تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

هو كل من برىء من النفاق. وقيل: الأنبياء والصحابة والخلفاء. (وَالْمَلائِكَةُ) على كثرة جموعهم (بَعْدَ ذلِكَ) الذي عرف من نصرة المذكورين (ظَهِيرٌ) فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة فأي وزن لاتفاق امرأتين بعد تظاهر هؤلاء على ضد مطلوبهما. ولا يخفى أن الكلام مسوق للمبالغة في الظاهر وإلا فكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا.

ثم وبخهما بنوع آخر وهو قوله (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) الآية. والسائحات الصائمات كما في آخر التوبة. قال جار الله: شبه الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره بالسائح الذي لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد من يطعمه. وقيل: السائحات المهاجرات فانظر في شؤم العصيان فإن أمهات المؤمنين وهنّ خير نساء العالمين يصير غيرهن بفرض عدم العصيان خيرا منهن بفرض العصيان وتطليق الرسول إياهن. وقد عرفت في النظائر أن الواو في قوله (وَأَبْكاراً) يقال لها «واو الثمانية» إلا أن للواو في هذا المقام فائدة أخرى وهي أن وصفي الثيابة والبكارة متنافيان لا يكون إلا أحدهما بخلاف الصفات المتقدمة فإنها ممكنة الاجتماع ، فالمراد أن أولئك النساء جامعات للأوصاف المتقدمة ولأحد هذين. ثم عمم التحذير فقال (قُوا أَنْفُسَكُمْ) وهو أمر من الوقاية في الحديث «رحم الله رجلا قال يا أهلاه صلاتكم وصيامكم وزكاتكم مسكينكم ويتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعهم معه في الجنة» وتفسير قوله (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قد مر في أول «البقرة». وكونها معدّة للكافرين لا ينافي تعذيب المؤمنين الفسقة بها إن استحقوها. وجوز أن يكون أمرا بالتوقي من الارتداد وأن يكون خطابا للذين آمنوا بألسنتهم (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي موكل على أهلها الزبانية التسعة عشر الموصوفون بالغلظة والشدة في الإجرام أو في الأفعال أو فيهما لأنه لا تأخذهم رأفة بمن عصى الله. وقوله (ما أَمَرَهُمْ) نصب على البدل أي لا يعصون أمر الله. ولا يخفى أن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر فصرح بما عرف ضمنا قائلا (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ويجوز أن يكون الأوّل عائدا إلى الماضي والثاني إلى المستقبل. ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار وهو قوله (لا تَعْتَذِرُوا) لأنه لا عذر لكم أو لا عذر مقبولا لكم ، وليس هذا من قبيل الظلم ولكنه جزاء أعمالهم. ثم أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة ، ووصفت بالنصوح على الإسناد المجازي لأن النصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة لا يكون فيها شوب رياء ولا نفاق. وقيل: هو من نصاحة الثوب أي توبة ترفأ خروقك في دينك. وقيل: خالصة عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها. و (عَسى) من الكريم إطماع ولئلا يتكلوا. قوله (لا يُخْزِي) تعريض لمن أخزاهم من أهل النار (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران: ١٩٢] كأنه استحمد المؤمنين على أنه عصمهم من مثل

٣٢١

حالهم. قوله (نُورُهُمْ يَسْعى) قد مرّ في الحديد قوله (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي قائلين ذلك إذا طفىء نور المنافقين خوفا من زواله على عادة البشرية ، أو لأن الإخلاص والنفاق من صفة الباطن لا يعرفه إلا الله سبحانه على أنه يجوز أن يدعو المؤمن بما هو حاصل له مثل اهدنا ، ويجوز أن يدعو به من هو أدنى منزلة لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلا لا مجازاة لانقطاع التكليف والعمل يومئذ. ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة أو بإقامة الحدود عليهم ، وأمر باستعمال الغلظة والخشونة على الفريقين هذا عذابهم في الدنيا ولهم في الآخرة جهنم وقد سبق نظير الآية في «التوبة». ثم ضرب مثلا لأهل الكفر امرأة نوح واسمها قيل واعلة وامرأة لوط. واسمها قيل واهلة ومثلا لأهل الإيمان امرأة فرعون واسمها آسية وهي عمة موسى ومريم ابنة عمران. وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئا ، وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ) سائر (الدَّاخِلِينَ) الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء من قوم نوح وقوم لوط أو من كل قوم. وفي قوله (عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا) إشارة إلى أن سبب المزية والرجحان عند الله ليس إلا الصلاح كائنا من كان. وخيانة المرأتين ليست هي الفجور وإنما هي نفاقهما وإبطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين. فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط. عن أبى هريرة أن آسية حين آمنت بموسى عليه‌السلام وتدها فرعون باربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وأضجعها على ظهرها ووضع الرحى على صدرها. قال الحسن: فنجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها. وقيل: لما (قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) بنى من درّة. ومعنى (عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) أنها طلبت القرب من الله والبعد ن عدوّه في مقام القرب ، أو أرادت أعلى موضع في الجنة. وقولها (مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) كقولك «أعجبني زيد وكرمه» وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين. والضمير في (فِيهِ) للفرج. وقيل: هو جيب الدرع وقد مرّ في «الأنبياء». وكلمات الله صحف إبراهيم وغيره أو جميع ما كلم الله به وكتبه اللوح أو الكتب الأربعة ومن وحد فهو الإنجيل. وقرىء بكلمة الله أي بعيسى (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) من باب التغليب كما مرّ في قوله (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران: ٤٣] وقيل: «من» للابتداء أي ولدت منهم لأنهم من أعقاب هرون عليه‌السلام. تم الجزء الثامن والعشرون ويليه الجزء التاسع والعشرون وأوله تفسير سورة الملك

٣٢٢

الجزء التاسع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(سورة الملك وهي مكية

حروفها ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر

كلمها ثلاثمائة وخمس وثلاثون آياتها ثلاثون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ

٣٢٣

الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

القراآت من تفوّت من التفعل: حمزة وعلي (هَلْ تَرى) بالإدغام: أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام (وَلَقَدْ زَيَّنَّا) مثل (لَقَدْ سَمِعَ): ابن فليح (فَسُحْقاً) بالضم: يزيد وعلي الآخرون: بالسكون (أَأَمِنْتُمْ) بهمزتين: حمزة وعلي وخلف وابن عامر. والباقون (أَأَمِنْتُمْ) بتوسيط ألف بين الهمزتين نذيري ونكيري كنظائرهما. سيئت مثل ضربت: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. يدعون بسكون الدال: يعقوب. أهلكني الله بسكون الياء: حمزة (مَعِيَ) بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم غير يحيى وحماد فسيعلمون على الغيبة: علي.

