تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

المنادي هو الله لقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) والصيحة النفخة الثانية كما قال (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ) [يس: ٥٣] وقوله (بِالْحَقِ) متعلق بالصيحة والمراد به البعث للجزاء أي بسبب الحق الذي هو البعث. ويجوز أن يتعلق بالسماع أي أي يسمعونها باليقين. وقيل: الباء للقسم أي بالله الحق. قوله (سِراعاً) حال من المجرور أي ينكشف عنهم مسرعين (ذلِكَ) الشق أو الحشر (حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) لا على غيرنا وهو ردّ على قولهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي من المطاعن والإنكار وفيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط حتى تقسرهم على الإيمان وإنما أنت داع. ولعل في تقديم الظرف إشارة إلى أنه كالمسلط على المؤمنين ولهذا وقع إيمانهم وهذا مما يقوّي طرف المجبرة. وقيل: أراد إنك رؤوف رحيم بهم لست فظا غليظا. والأول أولى بدليل قوله (فَذَكِّرْ) إلى آخره أي اترك هؤلاء وأقبل على دعوة من ينتفع بتذكيرك والله أعلم.

تم الجزء السادس والعشرون ويليه الجزء السابع والعشرون أوله تفسير سورة

الذاريات

١٨١

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(سورة الذاريات وهي مكية وحروفها ألف ومائتان وستة وثمانون كلماتها ثلاثمائة وسبعون آياتها ستون)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً

١٨٢

آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

القراآت: (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) بإدغام التاء في الذال: حمزة وأبو عمرو ومثل ما بالضم: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. الباقون: (مِثْلَ) بالفتح على البناء لإضافته إلى غير متمكن ، أو على أنه لحق حقا مثل نطقكم سلم بكسر السين وسكون اللام: حمزة علي وخلف والمفضل والصعقة بسكون العين للمرة: علي وقوم نوح بالجر: أبو عمرو وعلي وخلف.

الوقوف: (ذَرْواً) ط (وِقْراً) ه لا (يُسْراً) ه لا (أَمْراً) ه ط (لَصادِقٌ) ه لا (لَواقِعٌ) ه (الْحُبُكِ) ه لا (مُخْتَلِفٍ) ه لا (أُفِكَ) ه ط (الْخَرَّاصُونَ) ه لا (ساهُونَ) ه لا لأن (يَسْئَلُونَ) صلة بعد صلة ، (الدِّينِ) ه ط بناء على أن عامل يوم منتظر أي يقال لهم ذوقوا (يُفْتَنُونَ) ه (فِتْنَتَكُمْ) ط (تَسْتَعْجِلُونَ) ه (وَعُيُونٍ) ه لا (رَبُّهُمْ) ط (مُحْسِنِينَ) ه ط (يَهْجَعُونَ) ه (يَسْتَغْفِرُونَ) ه (وَالْمَحْرُومِ) ه (لِلْمُوقِنِينَ) ه ط للعطف (أَنْفُسِكُمْ) ط (تُبْصِرُونَ) ه (تُوعَدُونَ) ه (تَنْطِقُونَ) ه (الْمُكْرَمِينَ) ه م لأن عامل «إذ» محذوف وهو «اذكر» ولو وصل لأوهم أنه ظرف للإتيان (سَلاماً) ط (سَلامٌ) ج لحق المحذوف مع اتحاد القائل أي أنتم قوم (مُنْكَرُونَ) ه (سَمِينٍ) ه لا للعطف (تَأْكُلُونَ) ه للآية مع العطف (خِيفَةً) ط (لا تَخَفْ) ه (عَلِيمٍ) ه (عَقِيمٌ) ه (كَذلِكَ) لا للتعلق بما بعده (رَبُّكِ) ط (الْعَلِيمُ) ه (الْمُرْسَلُونَ) ه (مُجْرِمِينَ) ه (طِينٍ) ه (لِلْمُسْرِفِينَ) ه (الْمُؤْمِنِينَ) ه ج للآية مع العطف بالفاء واتصال المعنى (الْمُسْلِمِينَ) ه ط كذلك (الْأَلِيمَ) ه لتناهي القصة وحكم العربية الوصل للعطف على قوله (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ مُبِينٍ) ه (مَجْنُونٌ) ه (مُلِيمٌ) ه كما مر (الْعَقِيمَ) ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي غير تاركته (كَالرَّمِيمِ) ه (حِينٍ) ه (يَنْظُرُونَ) ه (مُنْتَصِرِينَ) ه لا على القراءتين فيما بعده للعطف أي وفي قوم نوح أو وأخذنا قوم نوح ولو قدر واذكر قوم نوح فالوقف (قَبْلُ) ج (فاسِقِينَ) ه (لَمُوسِعُونَ) ه (الْماهِدُونَ) ه (تَذَكَّرُونَ) ه (إِلَى اللهِ) ط (مُبِينٌ) ه للآية مع العطف (آخَرَ) ط (مُبِينٌ) ه (أَوْ

١٨٣

مَجْنُونٌ) ه (أَتَواصَوْا بِهِ) ج لأن «بل» للإضراب معنى مع العطف لفظا (طاغُونَ) ه (بِمَلُومٍ) ه لا للآية مع اتفاق الجملتين (الْمُؤْمِنِينَ) ه (لِيَعْبُدُونِ) ه (يُطْعِمُونِ) ه (الْمَتِينُ) ه (يَسْتَعْجِلُونِ) ه (يُوعَدُونَ) ه

