تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

التكاليف لأن المكلف لا يصير زاكيا إلا بالتخلية عن كل ما لا ينبغي ، ويجوز أن يكون التزكي إشارة إلى تطهير النفس الفاسدة. قوله (وَأَهْدِيَكَ) إشارة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة أقلها وأفضلها التوحيد المرتب عليه الخشية التي منها تنشأ جوامع الخيرات ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» وعن بعض الحكماء: اعرفوا الله فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفه عين. ثم هاهنا إضمار كأنه قال: فذهب موسى إلى فرعون فقال له ما أمر به فلم يصدقه فرعون وجحد نبوته (فَأَراهُ) وفي ابتداء المخاطبة بالاستفهام الذي معناه العرض من التلطف والمداراة ما لا يخفى فهو كقوله (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه: ٤٤] والآية الكبرى العصا أو اليد أو هما كما مر في «طه» (فَكَذَّبَ) بالقلب واللسان إذ نسب المعجز إلى السحر (وَعَصى) بإظهار التمرد والطغيان (ثُمَّ أَدْبَرَ) خوفا من الثعبان (يَسْعى) هاربا أو يتحيل في دفع موسى أو تولى عن موسى إظهارا للجحود. وجوز أن يكون (أَدْبَرَ) موضوعا مكان «أقبل» كما يقال: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى طفق يفعل فكنى عن الإقبال بالإدبار إظهارا للسخط ولقصد التفاؤل عليه. ومعنى الفاء في (فَكَذَّبَ) أنه لم يلبث عقيب رؤية الآية الكبرى أن بادرها بنقيض مقتضاها لفرط عتوّه ورسوخ تفر عنه. ومعنى «ثم» في (ثُمَّ أَدْبَرَ) تراخي الرتبة فإن الهرب من الحية مع ادعاء الربوبية مما لا يجتمعان وكذا السعاية والمكيدة بين الناس (فَحَشَرَ) جنوده للتشاور أو لجمع السحرة (فَنادى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر مناديا. وقيل: قام فيهم خطيبا فقال ما قال. وانتصب (نَكالَ الْآخِرَةِ) على أنه مصدر مؤكد كأنه قيل: نكل الله به نكالا وهو مصدر كالتنكيل مثل السلام والتسليم. قال الحسن وقتادة: عذاب الآخرة الإحراق وعذاب الأولى الإغراق. وقيل: الآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون. ثم اختلفوا فعن مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس أن كلمته الأولى (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص: ٣٨] والثانية (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات: ٢٤] وبينهما أربعون سنة أو عشرون ، وفيه دليل على أنه تعالى يمهل ولا يهمل. وذكر قوم واستحسنه القفال أن كلمته الأولى تكذيب موسى حين أراه الآية ، والأخرى هي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقد يدور في الخلد أن كلمته الأولى هي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ) والآخرة وصفه بالأعلى فإنه لو اقتصر على الأولى لم يكن كفرا بدليل قول يوسف (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) [يوسف: ٥٠] (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف: ٢٣] لكنه لما وصفه بالأعلى صار كفرا فأخذه بالأولى والآخرة.

قال الإمام فخر الدين الرازي: إن العاقل لا يشك في نفسه أنه ليس خالق السموات

٤٤١

والأرض وما بينهما ، فالوجه أن يقال: إن فرعون كان دهريا منكرا للصانع والحشر والجزاء وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي سواي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم. وأقول: كما أن نسبة الإنسان خلق العالم إلى نفسه يوجب الحكم عليه بالجنون وسخافة العقل فالقول بنفي الصانع ونسبة وجود الأشياء إلى ذواتها مع تغيرها في أنفسها يوجب الحكم عليه بعدم العقل فما الفرق بين الأمرين؟ وأيّ استبعاد في ذلك وقد قال الله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق: ٧] وسكر الدنيا أشدّ من سكر الخمر فإن الثمل من الخمر يرجى صحوه والثمل من شراب حب المال والجاه الطافح من خيال الرياسة لا ترجى إفاقته. ثم ختم القصة بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) الحديث أو النكال وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به المعتبر (لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي يكون من أهل الخشية لا القسوة. ثم خاطب منكري البعث بقوله (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ) أي أصعب (خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) فنبههم على أمر معلوم بالمشاهدة وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة. وإذا كان الله قادرا على إنشاء العالم الأكبر يكون على خلق العالم الأصغر بل على إعادته أقدر. ثم أشار إلى كيفية خلق السماء فقال (بَناها) وفيه تصوير للأمر المعقول وهو الإبداع والاختراع بالأمر المحسوس وهو البناء. ثم ذكر هيئة البناء فقال (رَفَعَ سَمْكَها) وهو الامتداد القائم على كل من امتدادي الطول والعرض. فإذا اعتبر من السفل إلى العلو يسمى سمكا ، وإذا اعتبر بالعكس يسمى عمقا. وذكر أهل التفسير أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام. ولأهل الهيئة طريقة أخرى قد برهنوا عليها في كتبهم. قوله (فَسَوَّاها) زعم أصحاب الهيئة أن المراد بهذه التسوية جعلها كرية ولا ضرر في الدين من هذا الاعتقاد. وحملها المفسرون على تمام التأليف أو على نفي الفطور عنها. وأقول: من الجائز أن يراد بها جعلها طبقات مرتبة كقوله (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة: ٢٩] الغطش الظلمة يقال: غطش الليل وأغطشه الله. ويقال: أغطش الليل أيضا مثل أضاء وأظلم. وعبر بالضحى عن النهار لأن الضحى أكمل أجزائه في النور والضوء. وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما بسبب غروب الشمس وطلوعها الحادثين بسبب حركة الفلك قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) قد مر تفسير الدحو في أول سورة «البقرة» وأن بعدية دحو الأرض لا تنافي تقدّم خلق الأرض على السماء في قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة: ٢٩] قال أهل اللغة: دحوت أدحو ودحيت أدحى لغتان في حديث عليّ: اللهم داحي المدحيات أي باسط الأرضين السبع. وقد يروى عن ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جريج أن قوله (بَعْدَ ذلِكَ) يعنى مع ذلك كقوله (فَكُّ رَقَبَةٍ) إلى قوله (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: ١٧] أي كان مع هذا من أهل الإيمان بالله. ونصب (الْأَرْضَ) (وَالْجِبالَ)

