تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الجزء الثالث من أجزاء القرآن الكريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

القراءات : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) بالفتح غير منون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ؛ الباقون : بالرفع والتنوين. وكذلك في سورة إبراهيم : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [الآية : ٣١] وكذلك في سورة الطور : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الآية : ٢٣].

الوقوف : بالحق ط للابتداء ، بأن المرسلين ه على بعض م ؛ لأنه لو وصل صار الجار والمجرور صفة لبعض فينصرف بيان تفضيل الرسل إلى بعض ، فيكون موسى عليه‌السلام من هذا البعض المفضّل عليه غيره لا من البعض المفضّل على غيره بالتكليم. درجات ط للعدول ، القدس ط ، من كفر ط ، ما يريد ، ولا شفاعة ط ، الظالمون ه.

التفسير : (تِلْكَ) القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم ، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التي هى إتيان التابوت ، وغلبة الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ؛ (آياتُ اللهِ) الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته ؛ (نَتْلُوها عَلَيْكَ) بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم لجبرائيل كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] (بِالْحَقِ) باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت ، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما

٣

احتملها الأمم السالفة ، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة. ثم أكّد ذلك بقوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة ، وفيه أيضا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله ، فالمصيبة إذا عمت طابت. ولمثل هذا كرر فقال : (تِلْكَ الرُّسُلُ) أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ) فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه‌السلام (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قيل إن (دَرَجاتٍ) نصب بنزع الخافض ، وقيل رفع لبعضهم كقوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧] أي له ، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات ، وقيل مصدر في موضع الحال ، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال : ورفعنا بعضهم رفعات. وأيّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم ، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع.

واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمدا أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ومنها قوله : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] قرن ذكره بذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء ؛ ومنها أنه قرن طاعته بطاعته : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وبيعته ببيعته (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وعزته بعزته : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) [المنافقون : ٨] ورضاه برضاه (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وأجابته بإجابته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٢٤] ومحبته بمحبته : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١]. ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن ، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد ، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات ، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزا برأسه. ومنها أن معجزته ، وهي القرآن ، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة. ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقا فيهم وإليه الإشارة بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها ، فإنه لا يجوز أن يكون مأمورا

٤

بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد ، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع ، فإذن المراد محاسن الأخلاق. ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد. ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل ، ومنها أن أمّته أفضل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل. ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثا إلى الجن والإنس ، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثرا قويا في علو شأن المتبوع. ومنها أن كل نبيّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه.

(يا آدَمُ اسْكُنْ) [البقرة : ٣٥] ، (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ، (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [الصافات : ١٤] ، (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥]. وأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه نودي بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [الأنفال : ٦٤ وغيرها كثير] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٤١ ، ٦٧] ، بل أقسم بحياته : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧٢].

وأما الأحاديث في هذا الباب ؛ فعن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه. قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض : عجبا إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلا واتخذ إبراهيم خليلا. وقال آخر : ما ذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليما. وقال آخر : ما ذا بأعجب من جعل عيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر : ما ذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته. فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه وقال : «قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك ، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول شفيع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر». وفي الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة» (١) وروى البيهقي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التميم باب ١ ، كتاب الصلاة باب ٥٦. الدارمي في كتاب السير باب ٢٨.

٥

في كتابه في فضائل الصحابة ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا سيد العرب» فقالت عائشة : ألست سيد العرب؟ فقال : «أنا سيد العالمين وهو سيد العرب». ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة رئيس القرية. ولما كانت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة ، فلا جرم أعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائر المعارف والحقائق ، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده.

هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته ؛ فآدم جعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحا وريحانا ، وأوتي موسى العصا واليد البيضاء ، وداود لان الحديد في يده ، وسليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مسخرين له ، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال : «لا تفضلوني على يونس بن متى». وقال : «لا تخيروا بين الأنبياء» (١). وقال «لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا» وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. والجواب أن كون آدم مسجودا للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» (٢) وقوله : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين». ونقل أن جبريل عليه‌السلام أخذ ركاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود ، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة ، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرّة واحدة على أن ذلك السجود أيضا إنما كان لأجل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان في جبهته ، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال : «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك» ومن تأمّل كتب دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما قوله : «لا تفضلوني .... ولا تخيروا» ، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب. وأيضا التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعا وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد ، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور. والحاصل أن التوفيق بين قوله «لا تفضلوني» وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلا منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر ، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٣٥. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٥٩ بلفظ «لا تفضلوا بين الأنبياء».

