وهي خفيفة الحجم. العاشر أن سقوط القصر أفظع وأهول من سقوط الطراف هذه خلاصة كلام الإمام في هذا المقام أوردناها لئلا يكون كتابنا خاليا من فوائد تفسيره. قوله (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) يروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الجمع بين هذه الآية وبين نحو قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: ٣١] فأجاب بتغاير الزمانين وتباين الموطنين. وقال الحسن: أراد لا ينطقون بحجة صحيحة وعذر واضح فكأنهم لم ينطقوا ولم يعتذروا. قوله (وَلا يُؤْذَنُ) إنما لم يقل «فيعتذروا» بسقوط النون للنصب كقوله (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر: ٣٦] لأنه لو نصب لأوهم أنهم إنما لم يعتذروا لأجل أنهم لم يؤذوا في الاعتذار ولولا المنع لاعتذروا وهذا غير جائز ، ولكن المراد أن لا عذر لهم في نفس الأمر كما لا إذن فالفاء لمطلق النسق لا للتسبب. هذا مع أنه فيه رعاية الفاصلة وهي من جملة الفصاحة اللفظية ، ولهذا لم يقرأ في سورة «اقتربت» (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) [الآية: ٦] لا مثقلا. وقريء قوله في آخر «الكهف» و «الطلاق» (عَذاباً نُكْراً) [الآية: ٨] بالوجهين قالوا: وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه سبحانه أزاح الاعتذار في الدنيا بتقديم الإنذار بدليل قوله (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) ولهذا قال في آخر هذا الأخبار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم أشار لمزيد التهديد والتوبيخ إلى اليوم المذكور بقوله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) ثم أوضح هذه الجملة بقوله (جَمَعْناكُمْ) أيها المتأخرون (وَالْأَوَّلِينَ) لأن الفصل بين الخلائق لا يجوز إلا بإحضار الكل. وقد يستدل به على عدم جواز القضاء على الغائب. ثم عجزهم وحقر أمرهم بقوله (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) وقد علم أنه لا حيلة لهم في رفع البلاء عن أنفسهم يومئذ كما كانوا يحتالون في الدنيا يؤذون بذلك أنبياء الله وأولياءه ، وهذا التعجيز

٤٢٦

والتخجيل من جنس العذاب الروحاني فلهذا عقبه بقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم زاد في حسرتهم وغمهم بتعديد ما أعد للمطيعين المتقين من الظلال والعيون والفواكه بدل ظلالهم التي لا روح فيها ولا تغني عن الحر والعطش ، استقروا في تلك النعم مقولا لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) وهو أمر إكرام لا أمر تكليف وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم ولذا أردفه بقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم ذكر أن هذا الويل ثابت لهم في حال ما يقال في الآخرة (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) قال جار الله: هذا في طريقة قول القائل:

إخوتي لا تبعدوا أبدا

وبلى والله قد بعدوا

أي كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بهذا ، وفيه توبيخ وتذكير بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم ، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم ، وجوز أن يكون (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) كلاما مستأنفا خطابا للمكذبين في الدنيا. ثم ذمهم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه. وقيل: ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود. يروى أن وفد ثقيف أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني أي لا نركع ولا نسجد فإنها مسبة علينا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. وأنزل الله الآية. ثم ختم السورة بالتعجب من حال الكفار وإصرارهم على جهالاتهم وضلالاتهم بعد القرآن وبياناته وقد مر في أول «الجاثية» نظيره والله أعلم. تم.

تم الجزء التاسع والعشرون ويليه الجزء الثلاثون وأوله تفسير سورة النبأ

٤٢٧

الجزء الثلاثون من أجزاء القرآن الكريم

(سورة النبأ وهي مكية حروفها سبعمائة وسبعون

كلماتها مائة وثلاث وسبعون آياتها أربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

القراآت كلا ستعلمون بتاء الخطاب في الموضعين: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان (وَفُتِحَتِ) بالتخفيف: عاصم وحمزة وعليّ وخلف لبثين مقصورا: حمزة ولا كذابا مخففا. عليّ رب بالرفع بتقدير هو رب: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو والمفضل. الباقون: بالجر على البدل (الرَّحْمنِ) بالجر على البدل أو البيان: ابن عامر وسهل ويعقوب وعاصم غير المفضل. الآخرون: بالرفع على «هو الرحمن» أو على أنه خبر آخر.

الوقوف (يَتَساءَلُونَ) ه ج لاحتمال أن الجار متصل بالفعل المذكور والمراد التهديد.