٤٤٢

فيما يجيء بإضمار دحى وأرسى على شريطة التفسير. قال المفسرون: أراد بالمرعى جميع ما يأكله الناس والأنعام فيكون الرعي مستعارا للإنسان ولهذا قال (مَتاعاً) أي فعل كل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم. وحين فرغ من دلائل القدرة على البعث رتب عليه شرح يوم القيامة. والطامة الداهية التي لا تطاق من قولهم طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في المشي والجري فإذا وصفت بالكبرى كانت في غاية الفظاعة ونهاية الشدّة ، وفي أمثالهم «جرى الوادي فطم على القري» وهو مفرد وجمعه أقرية وقريان وهي الجداول والأنهار. وأصل الطم الدفن والغلب فكل ما غلب شيئا وقهره وأخفاه فقد طمه. وقيل: الطامة النفخة الثانية عن الحسن. وقيل: هي الساعة التي يساق بها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. قال جار الله: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) بدل من (فَإِذا جاءَتِ) لأنه إذا رأى أعماله مدوّنة مكتوبة تذكرها وكان قد نسيها. قوله (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) كقولهم «قد بين الصبح لذي عينين» وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد فعلى هذا يكون استعارة ولا يجب أن يراها كل أحد لأن الإخبار إنما وقع عن كونها بحيث لا تخفى على ذي بصر لا عن وقوع البصر. وقيل: إنها برزت الجحيم ليراها كل من له بصر وعلى هذا يجب أن يراها كل أحد إلا أن المؤمنين يمرون عليها كالبرق الخاطف ، وأما الكافرون فيقعون فيها فكأنها برزت لأجلهم فقط ، وبهذا الاعتبار قال في موضع آخر. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء: ٩١] وقوله (طَغى) إشارة إلى فساد القوى النظرية فإن من عرف الله بالكمال عرف نفسه بالنقصان فلم يصدر عنه الطغيان. قوله (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) رمز إلى اختلال القوّة العملية فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. واللام في (الْمَأْوى) للعهد الذهني أي مأواه اللائق به ولهذا استغنى عن العائد ولا حاجة إلى تكلف أن الألف ، واللام بدل من الإضافة. قوله (خافَ مَقامَ رَبِّهِ) نقيض طغى. قوله (وَنَهَى النَّفْسَ) الأمارة (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فهذا الشخص إذا كامل في قوّته النظرية والعملية. وتفسير (خافَ مَقامَ رَبِّهِ) قد مر في سورة الرحمن. (وَنَهَى النَّفْسَ) ضبطها وتوطينها على متاعب التكاليف من الأفعال والتروك.

ثم إن المشركين كانوا يسمعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الطامة والحاقة وغيرهما من أسماء القيامة فيسألون (أَيَّانَ مُرْساها) أي زمان إرسائها وهو إقامة الله إياها وقد مر في آخر «الأعراف». وعن عائشة رضي‌الله‌عنها لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت. وقوله (فِيمَ أَنْتَ) على هذا تعجب من كثرة ذكره لها كأنه قيل: في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها حرصا على جوابهم إلى ربك منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه. ويجوز أن يكون قوله (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) من تتمة السؤال أي يسألونك

٤٤٣

فيم أنت من العلم بها. ويحتمل أن يكون فيم إنكار سؤالهم أي فيم هذا السؤال. ثم قيل: أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت آخر الرسل وخاتم الأنبياء ذكر من أذكارها وعلامة من علاماتها فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها ، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقته كالموت (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ) لا تتعداه إلى العلم بالغيب الذي العلم بالساعة جزئي منه. وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك. ثم أخبر أنهم حين يرون الساعة يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا. وقيل: في القبور. روى عطاء عن ابن عباس أن الهاء والألف صلة والمعنى لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى. وقال النحويون: فيه إضمار والتقدير إلا عشية أو ضحى يوم تلك العشية على أن الإضافة في (ضُحاها) يكفي فيها أدنى ملابسة وهو هاهنا اجتماعهما في نهار واحد. قال صاحب الكشاف: فائدة الإضافة الدلالة على أن مدة لبثهم كانها لم تبلغ يوما كاملا. قلت: سلمنا أن هذه الفائدة مفهومة من عبارة القرآن إلا أنها تحصل أيضا بتقدير عدم الإضافة كما لا يخفى فلا يصح أن تسند الفائدة إلى الإضافة وحدها. فالوجه أن يقال: فائدة الإضافة أن يعلم أن مجموع مدة الدنيا في ظنهم كيوم واحد وزمان لبثهم في الدنيا كساعة منه عشية أو ضحاها نظيره قول القائل «ما سرت إلا عشية أو ضحى» فإنه لا يفهم منه إلا السير في بعض يوم ما ، وقد تكون العشية من يوم والضحى من يوم آخر. ولو قال «إلا عشيته أو ضحاها» لم يمكن أن يكون السير إلا في أحد هذين الوقتين من يوم واحد. قال بعضهم: فائدة الترديد أن زمان المحنة يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة يعبر عنه بالضحى فكأنه قيل: ما كان عمرنا في الدنيا إلا هاتين الساعتين. أقول: ويحتمل أن يقال إن مبدأ اليوم بليلته كان قبل شرعنا في أكثر الأديان من نصف النهار وقد صار المبدأ في شرعنا من أول الفجر وكأنهم حين أرادوا التعبير عن بعض اليوم. قالوا: إن كان المبدأ من نصف النهار فنحن لم نلبث إلا عشية وهو ما بعد الزوال إلى الغروب ، وإن كان المبدأ من أول الفجر فلم نلبث إلا من الفجر إلى الضحى فلعل هذا هو السر في تقديم العشية على الضحى مع رعاية الفاصلة والله أعلم بأسرار كلامه.

٤٤٤

(سورة عبس مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون

كلمها مائة وثلاث وثلاثون آياتها اثنتان وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

القراآت: كل آيات هذه السورة في الإمالة والتفخيم مثل سورة طه (فَتَنْفَعَهُ) بالنصب على أنه جواب لعل: عاصم غير الأعشى (تَصَدَّى) بتشديد الصاد للإدغام: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون: بتخفيفها بناء على حذف تاء تتفعل أو الخطاب عنه (تَلَهَّى) بإشباع ضمة الهاء وتشديد التاء: البزي وابن فليح (أَنَّا) بالفتح على البدل من الطعام: عاصم وحمزة وخلف.

