تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

(سورة الهمزة مكية

حروفها مائة وثلاثة وثلاثون

كلمها تسع وأربعون

آياتها تسع)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

القراآت جمع بالتشديد: ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف عمد بضمتين جمع عماد: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: بفتحتين جمعا أو واحدا في معناه.

الوقوف: (لُمَزَةٍ) ه لا بناء على أن (الَّذِي) وصف ولو كان منصوبا على الذم أو مرفوعا على الذم فالوقف (وَعَدَّدَهُ) ه لا (أَخْلَدَهُ) ج ه إن وصل وقف على «كلا» (الْحُطَمَةِ) ه ز (الْحُطَمَةُ) ه ط (الْمُوقَدَةُ) ه لا (الْأَفْئِدَةِ) ه ج (مُؤْصَدَةٌ) ه لا (مُمَدَّدَةٍ) ه

التفسير: لما ذكر حكم جنس الإنسان في خسرهم عقبه بمثال واحد. قال عطاء والكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق كان يكسر من أعراض الناس ويكثر الطعن فيهم. والتركيب يدل على الكسر ومنه الهمز ومثله اللمز وهو العيب قال تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات: ١١] وقال ابن زيد: الهمز باليد واللمز باللسان. وقال أبو العالية: الهمز بالمواجهة واللمز بظهر الغيب وقد يكون كل ذلك سرا بالحاجب أو العين. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة كانت عادته الغيبة والوقيعة. وبناء «فعلة» يدل على أن ذلك كان من عادته ، وأما «فعلة» بسكون العين فهي للمفعول. وقال محمد بن إسحق: مازلنا نسمع أن السورة نزلت في أمية بن خلف. والمحققون على أن خصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ ، ويحتمل أن يكون اللفظ عاما ويدخل فيه شخص معين دخولا أوليا كما لو قال لك

٥٦١

إنسان: لا أزورك أبدا فتقول: كل من لا يزورني لا أزوره تعريضا به ، ومثله يسمى في أصول الفقه تخصيص العام بقرينة العرف. ولا يخفى أن الهمز واللمز من أقبح السير خاصة في حق من هو أجل منصبا وأعلى قدرا من كل المخلوقات وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا جرم أوعده بالويل وهو كلمة جامعة لكل شر ومكروه أو هو واد في جهنم وقد تقدم مرارا. ثم وصفه بقوله (الَّذِي) وكأنه سبب الهمز واللمز لأن الغنى يورث الإعجاب والكبر والتشديد في جمع للتكثير في المفعول ويؤيده تنكير (مالاً) وكذا التشديد في (عَدَّدَهُ) ولا يبعد أن يكون للتكثير في الفعل ، ولا ريب أن عد المال من غير ضرورة وضبطه أزيد من المعتاد يوجب للنفس شغلا عن السعادات الباقية وحرصا على الزخارف الدنية وعلى التمتيع بتلك الأسباب ولهذا قال (يَحْسَبُ) أي طول المال أمله ومناه الأماني البعيدة حتى أصبح لفرط غفلته يحسب أن ماله يتركه خالدا في الدنيا. وقيل: عدده أي أمسكه وجعله عدة وذخيرة لحوادث الدهر. وقيل: أراد بقوله (يَحْسَبُ) تشييد البنيان وإحكامه بالجص والآجر غرس الأشجار وعمارة الأراضي عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا ، أو هو تعريض بالعمل الصالح المخلد لصاحبه الأجر الجزيل والثناء الجميل ، وأما المال فبمعزل عن ذلك لأنه للحادث أو للوارث. وقيل: أحب المال حبا شديدا حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت فلذلك يحفظه عن النقصان ليبقى حيا وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل (كَلَّا) ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن هو أن المال مخلد بل المخلد هو العلم والعمل كما قال علي رضي‌الله‌عنه: مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. عن الحسن أنه عاد موسرا فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: ولكن لما ذا قال لنبوة الزمان وجفوة السلطان ونوائب الدهر ومخافة الفقر؟ قال: إذا تدعه لمن لا يحمدك وترد على من لا يعذرك. قوله (لَيُنْبَذَنَ) جواب قسم محذوف أو جواب حقا لأنه في معنى القسم. والنبذ الطرح وفيه إشعار بإهانته. وفي قوله (فِي الْحُطَمَةِ) وهي النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر كل ما يلقى فيها إشارة إلى غاية تعذيبه. ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة ووزنها «فعلة» كهمزة ولمزة فكأنه قيل له: كنت همزة لمزة فقابلناك بالحطمة. وأيضا في الحطم معنى الكسر والهماز اللماز يكسر الناس بالاغتياب والعيب أو يأكل لحمهم كما يأكل الرجل الأكول. ثم كأن قائلا سأل كيف قوبل الوصفان بوصف واحد؟ فقيل: إنك لا تعرف ذلك الواحد ما أدراك ما هذه الحطمة (نارُ اللهِ) هي إضافة تعظيم كبيت الله (الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على جنانها وخباياها. ولا شيء في الإنسان ألطف منه ولا أشد تألما. ويجوز أن يكون في تخصيص

٥٦٢

الأفئدة إشارة إلى زيادة تعذيب للقلب لأنه محل الكفر والعقائد الفاسدة. وعند أهل التأويل: إذا كانت النار أمرا معنويا فلا ريب أنه لا يتألم بها إلا الفؤاد الذي هو محل الإدراكات والعقائد. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن النار تأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم ـ أي تعلوها وتغلبها ـ انتهت ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى» والمؤصدة المطبقة الأبواب اصدت الباب وأوصدته لغتان. يوصد عليهم الأبواب ويمدد على الأبواب العمد استيثاقا في استيثاق. وجوز أن يراد أن أبواب النار عليهم مؤصدة حال كونهم موثقين في عمد مقطرة ، والمقطرة خشبة فيها خروق يدخل فيها أرجل المحبوسين اللهم أجرنا منها. قال المبرد: والعمد بفتحتين جمع عمود على غير واحده وأما الجمع على واحده فالعمد بضمتين مثل زبور وزبر ورسول ورسل. قال الفراء: العماد والعمد كالإهاب والأهب فالتأنيث لأنه اسم جمع أو بتأويل الأسطوانة.