الوقوف (الْمُلْكُ) ط لنوع اختلاف بين الجملتين من حيث تقديم الظرف في الأولى (قَدِيرٌ) ه لا لأن (الَّذِي) بدل (عَمَلاً) ه (الْغَفُورُ) ه لا لأن ما بعده صفة أو بدل (طِباقاً) ط (تَفاوُتٍ) ط (الْبَصَرَ) ط في الموضعين لأن ما بعد الأول مفعول أي فانظر هل ترى ، وما بعد الثاني ظرف مع أن الجواب منتظر (فُطُورٍ) ه (حَسِيرٌ) ه (السَّعِيرِ) ه (جَهَنَّمَ) ط (الْمَصِيرُ) ه (تَفُورُ) ه لا لأن ما بعده خبر آخر أو بدل (الْغَيْظِ) ط (نَذِيرٌ) ه (مِنْ شَيْءٍ) ط ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الكفار وأن يكون مقول قول محذوف للخزنة (كَبِيرٍ) ه (السَّعِيرِ) ه (بِذَنْبِهِمْ) ج لابتداء الشتم مع الفاء (كَبِيرٌ) ه (أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) ه ط (الصُّدُورِ) ه (خَلَقَ) ط لتناهي الاستفهام مع أن الواو يحسن حالا. (الْخَبِيرُ) ه (مِنْ رِزْقِهِ) ط (النُّشُورُ) ه (هِيَ تَمُورُ) ه لا لأن أم معادل (أَمْ أَمِنْتُمْ حاصِباً) ط لابتداء التهديد (نَذِيرِ) ه (نَكِيرِ) ه و (يَقْبِضْنَ) م (الرَّحْمنُ) ط (بَصِيرٌ) ه (الرَّحْمنِ) ط (غُرُورٍ) ه (رِزْقَهُ) ط (وَنُفُورٍ) ه (مُسْتَقِيمٍ) ه (وَالْأَفْئِدَةَ) ط (تَشْكُرُونَ) ه (تُحْشَرُونَ) ه (صادِقِينَ) ه (عِنْدَ اللهِ) ط ص (مُبِينٌ) ه (تَدَّعُونَ) ه (رَحِمَنا) لا لأن ما بعده جواب الشرط (أَلِيمٍ) ه (تَوَكَّلْنا) ج ومن قرأ فسيعلمون بياء الغيبة فوقفه مطلق للعدول (مُبِينٍ) ه (مَعِينٍ) ه.

التفسير: كثير خير من تحت تصرفه وتسخيره (الْمُلْكُ) الحقيقي (وَهُوَ عَلى) إيجاد (كُلِ) ممكن وإعدامه (قَدِيرٌ) بيانه أنه (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وهما عرضان يتعاقبان على كل من صح عليه ذلك. فالموت نظير الإعدام والحياة مثال الإيجاد ، وتقديم الموت لأن الأصل في الأشياء العدم ، قال مقاتل: يعني كونه نطفة وعلقة ومضغة ثم نفخ فيه الروح.

٣٢٤

وعن ابن عباس: الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان ، وإن الله خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي ، قال الحكماء الإسلاميون: هذا على سبيل التمثيل وإلا فالعرض لا يكون جوهرا. أقول: لعل الأملح والبلقاء إشارة إلى أن هذين العرضين في عالمنا هذا لا يطرآن إلا على ما فيه طبائع متضادة فتكون بسبب ذلك تارة وتفقد أخرى. قال جار الله: إنما قدم الموت لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم. زعم الكلبي أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد ، وقال أبو علي وأبو هاشم: إنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد. وقالت الأشاعرة: إنه قادر على القبيلين وإلا لم يكن على كل شيء قدير وهو خلاف الآية فلزمهم صحة وجود مقدور بين قادرين وبهذا بطل القول بالطبائع على ما تقوله الفلاسفة ، وبالمتولدات على ما تقوله المعتزلة ، وبكون العبد موجد الأفعال نفسه. ومعنى الغاية في قوله (لِيَبْلُوَكُمْ) أنه إذا علم أن وراء الموت حياة وحالة يستوي فيها الغني والفقير والمولى والعبد ولا ينفعه إلا ما قدم من خير صار ذلك داعيا إلى حسن العمل وزاجرا عن ضده. وكذا لو قيل: إن الموت حال كونه نطفة والحياة نفخ الروح في الجنين فإنه إذا تفكر في أمور نفسه علم أن وراء هذه الحياة موتا ينقطع به تدارك ما فات ، وأن الدنيا مزرعة الآخرة. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تلاها فلما بلغ قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لقومه «لو أكثرتم ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى» (١) والابتلاء مجاز كما مر في قوله (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ) وفي الكهف قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) مفعول ثان (لِيَبْلُوَكُمْ) على أنه متضمن معنى العلم وليس هذا من باب التعليق لأن التعليق هو أن تكون الاستفهامية سادة مسد المفعولين جميعا نحو «علمت أزيد منطلق» نعم إنه تعليق على قول الفراء والزجاج لأنهما قالا تقديره ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل (الْغَفُورُ) لمن تاب من أهل الإساءة ، وهذان الوصفان يتوقفان على كمال القدرة والعلم فلا جرم دل عليهما (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي ذات طباق أو طوبقت طباقا أو هو وصف بالمصدر مبالغة أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا طار طارقها. ثم أشار إلى أنها محكمة متقنة بقوله (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أو تفوّت قال

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٢٦. النسائي في كتاب الجنائز باب ٣. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣١. أحمد في مسنده (٢ / ٢٩٣).

