تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

ألفا. وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل «هود». ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة. ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده. والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه ، وبكونه ذكرى أن يكون مذكرا للشيء المنسيّ. وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسليا له بقوله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالنصر وإعلاء كلمة الحق (حَقٌ) كما قص عليك من حال موسى وغيره. ثم أمره باستغفار لذنبه وقد سبق البحث في مثله مرارا. والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام. قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى هاهنا. وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة ، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك. ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر ، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبير بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ثم نيه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلا (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) وفيه مزيد توبيخ وتقريع ، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معاندا مصرا. ثم صرح بوجود القيامة قائلا (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في «طه» لأن المخاطبين هاهنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى ، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها. ومعنى (لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بالبعث. ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أكثر المفسرين على أن الدعاء هاهنا بمعنى العبادة ، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن

٤١

كقوله (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) [النساء: ١١٧] روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الدعاء العبادة» وقرأ هذه الآية. وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء. وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [الآية: ١٨٦] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال: وحدوني أغفر لكم. وفي الدعاء. قال جار الله: وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد. ومعنى (داخِرِينَ) صاغرين. وقال أهل التحقيق: كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله. وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجابا البتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله. ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مرارا ولا سيما في أواخر «يونس» وأواسط «البقرة». وكرر ذكر الناس نعيا عليهم وتخصيصا لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات. وأما وجه النظم فكأنه يقول: إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال؟ ففيه تحريض على الدعاء. وأيضا الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال. قوله (ذلِكُمُ اللهُ) إلى قوله (إِلَّا هُوَ) قد مر في «الأنعام». قوله (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) أي كل من حجد بآيات الله ولم يكن طالبا للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا. قوله (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) كقوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء: ٧٠] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: ٤] قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه ، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله. قوله (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ) شامل لأدلة العقل والنقل جميعا. قوله (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا. وأما قوله (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى هو الموت أو القيامة ، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر.

وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه ، ثم أشار بقوله (فَإِذا قَضى) إلخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء ما إلى آلة وعدّة. وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط ، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن ، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق ، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد. ويمكن أن

٤٢

يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: ٥٩] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا (أَلَمْ تَرَ) الآية والكتاب القرآن. وما أرسل به الرسل سائر الكتب. وقوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ليس كقول القائل: سوف أصوم أمس. بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي ، لأن «إذ» هاهنا بمعنى «إذا» إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو (وَسِيقَ) [الزمر: ٧٣] (وَنادى) [الأعراف: ٤٨] وقال المبرد: إذ صارت زمانا قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال. والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود. ومعنى (يُسْجَرُونَ) قال جار الله: هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها. والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار. وقال مقاتل: في الحميم يعني في حر النار (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) على سبيل التوبيخ (أَيْنَ ما كُنْتُمْ) «ما» موصولة مبتدأ و «أين» خبرها. ومعنى (ضَلُّوا) غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة ، وأكدوا هذا المعنى بقوله (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) يعتدّ به كما تقول: حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير. ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال: إنهم أنكروا عبادة الأصنام. ثم قال (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) قالت الأشاعرة: أي عن الحجة والإيمان. وقالت المعتزلة: عن طريق الجنة بالخذلان. وقال في الكشاف: أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر. واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء: ٩٨] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر. وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع. (ذلِكُمْ) العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط (بِغَيْرِ الْحَقِ) وهو الشرك وعبادة الصنم. ويجوز أن يكون القول محذوفا أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) يعني الذين مر ذكرهم في قولهم إن في صدوركم إلّا كبر والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم. قال جار الله: إنما لم يقل «فبئس مدخل المتكبرين» حتى يكون مناسبا لقوله (ادْخُلُوا) كقولك: زر بيت الله فنعم المزار. لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء. وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من عذاب الدنيا فذاك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) هذا التقدير ذكره جار الله ، وقد مر في «يونس» مثله.