٥٦٣

(سورة الفيل مكية

حروفها ستة وتسعون

كلمها ثلاث وعشرون

آيها خمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

الوقوف (الْفِيلِ) ه ط (تَضْلِيلٍ) ه لا (أَبابِيلَ) ه لا (سِجِّيلٍ) ه لا (مَأْكُولٍ) ه

التفسير: روي أن أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بني كنيسة بصنعاء وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج من كنانة فتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك. وقيل: أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل له اسمه محمود وكان قويا عظيما. وقيل: كان معه اثنا عشر فيلا غيره. وقيل: ألف فيل ، فلما بلغ قريبا من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبى جيشه وقدم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول ، فأرسل الله تعالى عليهم طيرا سودا أو خضرا أو بيضا أو بلقا كالخطاطيف على اختلاف الأقاويل مع كل طير حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. قال ابن عباس: إني رأيت منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة محمرة كالجزع الظفاري ، وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ومرض أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه. وعن عائشة رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان. قال أهل التاريخ: كان أبرهة جد النجاشي الذي عاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيف وأربعون سنة ، وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة وقد بلغت حد التواتر حينئذ فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وزعمت المعتزلة أنها كانت معجزة لنبي قبله كخالد بن سنان أو قس

٥٦٤

ابن ساعدة. ويروى أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه يطلبها وقيل لأبرهة: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال. وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما فعظم في عين أبرهة ، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم من قديم الدهر فألهاك عنه ذود أخذ لك فقال: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول :

لا هم أن المرء يم

نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم عدوا ومحالك

الحلال جمع حل وهو الموضع الذي يحل فيه الناس والمحال المماكرة كقوله (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد: ١٣] ثم قال:

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمر ما بدا لك

وقال أيضا:

يا رب فامنع منهم حماكا

يا رب لا أرجو لهم سواكا

فالتفت فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية ، فأهلكتهم كما ذكرنا. ثم إن أهل مكة قد احتووا على أموالهم وجمع عبد المطلب منها ما صار سبب يساره. وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير فقال: حمام مكة منها. وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى. وعن عكرمة: من أصابته أصابه جدري وهو أول جدري ظهر في الأرض. ولنرجع إلى تفسير الألفاظ. وإنما لم يقل «ألم تعلم» إما لأن الخطاب لكل راء ، أو لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم علما كالمشاهد المرئي لتواتره ولقرب عهده به. قال النحويون: قوله (كَيْفَ) مفعول فعل لأن الاستفهام يقتضي صدر الكلام فيقدم على فعله بالضرورة. ثم إن قوله (أَلَمْ تَرَ) وقع على مجموع تلك الجملة. وقال في الكشاف (كَيْفَ) في موضع نصب بـ (فَعَلَ رَبُّكَ) لا بـ (أَلَمْ تَرَ) لما في (كَيْفَ) من معنى الاستفهام. قلت: أما قول صاحب الكشاف ففي غاية الإجمال لأن المنصوبات بالفعل أنواع شتى. وأما قول غيره فقريب من الإجمال لأن المفاعيل خمسة ، والقول المبين فيه أنه مفعول مطلق والمعنى فعل أي فعل يعني فعلا ذا عبرة لأولي الأبصار. وتقدير الكلام: ألم تر ربك أو إلى ربك كيف فعل بأصحاب الفيل فعلا كاملا في باب الاعتبار لأنه خلق الطيور وجعل طبع الفيل على