التفسير: لما بين في آخر السورة أنهم بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم مصرون على إنكار الحشر ، ولهذا سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق: ٤٥] لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان فلذلك افتتح بذلك. عن علي كرم الله وجهه أنه قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني وإن لا تسألوني لا تسألوا بعدي مثلي. فقال ابن الكواء فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح. وقد مر في الكهف في قوله (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الآية: ٤٥] قال: (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال رضي‌الله‌عنه: السحاب لأنها تحمل المطر. وإنما لم يقل أوقارا باعتبار جنس المطر وهو واحد. قال: (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال رضي‌الله‌عنه: الفلك والمراد جريان اليسر. قال: (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال رضي‌الله‌عنه: الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك فيكون مصدرا في موضع الحال. ومعنى الفاء فيها ظاهر لأنه تعالى أقسم بالرياح فبالسحاب الذي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوباتها كأن ماء البحر أو مدده من السحاب فلذلك أخر. ثم أقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر. وقيل: إن الأوصاف الأربعة كلها للرياح لأنها تذرو التراب وغيره أولا ، ثم تنشئ السحاب وتحمله. ولا ريب أن السحاب حمل ثقيل ولا سيما إذا كان فيه مطر ثم تجري ـ أعني الرياح ـ في الجو جريا سهلا في نفسها أي لا يصعب عليها الجري أو بالنسبة إلينا بخلاف الصرصر والعاصف ونحوها فتبسط السحاب في السماء ثم تقسم الأمطار في الأقطار بتصريف السحاب ، وقد روعي في ذكر هذه الأوصاف لطيفة فإن الحشر يتم إمكانه بها لأن أجزاء بدن المكلف إن كانت في الأرض فتميز الريح بينها بالذرو ، وإن كانت في الهواء فتحملها بالنقل ، وإن كانت في البحر فتخرجها بإنشاء السحاب منها إذ الذي قدر على إجراء السفن في البحار يقدر على إخراج تلك الأجزاء منها إلى البر. وبعد ذلك تقسم الملائكة أرواح الخلائق على أجسادها بإذن الله تعالى. وقيل: المقسمات الكواكب السبعة. وجواب القسم (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) و «ما» مصدرية أو موصولة (لَصادِقٌ) في نفسه كما يقال «خبر صادق» أو «ذو صدق» كعيشة راضية. ثم صرح بالموعود قائلا (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الجزاء (لَواقِعٌ) أي حاصل. وحين أقسم على صدق موعوده أقسم على جهلهم وعنادهم ، والحبك الطرائق كطرائق الرمل ، والماء إذا ضربته الريح ويقال: إن

١٨٤

خلقة السماء كذلك واحدها حباك ، وقال الحسن: حبكها نجومها لأنها تزينها كما تزين الموشىّ يكون بطرائق الوشي. وقيل: حبكها صفاقتها وإحكامها يقال للثوب الصفيق «ما أحسن حبكه». وعلى القول الأول يكون بين القسم والمقسم عليه مناسبة لأن القول المختلف له أيضا طرائق ، قال الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا وإنما هو متناقض مختلف ولهذا قالوا للرسول شاعر مجنون ، وللقرآن مثل ذلك ، وعن قتادة: أراد منكم مصدّق ومكذب ومقر ومنكر. والضمير في (يُؤْفَكُ عَنْهُ) للقرآن أو النبي أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف بعده لأنه غاية ونهاية. ويمكن أن يقال: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله ، ويجوز أن يكون الضمير للموعود أقسم بالذاريات وغيرها أن وقوعه حق ، ثم أقسم بالسماء أنهم مختلفون في وقوعه يؤفك عن الإقرار به من هو عديم الاستعداد ، مغمور في الجهل والعناد. وجوّز جار الله أن يرجع الضمير إلى (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ويكون «عن» كما في قوله

ينهون عن أكل وعن شرب

أي يتناهون في السمن من كثرة الأكل والشرب وحقيقته يصدر تناهيهم في السمن من الأكل والشرب وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. ثم دعا عليهم بقوله (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم المعهودون وأعم فيشملهم شمولا أوليا. ولا يراد بهذا الدعاء وقوع القتل بعينه بل اللعن وما يوجب الهلاك بأي وجه كان. وقد لا يراد إلا تقبيح حال المدعو كقوله (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) والغمرة كل ما يغمر الإنسان أي إنهم في جهل يغمرهم غافلون عما أمروا به (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي متى وقوعه؟ ثم أجاب بقوله (يَوْمَ هُمْ) أي يقع في ذلك اليوم. ومعنى (يُفْتَنُونَ) يحرقون ويعذبون. ثم وبخهم وتهكم بهم قائلا (ذُوقُوا) إلى آخره. وحين حكى حال الفاجر الشقي أراد أن يبين حال المؤمن التقي فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي في جنات فيها عيون حال كونهم (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال جار الله: قابلين لكل ما أعطاهم راضين به لا كمن يأخذ شيئا على سخط وكراهية. وقال غيره: أراد أنهم يأخذونه شيئا فشيئا ولا يستوفون ذلك بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل: الأخذ بمعنى التملك يقال: بكم أخذت هذا كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. قال: إن فيض الله تعالى لا ينقطع أصلا وإنما يصل إلى كل مكلف بقدر ما استعد له ، فكلما ازداد قبولا ازداد تأثرا من الفيض والأخذ في هذا المقام لعله إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية ، وذلك لما أسلفوا من حسن العبادة ووفور الطاعة ولهذا علله بقوله (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي في الدنيا وظهر عليهم