٤٣

وأقول: لا بأس أن يعطف قوله (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) على (نُرِيَنَّكَ) ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعا ومعناه: إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا. ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) الآية. ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وقيل: ثمانية آلاف ، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس. ولعل الأصح أن عددهم لا يعلمه الا الله لقوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) [إبراهيم: ٩] لكن الإيمان بالجميع واجب. عن علي رضى الله عنه: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته. ثم إن قريشا كانوا يقترحون آيات تعنتا كما مر في أواخر «سبحان» وأول «الفرقان» وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بعذاب الدنيا أو بالقيامة. وقال ابن بحر: أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها (وَخَسِرَ هُنالِكَ) أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان (الْمُبْطِلُونَ) وهم أهل الأديان الباطلة. ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلا (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا) قال جار الله: ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال: لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا. أو يقال: منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو ، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعا. وإنما قال (عَلَى الْفُلْكِ) ولم يقل «وفي الفلك» مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجا لقوله (وَعَلَيْها) [المؤمنون: ٢٢] والحمل محمول على الظاهر. وقيل: هو من قول العرب: حملت فلانا على الفرس إذا وهب له فرسا. ثم وبخهم بقوله (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ).

ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) الآية. وقد سبق. وقوله (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) «ما» نافية أو استفهامية ومحلها النصب. وقوله (ما كانُوا) مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا. قوله (فَرِحُوا) لا يخلو إما أن يكون الضمير عائدا إلى الكفار أو إلى الرسل. وعلى الأول فيه وجوه منها: أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف: ٣٦] اإذا كنا ترابا وعظاما اانا لفي خلق جديد [ق: ٤] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية: ٢٤] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم

٤٤

كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه‌السلام فقيل له: لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه‌السلام: بعثت لغيرنا. ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم: ٧] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات. وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ووجه آخر وهو أن يكون ضمير (فَرِحُوا) للكفار وضمير (عِنْدَهُمْ) للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مرارا. ومعنى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ) لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف. وترادف الفاءات في قوله (فَما أَغْنى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ فَلَمَّا رَأَوْا فَلَمْ يَكُ) لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخ. وقال جار الله: فما أغنى نتيجة قوله (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) وقوله (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) جار مجرى البيان والتفسير لقوله فلما أغنى وقوله (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) تابع لقوله (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) كأنه قال: فكفروا كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) آمنوا وكذلك (فَلَمْ يَكُ) تابع لإيمانهم بعد البأس. قال أهل البرهان: وإنما قال هاهنا (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) وفيما قبل (الْمُبْطِلُونَ) لأنه قال هناك (قُضِيَ بِالْحَقِ) ونقيض الحق الباطل ، وهاهنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم.

٤٥

(سورة فصلت وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون كلمها سبعمائة وأربع وتسعون آياتها ٥٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

٤٦

سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

القراآت: سواء بالرفع: يزيد. وقرأ يعقوب بالجر. الباقون: بالنصب نحسات بسكون الحاء: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وسهل ويعقوب وأما ثمود بالنصب: المفضل نحشر بالنون أعداء بالنصب: نافع ويعقوب. الآخرون: بالياء مجهولا (أَعْداءُ) مرفوعا.

