تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

البدل من (قِيلاً) أو على أنه مفعول به أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما عقيبه سلام. ثم عجب من شأن أصحاب اليمين. والسدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه. وقال مجاهد: هو من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب كأنه من كثرة ثمره ثنى أغصانه والطلح شجر الموز أو أم غيلان كثير النور طيب الرائحة وعن السدي: شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل. وفي الكشاف أن عليا عليه‌السلام أنكره وقال: ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فقيل: أو نحو لها؟ قال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال: وعن ابن عباس نحوه. قلت: وفي هذه الرواية نظر لا يخفى. والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق بارزة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي ممتد منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص. ويحتمل أن يراد أنه دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس ، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه ممدود. والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا ، أو يسكبه الله في مجاريه من غير انقطاع ، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود (لا مَقْطُوعَةٍ) في بعض الأوقات (وَلا مَمْنُوعَةٍ) عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين والفواكه في الدنيا (مَرْفُوعَةٍ) أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي رضي‌الله‌عنه. وقيل: هي النساء المرفوعة على الأرائك. والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل على هذا قوله (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ) وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلا عليهن. ومعنى الإنشاء أنه ابتدأ خلقهن من غير ولادة أو أعاد خلقهن إنشاء. روى الضحاك عن ابن عباس أنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم (أَبْكاراً عُرُباً) جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل (أَتْراباً) مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع. وقوله (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلق بأنشأنا وجعلنا. ثم عجب من أصحاب الشمال. ومعنى (فِي سَمُومٍ) في حر نار ينفذ في المسام. والحميم الماء الكثير الحرارة. واليحموم الدخان الأسود «يفعول» من الأحم وهو الأسود. ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه. قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول: هو سمين كريم وما هذه الدار بواسعة ولا بكريمة. ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي في الدنيا (مُتْرَفِينَ) متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ) وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول: بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمئاثم وحنث في يمينه خلاف بر فيها. وخص جمع من

٢٤١

المفسرين فقالوا. أعني به الشرك. وعن الشعبي: هو اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون يدل عليه ما بعده وقد مر مثله في «الصافات». واعلم أنه سبحانه ذكر في تفصيل الأزواج الثلاثة نسقا عجيبا وأسلوبا غريبا. وذلك أنه لم يورد في التفصيل إلا ذكر صنفين. أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. ثم بعد ما عجب منهما بين حال الثلاثة السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأقول وبالله التوفيق: هذا كلام موجز معجز فيه لطائف خلت التفاسير عنها منها: أنه طوى ذكر السابقين في أصحاب الميمنة لأن كلا من السابقين ومن أصحاب اليمين أصحاب اليمن والبركة كما أن أصحاب الشمال أهل الشؤم والنكد ، وكأن في هذا الطي إشارة إلى الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها ، وفي الأول باعتبار والأشراف بالتقديم أولى ، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن الآخرون السابقون» (١) ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق ، فما لم يعرف ذات المسبوق لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق. فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم بمراده.

ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ) أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت (يَوْمٍ مَعْلُومٍ) عند الله وفيه رجوع إلى أول السورة. ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفا من حال المكذبين المعاصرين ومن ضاهاهم فقال (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث (لَآكِلُونَ) أي في السموم المذكور (مِنْ شَجَرٍ) هو للابتداء (مِنْ زَقُّومٍ) هو للبيان (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله: عطف الشاربين على الشاربين لاختلافهما اعتبارا وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم أعجب. والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء وزنه «فعل» كبيض. وجوز أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك كسحاب وسحب. ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم. ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحمم كالإبل الهيم (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على البدء كان على الإعادة أقدر. ثم برهن على أنه لا خالق إلا هو فقال (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٨ كتاب الجنة باب ١ ، ١٢ مسلم في كتاب الجمعة حديث ١٩ ، ٢١ النسائي في كتاب الجمعة باب ١ الدارمي في كتاب المقدمة باب ٨