١٨٥

بعد قطع التعلق آثار الإحسان ونتيجته. وقوله (ما آتاهُمْ) على المضي لتحقق الإيتاء مثل (وَنادى) [الأعراف: ٣٨] (وَسِيقَ) [الزمر: ٧٢] وقال أهل العرفان: ما آتاهم في الأزل يأخذون نتائجه في الأبد. ثم فسر إحسانهم بقوله (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) «ما» صلة أي كانوا ينامون في طائفة قليلة من الليل أو يهجعون هجوعا قليلا. وجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة. وارتفع «ما» مع الفعل على أنه فاعل قليلا من الليل هجوعهم أو الذي يهجعون فيه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة لفظ الهجوع وهو النوم اليسير ، ومن جهة لفظ القلة ، ومن جهة التقييد بالليل لأنه وقت الاستراحة فقلة النوم فيه أغرب منها في النهار ، ومن جهة ما المزيدة على قول. ولا يجوز أن تكون «ما» نافية لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار. وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم. ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر. ومثله المطيع يأتي بغاية مجهوده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر. ويمكن أن يقال: إنهم يستغفرون من الهجوع كأنهم أرادوا أن يقوموا على إحياء الليل كله. ويجوز أن يكون الاستغفار بمعنى الصلاة لقوله بعده (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) فيكون كقوله (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [البقرة: ٣] ووجه أغرب وهو أن يكون السين في استغفر مثله في استحصد الزرع أي حان أن يحصد فكأن وقت السحر وهو الأولى بحصول المغفرة. قال جار الله: في قوله (هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إشارة إلى أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين. وقيل: إبراز الضمير لدفع وهم من يظن أن التقدير وبالأسحار قليلا يستغفرون على قياس الفعل السابق.

وحيث ذكر جدهم في التعظيم لأمر الله أردفه بذكر شفقتهم على خلق الله. والمشهور في الحق أنه القدر الذي علم إخراجه من المال شرعا وهو الزكاة قيل: إنه على هذا لم يكن صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل كل كافر وذلك إذا قلنا إنه مخاطب بالفروع إلا أنه إذا سلم سقط عنه. وأجيب بأن السائل من له الطلب شرعا. والمحروم من الحرمة وهو الذي منع الطلب فكأنه قيل: في أموالهم حق للطالب ـ وهو الزكاة ـ ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها التي تتعلق بفرض صاحب المال وإقراره وليس عليه فيها مطالبة. ويمكن أن يقال: أراد في أموالهم حق في اعتقادهم وسيرتهم كأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يعطوا من المال حقا معلوما وإن لم يوجبه الشرع. وفي السائل والمحروم وجوه أحدها ما مر. الثاني السائل هو الناطق والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكل كبد حرى

١٨٦

أجر». (١) الثالث وهو الأظهر أن السائل هو الذي يستجدي والمحروم الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا: فما هو قال: الذي لا يجد ولا يتصدق عليه.» (٢) وتقديم السائل على ترتيب الواقع لأنه يعرف حاله بمقاله فيسد خلته ، وأما المحروم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاستكشاف والبحث. وقيل: المحروم الذي لا ينمى له مال. وقيل: هو المنقوص الحظ الذي لا يكاد يكسب. ثم أكد وقوع الحشر والدلالة على قدرته بقوله (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) كقوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) إلى قوله (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) [فصلت: ٣٩] ومن عجائب الأرض ما هي في جرمها من الاستدارة والألوان المختلفة وطبقاتها المتباينة ، ومنها ما عليها وفيها من الجبال والمواليد الثلاثة ، ومنها ما هي واردة عليها من فوقها كالمطر وغيره. وخص الآيات الأرضية بالذكر لقربها من الحواس ، وخص كونها آيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بذلك ، ومن لم يتأمل في المصنوعات لم يزد يقينه بالصانع. ثم استدل بالأنفس فقال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات. وذلك أن الإنسان عالم صغير فيه تشابه من العالم الكبير وقد مر تقرير ذلك مرارا. وقيل: هي الأرواح أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات. قال أهل النظم: هذه الآية مؤكدة لما قبلها فإن من وقف على هذه الآيات الباهرة تبين له جلال الله وعظمته فيتقيه ويعبده ويستغفره من تقصيره ولا يهجع إلا قليلا ، وهكذا من عرف أن رزقه في السماء لم يبخل بماله ويعطيه السائل والمحروم. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه رزقكم يعني المطر ولكنكم تحرمونه. (وَما تُوعَدُونَ) هي الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش. وقيل: إن أرزاقكم في الدنيا وما توعدون في العقبى كلها مقدرة مكتوبة في السماء. ثم أنتج من الأخبار السالفة من أول السورة إلى هاهنا حقيقة القرآن أو النبي أو الموعود ، وأقسم عليه برب السماء الأرض ترقيا من الأدنى وهي المربوبات كالذاريات وغيرها إلى الرب تعالى. و «ما» مزيدة بنص الخليل حكاه جار الله يقال في الأمر الظاهر غاية الظهور أن هذا الحق أنك ترى

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المساقاة باب ٩ مسلم في كتاب السلام حديث ١٠٣ أبو داود في كتاب الجهاد باب ٤٤ ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٨ الموطأ في كتاب صفة النبي حديث ٣٣ أحمد في مسنده (٢ / ٢٢٢ ، ٣٧٥)

(٢) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٢ باب ٤٨ أبو داود في كتاب الزكاة باب ٢٤ النسائي في كتاب الزكاة باب ٧٦ الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢ الموطأ في كتاب صفة النبي حديث ٧ أحمد في مسنده (١ / ٣٨٤ ، ٤٤٦) (٢ / ٢٦٠ ، ٣١٦)