٥٦٥

خلاف ما كان عليه ، واستجاب دعاء أهل الشرك تعظيما لبيته ، وإن أريد بالفعل المفعول لم يبعد أن يكون مفعولا به كقولك «يفعل ما يشاء». وفي قوله (رَبُّكَ) إشارة إلى أني ربيتك وحفظت البيت لشرف قومك وهم كفرة فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك وإسلام أكثر قومك؟ وفي القصة إشارة إلى أني حفظت البيت وهو موضع العلم للعالم أفلا أحفظ العالم وهو من المسجد كالدر من الصدف؟ فمن أراد تخريب البيت وهدمه وكسره دمرته فالذي همزه ولمزه في العالم وهو المقصود من البيت أفلا أدمره؟ وهاهنا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة المتقدمة وهذه القصة تجري مجرى مثال آخر لخسران الإنسان. قال بعضهم: إنما قال (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) ولم يقل أرباب الفيل أو ملاك الفيل لأن الصاحب يكون من جنس القوم فكأنه أشار إلى أنهم من جنس البهائم بل هم أضل لأن الفيل كان لا يقصد البيت ويقول بلسان الحال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأنهم لم يفهموا رمزه سؤال ، أليس أن كفار مكة ملؤا البيت من الأوثان؟ ألم يكن أفحش من تخريب الجدران؟ ثم إنه تعالى لم يسلط عليهم الطير؟ الجواب قال بعضهم: وضع الأوثان في البيت إضاعة حق الله وتخريب الجدران تعد على الخلق وإنه تعالى يقدم حق العباد على حق نفسه ولهذا أمر بقتل قاطع الطريق والقاتل وإن كانا مسلمين ، ولا يأمر بقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفارا لأنهم لا يتعدى ضررهم إلى الخلق. وأقول: لا نسلم أنه تعالى لم يسلط على كفار مكة عذابه لأنه أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، ثم فصل الفعل المذكور المتعجب منه بقوله (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) أي في تضييع وإبطال يقال: ضلل كيده إذا جعله ضالا ضائعا ومنه قولهم لامرئ القيس «الملك الضليل» لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه. كادوا البيت أولا ببناء الكنيسة وصرف وجوه الحاج إليها فضلل الله كيدهم بأن أوقع الحريق فيه. وكادوه ثانيا بإرادة هدمه فضلل كيدهم بإرسال الطير عليهم. ومعنى أبابيل طرائق أي جماعات متفرقة الواحدة إبالة وفي أمثالهم «ضغت على إبالة» شبهت الطير في اجتماعها بالإبالة وهي الحزمة الكبيرة ، قال أبو عبيدة: وقيل أبابيل مثل عباديد لا واحد لها ، والعباديد الفرق الذاهبون في كل وجه قاله الأخفش والفراء. وقال الكسائي: سمعت بعضهم يقولون: واحدها أبول كعجول وعجاجيل. والتنكير في (طَيْراً) إما للتفخيم لأنها كانت طيرا أعاجيب أو للتحقير لأنها كانت صغار الجثة وهذا أدل على كمال القدرة. وذكروا في وصفها عن ابن مسعود وعن ابن عباس أنها كانت لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكف كاكف الكلاب. وفي (سِجِّيلٍ) أقوال أحدها: أن اللام مبدلة من النون وأصله سجين وقد مر أنه علم لديوان الشر كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون. وجوز في

٥٦٦

الكشاف أن يكون اشتقاقه من الإسجال والإرسال لأن العذاب موصوف بذلك. وعن ابن عباس أنه معرب سنك كل وقيل: هو طين مطبوخ والعصف ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد تفتته الرياح وتأكله المواشي. وقال أبو مسلم: هو التبن كقوله (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) [الرحمن: ١٢] وقال الفراء: هو أطراف الزرع. وقيل: هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره ، والمأكول الذي وقع فيه الأكال أي الدود ونحوه أي الذي أكلته الدواب وراثته إلا أنه جاء على آداب القرآن كقوله (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة: ٧٥] قاله مقاتل وقتادة وعطاء عن ابن عباس. وقيل: مأكول حبه كما مر. وتشبيههم بورق الزرع المذكور إشارة إلى تدميرهم وتصييرهم أيادي سبا. قالوا: إن الحجاج خرب البيت ولم يحدث شيء من ذلك. وأجيب بأن قصده لم يكن تخريب الكعبة وإنما كان شيئا آخر. وأيضا كان إرسال الطير عليهم ، إرهاصا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد تقرير نبوته لم يكن افتقار إلى الإرهاص والله تعالى عالم بحقائق أحكامه وبه التوفيق وعليه التكلان.

٥٦٧

(سورة الإيلاف مكية حروفها ثلاثة وسبعون

آياتها أربع) كلمها سبع عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

القراآت: (لِإِيلافِ) بتخفيف الهمزة: يزيد إلافهم بطرح الياء: يزيد لألاف بطرح الياء (إِيلافِهِمْ) بإثباتها: ابن عامر. الباقون: بإثبات الياء فيهما وحمزة يقف بتليين الهمزة وإلفهم بوزن العلم: ابن فليح (الشِّتاءِ) ممالة: قتيبة ونصير وهبيرة.

الوقف (قُرَيْشٍ) ه لا (وَالصَّيْفِ) ه لا لاحتمال تعلق اللام بما قبلها وبما بعدها كما يجيء (الْبَيْتِ) ه لا (مِنْ خَوْفٍ) ه

التفسير: في هذه اللام ثلاثة أقوال: الأول أنها لا تتعلق بظاهر وإنما هي لام العجب يقولون «لزيد وما صنعنا به» أي أعجبوا له عجب الله تعالى من عظيم حلمه وكرمه بهم فأنهم كل يوم يزدادون جهلا وانغماسا في عبادة الأوثان والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معاشهم ، وهذا القول اختيار الكسائي والأخفش والفراء. والثاني أنها متعلقة بما بعدها وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة واعترافا بها. وفي الكلام معنى الشرط وفائدة الفاء وتقديم الجار أن نعم الله تعالى لا تحصى فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش ، وهذا لا ينافي أن يكونوا قد أهلكوا لأجل كفرهم أيضا. ويجوز أن يكون الإهلاك لأجل الإيلاف فقط ويكون جزاء الكفر مؤخرا إلى يوم القيامة ، ويجوز أن تكون هذه اللام لام العاقبة ، ويحتمل أن تتعلق اللام بقوله (فَعَلَ رَبُّكَ) كأنّه قال: كل ما فعلنا بهم من تضليل كيدهم وإرسال الطير عليهم حتى تلاشوا إنما كان لأجل إيلاف