الوقوف: (حم) كوفي (الرَّحِيمِ) ه ج لأن قوله (كِتابٌ) يصلح أن يكون بدلا من (تَنْزِيلٌ) وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلٌ) هو مع وصفه مبتدأ و (كِتابٌ) خبره (يَعْلَمُونَ) ه ج لأن و (بَشِيراً) صفة أخرى لـ (قُرْآناً وَنَذِيراً) ه ج لاختلاف الجملتين (لا يَسْمَعُونَ) ه (عامِلُونَ) ه (وَاسْتَغْفِرُوهُ) ج (لِلْمُشْرِكِينَ) ه لا (كافِرُونَ) ه (مَمْنُونٍ) ه و (أَنْداداً) ط (الْعالَمِينَ) ه لا للآية مع العطف (أَيَّامٍ) ط لمن نصب (سَواءً) أو رفع ومن خفض لم يقف (لِلسَّائِلِينَ) ه (كَرْهاً) ط (طائِعِينَ) ه (أَمْرَها) ج للعدول (بِمَصابِيحَ) ج لحق المحذوف أي وحفظناها حفظا ولعل الوصل أولى لما يجيء (وَحِفْظاً) ه (الْعَلِيمِ) ه (وَثَمُودَ) ه بناء على أن «إذ» يتعلق بمحذوف هو أذكر أو بمعنى الفعل في الصاعقة أي يصعقون إذ ذاك ، ولا يجوز أن يتعلق بـ (أَنْذَرْتُكُمْ إِلَّا اللهَ) ط (كافِرُونَ) ه (مِنَّا قُوَّةً) ط (مِنْهُمْ قُوَّةً) ط للفصل بين الإخبار والاستخبار (يَجْحَدُونَ) ه (الدُّنْيا) ج (لا يُنْصَرُونَ) ه (يَكْسِبُونَ) ه (يَتَّقُونَ) ه (يُوزَعُونَ) ه (يَعْمَلُونَ) ه (عَلَيْنا) ط (تُرْجَعُونَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (الْخاسِرِينَ) ه (مَثْوىً لَهُمْ) ط (الْمُعْتَبِينَ) ه

التفسير: (حم) قال بعضهم: الحاء من الحكمة ، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل ، الرحيم في الأبد وهي (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي ميزت أمثالا ومواعظ وأحكاما وقصصا إلى غير ذلك. وقد مر في أوّل «هود». وانتصب (قُرْآناً) على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعنى بالإصالة وللباقين بعدهم ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم فالدعوة تحصل أوّلا لهم. والأظهر عندي أنه كقوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: ٢] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به. قال أهل السنة: الصفات المذكورة هاهنا للقرآن توجب شدة

٤٧

الاهتمام بمعرفته. والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلا من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين ، وفيه شفاء لأمراض القلوب ، وكونه كتابا. والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين. وقوله (فُصِّلَتْ آياتُهُ) دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولا سيما للعرب ومن داناهم. وكونه (بَشِيراً وَنَذِيراً) يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ ، ويخلص من العقاب السرمدي. فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له. ثم أكد بيان إعراضهم بقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام: ٢٥] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. قال جار الله: فائدة «من» في قوله (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) دون أن يقول «وبيننا» هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب ، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل: إن الحجاب ابتدأ منا ومنك. ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية (فَاعْمَلْ) أي على دينك أو في إبطال ديننا (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا أو في إبطال أمرك. ثم أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب عن شبهتهم بقوله (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ التوحيد والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده. ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم. قال في الكشاف: أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد. ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين: الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة. ثم هددّ أهل الشرك بقوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلا وبالآخرة ثانيا ، لأن المال شقيق الروح ، وبه وببذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق ، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة ، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج ولا يطعمون المؤمنين فنزلت قاله الفراء. وقيل: أراد بالزكاة هاهنا الإيمان لأنه يزكي النفس من دون الشرك. ثم ذكر جزاء المطيعين وهو ظاهر. والممنون المقطوع. وقيل: هو من المنة. قال جمع من المفسرين: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن

٤٨

الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.