١٨٧

وتسمع مثل ما أنك هاهنا. قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل علي فتلوت (وَالذَّارِياتِ) فلما بلغت قوله (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) فقال: حسبك. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على الناس وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى. فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) فصاح فقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة إبراهيم وغيرها قد مرت في «هود» و «الحجر» وفي قوله (هَلْ أَتاكَ) تفخيم لشأن الحديث. والضيف واحد. وجمع والمكرمون إما باعتبار إكرامه إياهم حتى خدمهم بنفسه وبامرأته ، أو لأنهم أهل الإكرام عند الله كقوله (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء: ٢٦] وجوز أن يكون نصب (إِذْ دَخَلُوا) بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم أو بما في ضيف من معنى الفعل. قال المفسرون: أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام أو أراد تعرف حالهم لأنهم لم يكونوا من معارفه (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) فذهب إليهم في خفية من ضيوفه وهو نوع أدب للمضيف كيلا يستحيوا منه ولا يبادروا بالاعتذار والمنع من الضيافة. وفي قوله (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) دلالة على أن نقل الطعام إلى الضيف أولى من العكس لئلا يتشوش المكان عليهم. (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) سلوك لطريقة الاستئناف ولهذا حذف الفاء خلاف ما في «الصافات» وقد مر. والاستفهام لإنكار ترك الأكل أو للحث عليه (فَأَوْجَسَ) فأضمر وقد تقدم سائر الأبحاث في «هود» وفي «الصافات». واعلم أنه سبحانه ذكر في «هود» أنه لما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وقال هاهنا (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ولا تنافي بين الحديثين لأنه أنكرهم أولا بالسلام الذي لم يكن من عادة تلك الشريعة ، ثم زاد إنكاره حين رآهم لا يأكلون الطعام فذكر أحد الإنكارين في تلك السورة والآخر في هذه. قوله (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي في صيحة ومنه صرير القلم. قال الحسن: كانت في زاوية تنظر إليهم فوجدت حرارة الدم فأقبلت إلى بيتها صارة فلطمت وجهها من الحياء والتعجب كعادة النسوان (وَقالَتْ) أنا (عَجُوزٌ) فأجابت الملائكة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به (قالَ رَبُّكِ) فلا تستبعدي. وروي أن جبرائيل قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فحينئذ أحس إبراهيم صلوات الرحمن عليه بأنهم ملائكة. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ)

١٨٨

شأنكم وطلبكم؟ فأجابوا بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط ليرسلوا عليهم السجيل كما قصصنا في «هود». والضمير في قوله (فِيها) للقرية وإن لم يجر لها ذكر لأنه معلوم ، قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد. وقال غيرهم: المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص مما لا منع فيه ولا يدل على اتحادهما وهذا كقوله القائل من في البيت من الناس؟ فيقول له: ما في البيت من الحيوان أحد غير زيد. فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد. وقوله (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) كقوله في «العنكبوت» (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) [الآية: ٣٥] أي علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم وهي الحجارة المسومة أو ماء أسود. قوله (وَفِي مُوسى) قيل: الأقرب أن يكون معطوفا على قوله (وَتَرَكْنا فِيها) أي وجعلنا في موسى آية. قال جار الله: هو كقوله من قال:

علفتها تبنا وماء باردا

ويمكن أن يقال: إن قصة موسى أيضا آية متروكة باقية على وجه الدهر فلا حاجة إلى هذا التكلف. قوله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) كقوله (وَنَأى بِجانِبِهِ) [الإسراء: ٨٣] وقيل: الباء للمصاحبة. والركن القوم أي فازور وأعرض مع ما كان يتقوى به من جنوده وملكه. وقيل: ركنه هامان وزيره قال العلماء: وصفه فرعون بالمليم مع أنه وصف يونس النبي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما مر في «الصافات» لا يوجب اشتراكهما في استحقاق الملامة ، لأن موجبات اللوم تختلف. فراكب الكبيرة ملوم على قدرها ، ومقترف الصغيرة ملوم بحسبها ، وبينهما بون ، العقيم ريح لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر. والرميم ما رم وتفتت. قال في الكشاف: (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) تفسيره في قوله (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود: ٦٥] قلت: هذا سهو منه فإن قوله (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) لا يطابقه إذ العتو لم يترتب على هذا الأمر لحصوله قبله. وإنما الصواب أن يكون التمتع المأمور به في هذه الآية هو الذي في قصة قوم يونس (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [الصافات: ١٤٨] فكأن قوم ثمود أمروا أن يؤمنوا كي يمهلوا إلى انقضاء آجالهم الطبيعة والأمر أمر تكليف لا تكوين (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) بالإصرار على كفرهم. فقيل: على سبيل التكوين تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان ذلك علامة العذاب والصاعقة النازلة نفسها (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كانت نهارا يعاينونها أو كانوا منتظرين لها إذ قيل لهم تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) عبارة عن جثومهم كما مر مرارا (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) ممتنعين من العذاب وقصة نوح واضحة وقد مر إعرابه في الوقوف.

ثم عاد إلى دلائل القدرة فقال (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) وفي لفظ البناء إشارة إلى