٥٦٨

قريش. ولا يبعد أن تكون اللام بمعنى «إلى» أي فعلنا كل ما فعلنا مضمومة إلى نعمة أخرى وهي إيلافهم الرحلتين تقول: نعمة إلى نعمة ونعمة لنعمة. قال الفراء: ومما يؤيد هذا القول الثالث ما روي أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب من غير فصل بينهما بالبسملة. والمشهور المستفيض هو الفصل بينهما بالبسملة فإن لم تكن اللام متعلقة بما قبلها فلا إشكال ، وإن تعلقت بما قبلها من السورة فالوجه فيه أن القرآن كله بمنزلة كلام واحد والفصل بين طائفة وطائفة منه لا يوجب انقطاع إحدى الطائفتين عن الأخرى بالكلية. ثم إن هؤلاء قالوا: لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع ، وكان أشراف مكّة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وأن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وقطان حرمه فلا يجترئ أحد عليهم ، فلو تم لأهل الحبشة ما عزموا عليهم من هدم الكعبة لزال منهم هذا العز فصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون ويغار عليهم ولا يتيسر لهم تجارة ولا ربح ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحورهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب واحترمهم الملوك فضل احترام وازدادت تلك المنافع والمتاجر. قال علماء اللغة: ألفت الشيء وآلفته إلفا وإيلافا بمعنى أي لزمته ، وعلى هذا يكون قوله (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) من إضافة المصدر إلى الفاعل وترك مفعوله الأول. ثم جعل مقيدا ثانيا في قوله (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ) إما لأن المقيد بدل من ذلك المطلق تفخيما لأمر الإيلاف وتذكيرا لعظيم المنة فيه ، وإما لأن الأول عام في كل مؤانسة وموافقة كانت بينهم فيدخل فيه مقامهم وسفرهم وسائر أحوالهم. ثم خص إيلافهم الرحلة بالذكر كما في قوله (جِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة: ٩٨] لأنه قوام معاشهم. وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة. والإلزام ضربان: إلزام بالتكليف والأمر ، وإلزام بالمودة والمؤانسة ، فإنه إذا أحب المرء شيئا لزمه لقوة الداعي إليه ومنه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح: ٢٦] كما أن الالتجاء قد يكون لدفع الضرر كالهرب من السبع ، وقد يكون لجلب النفع العظيم كمن وجد كنزا ، ولا مانع من أخذه لا عقلا ولا شرعا ولا حسا فإنه يأخذه البتة كاللجأ. وقال الفراء وابن الأعرابي: الإيلاف التجهيز والتهيئة والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا. وعلى هذا القول يكون المصدر مضافا إلى الفاعل أيضا. وقيل: ألف كذا فلان لزمه وآلفه غيره إياه فيكون الإيلاف متعديا إلى اثنين ، والإضافة في (إِيلافِهِمْ) إضافة المصدر إلى المفعول والمعنى إن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله ولطفه وذلك بانهزام أصحاب الفيل ، واتفقوا على أن قريشا ولد النضر بن كنانة.

٥٦٩

عن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش؟ قال: بدابة البحر تأكل ولا تؤكل تعلو ولا تعلى وهي التي تعبث بالسفن ولا تنطلق إلا بالنار وأنشد:

وقريش هي التي تسكن البح

ر بها سميت قريش قريشا

فالتصغير للتعظيم والدابة القرش. وقيل: القرش الكسب لأنهم كانوا أهل كسب وتجارة فسموا بذلك. وقال الليث: كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكنا فسموا قريشا لأن التقرش التجمع ، وتقرش القوم اجتمعوا ولذلك سمي قصي مجمعا ، قال بعضهم:

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

وقيل: القرش التفتيش. قال ابن حلزة:

أيها الشامت المقرش عنا

عند عمر ووهل لذاك بقاء.

وكانت قريش يتفحصون عن حال الفقراء ويسدّون خلة المحاويج. والرحلة اسم من الارتحال قال أكثر المفسرين: كانت لقريش رحلتان رحلة الشتاء إلى اليمن لأنه أدنى ، ورحلة الصيف إلى الشام وكانت معايشهم قد استقرت على ذلك كما قررنا. وقال آخرون: الرحلتان رحلة الناس إلى أهل مكة. أما في رجب فللعمرة ، وأما في ذي الحجة فللحج ، وكانت إحداهما في الشتاء ، والأخرى في الصيف وموسم منافع مكة يكون بهما. فلو كان تم لأصحاب الفيل ما أرادوه لتعطلت هذه المنفعة والتقدير: رحلتي الشتاء والصيف أو رحلة الشتاء ورحلة الصيف فاقتصر لعدم الإلباس. وفي قوله (فَلْيَعْبُدُوا) وجهان أحدهما: أن العبادة مأمور بها شكرا لما فعل بأعدائهم ولما حصل لهم من إيلافهم الذي صار سببا لطعامهم وأمنهم كما مر. وقوله (مِنْ جُوعٍ) كقولهم «سقاه من العيمة» وهي من التعليلية أي الجوع صار سببا للإطعام. وقوله (مِنْ خَوْفٍ) هي للتعدية يقال «آمنه الله الخوف ومن الخوف». الوجه الثاني: أن معناه فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. ولعل في تخصيص لفظ الرب إشارة إلى ما قالوه لأبرهة «إن للبيت ربا سيحفظه» ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه كأنه يقول: لما عولتم في الحفظ عليّ فاصرفوا العبادة إليّ. وفي الإطعام وجوه أحدها: ما مر. والثاني: قول مقاتل: شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن حملوا الطعام إلى مكة حتى