الوقوف: (وَتَوَلَّى) ه لا (الْأَعْمى) ه ط (يَزَّكَّى) ه لا (الذِّكْرى) ه ط (اسْتَغْنى) ه لا (تَصَدَّى) ه ط (يَزَّكَّى) ه (يَسْعى) ه لا (يَخْشى) ه (تَلَهَّى) ه ز لأن (كَلَّا) للردع فلا يوقف أو بمعنى حقا فيوقف (تَذْكِرَةٌ) ه ج للشرط بعده مع الفاء (ذَكَرَهُ) ه م لأن الظرف لا يجوز أن يتعلق بما قبله ولكنه خبر مبتدأ محذوف أي هو في صحف (مُكَرَّمَةٍ) ه لا (مُطَهَّرَةٍ) ه لا (سَفَرَةٍ) ه ز (بَرَرَةٍ) ط (أَكْفَرَهُ) ه ط (خَلَقَهُ) ه ز لأن

٤٤٥

الجواب محذوف أي خلقه من (نُطْفَةٍ) ط (فَقَدَّرَهُ) ه لا (يَسَّرَهُ) ه ز (فَأَقْبَرَهُ) ه لا (أَنْشَرَهُ) ه ط بناء على أن (كَلَّا) بمعنى حقا ولا يصلح للردع وجه كما يجيء (أَمَرَهُ) ه ط (إِلى طَعامِهِ) ه ز إلا لمن قرأ (أَنَّا) بالفتح (صَبًّا) ه لا (شَقًّا) ه لا (حَبًّا) ه ز (وَقَضْباً) ه كـ (وَنَخْلاً) ه كـ (غُلْباً) ه كـ (وَأَبًّا) ه لا (وَلِأَنْعامِكُمْ) ه ط (الصَّاخَّةُ) ه ز فإن الأوضح أن يكون (يَوْمَ) ظرف (جاءَتِ) وجوز أن يكون مفعول «اذكر» محذوفا والعامل مقدّر أي فإذا جاءت الصاخة كان ما كان (أَخِيهِ) لا (وَأَبِيهِ) ه كـ (وَبَنِيهِ) ه ط (يُغْنِيهِ) ه كـ (مُسْفِرَةٌ) ه لا (مُسْتَبْشِرَةٌ) ه ج فصلا بين حالتي الفئتين مع اتفاق الجملتين (غَبَرَةٌ) ه لا (قَتَرَةٌ) ه (الْفَجَرَةُ) ه.

التفسير: أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأعمى هو ابن أم مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الزهري. وذلك أنه أتى رسول الله وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه ويقول: إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين. وقال أنس: رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء. والجار محذوف على القياس متعلق بـ (عَبَسَ) أو بـ (تَوَلَّى) على اختلاف في باب تنازع الفعلين للكوفيين والبصريين والتقدير: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدّى لغني. قال أهل المعاني: في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار كمن يشكو جانيا بطريق الغيبة وهو حاضر ثم يقبل على الجاني مواجها بالتوبيخ. قالوا: وفي ذكر الأعمى نحو من الإنكار أيضا لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالبا لا التولي والعبوس ، ولا يخفى أن نظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على أمر كلي هو رجاء إسلام قريش فإنه في الظاهر أهم من إجابة رجل أعمى على الفور إلا أنه سبحانه عدّ هذا الجزئي كليا من جهة أخرى هي تطييب قلوب الفقراء والضعفاء وإهمال جانب أهل الغنى والثراء ، فإن هذا أدخل في الإخلاص وابتغاء رضوان الله وذلك مظنة التهمة والرياء. يحكى عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء. وأيضا فائدة الإرشاد والتعليم بالنسبة إلى هذا الأعمى أمر معلوم وبالنسبة إلى أولئك أمر موهوم لأنه جاء طالبا مسترشدا وأنهم جاءوا مستهزئين معاندين ، وترك المعلوم للموهوم خارج عن طريق الاحتياط وإلى هذا المعنى أشار بقوله

٤٤٦

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ) لعل الأعمى (يَزَّكَّى) عما لا ينبغي (أَوْ يَذَّكَّرُ) يتعظ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) فيفعل ما ينبغي. وقيل: الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر يعني أي شيء أدراك بحال كل من أولئك الكفرة حتى طمعت في تطهرهم من الأوزار وانتفاعهم بالاذكار. ثم زاد تصريحا لما فعل قائلا (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي بالمال. وقال عطاء: عن الإيمان. وقال الكلبي: أي عن الله. والأول أولى لأنهم كانوا أغنياء وما توجه الخطاب إلا من هذه الجهة وإن كان إسلامهم موهوما (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تتعرض وأصله تتصدد من الصدد وهو ما استقبلك فصار قبالك (وَما عَلَيْكَ) يحتمل أن تكون «ما» استفهامية ونافية يعني أي وبال يعود عليك أو ليس عليك بأس في أن لا يتزكى ذلك المستغني إن عليك إلا البلاغ فما الموجب للحرص والتهالك على إسلامه حتى تكسر قلوب الفقراء بالعبوس والإعراض ، وهذا معنى قوله (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) يسرع في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) الله أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك. وقيل: يخشى الكيوة لأنه أعمى ما كان له قائد (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تتشاغل. قال أهل المعاني: بناء الكلامين على ضمير المخاطب تقوية إنكار التصدي والتهلي عليه أي مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدّى لغنى ويتلهى عن الفقير. قوله (كَلَّا) ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله أي لا تفعل مثل ذلك. ثم قال (إِنَّها) يعني آيات القرآن وهو قول مقاتل ، أو هذه السورة وهو قول الكلبي واختاره الأخفش (تَذْكِرَةٌ) وهي في معنى الذكر والوعظ فلذلك قال (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) والمراد أن هذا القرآن أو هذا التأديب الذي عرفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة. وفيه أن القرآن الذي بلغ في العظمة إلى هذا الحد أيّ حاجة له إلى أن يقبله هؤلاء الكفرة ، فسواء قبلوه أو لا فلا تلتفت إليهم واجتهد في تطيب قلوب الفقراء الذين هم أهل الإخلاص وحزب الله. ثم وصف الصحف بأنها مكرمة عند الله مرفوعة في السماء أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أهل الخبائث لا يمسها إلا المطهرون من تلك الملائكة وتلك الصحف (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة: هم الكتبة من الملائكة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب ، وقد مرّ في أول التفسير أن التركيب يدل على الكشف فبالكتابة يتبين ما في الضمير ويتضح. قال الفراء: اشتقاق السفرة من السفارة لأن الملائكة سفرة بين الله ورسوله ولا يخفى ما في السورة من معنى الكشف أيضا (كِرامٍ) على ربهم. وقال عطاء: أراد أنهم يكرمون من أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة (بَرَرَةٍ) أتقياء واحدها بارّ. وقيل: هي صحف الأنبياء فيكون كقوله (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) [الأعلى: ١٨] وقيل: السفرة القراء. وقيل: الصحابة. ثم عجب من