١٨٩

كونها محكمة البنيان. وفي قوله (بِأَيْدٍ) أي بقوة تأكيد لذلك. وفي قوله (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) مزيد تأكيد والمعنى لقادرون من الوسع الطاقة والموسع القوي على الإنفاق ومنه قال الحسن: أراد إنا لموسعون الرزق بالمطر. وقيل: جعلنا بين السماء وبين الأرض سعة. وإنما أطلق الفرش على الأرض ولم يطلق البناء لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من الحيوان (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ذكرا وأنثى. وعدد الحسن أشياء كالسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة. قال: كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له. وقد يدور في الخلد أن الآية إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى فإنه مركب نوع تركيب لا أقل من الوجود والإمكان أو الجنس والفصل أو المادة والصورة ولذلك قال (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) له إرادة ترقيكم من المركب إلى البسيط ومن الممكن إلى الواجب ومن المصنوع. وإذا عرفتم الله (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي التجئوا إليه ولا تعبدوا غيره أمر بالإقبال عليه وبالإعراض عما سواه. وكرر قوله (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) للتأكيد. وبعد توضيح البيانات وذكر القصص وتقرير الدلائل سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (كَذلِكَ) أي الأمر مثل الذي تقرر من تكذيب الرسل وإصرار الكفرة على الإنكار والسب. ثم فسر ما أجمله بقوله (ما أَتَى) إلى آخره وقوله (أَتَواصَوْا بِهِ) استفهام على سبيل التعجب من تطابق آرائهم على تكذيب أنبيائهم. ثم أضرب عن ذلك لأن تطابق المتقدم والمتأخر على أمر واحد غير ممكن فنبه على جلية الحال قائلا (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) يعني أن اشتراك علة التكذيب وهو الطغيان أشركهم في المعلول (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فإن تكذيبهم لا يوجب ترك الدعوة العامة (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على إعراضك عنهم بعد التبليغ لأنك قد بذلت مجهودك واستفرغت وسعك (وَذَكِّرْ) مع ذلك (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم لا يوجب ترك البعض الآخر. ثم بين الغاية من خلق الثقلين وهي العبادة. وللمعتزلة فيه دليل ظاهر على أن أفعال الله معللة بغرض. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة ، وإنما الخلاص عن الإشكال بما سلف مرارا أن استتباع الغاية لا يوجب كون الفعل معللا بها ، وإذا لم يكن الفعل معللا بذلك فقد يكون الفعل ، وتتخلف الغاية لمانع كعدم قابلية ونحوه. ثم ذكر أنه خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم. والمتين الشديد القوة. ثم هدد مشركي مكة وأضرابهم بقوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) المهلكين ، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة قال أهل البيان: وهذا تمثيل وأصله من تقسيم الماء يكون لهذا دلو ولهذا دلو. واليوم الموعود القيامة أو يوم بدر.

١٩٠

(سورة الطور مكية حروفها ألف وخمسمائة كلمها ثلاثمائة واثنتا عشرة آياتها تسع وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ

١٩١

ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

القراآت: فكهين مقصورا: يزيد وأتبعناهم من باب الأفعال: أبو عمرو وذريتهم على التوحيد مرفوعا ذرياتهم على الجمع: أبو جعفر ونافع. وقرأ أبو عمرو على الجمع فيهما منصوبا. وقرأ (ذُرِّيَّتُهُمْ) ابن عامر وسهل ويعقوب على الجمع أيضا ولكن برفع الأول. الباقون: على التوحيد فيهما الأول مرفوعا والثاني منصوبا ألتناهم بكسر اللام ثلاثيا. ابن كثير (لُؤْلُؤٌ) بتليين الهمزة الأولى: شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد وحمزة في الوقف كما مر في الحج أنه هو البر بفتح الهمزة: أبو جعفر ونافع وعلي أنا كنا من قبل ندعوه (إِنَّهُ) المسيطرون بالسين: ابن كثير في رواية. وابن عامر والآخرون: بالصاد. وقرأ حمزة في رواية بإشمام الراء (يُصْعَقُونَ) مبنيا للمفعول: ابن عامر وعاصم وإدبار النجوم بالفتح: زيد عن يعقوب.

الوقوف: (وَالطُّورِ) ه لا (مَسْطُورٍ) ه لا (مَنْشُورٍ) ه لا (الْمَعْمُورِ) ه لا (الْمَرْفُوعِ) ه لا (الْمَسْجُورِ) ه لا (لَواقِعٌ) ه لا (مِنْ دافِعٍ) ه لا (مَوْراً) ه لا (سَيْراً) ط (لِلْمُكَذِّبِينَ) ه لا (يَلْعَبُونَ) ه م (دَعًّا) ط لأن التقدير يقال لهم هذه النار (تُكَذِّبُونَ) ه (لا تُبْصِرُونَ) ه (تَصْبِرُوا) ه لاختلاف الجملتين مع اتفاق المعنى (عَلَيْكُمْ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (وَنَعِيمٍ) ه لا (آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ج لاحتمال العطف واتضاح وجه الحال أي وقد وقاهم (الْجَحِيمِ) ه (تَعْمَلُونَ) ه لا (مَصْفُوفَةٍ) ج (عِينٍ) ه (شَيْءٍ) ه (رَهِينٌ) ه (يَشْتَهُونَ) ه (وَلا تَأْثِيمٌ) ه (مَكْنُونٌ) ه (يَتَساءَلُونَ) ه (مُشْفِقِينَ) ه (السَّمُومِ) ه ط لمن قرأ (إِنَّهُ) بالكسر (الرَّحِيمُ) ه (مَجْنُونٍ) ه لأن «أم» ابتداء استفهام وتوبيخ (الْمَنُونِ) ه (الْمُتَرَبِّصِينَ) ه ط لما قلنا (طاغُونَ) ه ج لاحتمال ابتداء الاستفهام والجواب بقوله بل (لا يُؤْمِنُونَ) ه ج للآية مع الفاء (صادِقِينَ) ه ط (الْخالِقُونَ) ه ط (وَالْأَرْضَ) ج لأن «بل» للإضراب مع العطف (لا يُوقِنُونَ) ه المسيطرون ه ط (فِيهِ) ج لتناهي الاستفهام مع فاء التعقيب (مُبِينٍ) ه ط (الْبَنُونَ) ه ط (مُثْقَلُونَ) ه (يَكْتُبُونَ) ط (كَيْداً) ط (الْمَكِيدُونَ) ه ط والضابط فيما تقدم أن كلما وصل «أم» فهو للجواب وما قطع فهو بمعنى ألف الاستفهام (غَيْرُ اللهِ) ط (يُشْرِكُونَ) ه (مَرْكُومٌ) ه (يُصْعَقُونَ) ه لا لأن (يَوْمَ) بدل ما تقدمه (يُنْصَرُونَ) ه ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (تَقُومُ) ه لا (النُّجُومِ) ه