(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ١. أحمد في مسنده (١ / ٢٨١).

٦

السالفة منعهم عن ذلك ، وقال : «أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين» (١). وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال : «لا تفضلوني» ؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء ، للواقع فقد يكون الشيء حقا في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف ، فالمراد بهذا الأمر : لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم ، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم.

ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله : (مَنْ كَلَّمَ اللهُ) التقدير : من كلمه ، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي ؛ فإن كلّ مصلّ فإنه يكلم الله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المصلي يناجي ربه». وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري : المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت ، كما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة. وقالت المعتزلة : سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال. واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختلف في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج هل كلمه الله أم لا ؛ منهم من قال نعم بدليل قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] وأورد هاهنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة ، فقد كلم الله إبليس حيث قال : (أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف : ١٤ ، ١٥] الآيات ، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمة من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة. قلت : هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة قسمان : مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى ، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ٧٨] وكما في أهل النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].

أما قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) فقيل : المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلا ، وأعطى داود الملك والنبوة ، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح. وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان ، وخصّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه. هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب. أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه ؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه ؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر ، ومعجزات عيسى

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٣. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢٧. الترمذي في كتاب القيامة باب ١٠. بلفظ «أنا سيد الناس يوم القيامة».

٧

من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك غالب على قومه ، ومعجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر. وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة. وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة. وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مستجمعا للكل ؛ فمنصبه أعلى ، ومعجزته أقوى وأبقى ، وقومه أكثر ، ودولته أعظم وأوفر ، وقيل : المراد بهذه الآية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو المفضّل على الكل. وإنما قال : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيما فيقال له : من فعل؟؟؟ هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه. ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يبق فيه فخامة. وليس قوله (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) تكرارا لقوله (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) لأن المفهوم من قوله (فَضَّلْنا) هو وجود نفس الفضل. والمفهوم من قوله (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) هو التفاوت بالدرجات الكثيرة.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قد سبق تفسيره. وإنما عدل عن الغيبة إلى الحكاية لأن الضمير في قوله (وَآتَيْنا) للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء. وأما قوله (كَلَّمَ اللهُ) فأهيب من قوله كلمنا فلهذا اختير الغيبة. وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون ، فنبّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيّن معجزاتهما ، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا ، فلهذا قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضا ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء ، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا. كرر الكلام تكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، ولكن الله يفعل ما يريد. وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال ، ومسألة إرادة الكائنات ، وأن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عزوجل في العبد. والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه. ثم إنه

٨

تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ) [البقرة : ١٩٠] وأعقبه بقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [الحديد : ١١] ، والغرض منه الإنفاق في الجهاد ، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، أعقبه تارة أخرى الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب ، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب. وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا ، وأن الإنسان يجيء وحده وما معه إلا ما قدم من أعماله.

ومعنى قوله (لا بَيْعٌ) أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب ، أو يكتسب مالا حتى ينفق منه ، (وَلا خُلَّةٌ) لا مودة ، لأن كلّ أحد يكون مشغولا بنفسه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقا ذكر عقيبه قوله (الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسّاق. نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ، ولم يقل والظالمون هم الكافرون. وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، فقال (وَالْكافِرُونَ) للتغليظ كقوله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] أي ومن لم يحج. وقيل المراد. إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق. فهو كقوله (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقيل «الكافرون» هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر. وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم.

التأويل : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) نجلوها عليك بالحقيقة كما هي (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين عبروا هذه المقامات وشاهدوا تلك الأحوال والكرامات ، وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات ، ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات ، وأرسلوا إلى أهل الغدر والغفلات وعبدة طواغيت الهوى وأصنام الشهوات ، ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور ويخرجونهم من الظلمات