٤٤٧

صناديد قريش وأضرابهم من أهل العجب والكفر المرتفعين على الفقراء مع أن أوّلهم نطفة مذرة وآخرهم جيفة قذرة وهم فيما بين الوقتين حملة عذرة فقال (قُتِلَ الْإِنْسانُ) وهو دعاء عليه أشنع دعوة لأنه لا أفظع من القتل و (ما أَكْفَرَهُ) تعجب من حال إفراطه في الكفران وتلقي نعم خالقه بالجحود والطغيان ، وهذا قد ورد على أسلوب كلام العرب وأنه لا يمكن أن يحمل في حقه تعالى إلا على إرادة إيصال العقاب الشديد وليكون لطفا للمعتبرين المتعجبين المتأملين في مراتب حدوثهم التي أوّلها نطفة وأشار إليها بقوله (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ) والاستفهام لزيادة التقرير في التحقير.

ثم قال (فَقَدَّرَهُ) فحمله الفراء على أطواره بعد كونه نطفة إلى وقت إنشائه خلقا آخر ، وعلى أحواله من كونه ذكرا أو أنثى وشقيا أو سعيدا. وقال الزجاج: قدره على الاستواء كقوله (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف: ٣٧] ويحتمل أن يراد فقدر كل عضو في الكمية والكيفية على التقدير اللائق بمصلحته. وأما المرتبة الوسطى فإليها الإشارة بقوله (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) وهو نصب على شريطة التفسير فمن فسر التقدير بالأطوار فسر السبيل بمخرج الولد من بطن أمه. يقال: إن رأس المولود في بطن أمه يكون من فوق ورجله من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب بإلهام الله تعالى إياه على أن نفس خروج الولد حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وعلى التفاسير الأخر فالمراد تسهيل سبيل الخير والشر كقوله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الدهر: ٣] وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر فيكون متعديا إلى واحد ، ويحتمل أن يكون الثاني محذوفا أي فأقبره غيره. يقال: قبر الميت إذا دفنه بنفسه ، وأقبر غيره الميت إذا أمره بدفنه ، فالمراد أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم دون أن يطرحوا على وجه الأرض طعمة للسباع كسائر الحيوان (ثُمَ) إن في كل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه (إِذا شاءَ) أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره (أَنْشَرَهُ) قوله (كَلَّا) يجوز أن يكون ردعا للإنسان عن تكبره وترفعه أو عن كفره وإنكاره المعاد. وقال في الكشاف: وهذا هو ردع للإنسان عما هو عليه فهذا قول مجاهد إن إنسانا لم يخل من تقصير قط فلم يقض أحد من لدن آدم إلى هذه الغاية جميع ما كان مفروضا عليه. وقال آخرون: معناه أن الإنسان الكافر لم يقض بعد ما أمره الله من التأمل في دلائل التوحيد والبعث. وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك: القضاء بمعنى الحكم والضمير لله أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يحكم له به. وحين فرغ من دلائل الأنفس أردفها بدلائل الآفاق قائلا (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) نظر استدلال وتدبر (إِلى طَعامِهِ) الذي يعيش به كيف دبرنا أمره من إنزال الماء من السماء ، ثم شق

٤٤٨

الأرض بالنبات أو بالكراب على البقر فيكون إسناد الفعل إلى السبب. والحب ما يصلح للقوت كالحنطة والشعير ، والقضب العلف بعينه قاله الحسن. وقال أكثر المفسرين: إنه القت لأنه يقضب مرة بعد أخرى أي يقطع. والغلب الغلاظ الأعناق في الأصل يقال: أسد أغلب ، ثم استعير للحدائق أنفسها لتكاثف أشجارها ولأشجارها لعظمها وغلظها. ثم أجمل الفاكهة ليعم الكل وأجمل العلف بقوله (وَأَبًّا) للعموم وهو المرعى لأنه يؤب أي يؤم وينتجع. والأب والأم إخوان قاله جار الله. وقيل: الأب الفاكهة اليابسة المعدّة للبقاء. والفاء في قوله (فَإِذا جاءَتِ) مثل ما مر في «النازعات» و (الصَّاخَّةُ) النفخة الأخيرة. قال الزجاج: أصل الصخ الطعن ، والصك صخ رأسه بالحجر أي شدخه ، والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن ، والنفخة لشدّتها تصك الآذان. وقال جار الله: يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصف النفخة بالصاخة مجاز لأن الناس يصخون لها أي يستمعون. وفرار المرء من الجماعة المذكورين إما بالصورة وذلك للاحتراز عن المطالبة بالتبعات يقول الأخ: ما واسيتني بمالك. ويقول الأبوان: قصرت في برنا. وتقول الصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت كذا وكذا ، والبنون يقولون: لم تعلمنا ولم ترشدنا. قال جار الله: إنما بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، والفرار إنما يقع من الأبعد ثم من الأقرب ، وأخر الصاحبة والبنين لأن البنين أقرب وأحب فكأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبيه بل من صاحبته وبنيه. وأقول: هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين ولعله خلاف العقل والشرع ، والأصوب أن يقال: أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع ، وذكر أوّلا في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول ، والصاحبة في الثاني على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة فكانت بالتقديم أولى. وقيل: أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح. والأنسب عندي أن يكون الفار قابيل وقد جاء هكذا في بعض الروايات ، والأظهر أن الفرار المعنيّ هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء بدليل قوله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يصرفه ويصدّه عن قرابته. قال ابن قتيبة: ويقال أغن عني وجهك أي اصرفه. وعندي أن اشتقاقه من الغنى وذلك أن من أغناك فقد صرفك عن نفسه أو عن طلب حاجته. ثم ذكر أن الناس يومئذ فريقان وأن أهل الكمال تلوح على وجوههم أنوار الكمال من أسفر الصبح إذا أضاء يستبشرون بأنواع المسار ، ويضحكون بدل ما كانوا يبكون في الدنيا خوفا من عقاب الله تعالى ، وأن أهل النقائص يظهر على وجوههم سواد مع غبرة كوجوه الزنوج مثلا إذا

٤٤٩

أعبرت. والقترة سواد كالدخان جمع الله في وجوههم ظلمة الضلال والكفر مع غبار الفجور والفسق ولهذا نعى عليهم بقوله (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أعاذنا الله في الدارين من مثل أحوالهم.