١٩٢

التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود أقسم على ذلك بالطور وهو الجبل الذي مر ذكره مرارا في قصة موسى. والكتاب المسطور التوراة ظاهرا لأنه هو المناسب للطور. وقيل: اللوح المحفوظ. وقيل: صحيفة الأعمال. والرق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب عليه. والمنشور خلاف المطوي كقوله (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء: ١٣] وقيل: هو القرآن ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الكعبة أو الضراح في السماء السابعة سمي معمورا لكثرة زواره من الحجاج أو الملائكة (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السماء (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المملوء أو الموقد من قوله (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [الانفطار: ٣] وقد سبق في «المؤمن» في قوله (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [الآية: ٧٢] عن جبير بن مطعم أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة (وَالطُّورِ) فلما بلغ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب (يَوْمَ تَمُورُ) تضطرب وتجيء وتذهب وقد يقال: المور تحرك في تموج كحركة الزئبق ونحوه. قلت: لأهل التأويل أن يقولوا: الطور القوة العقلية ، وكتاب مسطور هي الجلايا القدسية والمعارف الإلهية الثابتة فيها كالحرف في الرق ، والبيت المعمور بيت القلب ، والسقف المرفوع الرأس ، والبحر المسجور الدماغ المملوء من الخيالات والأوهام. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ) بالحرمان عن الإكرام لازدحام ظلم الآثام لواقع يوم القيامة الصغرى إذ تمور سماء الأرواح حين قطع العلائق وحيلولة العوائق مورا ، وتسير جبال النفوس الحيوانية الأمارة التي أثقلت ظهر صاحبها لانتهاء سيرانها وانقضاء سلطانها سيرا. والدع الدفع العنيف. قال المفسرون: إن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم. والاستفهام في قوله (أَفَسِحْرٌ) للتقريع والتهكم ، والفاء مؤكد له أي كنتم تقولون للوحي إنه سحر فهذا أيضا سحر (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) هذا المخبر عنه في الآخرة كما كنتم لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا. وقوله (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) كقوله (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) [إبراهيم: ٢١] ثم علل الاستواء بقوله (إِنَّما تُجْزَوْنَ) يعني أن الجزاء لا بد من حصوله فلا مزية للصبر على عدمه. قوله (وَوَقاهُمْ) معطوف على متعلق قوله (فِي جَنَّاتٍ) أي استقروا في جنات ونعيم ووقاهم العذاب. وجوز أن يعطف على (آتاهُمْ) على أن «ما» مصدرية أي فاكهين بالإيتاء والوقاية (كُلُوا) على إرادة القول أي يقال لهم كلوا (وَاشْرَبُوا) أكلا وشربا (هَنِيئاً) أو طعاما وشرابا هنيئا لا تنغيص فيه. وقد مر في أول «النساء». وجوز جار الله أن يكون صفة في معنى المصدر القائم مقام الفعل أي هنأكم الأكل والشرب بسبب ما عملتم ، أو الباء مزيدة أي هنأكم جزاء ما عملتم. قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا)

١٩٣

ظاهره أنه مبتدأ خبره (أَلْحَقْنا) قال جار الله: هو معطوف على (بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم بحور عين والذين آمنوا من رفقائهم وجلسائهم وأتبعناهم ذرياتهم كي يجتمع لهم أنواع السرور بملاعبة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وقوله (بِإِيمانٍ) أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء. (أَلْحَقْنا) بدرجاتهم (ذُرِّيَّتُهُمْ) ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل كما جاء في الحديث «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية» (وَما أَلَتْناهُمْ) اي وما نقصنا من ثوابهم شيئا بعطية الأبناء ولا بسبب غيرها ولكن وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا تفضلا وإحسانا. ثم بين أن الجزاء بمقدار العمل فقال (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرهون. قال جار الله: كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه. فإن عمل صالحا فكها وخلصها وإلا أوبقها. وقيل: هذا يعود إلى الكفار. والرهين المرهون المأخوذ المحبس على أمر يؤدي عنه. وقيل: بمعنى راهن وهو المقيم أي كل إنسان مقيم في جزاء ما يقدم. (وَأَمْدَدْناهُمْ) وزدناهم وقتا بعد وقت (يَتَنازَعُونَ) يتعاطون هم وقرناؤهم (لا لَغْوٌ فِيها) أي لا حديث باطل في أثناء شربها. ونفى اللغو لانتفاء الغول الذي هو من تعاكسيه (وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يفعلون ما ينسب صاحبه إلى الإثم لو فعله في دار التكليف ، وإنما يتكلمون بالكلام الحسن المفيد وذلك أنهم حكماء علماء. والغلمان الخدام المختصون بهم ، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف أو في الدرج وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن. وقيل لقتادة: هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك» (يَتَساءَلُونَ) يتحادثون (مُشْفِقِينَ) أرقاء القلوب من خشية الله وعذاب السموم عذاب النار لأنها تدخل المسام ومنه الريح السموم (مِنْ قَبْلُ) أي في الدنيا (فَذَكِّرْ) فاثبت على ما أنت عليه من التذكير والدعوة العامة (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي بسبب حمد الله وإنعامه عليك (بِكاهِنٍ) كما يزعمون (وَلا مَجْنُونٍ) فلعله كان لهم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوال ، فبعضهم ينسبونه إلى الكهانة نظرا إلى إخباره عن المغيبات ، وبعضهم يرمونه بالجنون حيث لا يسمعون منه ما يوافق هواهم ويطابق مغزاهم ، وبعضهم يرون أن تأثير كلامه فيهم من باب التخييل لا الإعجاز كما قال (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) وهو ما يقلق النفوس ويزعجها من حوادث الدهر ، وقيل: المنون الموت «فعول» من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ولذلك سمي شعوب. وقد قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك الشعراء قبله. والأحلام العقول وكانت قريش يدعون