٣٢٥

الفراء: وهما واحد ومعناه يرجع إلى عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر الفهم لو كان كذا لكان أحسن ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل راء. والأصل ما ترى فيهن فعدل إلى العبارة الموجودة تعظيما لخلقهن وتنبيها على أنه سبب تناسبهن كقوله «خلق الرحمن». فلو علم للمكلفين أنفع من هذا الخلق لفعل. وفسر بعضهم التفاوت بالفطور لقوله (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي صدوع وشقوق وخروق وفتور كل هذه من عبارات المفسرين وهو كقوله في أول «ق» (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق: ٤] وإنما أمر برجع البصر لأن النظرة الأولى حمقاء ، ثم أمر بتكرير رجع البصر كرتين وهو تثنية الكرة مثل لبيك وسعديك إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من الخلل والعيب ، ومعنى (خاسِئاً) بعيدا عن إصابة الملمس ، قوله (وَلَقَدْ زَيَّنَّا) قد مر تفسيره في «حم السجدة». والرجوم جمع رجم مصدر سمي به ما يرجم به. وقيل: معناه جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من أهل التنجيم. وحين بين أنه أعد لهؤلاء عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عمم الوعيد بقوله (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. ثم وصف جهنم بصفات منها أن (لَها شَهِيقاً) تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بصوت الحمار. ويجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم أو من أنفسهم ومنها الفوران. قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المرجل. وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل. ويجوز أن يكون من فور الغضب يؤيده قوله (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقال فلان يتميز غيظا وغضبا فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه ، ولعل السبب في هذا المجاز هو أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب ، والدم عند الغليان يصير أعظم حجما ومقدارا فيمدد الأوعية حتى كادت تنشق وتنخرق ، فجعل ذكر هذا اللازم كناية عن شدة الغضب ، وقيل: الغيظ للزبانية احتجت المرجئة بقوله (كُلَّما أُلْقِيَ) الآية. على أنه لا يدخل النار إلا الكفار لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي فيها أنه قال كذبنا النذير أجاب القاضي بأن النذير قد يطلق على ما في المقول من الأدلة المحذرة عن المعصية فيشمل الفاسق ، القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود الشرع. احتجوا بأنه تعالى ما عذبهم إلا بعد مجيء النذير. ثم حكى عن أهل النار أنهم يقولون للخزنة (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل متأمل متفكر (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل واحتج بالآية من فضل السمع على البصر لأنه تعالى جعل مناط الفوز السمع ولم يذكر البصر القائل بأن الدين لا يتم إلا بالتعليم. احتج بأنه قدم السمع على العقل تنبيها على أنه لا بد أولا من إرشاد

٣٢٦

المرشد وهداية الهادي. وأجيب بأن سبب التقديم هو أن المكلف لا بد أن يسمع قول الرسول ثم يتفكر فيه. قال في الكشاف: ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ، ثم قال في إبطاله كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة. قلت: الإنصاف أن نزول الآية قبل المذهبين لا ينافي توبيخ أهل النار يوم القيامة أنفسهم بأنهم على تلك السيرة ، وكم من قصة قد أخبر الله بوقوعها من قبل أن تقع وهو أحد أنواع إعجاز القرآن ، وأيضا لا يلزم من كونهما ناجمين كون غيرهما من أهل الوعيد. وأيضا على هذا التفسير لو صح يلزم كونهما من أهل النجاة قطعا فينضم إلى المبشرين أفراد غير محصورة فضلا عن حادي عشر فيكون دعوى انحصار المبشرين في العشرة مصادرة على المطلوب. والفاء في قوله (فَاعْتَرَفُوا) للنتيجة أي فصح بعد البيانات السابقة أنهم اعترفوا (بِذَنْبِهِمْ) قال مقاتل: يعني تكذيبهم الرسل. قال الفراء: الذنب هاهنا بمعنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم. ثم بين أن ذلك الاعتراف مما لا ينفع قائلا فيه (فَسُحْقاً) أي فبعدا لهم عن رحمة الله اعترفوا أو جحدوا. والتخفيف والتثقيل لغتان والمعنى أسحقهم الله سحقا. وقال أبو علي: إسحاقا إلا أن المصدر جاء على الحذف كقولهم «عمرك الله» ثم أتبعهم الوعيد الوعد قائلا (إِنَّ الَّذِينَ) الآية. وقد مر مرارا. ثم هدد على العموم فقال (وَأَسِرُّوا) وهو من التسرية وعلل ذلك بقوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قال ابن عباس: كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيخبره جبرائيل فقالوا: أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد فأنزل الله الآية بيانا لجهلهم. ثم استدل على كمال علمه بنوع آخر قائلا (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ومحل «من» رفع أي ألا يعلم من خلق مخلوقه ، وذلك أن خلق الشيء يتوقف على معرفة تفاصيل كمياته وكيفياته وسائر أحواله لئلا يقع الترجيح من غير مرجح ، وهذه مقدمة جلية أو نصب أي ألا يعلم الله من خلقه ، وجوز أن يكون «من» بمعنى «ما» ويكون إشارة إلى ما يسره الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم ، وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وقد يستدل بالوجهين الأولين أيضا على ذلك لأن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها بناء على الآية. ولكنه غير عالم بتفاصيلها لأنه لا يعرف مقادير حركته وسكونه وكمية الجواهر الفردة الواقعة على مسافته ، بل لا يعرف الأسباب السابقة والغايات اللاحقة لا بكلها ولا بأكثرها في كل فعل من أفعاله. وأنكر في الكشاف أن يكون قوله (أَلا يَعْلَمُ) متروك المفعول على تقادير كون «من» مرفوع المحل نحو «فلان يعطي» قال: لأن قوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ

٣٢٧

الْخَبِيرُ) حال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم ولكن ، ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء قلت: أما قوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ) حال فممنوع ولم لا يجوز أن يكون مستأنفا ، وعلى تقدير تسليمه فليس معنى قوله (أَلا يَعْلَمُ) متروك المفعول على تقدير كون «من» مرفوع المحل حتى يلزم توقيت الشيء بنفسه ، بل المعنى ألا يتصف الخالق بالعلم والحال أن علمه وصل إلى بواطن الأشياء وخبايا الأمور. وذلك أن المتصف بالأخص متصف بالأعم ضرورة. قوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) قال أهل النظم: وجه التعلق أنه سبحانه وتعالى قال: أيها الكافرون أنا عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها لكم وإن شئت خسفت بكم إياها ، والذلول من كل شيء المنقاد الذي يذل لك ، ومن ذلها أنه ما جعلها خشنة يمتنع المشي عليها ، ولا صلبة بحيث لا يمكن حفرها والبناء عليها ، ولا متحركة على الاستقامة واستدارة ، بل جعلها ساكنة في جو الهواء عند المركز. قال جار الله: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن ملتقى المنكبين من الغارب أبعد شيء من أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا كان هذا الموضع ذلولا فما ظنك بغيره ، وعن ابن عباس والضحاك وقتادة أن مناكب الأرض جبالها وآكامها ، وإذا كانت هذه الأمكنة مع شخوصها وارتفاعها مذللة فغيرها أولى. قال الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ، وهو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره الفراء وابن قتيبة: أن مناكبها جوانبها وطرقها ، ومنكبا الرجل جانباه فيكون كقوله (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) [نوح: ١٩ ، ٢٠] (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الذي خلق لكم في الأرض ولا يخفى أن الأمر بالمشي والأكل للإباحة. ثم قال (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) يعني ينبغي أن يكون مشيكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مشي من يعلم وأكل من يتيقن أن المصير إلى الله ، والمراد التحذير من المعاصي سرا وجهرا. ثم بين أن بقاءهم سالمين على هذه الأرض إنما هو بفضل الله ولو شاء لخسف بهم الأرض أو أمطر عليهم مطر القهر ، واستدلال المشبهة بقوله (مَنْ فِي السَّماءِ) ظاهر. وأهل السنة يتأولونه بوجوه منها: قول أبي مسلم أن العرب كانوا يقرون بوجود الإله لكنهم يزعمون أنه في السماء فقيل لهم على حسب اعتقادهم (أَأَمِنْتُمْ مَنْ) تزعمون أنه (فِي السَّماءِ) ومنها قول جمع من المفسرين أأمنتم من في السماء ملكوته أو سلطانه أو قهره لأن العادة جارية بنزول البلاء من السماء. ومنها قول آخرين أن المراد جبرائيل يخسف بهم الأرض بأمر الله والمور حركة في اضطراب وقد مر في «الطور». والحاصب ريح فيها حصباء وقد مر أيضا. ثم هدد وأوعد قائلا (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) قال

٣٢٨

عطاء والضحاك عن ابن عباس: هو المنذر يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى فستعلمون رسولي وصدقه حين لا ينفعكم ذلك. وقيل: بمعنى الإنذار أي عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، ثم مثل بحال الأمم السابقة. قال أبو مسلم: النكير عقاب المنكر. وقال الواحدي: أراد إنكاري وتغييري. ثم برهن على الوحدانية وكمال القدرة بوجوه: الأول (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهن لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا. قال أهل المعاني: وإنما قيل (وَيَقْبِضْنَ) دون «قابضات» على نحو «صافات» لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في كل منهما مد الأطراف وبسطها ، والقبض طارئ على البسط لأجل الإعانة فالمعنى أنهن صافات ويكون منهن القبض في بعض الأوقات كما يكون من السابح. وإنما قال في «النحل» (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) [الآية: ٧٩] وفي هذه السورة (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) لأن التسخير في جو السماء محض الإلهية ، وأما صافات وقابضات فكان إلهامها كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) فيعلم أو يرى كيف يدبر العجائب. قالوا وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه ، ثم إن الكفار كانوا يمتنعون من الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول وكان تعويلهم على أمرين: أحدهما القوة من جهة الإخوان والأعوان. والثاني الاستظهار بالأصنام والأوثان وكانوا يقولون إنها توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات ، فأبطل الله الأول بقوله (أَمَّنْ هذَا الَّذِي) يعني من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي (هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) هو (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إن أرسل عذابه عليكم (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) من الشياطين يغرونهم أن العذاب لا ينزل بهم ولو أنزل دفعه أصنامهم. وأبطل الثاني بقوله (أَمَّنْ هذَا الَّذِي) يشار إليه هذا الذي (يَرْزُقُكُمْ) بزعمكم (إِنْ أَمْسَكَ) الله (رِزْقَهُ) بإمساك أسبابه من المطر وغيره هل يقدر على رزقكم (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) وتباعد عن الحق (وَنُفُورٍ) عنه بالطبع والأول دليل فساد القوة العلمية ، والثاني إشارة إلى فساد القوة النظرية. ثم نبه على قبح هذين الوصفين قائلا (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) قال الواحدي «أكب» مطاوع «كب». وأنكر عليه صاحب الكشاف بأن مطاوع «كب» هو «انكب» ومثله «قشعت الريح السحاب فانقشع» وأما الهمزة في «أكب» و «أقشع» فللصيرورة أي صار ذا كب وقشع ، أو دخل فيهما ولا شيء من بناء أفعل مطاوعا ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي ، أما المثل فقيل: هو في حق راكب التعاسيف وفي الذي يمشي على الصراط السوي وقيل: هو الأعمى والبصير أو العالم والجاهل. وعن قتادة: الكافر أكب على معاصي الله فحشره يوم القيامة على وجهه ،