٤٥٠

(سورة التكوير مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون

كلها مائة وتسع وثلاثون آياتها تسع وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

القراآت (سُجِّرَتْ) بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. قتلت بالتشديد: يزيد و (نُشِرَتْ) مخففا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم غير يحيى وحماد (الْجَوارِ) ممالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو في رواية بظنين بالظاء: ابن كثير وعلي وأبو عمر ويعقوب. الباقون: بالضاد.

الوقوف (كُوِّرَتْ) ه ص (انْكَدَرَتْ) ه ص (سُيِّرَتْ) ه كـ (عُطِّلَتْ) ه كـ (حُشِرَتْ) ه كـ (سُجِّرَتْ) ه كـ (زُوِّجَتْ) ه كـ (سُئِلَتْ) ه كـ (قُتِلَتْ) ه ج لاعتراض الاستفهام بين النسق (نُشِرَتْ) ه ص (كُشِطَتْ) ه كـ (سُعِّرَتْ) ه كـ (أُزْلِفَتْ) ه كـ (أَحْضَرَتْ) ه ط لتمام الشرط والجزاء والتقدير إذا كورت الشمس كورت ارتفعت الشمس بفعل مضمر تفسيره الظاهر وكذلك ما بعدها. وقوله (عَلِمَتْ) جواب عن الكل وهو العامل في «إذا» وما عطف عليها (بِالْخُنَّسِ) ه لا (الْكُنَّسِ) ه لا (عَسْعَسَ) ه كـ (تَنَفَّسَ) ه كـ (كَرِيمٍ) ه كـ (مَكِينٍ) ه كـ (أَمِينٍ) ه ط بناء على أن ما بعده مستأنف ومن جعل (وَما

٤٥١

صاحِبُكُمْ) وما بعدها معطوف على جواب القسم لم يقف على (أَمِينٍ) إلى قوله (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ). (بِمَجْنُونٍ) ه ج (الْمُبِينِ) ه ج (بِضَنِينٍ) ه ج (رَجِيمٍ) ه ج (تَذْهَبُونَ) ه ط (لِلْعالَمِينَ) ه لا لأن ما بعده بدل البعض (يَسْتَقِيمَ) ه (الْعالَمِينَ) ه.

التفسير: إنه سبحانه لما ذكر الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء. أما هذه ففيها اثنا عشر شيئا أوّلها تكوير الشمس وفيه وجهان: أحدهما إزالة النور لأن التكوير هو التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة. وفي الحديث «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» (١) أي من التشتت بعد الألفة والاجتماع ، ومنه كارة القصار وهي ثوب واحد يجمع ثيابه فيه. ولا يخفى أن الشيء الذي يلف يصير مخفيا عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وصيرورتها غائبة عن الأعين بالتكوير. الثاني أن يكون من قولهم طعنه فحوره وكوره إذا ألقاه أي ألقيت ورميت عن الفلك. وثانيها انكدار النجوم أي تساقطها وتناثرها والأصل في الانكدار الانصباب وكل متراكب ففيه كدورة فلهذا يقال للجيش الكثير دهماء. قال الخليل: انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم. قال الكلبي: تمطر السماء يومئذ نجوما فقال عطاء: وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة ، فإذا مات من في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة. ويروى في الشمس والنجوم أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها. وثالثها تسيير الجبال وقد مر في سورة «عم». ورابعها تعطيل العشار وهي جمع عشراء كالنفاس في نفساء. والعشراء الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع الحمل لتمام السنة ، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وهم العرب فخوطبوا بما هو مركوز في أذهانهم مصوّر في خزانة خيالهم ، والغرض بيان شدّة الاشتغال بأنفسهم حتى يعطلوا ويهملوا ما هو أهم شيء عندهم. وقيل: العشار هي السحاب تعطلت عما فيها من الماء ، ولعله مجاز من حيث إن العرب تشبه السحاب بالحامل. قال الله تعالى (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) [الذاريات: ٢] وخامسها حشر الوحوش والوحش ضد ما يستأنس به من دواب البر. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، وفيه أنه سبحانه إذا كان لا يهمل أمر الوحوش فكيف يهمل أمر المكلفين. قال الإمام فخر الدين: وفيه دليل على أن هول ذلك

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحج حديث ٤٢٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٤١. النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٤١ ، ٤٢. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٤٢. ابن ماجه في كتب الدعاء باب ٢٠. أحمد في مسنده (٥ / ٨٢ ، ٨٣).

٤٥٢

اليوم بلغ مبلغا لا يفرغ الوحوش للنفار عن الإنسان ولا بعضها للاحتراز عن بعض مع العداوة الطبيعية بين بعض الأصناف حتى صار بعضها غذاء بعض. قلت: هذا الاستدلال ضعيف فإن الوحوش في الدنيا أيضا مجتمعة مع الناس ومع أضدادها لكن في أمكنة مختلفة ، فلم لا يجوز أن تكون في القيامة أيضا كذلك. وعن ابن عباس في رواية إن حشر الوحوش عبارة عن موتها وذلك إذا قضى بينها فردّت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. يقال: إذا اجتاحت السنة الناس وأموالهم حشرتهم السنة أي أماتتهم. السادس تسجير البحار أي تنشيف ما فيها من الرطوبة حتى لا يبقى فيها شيء من المياه وقد سبق في «الطور». السابع تزويج النفوس وهو اقتران الأرواح بالأجساد. وقال الحسن: هو كقوله (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة: ٧] أي صنفتم أصنافا ثلاثة وقريب منه قول من قال: هو أن يضم كل واحد إلى من يجانسه ويكون في طبقته من خير أو شر. وقول من قال: هو أن يقرن بين الرجل وبين من كان يلازمه في الدنيا من ملك أو سلطان. وقال ابن عباس: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، ونفوس الكافرين بالشياطين ، ويقرب منه قول الزجاج هو أن تقرن النفوس بأعمالها. الثامن سؤال الموؤدة. قال جار الله: وأد يئد مقلوب آد يؤد إذا أثقل لأنه إثقال بالتراب ، وكانوا يدفنون بناتهم في الأرض أحياء خوفا من الفقر ولخوف العار كما مر في «النحل» وغيره. ومعنى هذا السؤال تبكيت قاتلها كما يخاطب عيسى بقوله (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة: ١١٦] والغرض تبكيت النصارى. وقيل: الموؤدة هي التي تسأل نفسها فهي السائلة والمسئول عنها. وإنما قيل (قُتِلَتْ) ماضيا مجهولا غائبا بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل قتلت مجهولا مخاطبا ، ولو حكى كلامها حين سألت لقيل قتلت متكلما مجهولا وبه قرأ ابن عباس. قالت المعتزلة وبه يحتج صاحب الكشاف: إن في الآية دلالة على أن أطفال المشركين لا يعذبون لأنه تعالى إذا بكت الكافر بسببها فلأن لا يعذبها أولى. ويمكن أن يجاب بأن تعذيب الوائد للوأد من جهة أنه تصرف في ملك الله تعالى بغير حق لا ينافي تعذيب الموؤدة من جهة أخرى وهي أن حكمها في الإسلام والكفر حكم أبيها. التاسع نشر صحف الأعمال. عن قتادة: هي صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك حين موتك ثم تنشر يوم القيامة فلينظر رجل يملى في صحيفته. ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال قاله في الشكاف. العاشر كشط السماء كما يكشط