١٩٤

أنهم أهل النهي والأحلام. وكون الأحلام أمرتهم مجاز لأدائها إلى تلك الأقوال الفاسدة ، وفيه تقريع وتوبيخ إذ لو كان لهم عقل لميزوا بين الحق والباطل والمعجز وغيره (تَقَوَّلَهُ) اختلقه من تلقاء نفسه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) جحودا وعنادا وقد صح عندهم إعجاز القرآن وإلا (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ).

ثم وبخهم على إنكار الصانع بقوله (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) من غير خالق (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أنفسهم. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء وحساب. والأول أقوى لقوله (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ثم احتج عليهم بالأنفس ثم بالآفاق ثم قال (بَلْ لا يُوقِنُونَ) وذلك أنه حكى عنهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان: ٢٥] فتبين أنهم في هذا الاعتراف شاكون إذ لو عرفوه حق معرفته لم يثبتوا له ندا ولم يحسدوا من اختاره للرسالة كما وبخهم عليه بقوله (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) حتى يختاروا للنبوة من أرادوه أم هم المسيطرون المسلطون الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ) الوحي صاعدين (فِيهِ) إلى السماء عالمين بالمحق والمبطل ومن له العاقبة. والمغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) المحفوظ في اللوح (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه من أحوال المبدأ والنبوة والمعاد فيحكمون بحسبها (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وهو كيدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة وفي غيرها (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) اللام لهؤلاء أو للجنس فيشملهم (هُمُ الْمَكِيدُونَ) المغلوبون الذين يعود وبال الكيد عليهم فقتلوا ببدر وأظهر الله دين الإسلام. ثم صرح بالمقصود الكلي فوبخهم على إشراكهم ونزه نفسه عن ذلك بقوله (سُبْحانَ اللهِ) ثم أجاب عن بعض مقترحهم وهو قولهم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) والمراد أنهم لفرط عنادهم لا يفيد معهم شيء من الدلائل فلو أسقطنا عليهم قطعة من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض. ومعنى يصعقون يموتون وذلك عند النفخة الأولى. قوله (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي قبل يوم القيامة وهو القتل ببدر القحط سبع سنين وعذاب القبر (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وتبليغ الرسالة (فَإِنَّكَ) محفوظ (بِأَعْيُنِنا) وهو مجاز عن الكلاءة التامة والجمع للتعظيم والمبالغة و (حِينَ تَقُومُ) أي من أي مكان قمت أو من منامك. وإدبار النجوم بالكسر غروبها آخر الليل وهو بالحقيقة تلاشي نورها في ضوء الصبح ، وبالفتح أعقابها. والمعنى مثل ما قلنا. وقيل: التسبيح التهجد. ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر. أمره بالإقبال على طاعته بعد الفراغ عن دعوة الأمة فليس له شأن إلا هذين.

١٩٥

(سورة النجم مكية حروفها ألف وأربعمائة وخمسة كلماتها ثلاثمائة وستون آياتها

اثنتان وستون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)

١٩٦

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

القراآت: (هَوى) وسائر آياته بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في «طه» ما كذب بالتشديد: يزيد وهشام (ما زاغَ الْبَصَرُ) بالإمالة: حمزة ونصير (وَمَناةَ) بالمد: ابن كثير والشموني أفتمرونه ثلاثيا: يعقوب وحمزة وعلي وخلف (ضِيزى) بالهمزة: ابن كثير في رواية كبير الإثم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف والمفضل إبراهام هشام عادا لولي مدغما غير مهموز: أبو عمرو ويزيد ويعقوب والنجاري عن ورش. وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالون بإظهار الغنة غير مهموز. وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارئ على عاد ابتدأ بـ لولي ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأولى أحسن. وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة ، وإذا وقف على عاد ابتدأ لولي ولو شاء الولي والباقون عاد الأولى بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين وثمود في الحالين بغير تنوين: حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب ربك تمارى بتشديد التاء: رويس عن يعقوب.

الوقوف ؛ (هَوى) ه لا (غَوى) ه ج للآية مع العطف على جواب القسم (الْهَوى) ه ط (يُوحى) ه لا (الْقُوى) ه لا لذلك (ذُو مِرَّةٍ) ط لتمام الصفة (فَاسْتَوى) ه لا لأن الواو للحال (الْأَعْلى) ه ط (فَتَدَلَّى) ه لا لأن ما بعده من تمام المقصود (أَوْ أَدْنى) ه ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير (فَأَوْحى) لله لا للنبي (ما أَوْحى) ه ج (ما رَأى) ه (أُخْرى) ه لا (الْمُنْتَهى) ه (الْمَأْوى) ه لأن عامل إذ زاغ البصر فلا وقف على (ما يَغْشى طَغى) ه (الْكُبْرى) ه (وَالْعُزَّى) ه لا (الْأُخْرى) ه (الْأُنْثى) ه (ضِيزى) ه (سُلْطانٍ) ط (الْأَنْفُسُ) ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف (الْهُدى) ه ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار (ما تَمَنَّى) ه ز لتناهى الاستفهام والوصل أولى للفاء واتصال المعنى (وَالْأُولى) ه (وَيَرْضى) ه (الْأُنْثى) ه (عِلْمٍ) ط (إِلَّا الظَّنَ) ه ج لاختلاف الجملتين (شَيْئاً) ط لذلك (الدُّنْيا) ه ط (مِنَ الْعِلْمِ) ط (اهْتَدى)