٣٢٩

والمؤمن كان على الدين الواضح فهداه الله للطريق السوي إلى الجنة. ومنهم من قال: هو في شخصين فقال مقاتل: أبو جهل والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال عطاء عن ابن عباس: أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب. وعن عكرمة: أبو جهل وعمار بن ياسر. والأصح التعميم وإن كان السبب خاصا. البرهان الثاني ابتداء خلق الإنسان وتبيين جوارحه. وفي قوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) إشارة إلى أنه أعطاهم هذه القوى الشريفة ولكنهم ضيعوها في غير ما خلقت لأجله. البرهان الثالث ذرء الناس ونشرهم (فِي الْأَرْضِ) ثم أشار إلى المعاد بقوله (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة وقد مر نظير الآيتين في سورة «المؤمنين». وحين أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار أنهم طالبوه بتعيين الوقت. قال أبو مسلم: المراد كانوا (يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعني العذاب النازل بعاد وثمود وغيرهما لقوله بعد ذلك (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ومن حمل اللفظ على المستقبل وفسر الوعد بالقيامة كان قوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ) من قبيل (وَسِيقَ) [الزمر: ٧٢] وأجابهم الله بقوله (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) العلم بوقوعه حاصل عندي وكان كافيا الإنذار والتحذير ، وأما العلم بوقته فليس إلا لله ولا حاجة في النذارة إلى ذلك. والضمير في (رَأَوْهُ) للوعيد في الدنيا أو في الآخرة والزلفة القرب. قال الحسن: أراد عيانا لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة. وقال في الكشاف: انتصابها على الحال أو الظرف أي رأوه ذا زلفة أو مكانا ذا زلفة. قوله (سِيئَتْ) قال ابن عباس: اسودت وعلتها الكآبة والقترة كوجه من يقاد إلى القتل. وقال الزجاج: تبين فيها السوء وهذا الفعل يستعمل لازما ومتعديا بمعنى القبح أو التقبيح. قوله (وَقِيلَ هذَا الَّذِي) الأكثرون على أن القائلين هم الزبانية. وقال آخرون: بل يقول بعضهم لبعض. و (تَدَّعُونَ) تفعلون من الدعاء أي تتمنون وتستعجلون به ويؤيده قراءة من قرأ بالتخفيف. وقيل: هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وكنتم ببطلانه مدعين. وقيل: استفهام على سبيل الإنكار والمعنى ، أهذا ما ادعيتموه لا بل كنتم بسببه تدعون عدمه. يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين. بالهلاك ويتربصون بهم الدوائر فأمر الله بنوعين من الجواب الأول. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) كما تتمنون فننقلب إلى الجنة (أَوْ رَحِمَنا) بالنصرة وإمهال المدة كما نرجو (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ) النار فنحن متربصون لإحدى الحسنيين وأنتم هالكون بالهلاك الذي لا هلاك بعده ، وإن أهلكنا الله بالموت فمن يخلصكم من النار بعد موت هداتكم؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم فمن ينجيكم من العذاب فإن المقتول على أيدينا هالك؟ وإن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن له مسلمون فأي خلاص ومناص للكافرين؟ وإن رحمنا

٣٣٠

لأجل الإيمان فمن يرحم الكافرين ولا إيمان لهم؟ النوع الثاني في الجواب (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ) ولم نكفر كما كفرتم (وَعَلَيْهِ) خاصة (تَوَكَّلْنا) لا على غيره ، وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال وإذا كانت حالنا هكذا فكيف يقبل الله دعاءكم علينا؟ ثم أشار إلى وجوب الاعتماد عليه في كل حاجة مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته فقال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا مصدر بمعنى الفاعل للمبالغة. عن الكلبي: لا تناله الدلاء. والمعين الجاري على وجه الأرض وقد ذكرنا الخلاف في اشتقاقه في «الصافات». يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية عنده فقال: تأتينا به الفؤس والمكتل فذهب ماء عينيه وهذا من الإعجاز. قال مؤلف الكتاب: وحكم القريحة كذلك فإن فتح باب العويصات لا يتيسر إلا بإعانة رب الأرض والسموات والله الموفق وإليه المآب وبالله التوفيق والنصر.

٣٣١

(سورة نون مكية

حروفها ألف وأربعمائة وستة وخمسون

كلمها ثلاثمائة

آياتها اثنتان وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

٣٣٢

القراآت: (ن وَالْقَلَمِ) مظهرا: يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحيى وحماد وغالب وهو الأصل للوقف. ووجه الإخفاء نية الوصل أإن كان بهمزتين: حمزة وأبو بكر وحماد آن كان بقلب الثانية ألفا ، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة يبدلنا بالتشديد: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (لَما تَخَيَّرُونَ) بتشديد التاء: البزي وابن فليح ليزلقونك بفتح الياء: أبو جعفر ونافع الآخرون: بالضم من الإزلاق.

الوقوف: (يَسْطُرُونَ) ه ط لأن ما بعده جواب القسم لـ (بِمَجْنُونٍ) ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وعطفا على جواب القسم (مَمْنُونٍ) ه ج لذلك (عَظِيمٍ) ه (وَيُبْصِرُونَ) ج لأن ما بعده مفعول (الْمَفْتُونُ) ه (سَبِيلِهِ) ط لاتفاق الجملتين (بِالْمُهْتَدِينَ) ه (الْمُكَذِّبِينَ) ه (فَيُدْهِنُونَ) ه (مَهِينٍ) ه لا (بِنَمِيمٍ) ه لا (أَثِيمٍ) ه لا (زَنِيمٍ) ه ط لمن قرأ (أَنْ كانَ) مستفهما (وَبَنِينَ) ه ومن قرأ مقصورا يقف على البنين دون (زَنِيمٍ الْأَوَّلِينَ) ه (الْخُرْطُومِ) ه (الْجَنَّةِ) ط لاحتمال أن يكون «إذ» ظرفا ليكون وأن يكون مفعول «أذكر» محذوفا (مُصْبِحِينَ) ه لا لتعلق أن المفسرة (صارِمِينَ) ه (يَتَخافَتُونَ) ه لا (مِسْكِينٌ) ه (قادِرِينَ) ه (لَضَالُّونَ) ه لا لعطف «بل» واتحاد المفعول (مَحْرُومُونَ) ه (تُسَبِّحُونَ) ه (ظالِمِينَ) ه (يَتَلاوَمُونَ) ه (طاغِينَ) ه (راغِبُونَ) ه (الْعَذابُ) ط (أَكْبَرُ) م (يَعْلَمُونَ) ه (النَّعِيمِ) ه (كَالْمُجْرِمِينَ) ه ط (ما لَكُمْ) ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر (تَحْكُمُونَ) ه ج (تَدْرُسُونَ) ه ج لأن ما بعده مفعول (تَدْرُسُونَ) وإنما كسرت «أن» لدخول اللام في خبرها (تَخَيَّرُونَ) ه لا لأن «أم» معادل الاستفهام أو بمعنى ألف الاستفهام (الْقِيامَةِ) لا لأن «أن» جواب الأيمان (تَحْكُمُونَ) ه (زَعِيمٌ) ه لما مر في (تَخَيَّرُونَ شُرَكاءُ) ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء (صادِقِينَ) ه (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) ه لا لأن ما بعده حال (ذِلَّةٌ) ط (سالِمُونَ) ه (بِهذَا الْحَدِيثِ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه ج للعطف (لَهُمْ) ط (مَتِينٌ) ه (مُثْقَلُونَ) ه (يَكْتُبُونَ) ه (الْحُوتِ) م بناء على أن «إذ» مفعول «اذكر» (مَكْظُومٌ) ه ط (مَذْمُومٌ) ه (الصَّالِحِينَ) ه (لَمَجْنُونٌ) ه لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار (لِلْعالَمِينَ) ه