٩

إلى النور ، ولكنهم ما صاحبوك في الجلوات فإنهم بقوا في السموات وأنت عبرت المكونات (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ٩ ، ١٠] فوصلت من العبدية إلى العندية ، ثم فطمت عن رضاع لي مع الله وقت ، وابتليت بسفارة جبريل ، ثم لقيت من القوم ما لقيت ، فحق لك أن تقول : «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» لأن غيرك ما سقي من شرب ما سقيت فما أوذي بفطام مثل ما أوذيت.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) إشارة إلى أن التفاضل في الدين والدنيا بين العباد ليس بسعيهم ومناهم وإنما هو بتفضيل الله إياهم ، فلكلّ من أهل الفضل أنوار ، ولأنوارهم آثار على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم. وهذا التفاوت صادر من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل وغوى». ثم إن الفضل فضلان : عام يمتاز به عن المردودين (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] ؛ وخاص يمتاز به عن المقبولين كما ثبت لسيد المرسلين. والتفاوت في الأنوار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقة المستعدة لقبول النور في بدر الخلقة لا في حقيقة النور ، فإنه موصوف بالوحدة ، ولهذا ورد بلفظ الوحدان في قوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة : ١٦]. والرفعة في الدرجات في قدر قوة الاستعلاء ، كما قال : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١] فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية ؛ فكلما ازداد العلم ازدادت الدرجة ، وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضها فوق بعض. فقد يبقى بعضهم في مكان من أماكن السموات ، كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم عليه‌السلام في السماء السابعة ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي في مكان بل رفع به إلى سدرة المنتهى ثم إلى قاب قوسين أو أدنى ، لأنه كان فانيا بالكلية عن ظلمة وجوده باقيا بنور شهود ربه ، ولهذا سماه الله نورا (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١٥] : ثم لما أخبر عن فضيلة الخواص بأنها كانت بسبب تفضيله إياهم ، أخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئته لا بمشيئتهم فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل فخاطب أهل الإيمان أي : إن كان إيمانكم بالبعث والنشور والثواب والعقاب والجنة والنار حقّا فتصدقوا من كل ما رزقناكم

١٠

من المال والجاه والقوة والقدرة والعلم والمعرفة وغيرها في مصارفها العامة والخاصة ، أنفقوا ملكنا ومالنا في صلاح أنفسكم واغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان مع الإخوان. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) لا يشترى فيه ما يباع من الأموال والأنفس في سوق (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] ولا ينفعه خلة خليل دنيوي ، لأن (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] (وَلا شَفاعَةٌ) لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم لأنا أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وأمرناهم بالإنفاق ووعدناهم الثواب وحذرناهم العقاب وقد أعذر من أنذر. والله المستعان.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

القراآت : تعرف ممّا مرّ.

الوقوف : (إِلَّا هُوَ) ج ، لأن قوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) يصلح بدلا عن الضمير وخبر ضمير آخر محذوف (الْقَيُّومُ) ج لاختلاف الجملتين ، (وَلا نَوْمٌ) ط ، (وَما فِي الْأَرْضِ) ط لابتداء الاستفهام. (بِإِذْنِهِ) ط لانتهاء الاستفهام. (وَما خَلْفَهُمْ) ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقا وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي. (بِما شاءَ) ج لاختلاف الجملتين. (حِفْظُهُما) ج (الْعَظِيمُ) ه. (الْغَيِ) ج ، لأن من للشرط مع فاء التعقيب. (الْوُثْقى) ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالا للعروة أي : استمسك بها غير منفصمة (لَها) ط. (عَلِيمٌ) ه. (آمَنُوا) لا ، لأن (يُخْرِجُهُمْ) حال والعامل معنى الفعل في (وَلِيُ) تقديره : الله يليهم مخرجا لهم أو مخرجين (إِلَى النُّورِ) ط للفصل بين الفريقين : (الطَّاغُوتُ) لا ، لأن (يُخْرِجُونَهُمْ) حال. إلى الظلمات ط. (النَّارِ) ج. (خالِدُونَ) ه.

١١

التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام وعلم القصص بعضها ببعض. والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضا رحمة شاملة ولطف كامل ؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه. وإذ قد تقدّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد.

فقال (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة». وعن عليّ رضي‌الله‌عنه : «سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره والأبيات حوله» وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي‌الله‌عنه : أين أنتم من آية الكرسي؟. ثم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا علي سيد البشر آدم عليه‌السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي». وعن عليّ رضي‌الله‌عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول : «يا حي يا قيوم» لا يزيد على ذلك. ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك. فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له.

واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعال عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات. ولنشتغل بالتفسير.