٤٢٨

قال الفراء: «عن» بمعنى اللام أي لأي شيء ، أو متصل بمحذوف كأن سائلا سأل عن أي شيء يتساءلون فأجيب عن النبأ. (الْعَظِيمِ) ه لا (مُخْتَلِفُونَ) ه ط بناء على أن معنى كلا حقا (سَيَعْلَمُونَ) لا ه (سَيَعْلَمُونَ) ه ج (مِهاداً) ه لا (أَوْتاداً) ه ص (أَزْواجاً) ه (سُباتاً) ه لا (لِباساً) ه لا (مَعاشاً) ه ص (شِداداً) ه لا (وَهَّاجاً) ه ص (ثَجَّاجاً) ه لا (وَنَباتاً) ه كـ (أَلْفافاً) ه ط (مِيقاتاً) ه ط لأن ما بعده بدل (أَفْواجاً) ه كـ (أَبْواباً) ه كـ (سَراباً) ه ط (مِرْصاداً) ه لا (مَآباً) ه لا (أَحْقاباً) ه ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا ، ويجوز أن يكون صفة لـ (أَحْقاباً) لمكان عود الضمير في (فِيها) إليها (شَراباً) ه لا (غَسَّاقاً) ه كـ (وِفاقاً) ه (حِساباً) ه (كِذَّاباً) ه م لأن التقدير أحصينا كل شيء أحصيناه (كِتاباً) ه لا (عَذاباً) ه (مَفازاً) ه (وَأَعْناباً) ه (أَتْراباً) ه كـ (دِهاقاً) ه ط لأنه لو وصل اشتبه بالصفة وللموصوف وجه كما يجيء في التفسير. (كِذَّاباً) ه ط لأن (جَزاءً) يصلح مصدرا ومفعولا له (حِساباً) ه ط لمن قرأ (رَبِ) بالرفع وقف على (بَيْنَهُمَا) إلا لمن قرأ الرحمن بالرفع (رَبِ) بالجر على الرحمن وقف على الوجوه إلا إن جعله مبتدأ (لا يَمْلِكُونَ) خبره (خِطاباً) ه لا بناء على أن (يَوْمَ) ظرف (لا يَمْلِكُونَ صَفًّا) ه لا بناء على أن (يَوْمَ) ظرف (لا يَتَكَلَّمُونَ صَواباً) ه لحق الشرط مع الفاء (مَآباً) ه (قَرِيباً) ه ج لأن (يَوْمَ) متعلق باذكر أو بـ (عَذاباً تُراباً) ه.

التفسير: حرف الجر إذا دخل على «ما» الاستفهامية تحذف ألفها نحو «بم» و «عم» و «علام» و «لم» ه لشدّة الاتصال وكثرة الاستعمال. ثم إن كان الكلام مبنيا على السؤال والجواب فالسائل والمجيب واحد وهو الله ، والفائدة في هذا الأسلوب أن يكون إلى التفهيم أقرب. ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما وقع فيه التساؤل وبيان أن مطلب ما وضع للسؤال عن حقائق الأشياء المجهولة والشيء العظيم الذي تعجز العقول عن إدراكه أو يدعي فيه العجز يكون مجهولا ، فوقع بين المسئول بما هو وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه ، والمشابهة أحد أسباب المجاز. والنبأ العظيم القيامة بدليل الردع عن الإختلاف وللتهديد بعده. وتقديم الضمير وبناء الكلام عليه لتقوى الكلام لا للاختصاص فإن غير قريش أيضا مختلفون في أمر البعث فمنهم من يثبت الروحاني في المعاد فقط ، ومنهم من يشك فيه كقوله (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف: ٣٦] ومنهم من يقطع بعدم البعث (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [المؤمنون: ٣٧] كان يسأل بعضهم بعضا عن القيامة ويتحدثون عنها متعجبين من وقوعها. ويجوز أن يكون المفعول محذوفا أي يتساءلون النبي والمؤمنين نحو تراءينا الهلال فيكون التساؤل بطريق الاستهزاء ويحتمل أن يكون الضمير للمسلمين والكافرين