٢٤٢

أي تقذفونه في الأرحام. يقال: أمنى النطفة ومناها وقد مر في قوله (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم: ٤٦] (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تقدّرونه وتصورونه. ووجه الاستدلال أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في جميع الأعضاء ولهذا تشترك كل الأعضاء في لذة الوقاع ويجب اغتسال كلها لحصول الانحلال عنها جميعا. فالذي قدر على جمع تلك الأغذية في بدن الإنسان ثم على جمع تلك الأجزاء الطلية في أوعيتها ثم على تمكينها في الرحم إلى أن تتكون إنسانا كاملا يقدر على جمعها بعد تفريقها بالموت المقدر بينهم بحيث لا يفوته شيء منها وإلى هذا أشار بقوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ) أي نحن قادرون على ذلك لا يغلبنا عليه أحد. يقال: سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه. والأمثال جمع المثل أي على أن نبدل مكانكم أشباهكم من الخلق و (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يريد بيان قدرته على إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا. وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها. ثم ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيرا بعد تذكير فقال (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) الآية. ثم دل على كمال عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلا (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) من الطعام أي تبذرون حبه (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي تجعلونه بحيث يكون نباتا كاملا يستحق اسم الزرع. وفي الكشاف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت» والحطام ما تحطم وتكسر من الحشيش اليابس. وقوله (فَظَلْتُمْ) أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين للتخفيف وهو مما جاء مستعملا غير مقيس عليه. ومعنى (تَفَكَّهُونَ) تعجبون كأنه تكلف الفكاهة. وعن الحسن: تندمون على الإنفاق عليه والتعب فيه أو على المعاصي التي تكون سببا لذلك. من قرأ (إِنَّا) بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه ، ومن قرأ بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضا. ومعنى (لَمُغْرَمُونَ) لمهلكون من الغرام الهلاك لهلاك الرزق ، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا (بَلْ نَحْنُ) قوم (مَحْرُومُونَ) لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من حالهم ، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ بالله منهما. ثم ذكر دليلا آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب الأبيض خاصة. والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب «لو» عن إشاعة الثانية وهي ثابتة في المعنى لأن «لو» شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى الكلام التوكيدي. ويمكن أن يقال: إن المطعوم مقدم على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة

٢٤٣

للتأكيد. وإنما ختم الآية بقوله (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) لأنه وصف الماء بقوله (الَّذِي تَشْرَبُونَ) ولم يصف المطعوم بالأكل أو لأنه قال (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) وهذا لا عمل للآدمي فيه أصلا بخلاف الحرث أو لأن الشرب من تمام الأكل فيعود الشكر إلى النعمتين جميعا ثم عد نعمة أخرى من قبيل ما مر. ومعنى (تُورُونَ) تقدحونها وتستخرجونها من الشجر وقد سبق ذكرها في آخر «يس».

وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم. ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين ، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز ، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وفي الثانية (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) وفي الثالثة (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءا من جهنم» (١) (وَمَتاعاً) وسبب تمتع ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئا من أيام. وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتا فقال (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتا لا ذاتا ولهذا حذف اللام في قوله (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون «لو» بمعنى «أن» وذلك أن الماء باق هاهنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهميا فافهم. ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه. أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة. وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة. وفي قوله (تَذْكِرَةً) إشارة إلى ما قلنا. ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيها له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث ، ثم عظم شأن القرآن بقوله (فَلا أُقْسِمُ) أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب جهنم باب ٧ الموطأ في كتاب جهنم حديث ١ أحمد في مسنده (٢ / ٣١٣ ، ٤٦٧)

٢٤٤

التأكيد. ومواقع النجوم مساقطها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا قال سبحانه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران: ١٧] وعن سفيان الثوري: إن لله تعالى ريحا تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. وقوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) اعتراض فيه اعتراض. ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب. أو كرمه نفعه للمكلفين. أو هو كرامته على الله عزوجل (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مستورا لا على من أراد الله تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح (لا يَمَسُّهُ) إن كان الضمير للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه (إِلَّا) عبيده (الْمُطَهَّرُونَ) من الأدناس الجسمية وهم الكروبيون ، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة الباطنة والظاهرة ، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث. ومن الناس من حرم قراءة القرآن عند الحدث الأصغر أيضا. وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم. ثم وبخ المتهاونين بشأن القرآن فقال (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بالبعث وبما دل عليه القرآن ، ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) إلى قوله (لِلْمُقْوِينَ) وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عزوجل وتنسبونه إلى النجوم. ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته. وترتيب الآية بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال: فلو لا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير (فَلَوْ لا) التحضيضية لطول الفصل كما كرر قوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بعد قوله (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) [آل عمران: ١٨٨] ومنها تقديم الظرف وهو قوله (إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي النفس. وإنما أضمرت للعلم بها كقوله (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) [فاطر: ٤٥] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه ، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه. ومنها زيادة الجمل المعترضة وهي قوله (وَأَنْتُمْ) يا أهل الميت (حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) إليه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا بالبصر ولا بالبصيرة. ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم.