لما حكى بعض قبائح المشركين وسائر الكفرة أراد أن يورد دليلا على التوحيد فأمر رسوله أن يوبخهم بقوله (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي) سمعتم ممن تصدّقونهم من أهل الكتاب غيركم أنه (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) عمم الكفر أوّلا ثم خصص بنوع الشرك (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) ومعنى (مِنْ فَوْقِها) أي بالنسبة إلى سكان المعمورة تذكيرا لنعمة فوق نعمة فإن الجبال منافعها أكثر من أن تحصى يعرف بعضها أهلها ولعلنا قد عددنا في أوّل «البقرة» طرفا منها. (وَبارَكَ فِيها) بوضع الخيرات الكثيرة فيها. قال ابن عباس: يريد شق الأنهار وخلق الجبال والأشجار والحيوانات وكل ما يحتاج إليه (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) عن مجاهد: يعني المطر فإنه بمنزلة الغذاء للأرض به حياتها. وعن محمد بن كعب: أراد أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وقيل: لا حاجة إلى الإضمار فإن الإضافة تحسن لأدنى ملابسة أي وقدر فيها أقواتها التي يختص حدوثها بها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يعني مع اليومين الأوّلين فيكون إيجاد نفس الأرض في يومين وإيجاد هذه الأشياء في يومين آخرين والمجموع أربعة أيام وخلق السماء في تتمة ستة فتكون هذه الآية موافقة لسائر الآيات ، وقد سبق هذا المعنى في أوّل سورة البقرة. من قرأ (سَواءً) بالرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سواء. ثم إن كان الضمير للأربعة فمعناه أن تلك الأيام مستوية في الطول والقصر كأيام خط الاستواء ، أو هي تامة غير ناقصة بشيء فقد يطلق لفظ الكل على الأكثر ، وهذه إحدى فوائد العدول عن العبارة الصريحة وهي أن لو قال في يومين آخرين. وقال بعضهم: من فوائده أنه لا يجوز عطف قوله (وَجَعَلَ) على (خَلَقَ) لأن قوله (وَتَجْعَلُونَ) معطوف على (لَتَكْفُرُونَ) ولا يجوز أن يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليه بأجنبي لا يقال: جاءني الذي يكتب وجلس ويقرأ فلا بدّ من إضمار فعل مثل الأول فتقدير الكلام: ذلك أن رب العالمين خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، وهو كلام لا يرد عليه سؤال أصلا. ومن قرأ بالجر فعلى وصف الأربعة بالاستواء والمعنى كما مر. ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي استوت استواء. ثم إن كان الضمير للأربعة فالمعنى كما قلنا ، وإن كان للأقوات. وكذا في قراءة الرفع احتمل أن يكون (لِلسَّائِلِينَ) متعلقا به أي الأقوات والأرزاق سواء لمن سأل ولمن لم يسأل لما روى عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا رديفه يقول: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل ، وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ، ومن سأل فهو جهل منه.

٤٩

واحتمل أن يكون قوله (لِلسَّائِلِينَ) متعلقا بقوله (وَقَدَّرَ) أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء. وقيل: إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل: هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، لأن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك. قوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء ، وقد مر في أول «البقرة». قوله (وَهِيَ دُخانٌ) ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات. وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور ، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور. واعلم أن ظاهر قوله (ثُمَّ اسْتَوى) يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر. وفي الآثار ، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ) [يوسف: ٧٧] أي إن يكن يسرق. وزيف بأن الجمع بين «ثم» الدال على التأخر وبين إضمار «كان» الدال على التقدم جمع بين النقيضين. ويمكن أن يجاب بأن «ثم» هاهنا لترتيب الأخبار. وقال الإمام فخر الدين الرازي: المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: ٥٩] فإن إيجاد الموجود محال. فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا. قلت: لو لم يكن قوله تعالى (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) إلى قوله (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) لكان هذا التأويل له وجه. وقال بعض الصوفية: خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد ، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها ، وبارك فيها بالحواس الخمسة ، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي ، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطوارا سبعة كقوله (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) [نوح: ١٥] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم: ١١] ثم الحكمة «ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه» ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام

٥٠

الرباني. قوله (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) الآية. للمفسرين فيه قولان: الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال (طائِعِينَ) على لفظ جمع المذكر السالم ، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء. ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع. ومن هؤلاء من قال: نطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض. وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا: معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا: جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك. ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال: أتى عمله مرضيا. ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قرارا والسماء سقفا لها. وقوله (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين. والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم ، وأن يكون المراد ما تقدم. وقال بعضهم: الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف. وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره. قلت: لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما. قوله (فَقَضاهُنَ) قضاء الشيء إتمامه والفراغ منه مع الإتقان. والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سموات سبع. وانتصب (سَبْعَ سَماواتٍ) على الحال. وإما مبهم مميز بما بعده. يروى أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين ، وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم وأسكنه الجنة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي أمر أهلها من العبادة والتكليف الخاص بكل منهم ، فبعضهم وقوف وبعضهم ركوع وبعضهم سجود ، وعلى هذا احتمل أن يكون خلق الملائكة مع السموات وقبلها. وقيل: الإيحاء هاهنا التكوين والإيجاد وأمرها شأنها وما يصلحها (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بالنيرات المضيئة كالمصباح (وَحَفِظْناها) حفظا من الشياطين المسترقة للسمع كما مرّ مرارا. وجوّز جار الله أن يكون (حِفْظاً) مفعولا له على المعنى كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة (وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فلكمال عزته قدر على خلق ما خلق ولشمول علمه دبر ما دبر.

٥١

ثم قال لنبيه عليه‌السلام (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن التوحيد بعد هذا البيان الباهر والبرهان القاهر (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) لأن الإصرار على الجهل بعد وضوح الحق عناد ، ولا علاج للمعاند سوى التأديب بما يناسبه. يروى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره. فقال عتبة بن ربيعة: أنا ذاك. فأتاه وقال: أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا. وعرض عليه الرياسة والنساء والأموال إن ترك ذلك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم إلى قوله (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فهال عتبة بذاك وناشده بالرحم ورجع ولم يأت قريشا. فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ. فانطلقوا إليه فقال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ (صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) ناشدته بالرحم أن يكف. ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. فإن قيل: كيف يصح هذا الإنذار وقد أخبر الله سبحانه في قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال: ٣٣] وإن هذه الأمة آمنون من العذاب؟ قلنا: الأنفال مدينة وهذه مكية. قوله (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قيل: الضميران عائدان إلى الرسل أي جاءهم رسل بعد الرسل. وقيل: من بين أيديهم أي حذروهم الدنيا (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الآخرة. وقيل: من بين أيديهم الذين عاينوهم ، ومن خلفهم الذين وصل إليهم خبرهم وكتبهم. وحقيقة بين يديه أن يستعمل للشيء الحاضر ، ومجازه أن يستعمل للشيء الماضي بزمان قريب. وقال بعض المحققين: معناه أتاهم الرسل من كل جهة وأعملوا في إرشادهم كل حيلة (أَلَّا تَعْبُدُوا) ويجوز أن تكون «أن» مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر. والفاء في قوله (فَإِنَّا) للجزاء كأنه قيل: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فانا لا نؤمن بكم. وقولهم (رَبُّنا) وكذا بما أرسلتم أي على زعمكم ، أو أرادوا التهكم. ثم فصل حال كل فريق قائلا (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) وهذا إخلال بالشفقة على الخلق (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) لأن الفاعل والعلة أقوى من القابل والمعلول ، والقوة في الإنسان نتيجة صحة البنية والاعتدال وحقيقتها زيادة القدرة فلذلك جاز أن يقال: الله أقوى منهم كما صح أن يقال: الله أقدر ، الله أكبر. وإن كان لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. وقوله (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) معطوف على قوله (فَاسْتَكْبَرُوا) وقالوا: إن التوبيخ المذكور وقع اعتراضا في البين. ثم أخبر عن إهلاكهم والصرصر الريح الباردة الشديدة