٤٥٣

الإهاب عن الذبيحة. والغطاء عن الشيء أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله تعالى. الحادي عشر والثاني عشر تسعير الجحيم أي إيقادها وإزلاف الجنة أي إدناؤها. استدل بعضهم بالآية على أن النار غير مخلوقة الآن لأنه علق تسعيرها بيوم القيامة ، ويمكن المعارضة بأنها تدل على أن الجنة مخلوقة وإلا لم يمكن إزلافها على أن تعليق تسعير الجحيم بيوم القيامة لا ينافي وجودها قبل ذلك غير موقدة إيقادا شديدا. وقيل: يسعرها غضب الله عزوجل وخطايا بني آدم.

وقوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) كقوله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران: ٣٠] والتنوين في (نَفْسٌ) للتقليل على أنه مفيد للتكثير بحسب المقام نحو (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) [النور: ٦٣] (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر: ٢] ويجوز عندي أن يكون للتعظيم أو للنوع يعني النفس الإنسانية لا النباتية ولا الحيوانية ولا الفلكية عند القائلين بها. وإسناد الإحضار إلى الأنفس مجاز لأن الملائكة أحضروها في الصحف أو في الموازين إلا أنها لما تسبب منها ذلك أسند إليها على أن آثار أعمالها إنما تلوح عليها. قال أهل التأويل: هذه الأحوال يمكن اعتبارها في وقت القيامة الصغرى وهي حالة الموت ، فالشمس النفس الناطقة ، وتكويرها قطع تعلقها ، وانكدار النجوم تساقط القوى ، وتسيير الجبال انعزال الأعضاء الرئيسة عن أفعالها ، والعشار البدن يهمل أمرها ، وحشر الوحوش ظهور نتائج الأفعال البهيمية والسبعية على الشخص ، وتسجير البحار نفاد الأوهام الباطلة والأماني الفارغة فإنها بحر لا ساحل له دون الموت الاختياري أو الاضطراري ، وتزويج النفوس انضمام كل ملكة إلى جنسها الظلمة إلى الظلمة والنور إلى النور ، والموؤدة القوّة التي ضيعها المكلف في غير ما خلقت لأجله. وسمعت بعض المحققين من أساتذتي أنها كل مسألة سنحت للخاطر ولم تقيد بالكتابة حتى غابت. والسماء سماء الأرواح والباقي ظاهر. وحين أثبت المعاد شرع في النبوّات فأكدها بالحلف. والخنس جمع خانس ، والكنس جمع كانس. والأكثرون على أنها السيارات الخمسة الجاريات مع النيرين في أفلاكها بالارتباطات المعلومة من الهيئة وقد ذكرنا طرفا منها في البقرة بقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية: ١٦٤] وفي قوله (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة: ٢٩] فخنوسها رجوعها ومنه الخناس للشيطان ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ومنه كنس الوحش إذا دخل كناسه. والمنجمون يسمون زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد متحيرة لمشاهدة الوقوف والرجوع منها بعد الاستقامة وهي حركتها الخاصة من المغرب إلى المشرق على توالي البروج أي من الحمل إلى الثور ثم إلى الجوزاء وهكذا على الترتيب.

٤٥٤

فإذا تحركت القهقري بعكس هذا الترتيب شبه الحركة اليومية. يقال: إنها راجعة أقسم الله بها إذ أحوالها أغرب ورباطاتها مع الشمس أعجب كما بين في ذلك العلم. وعن علي رضي‌الله‌عنه وهو قول عطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها غيبتها عن البصر بالنهار وكنوسها ظهورها للبصر في الليل كما يظهر الوحش من كناسه. وعن ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وخنوسها صفة لأنوفها ومنه «رجل أخنس وامرأة خنساء» وفي هذا القول بعد عن الخنس المقسم بها لأنه لا يناسب ما بعده. وقال أهل التأويل: هي الحواس الخمس تظهر آثارها تارة وتغيب أخرى. ثم أقسم بالليل والنهار. ومعنى عسعس أقبل وأدبر فهو من الأضداد ، وتنفس الصبح مجاز عن تخلصه من ظلمة الليل كنفس المكروب إذا وجد راحة أو مجاز عما يكون عنده من روح ونسيم. والضمير في (إِنَّهُ) للقرآن ، والرسول الكريم جبرائيل ، وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء ، وكرمه في نفسه أنه لا يدل إلا على الخير والكمال. ومعنى كون القرآن قول جبرائيل أنه وصل منه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن النزاع وقع من الكفرة في أنه قول محمد أو هو من السماء فأثبت الثاني ليلزم نفي الأول. وفي لفظ رسوله دلالة على أنه ليس قوله بالاستقلال. وقوله (ذِي قُوَّةٍ) كقوله ذي مرة [النجم: ٦] وقد مر بالنجم. وقوله (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) أي عند ربه بالقرب كقوله (وَمَنْ عِنْدَهُ) [الرعد: ٤٣] والمكين ذو الجاه الذي يعطى ما يسأل يقال مكن فلان بضم الكاف مكانة. وقوله (ثَمَ) إشارة إلى الظرف المذكور أي مطاع عند الله في الملائكة المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه (أَمِينٍ) على الوحي والسفارة وقد عصمه الله من الخيانة والزلل. استدل في الكشاف بالآيات على تفضيل الملك على الأنبياء وقال: لأنه وصف جبرائيل بصفات الكرامة ، ثم وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) وشتان بين الوصفين. قلت: أمثال هذا التغليط من باب الجنون وهذا نشأ من سماع لفظ المجنون. والتحقيق أن ذكر جبرائيل ومدحه وقع استطرادا لبيان مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمبالغة في صدقه فإن الكفرة زعموا أن القرآن إفك افتراه مجنون به وأعانه عليه قوم آخرون فلم يكن بد من نفي الجنون عنه. ووصف جبرائيل بالأمانة والمكانة وغيرهما فإن شرف الرسول يدل على شرف المرسل إليه وصدقه ، فالعجب من الزمخشري أنه كيف سمع لفظ المجنون فاعتراه حتى استدل به على مفضولية أشرف المخلوقات ، ولم يعلم أن ذكر جبرائيل ووصفه بأوصاف الكمال اتفق لغرض تزكية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والعجب من الإمام فخر الدين الرازي أيضا أنه كيف أورد حجته الواهية في تفسيره ولم يتعرض للجواب عنه مع كمال حرصه على تزييف أدلتهم. ثم حكى أنه قد رأى جبرائيل على صورته الأصلية بحيث حصل عنده علم ضروري بأنه ملك مقرب لا