٤٢٩

جميعا فقد كانوا جميعا يتساءلون عنه ، أما المؤمن فليزداد خشية واستعداد ، وأما الكافر فلأجل الاستهزاء. وقيل: النبأ العظيم القرآن ، واختلافهم فيه أن بعضهم جعلوه سحرا وبعضهم شعرا وكهانة. وقيل: نبوّة محمد كانوا يقولون ما هذا الذي حدث (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ق: ٢] وقالت الشيعة: هو عليّ قال القائل في حقه هو النبأ العظيم وفلك نوح وباب الله وانقطع الخطاب. قال أهل المعاني: تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد. وفي «ثم» إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ ، ويجوز أن يكون الأول في الدنيا والثاني في الآخرة ، أو الأول للكفار والثاني للمؤمنين. وقيل: الأول ردع عن الاختلاف والثاني عن الكفر. وحذف المفعول به أي سيعلمون أن ما يتساءلون عنه مختلفين فيه حق وصدق وذلك إذا اتصل العيان بالخبر. ومن قرأ الخطاب فقد سلك سبيل الالتفات. ثم عدد دلائل القدرة على البعث ودلائل الحكمة في الجزاء على أن كلا منهما نعمة يجب أن تشكر بالتوفر على الطاعة ولا تكفر بالإقدام على المعصية. والمهاد الفراش ، والأوتاد ما يشدّ بها أطناب الخيمة ، شبهت الجبال الراسيات بها لأنها تحفظ الأرض أن تميد بما عليها وقد سبق تقريره. والأزواج الأصناف المتقابلات القبيح بإزاء الحسن والطويل بحذاء القصير وغير ذلك من الأضداد. والسبات الراحة. والتركيب يدل على القطع والإزالة ومنه سبت الرجل رأسه إذا حلقه ، والنوم يزيل التعب عن الإنسان فيستعقب الراحة قاله ابن الأعرابي والمبرد. وقال الزجاج وغيره: هو الموت وهذا التفسير لا يناسبه مقام تعداد النعم. واللباس ما يتغطى به والليل أخفى للويل. والمعاش مصدر أو اسم زمان لأن الناس يتقلبون فيه لوجوه تعيشهم. والشداد المحكمة التي لا تقبل الشق والخرق إلا ما شاء الله. والوهاج المتلألئ الوقاد. وفي كتاب الخليل: الوهج النار. ولا شك أن الشمس جامعة للنور والحرارة. والمعصرات السحاب بلغة قريش من أعصرت إذا شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك «أحصد الزرع» أي حان أن يحصد ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وهذا القول مروي عن ابن عباس واختاره أبو العالية والربيع والضحاك. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل وقتادة: هي الرياح التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فكأنها مبادئ الإنزال. الثجاج المنصب بكثرة يقال «ثجه وثج بنفسه» وفي الحديث «أفضل الحج العج والثج» (١) فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج صب دماء الهدي. ثم بين غاية الإنزال وهي إخراج الحب للإنسان ، والنبات للأنعام غالبا ، والجنات الملتفة لأجل التلذذ والتفكه. قال الكسائي والأخفش: والألفاف جمع لف بالكسر ويحتمل

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الحج باب ١٤. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٦ ، ١٦. الدارمي في كتاب المناسك باب ٨.

٤٣٠

أن يكون جمع لفيف كشريف وأشراف. وقال في الكشاف: إنه لا واحد له كالأوزاع للجماعات المتفرقة ومنه قولهم «أخوة أخياف» أي مختلفة. واعلم أن هذه التسعة نظرا إلى حدوثها وإمكانها تدل على الفاعل المختار ، ونظرا إلى ما فيها من الإتقان والإحكام تدل على كمال علمه وحكمته الذاتية. وبعد ثبوت كماله في هذه الأوصاف لم يبق للمتأمل شك في إمكان الحشر وقد أخبر الصادق عن وقوع هذا الممكن فوجب الجزم به على أن في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليلا ظاهرا على إمكان إخراج الموتى من القبور وبعثهم فلهذا رتب على هذه البيانات قوله (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي حدا توقت به الدنيا أو حدا لفصل الحكومات تنتهي الخلائق إليه. والنفخة هاهنا هي الثانية التي تكون عندها الحياة بدليل قوله (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي طائفة طائفة إلى أن يتكامل اجتماعهم. وقال عطاء: كل نبي يأتي مع أمته. وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه فقال عليه‌السلام: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس ، وأما الذين على صورة الخنازير فآكل السحت ، وأما المنكسون فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هو أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء». وفتح السماء شقها وانفطارها أو معنى آخر مغاير لهما. والضمير في (فَكانَتْ) للسماء كأنها لكثرة أبوابها المفتوحة لنزول الملائكة صارت بكليتها أبوابا كقوله (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر: ١٢] ويحتمل أن يعود إلى مقدر دل عليه الكلام أي فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا. وقال الواحدي: المضاف محذوف أي فكانت ذات أبواب. وأما الجبال فإنه تعالى ذكر حالها بعبارات مختلفة ، ويمكن الجمع بينها بأن تدرك أوّلا (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة: ١٤] ثم تصير كالعهن ثم تصير كالهباء

٤٣١

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) وهي في كل هذه الأحوال باقية في مواضعها ثم تنسف بإرسال الرياح عليها (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) [الانفطار: ٤] ثم تطير هاهنا أحوال إذا برزت من تحتها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف: ٤٧] والثاني للجبال فتطيره في الهواء كالهباء فمن نظر إليها حسبها لتكاثفها أجساما جامدة وهي بالحقيقة مارة بتحريك الهواء كما قال (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل: ٨٨] والثالث لها باعتبار أماكنها الأصلية فمن نظر إلى المواضع من بعيد ظن أن الجبال هناك حتى إذا دنا منها لم يجد فيها شيئا (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور: ٣٩] وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً).