٥٢

ضوعفت من الصر بالكسر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض ، أو من صرير الباب. والتركيب يدور على الضم والجمع. عن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ومع ذلك أهلكت الكل. والأيام النحسات هي التي فسرها الله سبحانه في الحاقة (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [الآية: ٧] والنحس بالسكون ضد السعد وهو إما مخفف نحس بالكسر أو هو أصل في نفسه كضخم ، أو وصف لمصدر. واستدل به بعض الأحكاميين على أن بعض الأيام يصح وصفه بالسعادة وبعضها يضدها. وأجاب بعض المتكلمين بأن المراد بالنحوسة كونها ذات غبار وتراب وبرد. والإنصاف أنه تكلف خارج عن قانون اللغة. والإضافة في قوله (عَذابَ الْخِزْيِ) كهي في قولك: رجل صدق. وقوله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) من الإسناد المجازي فإن الذل والهوان لصاحبه. قوله (وَأَمَّا ثَمُودُ) مرتفع على الابتداء. قوله (فَهَدَيْناهُمْ) خبره قال سيبويه: هذا أفصح لأن أما من مظان وقوع المبتدأ بعده. وقرىء بالنصب إضمارا على شريطة التفسير. واتفقوا على أن المراد بالهداية هاهنا الدلالة المجردة لقوله بعده (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) يعني عمى البصيرة وهي الضلالة (عَلَى الْهُدى) إلا أن المعتزلة تأوّلوه بأنه إنما شاع استعماله في الدلالة المجردة لأنه مكنهم وأزاح علتهم فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها. على أن المراد المعقولة ونقيضها ، وقد مر هذا البحث في أول «البقرة» في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [الآية: ٢] وصاعقة العذاب داهيته وقارعته ، والهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب مبالغة ، أو أبدله منه وكسبهم شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة. ثم بين أحوال الذين آمنوا واتقوا المعاصي بقوله (وَنَجَّيْنَا) الآية. وحين بين عقوبتهم في الدنيا أخبر عن عذابهم وعذاب أمثالهم في الآخرة فقال (وَيَوْمَ يُحْشَرُ) الآية. والعامل فيه «اذكر» محذوفا ، أو هو ظرف لما يدل عليه (يُوزَعُونَ) كأنه قيل: يمنعون يوم يحشر فيحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم. قال جار الله: هو عبارة عن كثرة أهل النار. قلت: وذلك لأن الإيزاع لا يحتاج إليه إلا عند كثرة العدد كما مر في «النحل». وما الإبهامية في قوله (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) تفيد التأكيد. وهو أن عند وقت مجيئهم لا بد أن تحصل هذه الشهادة وشهادة الجلود بملامسة ما هو محرم. وعن ابن عباس: المراد شهادة الفروج فيكون كناية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوّل ما يتكلم من الآدميّ فخذه وكفه» (١) وفيه وعيد شديد في فعل الزنا لأن مقدمته تحصل بالكف ونهايته تكون بمساعدة الفخذ. قوله (أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من العمومات المخصوصة أي ممن يصح النطق منه. والمراد أن القادر على خلقكم

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٥١)

٥٣

وإنطاقكم في المرة الأولى في الدنيا ، ثم خلقكم وإنطاقكم مرة أخرى ، وثالثة في القبر وفي القيامة ، كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟ وقد مر تمام البحث في «يس». عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال آخر: إذا رفعنا أصواتنا يسمع وإلا لم يسمع. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا أصواتنا يسمع إذا خفضنا. فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) الآية. وذلك أنهم كانوا يستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب القبائح فقيل لهم: ما كان استتاركم ذلك خفية أن تشهد عليكم جوارحكم هذه ، لأن ذلك غير ممكن فإنها متصلة بكم وهي أعوانكم ومع ذلك لم يكن استتاركم في اعتقادكم أنها تشهد عليكم ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم. وفيه ردّ على بعض الجهلة الذين يستخفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله ، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاما ومراقبة. ثم أخبر (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ولا ينتج الصبر لهم فرجا وخلاصا (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يطلبوا من الله الرضا عنهم (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي من المرضيين. والمراد أنهم باقون في مكروههم أبدا ، سكتوا أو نطقوا. قال الضعيف مؤلف الكتاب: إذا كان هذا وعيد من ظن أنه يمكن إخفاء بعض الأعمال من الله بالأستار والحجب فما ظنكم بوعيد من جزم أنه سبحانه غير عالم بالجزئيات نعوذ بالله من هذا الاعتقاد والله أعلم.

تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون أوله: (وَقَيَّضْنا لَهُمْ

قُرَناءَ ...)

٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا

٥٥

فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

القراآت: ربنا أرنا بسكون الراء: ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس. الآخرون: بكسر الراء. الذين بتشديد النون: ابن كثير. يلحدون بفتح الياء والحاء: حمزة. الباقون: بضم الياء وكسر الحاء أعجمي بهمزة واحدة: هشام. وقرأ بتحقيق الهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز. الباقون: بالمد (ثَمَراتٍ) على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل. شركاي مثل من وراي على وزن (عَصايَ) قد مر في سورة مريم إلى ربي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (وَنَأى بِجانِبِهِ) وقد مر في سورة (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى).

الوقوف: (وَالْإِنْسِ) ج للإبتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق (خاسِرِينَ) ه (تَغْلِبُونَ) ه (يَعْمَلُونَ) ه (النَّارُ) ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي كائنا لهم فيها (دارُ الْخُلْدِ) ج (يَجْحَدُونَ) ه (الْأَسْفَلِينَ) ه (تُوعَدُونَ) ه (وَفِي الْآخِرَةِ) ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول (تَدَّعُونَ) ه ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلا (رَحِيمٍ) ه (الْمُسْلِمِينَ) ه (السَّيِّئَةُ) ط (حَمِيمٌ) ه (صَبَرُوا) ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد (عَظِيمٍ) ه (بِاللهِ) ط (الْعَلِيمُ) ه (وَالْقَمَرُ) ط

٥٦

(تَعْبُدُونَ) ه (يَسْأَمُونَ) ه سجدة (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ط (الْمَوْتى) ط (قَدِيرٌ) ه (عَلَيْنا) ط (الْقِيامَةِ) ط (شِئْتُمْ) ه لا ليكون ما بعده دالا على أنه أمر تهديد (بَصِيرٌ) ه (لَمَّا جاءَهُمْ) ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر هاهنا أو بعد قوله (مِنْ خَلْفِهِ) كما يجيء (عَزِيزٌ) ه لا لاتصال الصفة (مِنْ خَلْفِهِ) ط (حَمِيدٍ) ه (مِنْ قَبْلِكَ) ط (أَلِيمٍ) ه (آياتُهُ) ط (وَعَرَبِيٌ) ط (وَشِفاءٌ) ط (عَمًى) ط (بَعِيدٍ) ه (فِيهِ) ط (بَيْنَهُمْ) ط (مُرِيبٍ) ه (فَعَلَيْها) ط (لِلْعَبِيدِ) ه (السَّاعَةِ) ط (بِعِلْمِهِ) ط ج (شُرَكائِي) لا لأن (قالُوا) عامل (يَوْمَ آذَنَّاكَ) لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده (مِنْ شَهِيدٍ) ه ج للآية مع العطف (مَحِيصٍ) ه (الْخَيْرِ) ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما (قَنُوطٌ) ه (هذا لِي) لا تحرز إعمالا يقوله مسلم قائمة كذلك (لَلْحُسْنى) ه ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب (عَمِلُوا) إمهالا للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين (غَلِيظٍ) ه (بِجانِبِهِ) ج فصلا بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين (عَرِيضٍ) ه (بَعِيدٍ) ه (الْحَقُ) ط (شَهِيدٌ) ه (رَبِّهِمْ) ج (مُحِيطٌ) ه.