٤٥٥

شيطان رجيم فقال (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وهو أفق الشمس كما مر في «النجم». ثم أخبر عن صدقه وإشفاقه فقال (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ومن قرأ بالظاء الذي مخرجه من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا كالذال والثاء فهو من الظنة التهمة أي ليس بمتهم بل هو ثقة فيما يؤدي عن الله بواسطة جبرائيل. ومن قرأ بالضاد الذي مخرجه من أصل حافة اللسان وما بينها من الأضراس ومن يمين اللسان أو يساره وإخراجه من الجانب الأيسر الأسهل ، وقد يسهل على بعض الناس كلاهما فمعناه أنه لا يضن بالوحي أي لا يبخل به من الضن وهو البخل ، وفيه أنه لا يكتم شيئا من الوحي مما أمر بإظهاره وأنه لا يمنع المستعدّين من الإرشاد والكمال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) بعد هذه البيانات وفيه استضلال لهم كقولك لتارك لجادّة اعتسافا أين تذهب ، مثلت حالهم في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل براكب التعاسيف الذي يستأهل أن يقال له أين تذهب. قوله (لِمَنْ شاءَ) فائدة هذا الإبدال أن نفع التذكير يعود إليهم فكأن غيرهم لم يوعظ والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. ولا يخفى ما بينها وبين قوله (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) من التناسب والطباق وفيه دليل القدرية إلا أن قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فيه دليل الجبرية كما مر في آخر (هَلْ أَتى) وغيره والله الموفق.

٤٥٦

(سورة انفطرت مكية حروفها ثلاثمائة وسبعة وعشرون كلماتها ثمانون آياتها ١٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

القراآت فجرت بالتخفيف: ابن شنبوذ عن أهل مكة (فَعَدَلَكَ) مخففا: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل (رَكَّبَكَ كَلَّا) مدغما: أبو عمرو وقتيبة عنه يكذبون على الغيبة: يزيد يوم لا بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بالفتح.

الوقوف (انْفَطَرَتْ) ه كـ (انْتَثَرَتْ) ه كـ (فُجِّرَتْ) ه كـ (بُعْثِرَتْ) ه كـ (وَأَخَّرَتْ) ه ط (الْكَرِيمِ) ه لا (فَعَدَلَكَ) ه ط بناء على أن الظرف بعده متعلق بـ (رَكَّبَكَ) ومن خفف (فَعَدَلَكَ) لم يقف بناء على أنه جعل «في» بمعنى «إلى» أي فعدلك إلى أي صورة ما شاء (رَكَّبَكَ) ه ط بناء على أن «كلا» توكيد لتحقيق بل ومن جعله ردعا عن الاعتراف لم يقف (بِالدِّينِ) ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف والوصل أجوز إلا من قرأ يكذبون على الغيبة فإنه يقف مطلقا للعدول (لَحافِظِينَ) ه لا (كاتِبِينَ) ه كـ (تَفْعَلُونَ) ه (نَعِيمٍ) ه ج (جَحِيمٍ) ه ج لاحتمال أن ما بعده مستأنف أو صفة جحيم (بِغائِبِينَ) ه ط لابتداء النفي أو الاستفهام (الدِّينِ) ه (يَوْمُ الدِّينِ) ه لا لمن قرأ يوم بالنصب أي ذلك في يوم ومن رفعه على أنه بدل من يوم الدين فلا وقف. (شَيْئاً) ط (لِلَّهِ) ه ط.

التفسير: إنه سبحانه يذكر طرفا آخر من أشراط الساعة في هذه السورة. فأوّلها انفطار السماء أي انشقاقها كقوله في الفرقان (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان: ٢٥] وكما