التفسير: الأقوال المشتركة في فواتح نحو هذه السورة مذكورة. أما المخصوصة بالمقام فعن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدى أن النون السمكة أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ، أو بالحوت الذي احتبس يونس في بطنه ، أو بالحوت الذي لطخ سهم نمرود بدمه ، أقوال. عن ابن عباس في رواية الضحاك والحسن

٣٣٣

وقتادة أن النون هو الدواة. قال:

إذا ما الشوق برّح بي إليهم

ألقت النون بالدمع السجوم

فيكون قسما بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة. وعن بعض الثقات أن أصحاب السحر يستخرجون من بعض الحيتان شيئا أسود كالنقس أو أشد سوادا منه يكتبون منه فيكون النون. وهو الحوت عبارة عن الدواة ، ويعضده ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة» وعن معاوية بن قرة مرفوعا أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه ما يأمرهم الله به. وقيل: نهر في الجنة. اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنسا لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علما منصرفا ، وإن كان علما غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم ، وقيل: النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الر وحم ون هذا الاسم الخاص. أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون: هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن «أول ما خلق الله القلم» (١) والجوهرة التي وردت في الحديث «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض» كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب. و «ما» في قوله (وَما يَسْطُرُونَ) موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة. وقيل: أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج: «أنت» اسم «ما» والخبر (بِمَجْنُونٍ) وقوله (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك ، أو انتفى عنك الجنون متلبسا بنعمة الله كما لو قلت: أنت عاقل بحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبسا بحمد الله ، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد. وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة. وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان. (وَإِنَّ لَكَ) على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ)

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ١٧. أحمد في مسنده (٥ / ٣١٧).

٣٣٤

قال الأكثرون: أي غير مقطوع كقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: ١٠٨] وعن مجاهد ومقاتل والكلبي أنه غير مكدر عليك بسبب المنة. وقالت المعتزلة: في تقرير هذا الوجه أن له ممنا لأنه ثواب يستوجبه على عمله وليس بتفضل ابتداء ، وضعف لأنه يلزم منه التكرار لأن الأجر عندهم شيء ينبئ عن كونه غير ممنون. والحاصل أنه لا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الخطب الجسيم وهو دعاء الخلق إلى الدين القويم فإن لك بسببه ثوابا عظيما. (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والخلق ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بمواتاة وسهولة ، فإذا وصفه مع ذلك بالعظم وهو كونه على الوجه الأجمل والنهج الأفضل لم يكن خلق أحسن منه. وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة نفي الجنون عنه ودلالة على تكذيب الحساد لأن المجنون لا خلق له يحمد أو عليه يعتمد ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من حسن الخلق المتشابه بحيث كان مجمع أخلاق سائر الأنبياء وكان يوجد فيه ما كان متفرقا فيهم ، وإليه الإشارة بقوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: ٩٠] أي اقتد بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم وفي قوله (لَعَلى) إشارة إلى أنه مستول على أحسن الأخلاق الفاضلة لا يزعه عنها وازع. قال سعيد بن هشام: قلت لعائشة: أخبريني عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت: كان خلقه القرآن. وفي رواية: قرأت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: ١] وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك ، وقال أنس: خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ، ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهدد أعداءه بقوله (فَسَتُبْصِرُ) يا محمد ما قدر لك من عز الدارين (وَيُبْصِرُونَ) في الدنيا بالقتل والسبي كما في بدر أو في الآخرة. قوله (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) قال الأخفش وأبو عبيدة وابن قتيبة: الباء صلة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون. وقال الفراء والمبرد والحسن والضحاك عن ابن عباس: المفتون مصدر بمعنى المجنون كالمعقول والمجلود. وقيل: الباء بمعنى «في» وعلى هذا يجوز أن يكون الفتون بمعنى المجنون أي في أي الفريقين من يستحق هذا الاسم أو في أيهما الشيطان لأن الشيطان مفتون في دينه. وكانت العرب تزعم أنه من يخبله الجن فقال الله تعالى سيعلمون غدا بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ، وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما. ثم أحال كيفية الحال إلى كمال علمه فقال (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي بمن جن (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وهم لعقلاء. والأظهر أن يراد الضلال في غوائلهم والاهتداء في الدين وفيه وعد ووعيد. قال المفسرون: إن المشركين أرادوا من النبي أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة وهم يعبدون الله مدة وآلهتهم مدة فأنزل الله تعالى (فَلا

٣٣٥

تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) وهو كالنتيجة لما تقدمه لأنه سبحانه حين وعده أنصار العز والرفعة في الدارين وأوعد أعداءه بضد ذلك وكان علمه شاملا بحال الفريقين وجزائهما لم يبق لطاعة الأعداء وجه.