٢٤٥

ومنها قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم ممتنعين عن الموت ، والحلقوم الحلق وهو مجرى النفس ، والواو والميم زائدان ، ووزنه «فعلوم» ويمكن أن يقال: إن فعل (فَلَوْ لا) الأول محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم. فلو لا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال وتشاهدونها؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام ، والمعنى إن كنتم على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أياما معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة. ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير. ويحتمل عندي أن يكون الضمير في (تَرْجِعُونَها) عائدا إلى ملائكة الموت بدليل قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ) والمعنى فلو لا تردون عن ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا.

وحين بين أنه لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلا (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي من السابقين من الأزواج الثلاثة (فَرَوْحٌ) أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن (وَرَيْحانٌ) أي رزق وهذا للبدن (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر. ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ) أيها النبي (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي أنت سالم من شفاعتهم. هذا قول كثير من المفسرين. وقال جار الله: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس: ١٠] (إِنَّ هذا) القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين. وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى «من» كقولك «خاتم فضة» وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك «حق الحق». «وصواب الصواب» أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه. أو المراد هذا هو اليقين حقا لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر. هذا ما قاله أكثر المفسرين. وقيل: الإضافة فيه كما في «جانب الغربي» و «مسجد الجامع» أي حق الأمر اليقين. ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا «حق النبي أن يصلى عليه» و «حق المال أن تؤدى زكاته» ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم

٢٤٦

وأموالهم إلا بحقها» (١) أي إلا بحق هذه الكلمة. ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة. وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: ٩٢] وقال أهل اليقين: للعلم ثلاث مراتب: أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان ، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عيانا فليس الخبر كالمعاينة ، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحدا. ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلا من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين. روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: تدفعه إلى بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبدا»

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ١٧ ، ٢٨ مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢ ـ ٣٦ أبو داود في كتاب الجهاد باب ٩٥ الترمذي في كتاب تفسير سورة ٨٨ النسائي في كتاب الزكاة باب ٣ ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١ ـ ٣ الدارمي في كتاب السير باب ١٠ أحمد في مسنده (٤ / ٨)

٢٤٧

(سورة الحديد مدنية وقيل مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعة

وسبعون كلماتها خمسمائة وأربعة وأربعون آياتها تسعة وعشرون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ

٢٤٨

يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

القراآت: أخذ مجهولا ميثاقكم بالرفع: أبو عمرو وكل بالرفع: ابن عامر (انْظُرُونا) من الأنظار: حمزة الأماني بسكون الياء: يزيد لا تؤخذ بالتأنيث: ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب وما نزل بالتشديد مجهولا: عباس (نَزَلَ) بالتخفيف من النزول: نافع وحفص. الباقون: بالتشديد ولا تكونوا على الخطاب: رويس

٢٤٩

المصدقين والمصدقات بتشديد الدال فقط: ابن كثير وأبو بكر وحماد بما أتاكم مقصورا من الإتيان: أبو عمرو (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) بغير الفصل: أبو جعفر ونافع وابن عامر إبراهام كنظائره.