ثم أخبر عن أحوال السعداء والأشقياء يومئذ. وقدم ذكر هذا المقام غير محرر فلينظر الأشقياء لأن الكلام في السورة بني على التهديد فقال (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ) أي في علم الله أو هي مسلوبة الدلالة على المضي. والمرصاد إما اسم للمكان الذي يرصد فيه كالضمار للذي تضمر فيه الخيل ، والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه. والمعنى أن خزنة جهنم يرصدون الكفار هناك ، أو أن خزنتها يستقبلون المؤمنين عندها لأن جوازهم عليها بدليل قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم: ٧١] ولهذا قال الحسن وقتادة: يعني طريقا إلى الجنة. وإما صفة نحو «مقدام» بمعنى أنها ترصد أعداء الله. وقوله (لِلطَّاغِينَ) متعلق بما بعده أو بما قبله ، وعلى التقديرين لا بد من إضمار وهو لفظة لهم أو لأهل الجنة. ثم ذكر كيفية استقرارهم هناك فقال (لابِثِينَ) ومن قرأ بغير ألف فهو أدل على الثبات. قال جار الله: اللابث من وجد منه اللبث فقط ، واللبث من لا يكاد يبرح المكان أما الأحقاب فزعم الفراء أن أصله الترادف والتتابع أي دهورا مترادفة لا تكاد تتناهى كلما مضى حقب تبعه آخر. وقال الحسن: الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدّون. وسأل هلال الهجري عليا فقال: الحقب مائة سنة السنة اثنا عشر شهرا والشهر ثلاثون يوما واليوم ألف سنة. وقال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس: الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة من أيام الدنيا. ونحو هذا يروى عن ابن عباس وقطرب مرفوعا. فإن قيل: عذاب أهل النار ولا سيما الطاغين غير متناه والأحقاب بالتفاسير المذكورة وإن كثر مبلغها متناهية ، فما وجه الجمع بينهما؟ قلنا: الحقب متناه ولكن الأحقاب لا نسلم أنها متناهية فإن الجمع لا يلزم تناهي آحاده فيجوز أن يكون المعنى كلما مضى حقب تبعه آخر. قال الفراء: سلمنا أن الأحقاب تفيد التناهي لكن بالمفهوم والنصوص الدالة على التأبيد كقوله (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ

٤٣٢

وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة: ٣٧] تدل بالمنطوق ولا شك أن المنطوق راجح. وقال الزجاج: المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، ثم ينقلون إلى جنس آخر غير الحميم والغساق. وذكر في الكشاف وجها آخر وهو أن يكون أحقابا من حقب عامنا هذا إذا قل خيره. وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب كحذر وجمعه أحقاب فينتصب حالا منهم أي لابثين في أسوأ حال. والبرد معروف أي لا يجدون هواء باردا ولا ماء باردا. وقال الأخفش والفراء: هو النوم وذلك أن البرد لازم للنوم ولهذا يسكن العطش. وسببه توجه الحرارة الغريزية إلى الباطن عند فتور الحواس الظاهرة والحركات الاختيارية وفي أمثالهم «منع البرد البرد» أي أصابني من البرد ما منعني من النوم. وقد يضعف هذا القول أنهم لا يقولون ذقت البرد ويقولون «ذقت الكرى» وبأنهم يجدون الزمهرير فكيف يصح نفي البرد عنهم. وقد يجاب عن الأول بأن الذوق في الصورتين مجاز فأي ترجيح لأحدهما على الآخر. وعن الثاني بأن المراد برد له روح لا الذي فيه عذاب. والحميم الماء البالغ في الحرارة ، والغساق صديد أهل النار. قوله (جَزاءً) نصب على المصدر أي جزاهم جزاء. وانتصب (وِفاقاً) على الوصف أي ذا وفاق أو موافقا لعملهم في القبح والفظاعة والدوام. ثم ذكر علة التأبيد فقال (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) لا يخافون أو لا يتوقعون حسابا وهذه إشارة إلى نقصانهم بحسب القوة العلمية فإن الذي اعتقد أنه لا حشر ولا حساب لا يبالي بأي شيء ترك من القبائح والمظالم أو أي شيء ترك من الخيرات والفضائل. قوله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) إشارة إلى فساد عقائدهم حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل. ومصدر «فعل» مشدد العين يجيء على «فعال» بالتشديد وهو الأكثر ، وبالتخفيف عند بعضهم ولهذا لم يقرأ به إلا في الشواذ. قال جار الله: هو مصدر كذب بدليل قوله:

فصدّقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذابه

وهو مثل قوله (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح: ١٧] يعني وكذبوا بآياتنا وكذبوا كذابا أو تنصبه بـ (كَذَّبُوا) لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب. وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين ، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يبالغ في أمر فبلغ فيه أقصى جهده. أقول: أراد بهذا الوجه الأخير أن باب المغالبة يبنى على المفاعلة فيمكن أن يستدل بالمفاعلة على المبالغة بطريق العكس الجزئي (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) من باب الإضمار على شريطة التفسير. قوله (كِتاباً) مصدر لأنه والإحصاء يتلاقيان في معنى الضبط والتحصيل ، ويجوز أن يكون حالا

٤٣٣

أي مكتوبا في اللوح أو في صحف الأعمال. قال جار الله: هذه جملة معترضة. أقول: إنها من تمام التعليل المذكور أي فعلوا كذا وكذا ونحن عالمون بجميع الكليات والجزئيات فلهذا كتبنا جزاء العاصين على وفق أعمالهم.

ثم أظهر غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن المذكور سبب عن كفرهم بالحسنات وتكذيبهم بالآيات. وزيادة العذاب يحتمل أن تكون لأجل أن المؤثر إذا استمرّ ودام ازداد الإحساس بأثره ، ويحتمل أن يكون لازدياد كفرهم وعتوّهم حينا بعد حين كقوله (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: ١٢٥] ويحتمل أن تكون زيادة العذاب عبارة عن نفس استمراره لأنه يتزايد بمرور الزمان ، والمراد انا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه. ثم شرع في شرح أحوال السعداء قائلا (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) فوزا وظفرا بالمطالب والأماني أو موضع فوز ثم فسره بقوله (حَدائِقَ) إلخ. والحدائق البساتين فيها أنواع الشجر وقد مرّ في قوله (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) [النمل: ٦٠] وخص منها الأعناب لشأن مزيته على سائر الفواكه. والكواعب النواهد واحدها كاعب كطالق وطامث وهي التي ظهر ثديها كالكعب لها نتوّ قليل. والأتراب اللدات. والدهاق المترعة المملوءة وهذا قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد. يروى أن ابن عباس دعا غلاما له فقال: اسقنا دهاقا فجاء الغلام بها ملانة فقال ابن عباس: هذا هو الدهاق. وعن أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد: هي المتتابعة. قال الواحدي: وأصل هذا من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقا وهو شدّة تلازمها ودخولها بعضها في بعض. وعن عكرمة: دهاقا أي صافية. والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع دهق وهي خشبتان يعصر بهما. والكأس الخمر أي خمرا ذات دهاق وهي التي عصرت وصفيت بالدهاق. و (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي في الجنة وهو الأظهر أو في الكأس وشربها (لَغْواً) كلاما باطلا (وَلا كِذَّاباً) أي لا يكذب بعضهم بعضا لأنهم إخوان الصفاء وأخذان الوفاء. ومن قرأ بالتخفيف فمعناه أنه لا يجري بينهم كذب أو مكاذبة. قال جار الله: (جَزاءً) مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) كأنه قال: جازى المتقين بمفاز و (عَطاءً) نصب بـ (جَزاءً) نصب المفعول به أي جزاهم عطاء. وقال الزجاج: المعنى جازاهم بذلك جزاء وأعطاهم عطاء. ومعنى (حِساباً) كافيا من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال: حسبي. وقيل: أي على حسب أعمالهم فمعنى الحساب العدّ والتقدير لبعضهم عشرة ولبعضهم سبعمائة وأكثر. وقال ابن قتيبة: هو من أحسبت فلانا أي أكثرت له يعني عطاء كثيرا. وإنما قال في الأول (جَزاءً وِفاقاً) لأن جزاء السيئة