أما لفظ «الله» فقد مرّ تفسيره في أول الكتاب. وأما قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فقد سبق تفسيره في قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وأما (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد هاهنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله

١٢

«الحي القيوم». ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذ في السجود. وأما الدليل العقلي فإن «الحي» قيل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك. ونحن نقول إن «الحي» في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملا في جنسه فإنه يسمّى حيّا. ومن هاهنا يصحّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض. فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة. ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة. فالمفهوم من «الحي» هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلّا واجب الوجود لذاته. وأما «القيوم» فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره. والثاني أنّ غيره يفتقر في قوامه إليه. وبهذا الثاني يزيد على مفهوم «الحي». ومن هذين الأصلين يتشعّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوما ؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيّن فيكون كلّ منهما مركّبا من جزأين فلا يكون قيوما ولا حيّا ، فإن كلّ مركّب مفتقر وكل مفتقر ممكن ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزا لأن كلّ متّحيز منقسم ، وقد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يشار إليها ، وإلا كان متحيزا ؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك ؛ ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيّا قيوما كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيكون عالما بما سواه. ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوما بمعنى كونه مقوما لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر. «والحي» أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله «حيو» بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكنا ، جعلتا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو. «والقيوم» مبالغة قائم ، وأصله «قيووم» على «فيعول» ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة. ولو كان «قوّوما» على «فعول» لقيل «قووم» وعن عمر أنه قرأ «الحي القيام». وقرىء «القيم» ثم لما بين أنه «حي قيوم» أكد ذلك بقوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمّى النعاس ، أي : لا

١٣

يأخذه نعاس ، فضلا أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولا ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولا ضمنا ثم ثانيا صريحا. ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم. والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لو سنان نائم. ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم. وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجبا بجميع صفاته ، فلا يكون حيّا ولا قيوما وهذا خلف. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى عليه‌السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قارورتين مملؤتين ماء في كل يد واحدة ، وأمره بالاحتفاظ. فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا. وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين. وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على «الحي القيوم» والتجويز شك ، والشك في مثله كفر. ثم لما بيّن كونه «قيوما» وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكما وهو قوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكا له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جاريا في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ومعنى الاستفهام هاهنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجه من الوجوه إلا بأمره كونه عالما بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه. فأشار إلى الأول بقوله (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، وإلى الثاني بقوله (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول (مَنْ ذَا) من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء. عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة ؛ وعن الضحاك والكلبي : «ما بين أيديهم» : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، «وما خلفهم» الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم. وعن ابن عباس : «يعلم ما بين أيديهم» من السماء إلى الأرض ، «وما خلفهم» يريد ما في السموات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد

١٤

ذلك. والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] ويحتمل أن يراد : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئا إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى.

ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي» أي : لم يحتمل غير ذلك. وأما «الكرسي» فأصله من التركب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته. وللمفسرين في معناه هاهنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه. وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا. وعن السدي أنه تحت الأرض. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى. وهاهنا أسرار لا أحبّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبدا من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره. وقيل : المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه ؛ فإن الملك مكانه الكرسي. وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه. ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض. وقيل : المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد. واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم ؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له

١٥

يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم. وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبّل أيدي الملوك. وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين. وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ووصف عرشه فقال : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧١] ثم قال (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥] ثم قال (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ثم أثبت لنفسه كرسيا. ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي (وَلا يَؤُدُهُ) لا يثقله ولا يشق عليه ؛ (حِفْظُهُما) حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة. ثم بيّن أنه مع كونه مقوّما للممكنات مقيما للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة. وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان.

وقوله سبحانه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الآية : لما بيّن دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للأعذار ذكر بعد ذلك. أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار. ومما يؤكد ذلك قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) يقال بان الشيء واستبان وتبيّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين. والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه. أي : تميز الحق من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبينات ووفور الدلائل والآيات. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) قال النحويون : وزنه «فعلوت» نحو جبروت وأصله من «طغى» ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل. ولهذا قال تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] والأصل فيه التذكير. قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء : ٦٠] فأما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] فالتأنيث لإرادة الآلهة. وأما معنى «الطاغوت» فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان. وعن سعيد بن جبير : الكاهن. وقال أبو العالية : الساحر. وعن بعضهم : الأصنام. وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت

١٦

هذه الأشياء أسبابا للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ويعلم من قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) ثم من قوله : (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلا ، ثم يؤمن بعد ذلك ، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به. والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية. والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصمته فانفصم. والمقصود من قوله (لَا انْفِصامَ لَها) هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول هاهنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي من له. وقيل : معنى قوله (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه. ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التحريم : ٩] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحكم المجوس حكمهم. وأما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرّون على ذلك ويكرهون على الإسلام. وقيل يقرّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون. روي أنه كان لأنصاريّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصّرا قبل أن يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما. فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما. وقيل معنى قوله (لا إِكْراهَ) أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرها لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحّ إسلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤].