٥٧٠

خرجوا إليهم بالإبل والحمر واشتروا طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين ، وتتابع ذلك فكفاهم الله مؤنة الرحلتين. والثالث: قال الكلبي: معنى الآية أنهم لما كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا: يا محمد ادع الله فإنّا مؤمنون فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخصب أهل مكة فذلك قوله (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) ووجه المنة بالإطعام مع أنه ليس من أصول النعم في الظاهر أنه سبب الفراغ للعبادة ، وفيه أن البهيمة تطيع من يعلفها ولا يليق بالإنسان أن يكون دون الأنعام ، على أنه يندرج في الإطعام النعم السابقة التي لا يحصل الغذاء إلا بعد وجودها كالأفلاك والعناصر وغيرها ، والنعم اللاحقة التي لا يتم الانتفاع بالأكل إلا بها من القوى والآلات البدنية والخارجية. وفي قوله (مِنْ جُوعٍ) إشارة إلى أن فائدة الطعام والغاية منه سد الجوعة لا الإشباع التام. وأما الأمن فهو قصة أصحاب الفيل أو تعرض أهل النواحي لهم وكانوا بعد وقعة أصحاب الفيل يعظمونهم ولا يتعرّضون لهم. وقال الضحاك والربيع: آمنهم من خوف الجذام. وقيل: من أن تكون الخلافة في غيرهم وفيه تكلف. وقيل: أطعمهم من جوع الجهل بطعام الإسلام والوحي وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى. وقيل: إشارة إلى ما دعا به إبراهيم عليه‌السلام في قوله (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [البقرة: ١٢٦] فأجاب الله تعالى بقوله (وَمَنْ كَفَرَ) [البقرة: ١٢٦] والتنكير في (جُوعٍ) و (خَوْفٍ) للتعظيم. وقد روي أنه أصابهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وأما الخوف فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل. ويحتمل أن يكون المراد التقليل أي أطعمهم من جوع دون جوع ليكون الجوع الثاني والخوف الثاني مذكرا لما كانوا فيه أولا فيكونوا شاكرين تارة وصابرين أخرى فيستحقوا ثواب الخصلتين.

٥٧١

(سورة الماعون مكية وقيل مدنية

حروفها مائة وخمسة عشر كلمها وعشرون

آياتها سبع)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

الوقوف: (بِالدِّينِ) ه ط لأن قوله (فَذلِكَ) كالجزاء لشرط محذوف أي إن لم تعرفه فهو فلان (الْيَتِيمَ) ه لا (الْمِسْكِينِ) ه ج (لِلْمُصَلِّينَ) ه لا (ساهُونَ) ه لا (يُراؤُنَ) ه لا (الْماعُونَ) ه

التفسير: هذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه. وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة. وعن السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل: في أبي جهل. حكى الماوردي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان أن يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي فقال له أكابر قريش استهزاء: قل لمحمد يشفع لك فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتمس منه الشفاعة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فقام أبو جهل ورحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش فقالوا: صبأت فقال: لا والله ما صبأت لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيّ. وقال كثير من المفسرين: إنه عام لكل من كان مكذبا بيوم الدين والمعنى: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو فإن لم تعرفه فهو الذي يدع اليتيم ، وذلك لأن إقدام الإنسان على الطاعات وإحجامه عن المحظورات إنما يكون للرغبة في الثواب أو الرهبة من العقاب. فإذا كان منكرا للقيامة لم يترك شيئا من المشتهيات واللذات ، فإنكار المعاد كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي ، والغرض منه لتعجيب كقولك «أرأيت فلانا ماذا ارتكب» والخطاب لكل عاقل ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل:

٥٧٢

الدين هاهنا هو الإسلام لأنه عند الإطلاق يقع عليه وسائر الأديان كلادين ، أو يتناولها مع التقييد كقولك «دين النصارى أو اليهود». والدع الدفع بالعنف كما مر في الطور ذكر شيئين من قبائح أفعال المكذب بالجزاء على سبيل التمثيل وسبب تخصيصهما أنهما منكران بحسب الشرع وبحسب العقل والمروءة أيضا. وفي لفظ (يَدُعُ) بالتشديد رحمة من الله على عباده وإشارة إلى أنه إن صدر أدنى استخدام له أو شيء مما يكرهه الطبع دون الاستخفاف التام والزجر العنيف كان معفوا عند الله ولم يكتب في زمرة المكذبين بالدين ، ولا سيما إذا كان بغير اختيار والحض الحث وقد مر في «الفجر». ولما كان إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلا على النفاق فالصلاة لا مع الخشوع كانت أولى بأن تدل على النفاق قال (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) وجوز جار الله أن يكون فذلك عطفا على الذي يكذب إما عطف ذات على ذات ، أو صفة على صفة ، ويكون جواب (أَرَأَيْتَ) محذوفا لدلالة ما بعده عليه كأنه قيل: أخبرني ما تقول فيمن يكذب بالجزاء وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ، أنعم ما يصنع أو أخبرني ما تقول في وصف هذين الشخصين أمرضيّ ذلك؟ ثم قال (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) أي إذا علم أنه مسيء فويل لهم ، فوضع صفتهم موضع ضميرهم. وجمع لأن المراد بالذي هو الجنس ووجه الاتصال أنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم. وفيه أنهم كما قصروا في شأن المخلوق حيث زجروا اليتيم ولم يحضوا على إطعام المسكين فقد قصروا في طاعة الخالق فما صلوا وما زكوا. والسهو عن الصلاة تركها رأسا أو فعلها مع قلة مبالاة بها كقوله (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [النساء: ١٤٢] وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل: وفائدة عن المفيدة للبعد والمجاوزة هذه. وأما السهو في الصلاة فذلك أمر غير اختياري فلا يدخل تحت التكليف ، وقد ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سها في الصلاة ، وقد أثبت الفقهاء لسجود السهو بابا في كتبهم. وعن أنس: الحمد لله الذي لم يقر «في صلاتهم» ولعل في إضافة الصلاة إليهم إشارة إلى أن تلك الصلاة لا تليق إلا بهم لأنها كلا صلاة من حيث إنهم تركوا شرائطها وأركانها فلم يكن هناك إلا صورة صلاة صح باعتبارها إطلاق المصلين عليهم في الظاهر. ويجوز أن يطلق لفظ المصلين على تاركي الصلاة بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة ومعنى المفاعلة في المرآة أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به وقد مر في قوله (رِئاءَ النَّاسِ) [النساء: ١٤٢] و (يُراؤُنَ النَّاسَ) [البقرة: ٢٦٤] ولا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء أو نفي التهمة واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه وحملها على الإخلاص ومن هنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة

٥٧٣

المظلمة على المسح الأسود» (١) وفي (الْماعُونَ) أقوال: فأكثر المفسرين على أنه اسم جامع لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ولا ينسب سائله إلى لؤم بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار لما روي «ثلاثة لا يحل منعها الماء والنار والملح» (٢) ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز في تنورك أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم. قالوا: هو «فاعول» من المعن وهو الشيء القليل ولا منه ماله سعنة ومعنة أي كثير وقليل. وقد تسمى الزكاة ماعونا لأنه يؤخذ من المال ربع العشر وهو قليل من كثير. قال العلماء: ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على قدر الضرورة ، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار. وعن أبي بكر وعلي رضي‌الله‌عنهم وابن عباس وابن الحنيفة وابن عمرو الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو الزكاة لأنه تعالى ذكرها عقيب الصلاة. وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء ولعله خص بالذكر لأنه أعز مفقود وأرخص موجود وأول آلام أهل النار (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف: ٥٠] وأول لذات أهل الجنة (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً) [الدهر: ٢١] وقيل: هو حسن الانقياد والطاعة. وفي الآيتين إشارة إلى أن الصلاة لي والماعون للخلق ، فالذي يحب أن يفعل لأجلي يرونه الناس والذي هو حق الخلق يمنعونه منهم فلا يراعون جانب التعظيم لأمر الله ولا جانب الشفقة على خلق الله وهذه كمال الشقاوة نعوذ بالله منها والله تعالى أعلم.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٤٠٣).

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب ١٦. بلفظ «الكلا» بدل «الملح».

٥٧٤

(سورة الكوثر مكية

وعن قتادة مدنية

حروفها اثنان وأربعون

كلمها عشر

آياتها ثلاث)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

القراآت (شانِئَكَ) بالياء: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. وقرأ قتيبة ونصير مهموزا ممالة.

الوقوف (الْكَوْثَرَ) ه ط (وَانْحَرْ) ه ط (الْأَبْتَرُ) ه

التفسير: هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، لأن تلك مثال لكون الإنسان في خسر ، وهذه للمستثنين منهم بل لأشرفهم وأفضلهم وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل له ولشانيه ، فكأنها مثال للفريقين جميعا. هذا وجه إجمالي وأما الوجه التفصيلي فقوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي الخير الكثير وقع في مقابلة الدع والمنع من الإطعام وقوله (فَصَلِ) أي دم على الصلاة وقع بإزاء قوله (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون: ٥] وقوله (لِرَبِّكَ) مكان قوله (يُراؤُنَ) [الماعون: ٦] وقوله (وَانْحَرْ) والمراد به التصدق بلحوم الأضاحي بحذاء قوله (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) [الماعون: ٧] ثم ختم السورة بقوله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي الذي تضاد طريقته طريقتك سيزول عنه ما يفتخر به من المال والجاه والأحساب والأنساب ويبقى لك ولمتابعيك الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، بل يدوم لك النسب الصوري بسبب أولادك الشرفاء والنسب المعنوي بواسطة أتباعك العلماء ، ثم في الآية أصناف من المبالغة منها: التصدير بـ «إن» ومنها الجمع المفيد للتعظيم ، ومنها لفظ الإعطاء دون الإيتاء ففي الإعطاء دليل التمليك دون الإيتاء ولهذا حين قال (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [الحجر: ٧] كان أمته مشاركين له في فوائدها ولم يكن له منعهم منها. ومنها صيغة المضي الدالة على التحقيق في وعد الله تعالى كما هي عادة القرآن ، ومنها لفظ الكوثر وهو مبالغة في الكثرة بزيادة الواو كجدول فيشمل خيرات الدنيا والآخرة ، إلا أن أكثر