٤٣٤

سيئة مثلها أي موافقة لها. وأما هاهنا فالمراد ثواب المؤمنين وليس ذلك بتقدير العمل فقط ولكن بمقدار ما يكفيه. ثم مدح نفسه بقوله (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) وقد تقدّم إعرابه في الوقوف. والضمير في (لا يَمْلِكُونَ) قيل للكافرين نقله عطاء عن ابن عباس ، يريد لا يخاطب المشركون الله ، وأما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم. وقيل للمؤمنين لأن ذكرهم أقرب من ذكر الكفار ، والمراد أنه ما تحيف حقهم فبأي سبب يخاطبونه. والأكثرون على أن الضمير لأهل السموات والأرض فإن أحدا من المخلوقين لا يملك خطابا من جهة الله إذ كل من هو سواه فهو مملوكه ، والمملوك لا يملك من جهة مالكه شيئا وإلا لم يكن للمالك كمال الملك. وقالت المعتزلة: إنه عالم بقبح القبيح غني عن فعله وعالم بغناه فلا يفعل إلا الحسن وحينئذ لا وجه للمطالبة والمخاطبة. ثم أكد المعنى المذكور بقوله (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) وهو أعظم المخلوقات قدرا كما مرّ في سورة سبحان في تفسير قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء: ٨٥] والصف مصدر في الأصل لا يثنى ولا يجمع غالبا فلهذا جاز أن يكون المراد أنهم يقومون صف من الروح وحده ومن الملائكة بأسرهم صف ، وجاز أن يكون يراد يقوم الكل صفا واحدا أو يقومون صفوفا لقوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: ٢٢] ثم بين أنهم مع جلالة قدرهم لا يتكلمون إلا بشرطين: أحدهما الإذن من الله ، والضمير في (لَهُ) إما للشافع أو للمشفوع. والثاني أن يقول (صَواباً) والضمير في (قالَ) أيضا إما للشافع فالمراد أنهم لا ينطقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام ، ثم بعد الإذن يجتهدون حتى لا يتكلمون إلا بما هو حق وصواب. وإما للمشفوع. والقول الصواب على هذا التفسير شهادة أن لا إله إلا الله و (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي لا باطل فيه ولا ظلم أو هو الكائن لا محالة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) بالطاعة (إِلى رَبِّهِ مَآباً) ومرجعا. والظاهر أن الضمير عائد في (شاءَ) إلى (فَمَنْ) وفيه دليل للمعتزلة. ويروى عن الخدري وابن عباس أن الضمير لله (عَذاباً قَرِيباً) هو عذاب الآخرة لأن ما هو آت قريب. وفي المرء أقوال: فعن عطاء أنه الكافر لتقدّم ذكر الإنذار وقوله الكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم. وعن الحسن وقتادة: إنه المؤمن لمجيء ذكر الكافر بعده ، ولأن المؤمن لما قدّم الخير والشر فهو منتظر لأمر الله كيف يحدث ، وأما الكافر فإنه قاطع بالعذاب ومع القطع لا يحصل الانتظار. والأظهر أنه عام في كل مكلف. و «ما» استفهامية منصوبة بـ (قَدَّمَتْ) أو موصولة منصوبة بـ (يَنْظُرُ) فيلزم إضمار «إن» حذف العائد من قدّمته ، وحذف الجار لأن الأصل أن يقال ينظر إليه. قوله (كُنْتُ تُراباً) فيه وجوه أحدها: ليتني لم أبعث غير محشور. الثاني ما ورد في الأخبار أن البهائم تحشر فيقتص

٤٣٥

للجماء من القرناء ثم تردّ ترابا فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب. وأنكر بعض المعتزلة ذلك لأنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوّض وبين متفضل عليه ، وعلى التقديرين لا يجوز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها. قال القاضي: إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل لم يبعد أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ضررا. وقال بعضهم: إن الحيوانات إذا انتهت مدّة أعواضها جعل الله تعالى كل ما كان منها حسن الصورة ثوابا لأهل الجنة ، وما كان قبيح الصورة عقابا لأهل النار. الثالث قال بعض الصوفية: أراد يا ليتني كنت متواضعا في طاعة الله كالتراب لا مرتفعا كالنار. الرابع قيل: الكافر إبليس يرى آدم وثواب أولاده فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص: ٧٦].

٤٣٦

(سورة النازعات وهي مكية حروفها

سبعمائة وثلاثون وآياتها ست وأربعون وكلمها مائة وسبعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

القراآت: (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) بالإدغام فيهما: أبو عمرو غير عباس أثنا (أَإِذا) كما مر في «الرعد» إلا ابن عامر فإنه وافق الكسائي ناخرة بالألف: حمزة وعلي غير نصير وعتيبة وخلف ورويس وعاصم غير المفضل وحفص و (طُوىً) كما مر في «طه» وكذا ما بعدها إلا حمزة وخلف في اختياره فإنهما يفتحان. ومنها (تَزَكَّى) بتشديد الزاي: أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس ويعقوب منذر من بالتنوين: يزيد وعباس. الآخرون: بالإضافة للتخفيف.