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث. وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سرا وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك.

قوله سبحانه : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم. «فعيل»

١٧

بمعنى «فاعل» والتركيب يدل على القرب ، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ، ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير ، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين. والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي ، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات ، وإن لم يكونوا في الظلمة البتة ؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سببا لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع تشابه ، ومثله قوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار. ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع إنسانا قال : أشهد أن لا إله إلا الله فقال : «على الفطرة» فلما قال : أشهد أن محمدا رسول الله قال : «خرج من النار» ومن المعلوم أنه ما كان فيها. قال الواحدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فإنه عنى به الليل والنهار. قال : وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نورا لأنه كالسبب في حصول الإدراك.

قلت : قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النفس بها نورية وإشراقا فلا حاجة إلى هذا التكلف. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) مصدر ، ولهذا وحد في موضع الجمع (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد ، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه. كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد ، والمنحنية غير محدود. وإسناد الإضلال إلى الطاغوت ، وهو كل من ينسب إلى الطغيان ، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مرارا. (أُولئِكَ) الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل (أَصْحابُ النَّارِ) فيكون زجرا للكل ووعيدا لهم أعاذنا الله من ذلك.

التأويل : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه «الحي» مشتمل على جميع أسمائه وصفاته. فإن من لوازم الحي أن يكون قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا إلى غير ذلك من نعوت الكمال. واسمه «القيوم» دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه ؛ فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين ، انكشف للعبد عند تجلي صفته «الحي» معاني جميع أسمائه وصفاته ؛ وعند تجلي صفته «القيوم» فناء جميع المخلوقات ، إذ كان قيامها

١٨

بقيومية الحق لا بأنفسهم ، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا «الحي القيوم» إذ سلب «الحي» جميع أسماء الله وسلب «القيوم» قيام الممكنات ، ففني التعدد وبقيت الوحدة. فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية ، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؛ لأنه حينئذ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه. فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته ، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم. كما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال : الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة ، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل : من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها و (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩].

و (يَعْلَمُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أول ما خلق الله نوري ، أول ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام» (وَما خَلْفَهُمْ) من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار ، (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) [هود : ١٢٠] ويعلم أمور آخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار ، وهم لا يعلمون شيئا من ذلك (إِلَّا بِما شاءَ) أن يخبرهم عنه (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه ؛ ومثال الكرسي : سره. وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٩] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن. (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) لا يثقل الروح الإنساني حفظ أسرار السموات والأرض ، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علوا في المرتبة وعظمة في الخلقة إظهارا لكمال القدرة والحكمة ، تردّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) فمن علا في الآخرة والأولى فبإعلائه ، ومن عظم فبتعظيمه. ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الدين بالتمني» مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو

١٩

الإجبار ، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهرا والتسليم لأحكام الحقّ باطنا من غير حرج وضيق عطن.

ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) يتبرأ منه ؛ فطاغوت العوام الأصنام ، وطاغوت الخواص هو النفس ، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله. وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى. وشهود القلب مع المولى. وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة القلب إلى الفناء في الله ، وإخلاء السر للبقاء بالله ، وهذا هو السكر الموجب للشكر. ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأحقاف : ١٥] أي عن هذه الإفاقة ، فكان مخصوصا عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكا مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل :

لي سكرتان وللندمان واحدة

شيء خصصت به من بينهم وحدي

ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة ، بل تكون من بطشه (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامه في الإيمان ؛ فهي للعوام توفيق الطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ولخواص الخواص الجذبة الإلهية التي تفنيه عن ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين» وأعمالهما فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام ، فالمجذوب لا يخلص منها أبد الآبدين.

ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية ، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان ، والأولياء بلفظ الجمع ، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله (أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] ؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس ؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية

٢٠