الوقوف: (الْأَرْضِ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (الْحَكِيمُ) ه (وَالْأَرْضِ) ج لاحتمال أن يكون قوله (يُحْيِي) مستأنفا لا محل له أو له محل بتقدير هو يحيى وأن يكون حالا من المجرور في قوله (لَهُ*) والجار عاملا فيها. (وَيُمِيتُ) ج (قَدِيرٌ) ه (وَالْباطِنُ) ج (عَلِيمٌ) ه (الْعَرْشِ) ط (فِيها) ط (كُنْتُمْ) ط (بَصِيرٌ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (الْأُمُورُ) ه (فِي اللَّيْلِ) ط (الصُّدُورِ) ه (فِيهِ) ط (كَبِيرٌ) ه (بِاللهِ) ط (مُؤْمِنِينَ) ه (إِلَى النُّورِ) ط (رَحِيمٌ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (وَقاتَلَ) ط (وَقاتَلُوا) ط (الْحُسْنى) ط (خَبِيرٌ) ه (كَرِيمٌ) ج لاحتمال تعلق الظرف بقوله (وَلَهُ أَجْرٌ) أو بقوله (بُشْراكُمُ) أي يقال لهم ذلك يومئذ أو هو مفعول «اذكر» (فِيها) ط (الْعَظِيمُ) ه ج وإن وصل وقف على (نُورِكُمْ) لأن (يَوْمَ) قد يتعلق بالنور فيوقف على (نُورِكُمْ) وقد يتعلق بقوله (قِيلَ ارْجِعُوا نُوراً) ط (بابٌ) ط (الْعَذابُ) ط (مَعَكُمْ) ط (الْغَرُورُ) ه (كَفَرُوا) ط (النَّارُ) ط (مَوْلاكُمْ) ط (الْمَصِيرُ) ه (الْحَقِ) ط إلا لمن قرأ ولا تكونوا على النهي (قُلُوبُهُمْ) ط (فاسِقُونَ) ه (مَوْتِها) ط (تَعْقِلُونَ) ه (كَرِيمٌ) ه (الصِّدِّيقُونَ) ه والوصل أولى ومن وقف على الصديقين لم يقف على (رَبِّهِمْ وَنُورُهُمْ) ط (الْجَحِيمِ) ه (وَالْأَوْلادِ) ط (حُطاماً) ط (وَرِضْوانٌ) ط (الْغُرُورِ) ه (وَرُسُلِهِ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (الْعَظِيمِ) ه (نَبْرَأَها) ط (يَسِيرٌ) ه ج لاحتمال تعلق اللام بما قبله أو بمحذوف أي ذلك لكيلا (آتاكُمْ) ط (فَخُورٍ) ه لا لأن ما بعده بدل (بِالْبُخْلِ) ط (الْحَمِيدُ) ه (بِالْقِسْطِ) ط ه للعطف ظاهرا مع أن إنزال الحديد ابتداء إخبار غير مختص بالرسل (بِالْغَيْبِ) ط (عَزِيزٌ) ه (مُهْتَدٍ) ج لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظا إلا أن الأولى للبعض القليل والثانية للكثير فيبنى على الاستئناف (فاسِقُونَ) ه (وَرَحْمَةً) ط لأن ما بعدها منصوب بابتدعوا المقدر (رِعايَتِها) ط لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظا إلا أن قوله (فَآتَيْنَا) ليس جزاء ترك الرعاية إنما هو تمام بيان التفرقة بين الفريقين فيرجع إلى قوله (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَجْرَهُمْ) ه ط لما مر (فاسِقُونَ) ه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ط (رَحِيمٌ) ه لا وقد يجوز الوقف بناء على أن المراد ذلك ليعلم (يَشاءُ) ط (الْعَظِيمِ) ه

التفسير: معنى تسبيح الموجودات قد تقدم في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء: ٤٤] والآن نقول: إنه بدأ في سورة بني إسرائيل بلفظ المصدر وهو

٢٥٠

(سُبْحانَ) وفي هذه السورة وفي الحشر والصف بلفظ الماضي. وفي الجمعة والتغابن بلفظ المستقبل ، وفي سورة الأعلى بلفظ الأمر استيعابا للأقسام وذلك دليل على أن التسبيح لله تعالى مستمر دائم في الأوقات كلها من الأزل إلى الأبد. وتفسير أسماء الله الحسنى المذكورة في أول هذه السورة قد سبق في البسملة فلا حاجة إلى إعادة كلها إلا أننا نذكر ما أورده الإمام فخر الدين هاهنا على سبيل الإيجاز مع تنقيح ما يجب تنقيحه. قال: هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه: الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم ، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم ، أو معقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال: وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة ، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معا كما أن العلة والمعلول يوجدان معا وكذا الواحد والاثنان. وأما الشرف والمكان فظاهران ، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل. قلت: لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلا غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضا لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلا وقد انقضى منه جزء مفروض على الاتصال. وقال: إذا عرفت ذلك فنقول: القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضا يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلية ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثر والمضافان معا ، والمعي لا يكون قبل ولا بالحاجة لأنهما قد يكونان معا كما قلنا ، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة هاهنا ولا بالمكان وهو ظاهر ، ولا بالزمان لأن الزمان بجميع أجزائه ممكن الوجود ، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو. قلت: إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة. أما بالتأثير فظاهر قوله والمضافان معا. قلنا: إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور. ، وإن أردت مطلقا فممنوع. وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف ، وأما بالشرف فظاهر ، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة: ١١٥] وقد جاء في الحديث «لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» (١)