ثم ذكر تمنيهم فقال (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) تلين وتصانع (فَيُدْهِنُونَ) أي فهم يدهنون حينئذ لأن النفاق يجر النفاق أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعا في ادهانك. قال المبرد: أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. ثم حض النبي قائلا (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) لأن من أكثر الحلف بالله ولم يعرف قدر المعبود بالحق أذله الله. وفيه إشارة إلى أن عزة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية ، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سر الربوبية. وأيضا الحلاف يتفق له الكذب كثيرا والكذب حقير عند الناس. والهماز الذي يذكر الناس بالمكروه. وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي لأجل سعاية. والنميم مصدر نم ينم (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي للمال أو مناع أهل الخير وهو الإسلام فذكر الممنوع منه دون الممنوع فكأنه قال مناع من الخير (مُعْتَدٍ) مجاوز في الظلم حده (أَثِيمٍ) كثير الإثم (عُتُلٍ) غليظ في الخلقة جاف في الخليقة. الزنيم الدعي ومعنى (بَعْدَ ذلِكَ) التبعيد في الرتبة أي مع الأوصاف المعدودة له هذا الوصف الذي هو أشنعها لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث جميع أخلاق الولد. عن ابن عباس في رواية أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسرا وله عشر بنين يقول لهم: من أسلم منكم منعته رفدي وفي رواية أخرى ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ويقال: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية. وقوله (أَنْ كانَ) بهمزة واحدة تقديره لأن كان أي لا تطع صاحب هذه المثالب لكثرة ماله وولده ومن قرأ بهمزتين فمعناه ألأن كان (ذا مالٍ) كذب فمتعلق الجار مدلول. قوله (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ) وذلك أن قال لا يصلح أن يعمل فيه لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولا قوله يتلى لأنه مضاف إليه. عن مجاهد أنه الأسود بن عبد يغوث وعن السدى: الأخنس بن شريق أصله في ثقيف وعداده في زهرة. وقيل: كان الوليد دعيا في قريش (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي الأنف وفيه استخفاف به من جهة الوسم ومن جهة التعبير عن أنف الآدمي بالخرطوم الذي هو أنف الحيوانات المنكرة كالخنزير والفيل كما لو عبر عن شفاه الناس بالمشافر ، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر ، ثم الأنف أكرم موضع من الوجه ولهذا قيل: الجمال في الأنف وله التقدم ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: في الذليل «جدع أنفه ورغم أنفه». والوسم في الأنف إهانة فوق إهانة. ومتى هذا الوسم؟ منهم من قال في الدنيا فعن ابن عباس خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمته على خرطومه. وعن النضر بن

٣٣٦

شميل: الخرطوم الخمر أي سنسمه على شربها. وسمي الخمر خرطوما كما قيل لها السلافة وهو ما سلف عن عصير العنب ، أو لأنها تطير في الخياشيم وتؤثر فيها. ومنهم من قال في الآخرة نعلمه فعبر عن سواد الوجه كله بسواد الخرطوم. ومنهم من قال في الدارين أي سنشهره بهذه السمة وهي أنّه (حَلَّافٍ) إلى (زَنِيمٍ) فلا يخفى كما لا تخفى السمة على الخرطوم. ولا شك أن هذه الأوصاف الذميمة وتبعاتها بقيت في حق الوليد بن المغيرة في الدنيا والآخرة كالوسم على الأنف والوسم على الجبهة. ثم بين أنه إنما أعطى رؤساء مكة الآلاء ليواظبوا على شكر نعم الله وإلا صب عليهم بدل الآلاء البلاء ومكان السراء الضراء. وهذه صورة الابتلاء كما أنه كلف أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم ، يروى أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان ملك ضيعة فيها نخل وزروع بقرب صنعاء ، وكان يجعل منها نصيبا وافرا للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا: عيالنا كثير والمال قليل فلو فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا (لَيَصْرِمُنَّها) أي ليقطعن ثمر نخيلها في وقت الصباح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لا يقولون «إن شاء الله» وأصله من الثني وهو الرد كأن الحالف يرد انعقاد اليمين بالثنيا. ولعلهم إنما لم يقولوا إن شاء الله لوثوقهم بالتمكن من صرامها. هذا قول الأكثرين. وزعم الآخرون أن المراد يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملته ذلك القدر الذي كان يدفع أبوهم إليهم (فَطافَ عَلَيْها) عذاب (طائِفٌ مِنْ) حكم (رَبِّكَ) أو بعض من عذاب ربك ، والطائف لا يكون إلا ليلا. قال الكلبي: أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت (وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ) الجنة (كَالصَّرِيمِ) «فعيل» بمعنى «فاعل» أو معنى «مفعول» والأول قول من قال إنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم ، أو سمي الليل صريما لأنه يصرم نور البصر فيقطعه أو لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، وقيل: النهار يسمى أيضا صريما لأن كل واحد من الملوين ينصرم بالآخر فالصريم بمعنى الصارم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها أو لم يبق منها شيء من قولهم «صرم الإناء» إذا أفرغه. والثاني وهو الأولى قول من قال إنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمرة وإن كان أثر الاحتراق مغايرا لأثر الصرم. وقال الحسن: أي صرم عنها الخير: وقيل: الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي ما لا تنبت شيئا ينتفع به. قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) وعنوا بالحرث الزرع والثمار والأعناب ولذلك قالوا (صارِمِينَ) لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار وضمن الغدو معنى الإقبال فلهذا عدي بعلى أي أقبلوا على حرثكم باكرين ، أو