٤٣٧

الوقوف (غَرْقاً) ه لا (نَشْطاً) ه لا (سَبْحاً) ه لا (سَبْقاً) ه لا (أَمْراً) ه م لأن جواب القسم محذوف وهو ليبعثن ولأنه لو وصل لأوهم أن (يَوْمَ) ظرف (فَالْمُدَبِّراتِ) وليس كذلك لأن تدبير الملائكة قد انقضى وقتئذ بل عامل (يَوْمَ) تتبعها (الرَّاجِفَةُ) ه لا (الرَّادِفَةُ) ه ط (واجِفَةٌ) ه ط (خاشِعَةٌ) ه م لتناهي وصف القيامة وابتداء حكاية قولهم في الدنيا (فِي الْحافِرَةِ) ط لمن قرأ اإذا مستفهما (نَخِرَةً) ه ط (خاسِرَةٌ) ه م لتناهي قولهم بالإنكار وابتداء أخبار الله تعالى (واحِدَةٌ) ه ط (بِالسَّاهِرَةِ) ه ط (مُوسى) ه م لأن (إِذْ ناداهُ) يجوز أن يكون ظرفا لا ذكر قاله السجاوندي. ويحتمل عندي تعلقه بالحديث وإن لم يجز تعلقه بإتيان الحديث (طُوىً) ه ج لاحتمال أن يكون (اذْهَبْ) مفعول (ناداهُ) لأنه في معنى القول واحتمال أن يكون مفعول القول المحذوف (طَغى) ه للآية مع اتفاق الجملتين والوصل أوجه للفاء (تَزَكَّى) ه لا للعطف (فَتَخْشى) ط للآية وانتهاء الاستفهام مع العطف بفاء التعقيب (الْكُبْرى) ه ز لذلك إنما كان الوصل أوجه للفاء واتصال المقصود (وَعَصى) ه (يَسْعى) ه (فَنادى) ه (الْأَعْلى) ه والوصل هاهنا ألزم للعبرة بتعجيل المؤاخذة (وَالْأُولى) ه ط (يَخْشى) ه ط لتبدل الكلام لفظا ومعنى وابتداء الاستفهام (أَمِ السَّماءُ) ه ط بناء على أن الجملة لا تقع صفة للمعرفة وتقدير حذف الموصول من ضيق العطن فاعرفه (بَناها) ه لا (فَسَوَّاها) ه لا (ضُحاها) ه ص (دَحاها) ه ط بناء على أن ما بعده كالتفسير للدحو وهو تمهيدها لأجل السكنى ، وجوز أن يكون (أَخْرَجَ) حالا بإضمار «قد» فلا وقف (مَرْعاها) ه ص (أَرْساها) ه (وَلِأَنْعامِكُمْ) ه ط (الْكُبْرى) ه ز لأن (يَوْمَ) ظرف (جاءَتِ) وعامل «إذا» مقدّر تقديره أي ترون أو كان ما كان ، وجوز أن يكون (يَوْمَ) مفعول «اذكر» وعامل «إذا» مقدّر قبل يوم ، ويجوز أن يكون مجموع الشرط والجزاء وهو قوله (فَأَمَّا مَنْ طَغى) إلى آخره جوابا لقوله (فَإِذا جاءَتِ). (سَعى) ه ط (لِمَنْ يَرى) ه (طَغى) ه لا (الدُّنْيا) ه لا (الْمَأْوى) ط (الْهَوى) ه لا (الْمَأْوى) ه ط (مُرْساها) ط (ذِكْراها) ه ط (مُنْتَهاها) ه ط (يَخْشاها) ه ط (ضُحاها) ه.

التفسير: في الكلمات الخمس المذكورة في أول السورة وجوه على نسق ما سبق في المرسلات أحدها: أنها صفات طوائف الملائكة الذين ينزعون نفوس الكفرة من بني آدم غرقا أي نزعا بشدّة من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها. والغرق والإغراق في اللغة واحد يقال: نزع في القوس فأغرق أي بلغ غايته حتى انتهى إلى النصل ، وبالذين يجذبون نفوس المؤمنين برفق ولين كما ينشط الدلو من البئر ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي

٤٣٨

تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر بإذن الله أمرا من أمور العباد أو جنس الأمر. قال مقاتل: يعني بهذه الطوائف جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأعوان كل منهم. فجبريل موكل بالرياح والجنود ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، وإسرافيل بنفخ الصور ، وملك الموت عزرائيل وأعوانه بقبض الأرواح. قال الإمام فخر الدين الرازي: النازعات هم الذين نزعوا أنفسهم عن الصفات البشرية والأخلاق الذميمة من الشهوة والغضب والموت والهرم والسقم لأنهم جواهر روحانية مجردة ، والناشطات إشارة إلى أن خروجهم من هذه الأحوال ليس على سبيل الكلفة والمشقة ولكنه بمقتضى الطبيعة والماهية ، والسابحات هم الذين سبحوا في بحار جلال الله فسبق بعضهم بعضا في ميدان العرفان وحلبة البرهان فدبروا أمر العالم العلوي والعالم السفلي بإذن مبدعهم المنّان. أقول: ويمكن حمل هذه الأمور على مراتب النفس الإنسانية بمثل التقدير المذكور. الوجه الثاني وهو قول الحسن البصري أنها النجوم وتلخيص ذلك على الوجه المطابق للغة والشريعة أنها تغرق شبه النزع من المشرق إلى المغرب بالحركة السريعة ، وتنشط نشطا أي تخرج من برج إلى برج من قولك «ثور ناشط» إذا خرج من بلد إلى بلد ، وهذا بحركته البطيئة الثابتة. وأما السابحات فهي السيارة كقوله (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: ٣٣] ولأن سيرها المتفاوت يصير سببا لسبق بعضها بعضا ، ويترتب على السبق الاتصالات والانصرافات ومعرفة الفصول والأوقات وتقدّم العلم بالكائنات بل العالم السفلي وتدبيراتها مناط بتلك الحركات بإذن خالق الأرض وفاطر السموات فلهذا أدخل الفاء في القرينتين الأخريين دون الأوليات. الوجه الثالث أنها صفات خيل الغزاة تنزع في أعنتها نزعا ، تغرق الأعنة فيه لطول أعناقها لأنها عراب ، وهى ناشطات تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، وهي سابحات تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر وتتسبب فيه. الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم النازعات أيدي الغزاة وأنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام ، والناشطات السهام الخارجة من أيديهم أو قسيهم ، والسابحات الخيل العاديات أو الإبل ، والمدبرات بمعنى المعقبات لأنها تأتي في أدبار هذه الأفاعيل بأمر الغلبة والنصر. قال جار الله: (يَوْمَ تَرْجُفُ) منصوب بجواب القسم المحذوف وهو «لتبعثن». وقوله (تَتْبَعُهَا) حال. ثم أورد على نفسه أن هذا يوجب أن يكون البعث عند النفخة الأولى وأجاب عنه بأنهم يبعثون في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان كما يقال «رأيته عام كذا» وإنما رؤيته في ساعة منها. والراجفة الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفخة الأولى فهي من الإسناد المجازي. والرادفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء ، وقد ورد

٤٣٩

الخبر أن ما بين النفختين أربعون عاما. ويروى أنه تعالى يمطر الأرض في هذه الأربعين ويصير ذلك الماء عليها كالنطف فيكون سببا في الإحياء ولله تعالى أن يفعل ما يشاء. وقيل: الراجفة هي النفخة الأولى ، والرادفة هي قيام الساعة من قوله تعالى (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [النمل: ٧٢] وقيل: الراجفة الأرض والجبال من قوله (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل: ١٤] والرادفة السماء والكواكب لأنها تنفطر وتنتثر على أثر ذلك. وقيل: الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل ، والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى. قال أبو مسلم بناء على تفسيره الذي روينا عنه إن كلا من الراجفة والرادفة هي خيل المشركين وأريد بهما طائفتان من المشركين حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبعت إحداهما الأخرى. والقلوب الواجفة أي القلقة ، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين وعلى الأقوال القلوب الموصوفة مبتدأ. وقوله (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) خبره وفي الكلام إضمار أي أصحابها خاشعة بدليل قوله (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي الحالة الأولى وهي الحياة وأصله من قولهم «رجع فلان في حافرته» أي طريقه التي جاء فيها ، جعل أثر قدميه حفرا فالطريق في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة على الإسناد المجازي أو على وتيرة النسبة أي ذات حفر كما قلنا في «عيشة راضية» ونحوه (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) كما يجيء.

ثم زادوا في الإنكار مع إشارة إلى وجه الإحالة قائلين (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) نردّ أو نبعث. يقال: نخر العظم فهو نخر وناخر مثل حذر وحاذر وهو الأجوف البالي الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخر وهما لغتان فصيحتان ، لأن النخر وإن كان أبلغ في المعنى إلا أن الناخرة بالألف أشبه بأخواتها من رؤوس الآي. ثم أخبر أنهم قالوا على سبيل الاستهزاء (تِلْكَ) الكرة (إِذاً) أي إذا نحشر ونردّ ونرجع (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) رجعة ذات خسران لأنا كذبنا بها. ثم أفحمهم بقوله (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ) أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فما هي إلا صيحة (واحِدَةٌ) يقال: زجر البعير إذا صاح عليه وهي صيحة إسرافيل في النفخة الثانية. يروى أنه تعالى يحييهم في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون. والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن ساكنها لا ينام خوف الهلاك ، أو لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة أي جارية. والأظهر أنها أرض الآخرة. وقيل: هي أرض الدنيا ثم ذكرهم بقصة موسى لأنه أبهر الأنبياء المتقدّمين معجزة وفيها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن فرعون كان أكثر جمعا وأشدّ قوة من كفار قريش. والوادي المقدّس المبارك المطهر ، وطوى اسم واد بالشأم عند الطور وقد مر في «طه». قوله (هَلْ لَكَ) الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي هل لك حاجة أو ميل أو التفات ونحو ذلك ، وهذه كلمة جامعة لمواجب

٤٤٠