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ٥٧ أحمد في مسنده (٢ / ٣٧٠)

٢٥١

ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهاهنا سر لعلنا قد رمزنا إليه في هذا الكتاب تفهمه بإذن الله إن كنت أهلا له. وأما بالزمان فأظهر قوله والتقدم على الزمن لا يكون بالزمان. قلنا: ممنوع لأن الزمان عند المحققين هو أمر وهمي ، والزمان الذي يتكلم هو فيه إنما هو مقدار حركة الفلك الأعظم ، ولا ريب أن قبل هذه الحركة لا يوجد لها مقدار إلا أن قبل كل شيء يوجد امتداد وهمي يحصل فيه وجود الواجب سبحانه ، ومن هذا التحقيق يرتفع ما أشكل على الإمام من التمييز بين الأزل وما لا يزال فإن المبادئ الوهمية تتغير بتغير الاعتبارات وباختلافها تختلف حقائقها إذ ليس لها وجود سواها فقد يصير ما هو في جانب الأزل في جانب لا يزال ، وبالعكس إذا تغيرت المبادئ المفروضة. قال: أما البحث عن كونه تعالى آخرا بمعنى أنه يبقى وكل شيء يفنى فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه آخرا وهو مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، والعقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع الله شيء أصلا في أبد الآباد كما لم يكن قبله شيء في أزل الآزال قال: ومن حجج جهم أنه تعالى إما أن يكون عالما بعدد حركات أهل الجنة والنار أولا. فإن كان عالما لزم تناهيه فإن الإحاطة بما لا يتناهى مستحيلة. وإن لم يعلم لزم نسبة الجهل إليه تعالى وذلك محال. وأيضا الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه. وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع ، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير. قلت: هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلا إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه. قلت: الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهيا ، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية. وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أبدا يكون متناهيا. قلت: الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مرارا غير متناهية قال: فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين.

واختلفوا في معنى كونه تعالى آخرا على وجوه أحدها: أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخرا ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبدا. قلت: هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطا. وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخرا.

٢٥٢

أقول: هذا أول المسألة لأن الكلام لم يقع في اختصاص وجوده وعدمه وإنما النزاع في معنى قوله آخرا. وثالثها أنه أول في الوجود آخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة ذات الصانع وصفاته ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد بها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة. قلت: أراد أنه غاية الأفكار ونهاية الأنظار وهذا معنى حسن في نفسه إلا أنه لا يطابق معنى الأول كل المطابقة. ورابعها أنه أول في ترتيب الوجود وآخر إذا عكس الترتيب. قلت: هذا تصور صحيح ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل والمعلولات ، وعلى المترتبة من الأشرف إلى الأخس. وعلى الآخذة من الوحدة إلى الكثرة ، وكما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد ، ومما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز فهو سبحانه أول بالترتيب الطبيعي وآخر بالترتيب المنعكس فقد وضح بهذا البيان صحة إطلاق التقدمات الخمسة ومقابلاتها عليه تعالى ، وهذا من غوامض الأسرار وقد وفقني الله تعالى لحلها وبيانها فالشكر على آلائه. أما تفسير الظاهر والباطن فالمحققون قالوا: إنه الظاهر بالأدلة الدالة على وجوده. والباطن لأنه جل عن إدراك الحواس والعقول إياه إما في الدنيا أو فيها وفي الآخرة جميعا. وقيل: معنى الظاهر الغالب ، والباطن العالم بما بطن أي خفي. قال الليث: يقال أنت أبطن بهذا الأمر أي أخبر به. وباقي الآيات قد سبق تفسيرها في مواضع إلا قوله (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) فإنه قد مر في أول «سبأ» فقط فلا حاجة إلى الإعادة. وقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) معية العلم والقدرة أو استصحاب المكان عند بعض قوله (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبعده مثله ليس بتكرار لأن الأول في الدنيا لقوله (يُحْيِي وَيُمِيتُ) والثاني في العقبى لقوله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قوله (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أراد أن المال مال الله والعباد عباد الله إلا أنه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته متعلقة بالوسائط والروابط ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لرعاية حق الاستخلاف فيتصرف فيما آتاه الله على وفق ما أمره الله من الإنفاق في سبيل الله قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث كما انتقل من غيره إليه بأحد السببين. قوله (لا تُؤْمِنُونَ) حال من معنى الفعل كقولك «مالك قائما» أي ما تصنع. والواو في قوله (وَالرَّسُولُ) للحال من ضمير (لا تُؤْمِنُونَ) فهما حالان متداخلتان. وأخذ الميثاق إشارة إلى الأقوال المذكورة في تفسير قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) [الأعراف: ١٧٢] ، والمراد أنه قد تعاضدت الدلائل السمعية والبراهين العقلية على الإيمان بالله فأي عذر لكم في تركه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ولا ريب أن الإيمان بالله شامل للتصديق بجميع أوامره وأحكامه ومن جملتها الإيمان بالرسول وبالقرآن وبما فيه. استدل القاضي بقوله (وَما