٥٧٥

المفسرين خصوه فحملوه على أنه اسم نهر في الجنة. عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت نهرا في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت: ما هذا؟ فقيل: هو الكوثر الذي أعطاك الله» وفي رواية «ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان» قال أهل المعنى: ولعله إنما سمى كوثرا لأنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيرا ، أو لأن أنهار الجنة تتفجر منه كما روي أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار أو لكثرة شاربيه. وقد يقال: إن الكوثر حوض في الجنة على ما ورد في الأخبار فلعل منبعه حوض ومنه تسيل الأنهار ، والقول الثالث أن الكوثر أولاده لأن هذه السورة نزلت ردا على من زعم أنه الأبتر كما يجيء والمعنى أنه يعطيه بفاطمة نسلا يبقون على مر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم مملوء منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، والعلماء الأكابر منهم لا حد ولا حصر لهم. منهم الباقر والصادق والكاظم والرضي والتقي والنقي والزكي وغيرهم. القول الرابع: الكوثر علماء أمته لأنهم كأنبياء بني إسرائيل واختلافهم في فروع الشريعة رحمة كما كان اختلاف الأنبياء في الفروع رحمة مع اتفاقهم على الأصول فالتوحيد والنبوة والمعاد كأصول الشجرة وأديان الأنبياء كشعبها الكبار ، والمذاهب كالأغصان المتفرعة عن الشعب. الخامس: الكوثر النبوة ولا يخفى ما فيها من الخير الكثير لأنها ثانية رتبة الربوبية ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة الله ثم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه الفضيلة لأنه المذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم ، ثم هو مبعوث إلى الثقلين ولن يصير شرعه منسوخا وله كل معجزة كانت لغيره من الأنبياء المشهورين ، وكتاب آدم كان كلمات كما قال (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة: ٣٧] وكتاب ابراهيم وموسى كان كلمات وصحفا (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة: ١٢٤] و (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى: ١٩] وكتاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهيمن على الكل كما قال (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة: ٤٨] وإن آدم عليه‌السلام تحدى بالكلمات والأسماء (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [البقرة: ٣١] ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما تحدى بالمنظوم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء: ٨٨] الآية. وأما نوح عليه‌السلام فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء ، وفي حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف الحجر على الماء. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب فليسبح ولا يغرق ، فأشار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد له بالرسالة. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: يكفيك هذا؟ قال: حتى يرجع إلى مكانه. فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع إلى مكانه.

٥٧٦

وأكرم إبراهيم فجعل النار بردا وسلاما عليه. وروى محمد بن حاطب قال: كنت طفلا فانصب القدر من على النار علي فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت: هذا ابن حاطب احترق كما ترى ، فتفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أذهب البأس رب الناس. فصرت صحيحا لا بأس بي. وأكرم موسى بفلق البحر في الأرض وأكرم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففلق له القمر فوق السماء ، وفجر له الماء من الحجر ، وفجر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابعه عيونا ، وأكرم موسى بتظليل الغمام في زمان نبوته ، وأكرم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك قبل ظهور نبوته ، أكرم موسى عليه‌السلام باليد البيضاء وأكرم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن العظيم الذي هو نور من الله برهان. وقلب الله عصى موسى ثعبانا. ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوبا. وسبحت الجبال مع داود عليه‌السلام وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه. وكان داود عليه‌السلام إذا مسح الحديد لان ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مسح الشاة الجدباء درت. وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراق ، وأكرم عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وأكرمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإحياء الشاة المسمومة وبتكلمها أنها مسمومة. وروي أن معاذ بن عفراء كانت له امرأة برصاء فشكت ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسح عليها بغصن فأذهب الله عنها البرص ، وحين سقطت حدقة رجل يوم أحد رفعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فردها إلى مكانها. وكان عيسى يخبر بما في بيوت الناس والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرف ما أخفته أم الفضل فأسلم العباس لذلك ، ورد الشمس لسليمان مرة والرسول كان نائما ورأسه في حجر علي عليه‌السلام فانتبه وقد غربت الشمس فردّها حتى صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردها مرة أخرى لعلي عليه‌السلام فصلى العصر لوقته. وعلم سليمان منطق الطير وفعل ذلك في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روي أن طائرا فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال: أيكم فجع هذه بولدها؟ فقال رجل: أنا فقال: أردد ولدها ، وكلام الذئب والناقة معه مشهور. وأكرم سليمان بمسير غدو شهر وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به. وأرسل معاذا إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاث فهاله ذلك ولم يستجرئ أن يرجع فتقدم وقال: إني رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبصبص ، وكما انقاد الجن لسليمان انقادوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحين جاء الأعرابي بالضب تكلم الضب معترفا برسالته ، وحين كفل الظبية حتى أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة ، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت: كنت مشتاقة إليه. منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه. وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل. ومعجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من أن تحصى خصوصا في هذا المقام فثبت صحة قوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قيل: هو القرآن لأن فوائده عديد الحصى. وقيل: الإسلام أو الشفاعة أو

٥٧٧

رفع الذكر أو العلم (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء: ١١٣] أو الخلق الحسن (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: ٤] وقد يقال: إن هذه السورة مع قصرها معجزة من وجوه لما فيها من الإخبار بالغيوب وهو الوعد بكثرة الأتباع والأولاد وزوال الفقر حتى نحر مائة بدنة في يوم واحد وقد وقع مطابقا ، ولأنهم عجزوا عن معارضتها مع قصرها فإنها أقصر سورة من القرآن.

قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) في الصلاة أقوال: فعن مجاهد وعكرمة معناه اشكر لربك ، وفائدة الفاء أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي ، وقيل: هي الدعاء كأنه قال: قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك بالكوثر فكيف بعد سؤالك فسل تعط واشفع تشفع وذلك أنه أبدا كان في هم أمته. والأقرب وعليه الأكثرون أنها الصلاة ذات الهيئات والأركان لأنها مشتملة على الدعاء والشكر وعلى سائر المعاني المنبئة عن التواضع والخدمة ، ولأن حمله على الشكر يوهم أنه ما كان شاكرا قبل ذلك لكنه كان من أول أمره مطيعا لربه شاكرا لنعمه. أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي ، يروى أنه حين أمر بالصلاة قال: كيف أصلي ولست على وضوء؟ فقال الله: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) وضرب جبرائيل بجناحه على الأرض فنبع ماء الكوثر فتوضا فقيل له عند ذلك (فَصَلِ) وإن حمل الكوثر على الرسالة فكأنه قال: أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات (فَصَلِ) وفي قوله (لِرَبِّكَ) إشارة إلى وجوب الأضحى مخالفة عبدة الأوثان. وإنما لم يقل لنا سلوكا لطريقة الالتفات وإفادة لنوع من التعظيم كقول الخلفاء «يرسم أمير المؤمنين كذا» ولأن الجمعية في هذا المقام توهم الاشتراك والعدول إلى الوحدة لوقال «لي» انقطع النظم ، ولأنه يفيد أن سبب العبادة هو التربية ، ثم الذين فسروا الصلاة بما عرف في الشرع اختلفوا ؛ فالأكثرون على أنها جنس الصلاة لإطلاق اللفظ ، وإنما لم يذكر الكيفية لأنها كانت معلومة قبل ذلك. وقال الآخرون: إنها صلاة عيد الأضحى لاقترانها بقوله (وَانْحَرْ) وكانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها. والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وإن لم تفده قطعا. وقال سعيد بن جبير: صل الفجر بالمزدلفة وانحر بمنى والمناسبة بين نحر البدن وبين جنس الصلاة أن المشركين كانت صلاتهم وقرا بينهم للأصنام فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن تكون صلاته وقربانه لله تعالى ، وكان النحر واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاث كتبن عليّ ولم تكتب على أمتي. الضحى والأضحى والوتر». وإنما لم يقل ضح وإن كان أشمل لأن أعز الأموال عند العرب هو الإبل فأمر بنحرها وصرفها إلى طاعة الله ففي ذلك قطع العلائق الجسمانية ورفع العوائق

٥٧٨

النفسانية. يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ، فنحرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعيا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أمر عليا بذلك وكانت النوق يزدحمن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أخذ علي عليه‌السلام السكين تباعدت منه عليه‌السلام ، قال عامة أهل التفسير كابن عباس ومقاتل والكلبي: إن العاص بن وائل وجمعا من صناديد قريش يقولون: إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره واسترحنا منه ، وكان قد مات ابنه عبد الله ابن خديجة فأنزل الله تعالى هذه السورة كما مر في أول «المائدة». والشنء البغض والشانئ المبغض والبتر في اللغة استئصال القطع ومنه الأبتر المقطوع الذنب ، فاستعير للذي لا عقب له ولمن انقطع خبره وذكره ، فبين الله تعالى بهذه الصيغة المفيدة للحصر أن أولئك الكفرة هم الذين ينقطع نسلهم وذكرهم ، وأن نسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت باق الى يوم القيامة كما أخبر بقوله «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي» وإن دين الإسلام لا يزال يعلو ويزيد والكفر يعلى ويقهر إلى أن يبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها كما قال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد: ٤١] قال بعض أهل العلم: إن الكفار لما شتموه بأنه أبتر أجاب الله عنه من غير واسطة فقال (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وهكذا سنة الأحباب إذا سمعوا من يشتم حبيبهم تولوا بأنفسهم جوابه ، ونظيره في القرآن كثير قالوا (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ) إلى قوله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) فقال سبحانه (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) [سبأ: ٧ ، ٨] وقالوا هو مجنون فأقسم الله (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: ١ ، ٢] وقالوا لست مرسلا فقال (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يس: ١ ، ٣] (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) [الصافات: ٣٦] فرد عليهم بقوله (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: ٣٦] ثم ذكر وعيد خصمائه بقوله (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) [الصافات: ٣٨] وحين قال حاكيا (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور: ٣٠] قال (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) [يس: ٦٩] وقالوا (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان: ٤] فأجابهم بقوله (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) [الفرقان: ٤] (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الفرقان: ٥ ، ٦] فقال (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) [الفرقان: ٥ ، ٦] (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان: ٧] فأجابهم بقوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان: ٢٠] فما أجل هذه الكرامة! وقال أهل التحقيق السالكون: بل الواصلون لهم ثلاث درجات أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وأشار إليها بقوله (إِنَّا

٥٧٩

أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فإن روحه القدسية متميزة في الكثرة عن سائر الأرواح البشرية بالكم لأنها أكثر مقدمات ، وبالكيف لأنها أسرع انتقالا من المقدمات إلى النتائج. وأوسطها أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وأشار إليها بقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وأدناها أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانتصاب إلى اللذات العاجلة وهي قوله (وَانْحَرْ) فإن منع النفس الشهوية جارية مجرى الذبح والنحر. ومن البيان أن ترتيب السالك هو الأخذ من الأدون إلى الأعلى ، وإنما ورد القرآن بما ورد تنبيها على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في نهاية الوصول. وأن هذا الترتيب بالنسبة إليه ينعكس وذلك أنه جاء من الحق إلى الخلق. ثم أشار بقوله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) إلى أن دواعي النفس التي هي أعدى الأعداء لا بقاء لها ، وإنما هي لذات زائلة وتخيلات فانية (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف: ٤٦]

٥٨٠