١٩٧

ه (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (بِالْحُسْنَى) ه ج لأن (الَّذِينَ) يصلح خبر مبتدأ محذوف وبدلا من (الَّذِينَ أَحْسَنُوا اللَّمَمَ) ط (الْمَغْفِرَةِ) ط (أُمَّهاتِكُمْ) ج (أَنْفُسَكُمْ) ه ط (اتَّقى) ه (تَوَلَّى) ج (وَأَكْدى) ه (يَرى) ه (مُوسى) ه (وَفَّى) ه لا (أُخْرى) ه لا (سَعى) ه لا (يُرى) ه ص لوقوع العارض بين المعطوف على أن (الْأَوْفى) ه لا (الْمُنْتَهى) ه لا (وَأَبْكى) ه لا (وَأَحْيا) ه لا (وَالْأُنْثى) ه (تُمْنى) ه ص لما مر (الْأُخْرى) ه لا (وَأَقْنى) ه لا (الشِّعْرى) ه ط (الْأُولى) ه لا (أَبْقى) ه لا (وَأَطْغى) ه ط لأن (الْمُؤْتَفِكَةَ) منصوب بما بعده (أَهْوى) ه لا (ما غَشَّى) ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء (تَتَمارى) ه (الْأُولى) ه لا (الْآزِفَةُ) ه للاستئناف والحال (كاشِفَةٌ) ه (تَعْجَبُونَ) ه لا (وَلا تَبْكُونَ) ه لا (سامِدُونَ) ه لا (وَاعْبُدُوا) ه سجدة.

التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم. واللام فيه للعهد أو للجنس. والأول قول من قال: إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب. وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر. قال: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء. وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها. وعلى الثاني فيه وجوه أحدها. نجوم السماء وهويها غروبها. وفائدة هذا القيد أن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا. وقيل: هويها انتثارها يوم القيامة. وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها انقضاضها. وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوه. ورابعها النجم أحد نجوم القرآن وقد نزل منجما في عشرين سنة فيكون كقوله (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يس: ٢ ، ٣] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثمار. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الشكوك وحرارة الحمية الجاهلية وأدرك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه ، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة. قال جار الله: الضلال نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، والخطاب لقريش. قلت: هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ

١٩٨

مِنَ الْغَيِ) [البقرة: ٢٥٦] (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف: ١٨٦] إلا أنه ينبغي أن يتبين الفرق بين الضلال والغواية. والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا ، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد. قال عز من قائل (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: ٦] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولا ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلا. ويحتمل أن يكون قوله (ما ضَلَ) نفيا لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضا من مسيس الجن. وقوله (وَما غَوى) نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون. ويحتمل أن يكون الأول عبارة عن صلاحه في أمور المعاد ، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة ، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله ، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم‌السلام ، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضا. وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه. قال أهل اللغة: الهوى المحبة النفسانية ، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية. ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة ، وقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ) أبلغ مما لو قيل هو «وحي» وهو ظاهر. وقوله (يُوحى) لتحقيق الحقيقة كقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام: ٣٨] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر ، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك هاهنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال. فلما قيل (يُوحى) اندفع التجوز. ثم بين طريق الوحي بقوله (عَلَّمَهُ) أي الموحي أو محمدا (شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبرائيل عليه‌السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم. ولو قال «علمه جبرائيل عليه‌السلام» لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهرا. وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلا. وفيه أن جبرائيل عليه‌السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته ، وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له: ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء: ١١٣] وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حاله فقال «أدبني ربي فأحسن تأديبي»

١٩٩

والمرة القوة. والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة: ٢٤٧] فمن قوته أنه قلع قريات قوم لوط وقلبها بجناحه ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان ينزل إلى الأنبياء ويصعد في لمحة. ويجوز أن يراد بقوله (شَدِيدُ الْقُوى) قواه الجسمانية وبقوله (ذُو مِرَّةٍ) القوى العقلية. والتنكير للتعظيم. قوله (فَاسْتَوى) المشهور أن فاعله جبرائيل عليه‌السلام أي فاستقام على صورته الحقيقية دون صورة دحية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى أي الأشرف وهو الشرقي (ثُمَّ دَنا) جبرائيل من الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصورة المعتادة (فَتَدَلَّى) قيل: فيه تقديم وتأخير أي فتعلق عليه في الهواء ثم دنا منه. وقيل: دنا أي قصد القرب من محمد أو تحرك من المكان الذي كان فيه ، فنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. يقال: تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال: الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد. ثم زاد تأكيدا بقوله (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قال أهل العربية. هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه‌السلام مثل «قاب قوسين». والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار. والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها. وفي الحديث «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» (٢) والقد السوط. وقوله (أَوْ أَدْنى) أي في تقديركم كقوله (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات ؛ ١٤٧] وقال بعضهم: الضمير في (فَاسْتَوى) لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه ، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف: ١١٠] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلا جدا. وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يقول أكثر أهل السنة ، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم ، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في (دَنا) لجبريل والمراد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني ، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب التطوع باب ١٠

(٢) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٥ كتاب بدء الخلق باب ٨ الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ١٧ أحمد في مسنده (٢ / ٤٨٢ ، ٤٨٣) (٣ / ١٤١ ، ١٥٣)

٢٠٠