٤٥٧

يجيء في قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق: ١] وفيه كذا في قوله (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق. أما الدليل المعقول الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وهو أن الأجسام متماثلة في الجسمية فيصح على كل واحد منها ما يصح على الباقي لكن السفليات يصح عليها الانخراق فيصح على العلويات أيضا فغير مفيد ولا مقنع ، لأن الخصم لو سلم الصحة فله أن ينازع فى الوقوع لمانع كالصورة الفلكية وغيرها. وأما تفجير البحار فقد فسروها بفتح بعضها إلى بعض حتى تصير البحار كلها بحرا واحدا وذلك لتزلزل الأرض وتصدعها حتى يرتفع الحاجز الذي بين البحار الشرقية وبين البحار الغربية. وقد فسره في الكشاف بزوال البرزخ بين العذب والمالح حتى يختلطا وهو تصوّر فاسد نشأ من مجرّد سماع لفظ ارتفاع البرزخ. وعن الحسن: إن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عنده كما مر في السورة المتقدّمة. قال جار الله: بعثر وبحثر بمعنى وهما من البعث والبحث زيد فيهما الراء والمعنى بحثت القبور وأخرج موتاها. ولأهل التأويل أن يحملوا بعثرة القبور على كشف الأسرار والأحوال الخفية ، ومعنى التقديم والتأخير قد سبق في القيامة في قوله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة: ١٣] والمراد جميع أعمالها وإنما يحصل بها العلم الإجمالي عند الموت أو في أوائل أشراطه ثم يزيد شيئا فشيئا إلى حين مطالعة صحيفة العمل. ولما أخبر عن وقوع الساعة والحشر بين ما يدل عليه عقلا فقال (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) هو الكافر المنكر للبعث عند طائفة لقوله بعد ذلك (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ) وقد يخص ببعضهم فروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وعن الكلبي ومقاتل في الأشد بن كلدة. وذلك أنه ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل الآية. والأقرب أنها تتناول جميع العصاة وخصوص السبب لا يقدح في العموم ، وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى وصف نفسه في هذا المقام بالكرم وهذا الوصف يقتضي الاغترار به حتى قالت العقلاء: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وسمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الخدم فقال: أما يهاب هؤلاء الغلمان. فقال: إنما يهابنا أعداؤنا. وعن علي رضي‌الله‌عنه أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنطر فإذا هو بالباب فقال لم لم تجبني؟ فقال: لثقتي بتحملك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه فأعتقه. «قال مؤلف الكتاب»: إني في عنفوان الشباب رأيت فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت وقد دار في خلدي أن الله تعالى لو خاطبني بقوله (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ) فمادّا أقول؟ ألهمني الله في المنام أن أقول: غرني كرمك يا رب. ثم إني وجدت هذا المعنى قد ذكر في بعض التفاسير. وعن الفضيل بن عياض أنه قال: أقول في الجواب غرتني ستورك المرخاة. وإذا ثبت أن الكرم يقتضي أن يغتر بصاحبه فكيف وقع الإنكار عليه؟

٤٥٨

والجواب من وجهين: الأول أن كل كريم فهو حكيم لأن إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنيا على داعية الحكمة كان تبذيرا لا كرما فكأنه سبحانه قال: كيف اغتررت بكرمي وكرمي حقيقي صادر عن الحكمة وهي تقتضي أن لا يهمل وإن أمهل ، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، وأن يعيد الناس لأجل المجازاة حتى يظهر المحسن من المسيء والبر من الفاجر لا يضيع حقوق الناس؟.

والحاصل أن الكرم بالخلق والتسوية وهي انتصاب القامة أو سلامة الأعضاء ، وبالتعديل وهو تناسبها أو جعله مستعدّا لقبول الكمالات لا يقتضي أن لا يعيده إلى الحالة الأولى لأجل المجازاة ، بل يجب أن يعيده تتميما للنعمة وإظهارا للحكمة. الثاني أن كرمه السابق بالخلق وغيره لا يوجب كرما لا حقا بالعفو والغفران لجميع المعاصي لأن غاية الكرم هو أن يبتدئ بالنعم من غير عوض ولا غرض ، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء وإنه يتلقاه بالعصيان فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه بل قد يعدّ ذلك ضعفا وذلة ولا سيما إذا كان المأمور به هو معرفة المنعم ولهذا روي عن عمر مرفوعا «غره جهله». وعن الحسن: غره والله شيطانه الخبيث حتى طمع في الكرم اللاحق لأجل الكرم السابق. خصوصا إذا لم يكن ممن حصل له معرفة ربه في الدنيا. قال النحويون: «ما» في (ما شاءَ) مزيدة قلت: وذلك بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فهي مفيدة للتأكيد أي في كل صورة من الصور شاء كقوله (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران: ٦] وإنما لم يقل «ففي أي صورة» بالفاء العاطفة على نسق ما تقدّمها لأنها كالبيان بعد ذلك. والجارّ متعلق بركب أي ركبك في أي صورة اقتضتها حكمته أو بمحذوف أي حاصلا في بعض الصور المرادة. وجوّز جار الله أن يتعلق بـ (فَعَدَلَكَ) ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدّلك في صورة عجيبة ثم قال ما شاء أي ركبك ما شاء من التركيب. قال الحسن: منهم من صوّره ليستخلصه له ، ومنهم من صوّره ليشغله بغيره. قلت: الأوّلون مظاهر اللطف والجمال ، والآخرون مظاهر القهر والجلال. ثم زجرهم عن الاغترار بقوله (كَلَّا) وهي حرف وضع في اللغة لنفي ما تقدم وتحقيق غيره أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور ، ولئن فرض فالله كريم غفار للذنوب ، ولئن قدّر أنه معاقب فلعله غير عالم بالجزئيات فكيف يحاسب فنبههم الله تعالى على خطئهم بأن تكذيبهم بالجزاء إنما وقع في حال تسليط الحفظة عليهم ، وهذا التكذيب أيضا من جملة ما يكتبونه. أو نقول: لما ردعهم عن الطمع الفارغ والأمل المنكر أضرب عنه إلى ما هو شر منه وهو إنكار الجزاء أصلا. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم إشارة إلى أن أمر الجزاء عند الله تعالى من عظائم الأمور

٤٥٩

والاشغال. قال بعضهم: من لم يزجره عن المعاصي مراقبة الله إياه كيف يردّه عنها الكرام الكاتبون؟ قلت: لا ريب أن الأول أصل والثاني فرع إلا أن المكلف لإلفه بالمحسوسات يزجره ما هو أقرب إلى عالم الحس أكثر ما يزجره ما هو أقرب إلى عالم الأرواح ولهذا تقع الزواجر والروادع في المدينة الفاضلة. ثم ذكر فائدة كتابة الحفظة وغايتها فقال (إِنَّ الْأَبْرارَ) إلى آخره. يحكى أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم: كيف القدوم على الله غدا؟ فقال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. قال: فبكى ثم قال: ليت شعري مالنا عند الله فقال أبو حازم: اعرض عملك على كتاب الله قال: في أي مكان؟ قال في قوله (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) قال جعفر الصادق: النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم ظلمات الشهوات. وقال آخرون: النعيم القناعة والتوكل ، والجحيم الطمع والحرص ، وقال العارفون: النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بما سواه. وقوله (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) كقوله وما هم بخارجين منها أو أراد ما كانوا يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم فيكون قد بين حال البرزخ كما شرح حال المبدأ والمنتهى. ثم نبه بقوله (وَما أَدْراكَ) مرتين أن يوم الدين مما لا يكتنه كنه شدته ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يعرفه إلا بالوحي. وقيل: للكافر. ثم وصفه مجملا بقوله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) إلى آخره أي لا ملك ولا تصرف في ذلك بظاهر وحقيقة الإله تعالى.

٤٦٠