٢٥٣

لَكُمْ) على أن العبد قادر على الإيمان وعلى الاستطاعة قبل الفعل وإلا لم يصح التوبيخ كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض. والبحث في أمثاله مذكور في مواضع. والضمير في قوله (لِيُخْرِجَكُمْ) لله تعالى أو لعبده والميراث مجاز عن بقائه بعد فناء الخلق وقد مر في «آل عمران»: قال المفسرون: إن أبا بكر أول من أنفق في سبيل الله فنزل فيه وفي أمثاله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) أي فتح مكة وتمامه أن يقال: ومن أنفق بعد الفتح فحذف لدلالة قوله (أُولئِكَ) الذين أنفقوا قبل الفتح وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (١) (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) وسبب الفضل أنهم أنفقوا قبل عز الإسلام وقوة أهله فكانت الحاجة إلى الإنفاق حينئذ أمسّ مع أنه كان أصدق إنباء عن ثقة صاحبه بهذا الدين (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. ومن قرأ بالرفع فتقديره وكل وعده الله والقرض مجاز عن إنفاق المال في سبيل الله. وقد مر في أواخر «البقرة». قال أهل السنة: إنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدر عنه الفعل الفلاني فله كذا من الثواب وهو الأجر الكريم ، فإذا ضم إلى ذلك مثله فهو المضاعفة. وقال الجبائي: إن الأعواض تضم إلى الثواب فهو المضاعفة. وإنما وصف الأجر بالكريم لأنه جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت لكل الزيادة فكان كريما من هذا الوجه. ثم أكد الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله بتذكير يوم المحاسبة فقال (يَوْمَ تَرَى) يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب وقد مر إعرابه. عن ابن مسعود وقتادة مرفوعا أن كل إنسان مؤمن فإنه يحصل له النور يوم القيامة على قدر ثوابه منهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ، ومنهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ، وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهامه ينطفئ مرة ويتقد أخرى. وقال مجاهد: ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة يا فلان هذا نورك ، ويا فلان لا نور لك. هذا وقد بينا لك في هذا الكتاب مرارا أن الكمالات والخيرات كلها أنوار وأكمل الأنوار معرفة الله سبحانه. وإنما قال (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن ذلك جعل إمارة النجاة ولهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. ومعنى سعي النور سعيه بسعيهم جنيبا لهم ومتقدما

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب ٥ مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٢٢١ ، ٢٢٢ أبو داود في كتاب السنة باب ١٠ الترمذي في كتاب المناقب باب ٥٨ ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١١ أحمد في مسنده (٣ / ١١)

٢٥٤

ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) قوله (يَوْمَ يَقُولُ) بدل من قوله (يَوْمَ تَرَى) ومنصوب بـ «أذكر» مقدرا. قال جمع من العلماء: الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم قائلين (انْظُرُونا) لأنهم إذا نظروا إليهم والنور قدامهم استضاؤا بتلألؤ تلك الأنوار. قال الفارسي: حذف الجار وأوصل الفعل وأنشد أبو الحسن:

ظاهرات الجمال والحسن ينظرن

كما ينظر الأراك الظباء

والمعنى ينظرن إلى الأراك فإن كانت هذه الحالة عند الموقف فالمراد انظروا إلينا ، وإن كانت هذه الحالة عند سير المؤمنين إلى الجنة احتمل أن يكون النظر بمعنى الانتظار لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على الركاب وهؤلاء مشاة في القيود والسلاسل. ومن قرأ (انْظُرُونا) أي أمهلونا جعل استبطاءهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إمهالا لهم. قال الحسن: يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله. ثم إنه يؤخذ من جمر جهنم وما فيه من الكلاليب والحسك وتلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء. ثم على ذلك ثم على ذلك ، ثم تغشاهم الظلمة فينطفئ نور المنافقين فهناك يقول المنافقون للمؤمنين انظرونا (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) والاقتباس أخذ القبس أي الشعلة من النار (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي إلى الموقف حيث أعطينا هذا النور فاطلبوا نورا وهو تهكم بهم أو إلى الدنيا (فَالْتَمِسُوا نُوراً) بتحصيل سببه وهو الإيمان والعمل الصالح أو اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة كأنها خدعة خدع بها المنافقون كقوله (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [البقرة: ٩] وعلى هذا فالسور هو امتناع العود إلى الدنيا وعلى الأول قالوا: إنهم يرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروبا بينهم وبين المؤمنين وهو حائط الجنة أو هو الأعراف (باطِنُهُ) أي باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة (فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ) وهو ما ظهر لأهل النار (مِنْ قِبَلِهِ) أي من جهته (الْعَذابُ) قال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين (ارْجِعُوا) منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه «وراءك أوسع لك» والمراد أنه لا سبيل لهم إلى هذا النور ، والمراد من السور منعهم من رؤية المؤمنين قال الأخفش: الباء في قوله (بِسُورٍ) صلة وفائدته التوكيد وأرادوا بقوله (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) مرافقتهم في الظاهر. ومعنى (فَتَنْتُمْ) محنتم (أَنْفُسَكُمْ) بالنفاق وأهلكتموها (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر (وَارْتَبْتُمْ) وشككتم في وعيد الله أو في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في البعث أو

٢٥٥

في كل ما هو من عند الله (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) بكثرة الآمال وطول الآجال (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالموت على النفاق ثم أوقعكم في النار (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ) الشيطان (الْغَرُورُ) فنفخ في خيشومكم إن الله غفور إن باب التوبة مفتوح (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ) أيها المنافقون (فِدْيَةٌ) قيل أي توبة والأولى العموم ليشمل كل ما يفتدى به (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) في الظاهر. فالحاصل أنه لا فرق بين الذين أضمروه فإن كلا منكم (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) وقيل: المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار وقيل: أراد هي أولى بكم. قال جار الله حقيقته هي محراكم ومقمنكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل «إنه لكريم». قال في التفسير الكبير: هذا معنى وليس بتفسير للفظ من حيث اللغة ، وغرضه أن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي رضي‌الله‌عنه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كنت مولاه فعلى مولاه» فهذا علي مولانا احتج بقول الأئمة في تفسير الآية أن المولى معناه الأولى ، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل وجب حمله عليه لأن ما عداه بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر ، أو بين الانتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثا ، وعلى التقدير الثاني كذبا. قال: وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيرا بحسب اللغة سقط الاستدلال. قلت: في هذا الإسقاط بحث لا يخفى. وجوز أن يراد في الآية نفي الناصر لأنه إذا قال هي ناصركم على سبيل التهكم وليس لها نصرة لزم نفي الناصر رأسا كقوله تعالى (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف: ٢٩] ويقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء.

قوله سبحانه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته. قال جمع من المفسرين: نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع. وقال آخرون: نزل في المؤمنين المحقين. روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة. وقوله (لِذِكْرِ اللهِ) من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقا نازلا من السماء. ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله والقرآن كقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ

٢٥٦

إِيماناً) [الأنفال: ٢] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعا ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة. ومن قرأ ولا تكونوا بالتاء الفوقانية فهي الناهية. ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوبا عطفا على أن تخشع والأمد الأجل والأمل أي طالت المدة بين اليهود والنصارى وبين أنبيائهم ، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع. وقال مقاتل بن سليمان: طال عليهم أمد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي ، وقرئ الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر. قال الحسن: أما والله لقد استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق. قوله (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ) فيه وجهان: الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث ، الثاني أنه زجر لأهل الفسق وترغيب في الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات. ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله (وَأَقْرَضُوا اللهَ) لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا. والظاهر أن الأول هو الواجب والثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك. وأيضا ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبئ عن الالتزام والوجوب. ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضا عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه. وقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة ، أو هم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقا إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسول رسوله. ثم حث على الجهاد بقوله (وَالشُّهَداءُ) وهو مبتدأ حبره (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وفيه بيان أنهم من الله بمنزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) ويجوز أن يكون قوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حالا أو صفة للشهداء كقوله «مررت على اللئيم يسبني» وما بعده خبر. وقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء لقوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء: ٤١] ومن جعل (الشُّهَداءُ) عطفا على ما قبله قال: أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله. قال مجاهد: كل مؤمن فهو صديق وشهيد. وقال جار الله: المعنى أن الله يعطي

٢٥٧

المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. وقيل: أريد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده. وعن الحسن: كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه. وعن الأصم. إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة. ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه. ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في «الكهف» وفي «سبأ» وبأصحاب الجنة في «نون». ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطاما هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس. ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) للكافرين (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) للمؤمنين قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة. ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في «آل عمران» إلا أن البشارة هاهنا أعم لأنه قال هناك (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) [الآية: ١٣٣] إلى آخره. وهاهنا قال (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ولأن هؤلاء أدون حالا من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالا من المشبه به. وفي لفظ (سابِقُوا) هاهنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ (سارِعُوا) هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أو متقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال الزجاج: لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي لا يوجد مصيبة (فِي الْأَرْضِ) من القحط والوباء والبلاء (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من المرض والفتن (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي هو مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا قال «جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» (١) ولم يقل إلى الأبد.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٨ النسائي في كتاب النكاح باب ٤ بلفظ «قد جف القلم بما أنت لاق»

٢٥٨

وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه لم يذكر أحوال أهل السموات وفيه سر قال أهل البرهان: فصل في هذه السورة وأجمل في «التغابن» فقال (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [الحديد: ٢٢] والتفصيل بهذه السورة أليق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) إلى آخره قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات (إِنَّ ذلِكَ) الإثبات أو الحفظ (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وإن كان عسيرا على غيره. ثم بين وجه الحكمة في ذلك الإثبات قائلا (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أي لكيلا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) نظيره ما ورد في الخبر: من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه. روى عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر. والباقي ظاهر وقد مر في النساء. والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغيا لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن طاعة المطيعين (الْحَمِيدُ) في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. وقيل: إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبخلوا ببيان نعته.

ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم. يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال: مر قومك يزنوا به. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض. أنزل الحديد والنار والماء والملح. وعن الحسن: إنزالها تهيئتها كقوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر: ٦] وقال قطرب: هو من النزل يقال: أنزل الأمير على فلان نزلا حسنا منهم من قال: هو من باب «علفتها تبنا وماء باردا». وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه. أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي. والثاني لا يتم إلا بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزا. وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالقوة النظرية الروحانية ، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية ، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق. وثانيها

٢٥٩

المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم ، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان ، وإما أعداء فيدفعون بالسيف. وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات ، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان ، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلا بدّ لهم من السيوف الزواجر. ورابعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة والمقربين لا يسكن إلا بكتاب الله (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: ٢٨] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة. وأصحاب اليمين لا بد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط ، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة. وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فانتبه بميزان الكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة ، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلا بد له من الحديد. وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان ، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة. أو نقول: الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان ، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف. وسابعها الكتاب للعلماء والميزان للعوام والسيف للملوك. قال أهل التجارب: في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها. أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعات أربعة: الزراعة والحياكة والبناء والإمارة. أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها. ثم الحبوب لا بد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضا في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة ، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب والجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده ، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل. قال بعضهم:

سبحان من خص الفلز بعزه

والناس مستغنون عن أجناسه

وأذل أنفاس الهواء وكل ذي

نفس فمحتاج إلى أنفاسه

نظيره الحاجة إلى الطعام ثم إلى الهواء ، فالطعام قلما يوجد إلا بالثمن والماء قد يباع في بعض الأمكنة والزمان والهواء لا يباع أصلا لأن الحاجة إلى النفس أمس. قال بعض المحققين هاهنا إن العلم أبلغ ما يحتاج الإنسان إليه إذ به قوام روحه وصلاح معاده فلا جرم

٢٦٠