٣٣٧

عبر عن الغدو لأجل الصرم بالغدو عليه كما يقال: غدا عليهم العدو (يَتَخافَتُونَ) يتسارون فيما بينهم والنهي عن الدخول للمسكين نهي لأصحاب الجنة عن تمكين المسكين منه كأنهم قالوا فيما بينهم لا تمكنوه من الدخول. قوله (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) هو المنع ومنه حاردت السنة إذا منعت خيرها ، وحاردت الإبل إذا منعت درها ، أي قادرين على منع المساكين لا غير يعني أنهم عزموا على حرمان المساكين مع كونهم قادرين على نفعهم. وغدوا بحال فقر وذهاب ثمر لا يقدرون فيها إلا على النكد والمنع. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء فعورضوا بنقيض مقصودهم فتعجلوا الحرمان والمسكنة. ويجوز أن تكون المحاردة للجنة أي غدوا حاصلين على منع الجنة خيرها لا على إصابة النفع منها. ويجوز أن لا يكون قوله (عَلى حَرْدٍ) صلة (قادِرِينَ) ولكن الكل يعود إلى قوله (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) أي عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقوله (قادِرِينَ) يكون من باب عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وقيل: الحرد بالتسكين والتحريك وهو الأكثر بمعنى الغضب أي لم يقدروا إلا على غضب بعضهم على بعض كقوله (يَتَلاوَمُونَ) وقيل: الحرد القصد والسرعة قطا حراد أي سراع يعني وغدوا على حالة سرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم على صرامها ومنع خيرها من المساكين. وقيل: حرد علم للجنة بعينها والمعنى كما تقدم لأن قوله (إِنَّا لَضَالُّونَ) يحتمل أن يراد الضلال عن الطريق كأنهم لما رأوا جنتهم محترقة سبق إلى ذهنهم أنها ليست هي وأنهم ضلوا الطريق ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) حرمنا خيرها لشؤم عزمنا على البخل ومنع المساكين. ويحتمل أن يراد الضلال عن الدين لأن منع حق الله نوع من الضلال. ومعنى بل أنهم اعتقدوا كونهم قادرين على الانتفاع بها ومنع الغير منها فقالوا: بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين. (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم وخيرهم كما مر في قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة: ١٤٣]

(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) قال الأكثرون: معنى التسبيح هاهنا الاستثناء لأنه تعالى وبخهم بقوله (وَلا يَسْتَثْنُونَ) والاستثناء نوع من التنزيه لأنه لو دخل في الوجود شيء على خلاف مشيئته كان نقصا في كمال القدرة. وعن الحسن: هو الصلاة كأنهم يتكاسلون فيها وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر. وقال آخرون: إن أوسطهم كان يقول لهم عند عزمهم على منع حقوق الفقراء: لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من هذه العزيمة الخبيثة. فلم يلتفتوا إلى قوله إلا بعد خراب الجنة قائلين (سُبْحانَ رَبِّنا) عن أن يجري في ملكه شيء على خلاف مشيئته. قالت المعتزلة: سبحان الله عن الظلم وعن كل قبيح (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بمنع المعروف وترك الاستثناء. ومعنى (يَتَلاوَمُونَ) يلوم بعضهم بعضا يقول واحد لغيره: أنت

٣٣٨

أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر: أنت خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال. ثم قالوا جميعا (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) اعترافا بالذنب ثم قووا رجاءهم قائلين (عَسى رَبُّنا) الآية. سئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا كأنه توقف في المسألة. وعن مجاهد: إن هذه كانت توبة منهم فأبدلوا خيرا منها. وعن ابن مسعود: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا. ثم هدد المكلفين بقوله (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من القحط والقتل وبلونا أصحاب الجنة عذاب الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أشد وأعظم. ثم مزج وعيد الأشقياء بوعد السعداء قائلا (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه منغص كجنان الدنيا. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد أن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فنفى الله معتقدهم بقوله (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) قال القاضي: فيه دليل واضح على أن وصفي المسلم والمجرم متنافيان فلا يكون الفاسق مسلما. وأجيب بأنه تعالى لم ينف المماثلة من كل الوجوه لتماثلهما في الجوهرية والجسمية وسائر الأوصاف التي لا تكاد تحصر ، فإذن المراد نفي التسوية في أثري الإسلام والإجرام ولا نزاع في ذلك فإن أثر أحدهما وعد وأثر الآخر وعيد أو يكون ثواب المسلم غير المجرم أكثر من ثواب المسلم المجرم على أن المجرم في الآية يحتمل أن يراد به الكافر الذي ضرب مثل أصحاب الجنة فيه وفي أمثاله نظير الآية (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: ٢٨] وقد مر في «ص». ثم قال لهم على طريقة الالتفات (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم المعوج وتخير الشيء واختاره إذا أخذ خيره (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) يقال لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به. ومعنى (بالِغَةٌ) مؤكدة مغلظة وقوله (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يجوز أن يتعلق ببالغة أي هذه الإيمان في قوتها وكمالها بحيث تنتهي إلى يوم القيامة لم تبطل منها يمين على أن يحصل المقسم عليه وهو قوله (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) ثم قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يستأهل الخطاب (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الحكم (زَعِيمٌ) أي كفيل بالاستدلال على صحته (أَمْ لَهُمْ) ناس (شُرَكاءُ) في هذا القول. والمراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ولا نقلي وهو كتاب يدرسون ولا عهد لهم به عند الله ولا زعيم لهم يقوم به ولا لهم من يوافقهم من العقلاء ، فدل ذلك على أنه باطل من كل الوجوه. قوله (يَوْمَ يُكْشَفُ) قيل: منصوب بقوله (فَلْيَأْتُوا) أي إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم. وقيل: بإضمار «اذكر». وقيل: التقدير يوم يكشف (عَنْ

٣٣٩

ساقٍ) كان كيت وكيت. احتجت المشبهة على أن لله ساقا وأيدوه بما يروى عن ابن مسعود مرفوعا أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه ، فأما المؤمنون فيخرون سجدا ، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) حال كونهم (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين على خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل على هيآتها المؤدية للركوع والسجود.

وقال أهل السنة: الدليل الدال على أنه تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل على أن الساق لم يرد بها الجارحة ، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله. «وقامت الحرب بنا على ساق». ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح «يده مغلولة» ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل ، وهكذا في الحديث ومعناه يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله. قال في الكشاف: ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن. وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة على أنه أمر فظيع هائل: قلت: الإنصاف أن هذا لا يرد على المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنه عظمتها كما يقول غيره. وقال أبو سعيد الضرير: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان ، فمعنى الآية يوم تظهر حقائق الأشياء وأصولها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب. وقال أبو مسلم: هذا في الدنيا لأنه تعالى قال في وصف ذلك اليوم (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز ، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع ترى الناس يدعون إلى الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطيعون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها. والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفا فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف. ولكن لا مانع من الدعاء إلى السجود للتوبيخ والتفضيح على رؤس الأشهاد. وقال الجبائي: لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل على أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له على الإيمان ، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضا غير حاصلة على قول الجبائي. والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالى لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك ، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل

٣٤٠