التفسير: لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر. ومعنى (قَيَّضْنا) سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل ، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر. والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وهو الدنيا وما فيها من الشهوات (وَما خَلْفَهُمْ) وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل: ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها ، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم. والآية على مذهب الأشاعرة واضحة. وقالت المعتزلة: معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. ومعنى (فِي أُمَمٍ) كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل لاعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. يقال: لغى بكسر الغين يلغى بالفتح ، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضا ، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظا ومعنى ، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) القارئ على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد. وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله (فَلَنُذِيقَنَ) الآية. والمضاف في قوله

٥٧

(أَسْوَأَ) محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) وقوله (النَّارُ) بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر. و (دارُ الْخُلْدِ) موضع المقام. قال الزجاج: هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله (بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم (رَبَّنا أَرِنَا) أي أبصرنا (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وذلك أن الشياطين ضربان: جني وإنسي ، وقد ورد في القرآن كثيرا ، وقيل: هما إبليس الذي سن الكفر ، وقابيل الذي سن القتل. ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة. وقد يقال: معناه إذ ذاك أعطناه. وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه ، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) أي نطأهما إذلالا وإهانة (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) الأذلين وقيل: في الدرك الأسفل. وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة: ٣٠] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة.

وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله (رَبُّنَا اللهُ) إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها. وقوله (ثُمَّ اسْتَقامُوا) إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: ٥] ومعنى «ثم» تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار ، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة. وقال أهل العرفان: قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح ، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح. وعن أبي بكر الصديق: معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة. و «أن» مفسرة أو مخففة. ولقد فسرنا الخوف والحزن مرارا والإبشار لازم. قال الجوهري: يقال بشرته بمولود فأبشر إبشارا. وقوله (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال. وقوله (وَأَبْشِرُوا) إخبار عن حصول المنافع. وقوله (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يقابل قوله (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس ، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة. وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية. وقيل: في الحياة الدنيا

٥٨

بالاستغفار. (وَفِي الْآخِرَةِ) بالشفاعة. وقيل: كنا نحفظكم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) يعني الحظوظ الجسمانية (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي تمنون من المواهب الروحانية ، وقد مر في «يس» سائر الوجوه. والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر. وفي ذكر الغفور الرحيم هاهنا مناسبة لا تخفى. قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة: ٨٨] (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) حرض سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهارا لمزيته على الجهال وتحصيلا للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال ، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين. زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان ، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة ، ورفعوه إلى عائشة. والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده ، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون ، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون ، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء ، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب. وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه. ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية. قال جار الله: ليس معنى قوله (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول: هذا قول أبي حنيفة. وقال آخرون: أراد به التلفظ به تفاخرا بالإسلام وتمدحا. وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز: أنا مسلم إن شاء الله. فإنه لو كان ذلك معتبرا لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه ، فإن التجويز غير الإيجاب. ثم صبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) «لا» زائدة لتأكيد نفي الاستواء ، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلا كأنه سأل: فكيف نصنع؟ فأجيب (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال: الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن «لا» غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة. مثاله: رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته. قال:

٥٩

ومن جعل «لا» مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة. ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. قال العارفون: الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب ، والسيئة الالتفات إلى غيره. (فَإِذَا الَّذِي) إذا فعلت ذلك انقلب عدوك وليا مصافيا. قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان وكان مؤذيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعطفه. ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية ، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل. وعن الحسن: ما عظم حظ دون الجنة. ثم ذكر طريقا آخر في دفع الغضب والانتقام قائلا (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) وقد مر في آخر الأعراف. والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال هاهنا (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسبا لما تقدّمه من قوله (وَما يُلَقَّاها) مؤكدا بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة. وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال (وَمِنْ آياتِهِ) إلخ. والضمير في (خَلَقَهُنَ) للآيات أو الليل وما عطف عليه. ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء. وفي قوله (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلا منهم وزعما أنها الواسطة بين الخلق والإله ، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها ، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفا ظاهرا في نفسه (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي على الدوام والاستمرار (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) من السامة والملالة. والحاصل أنهم إن لم يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابدا مخلصا.

ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج ، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفقير الكاسف البال

٦٠