تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

(سورة نوح عليه‌السلام وهي مكية

حروفها سبعمائة وخمسون

كلماتها مائتان واحدي وعشرون

آياتها ثمان وعشرون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

القراآت دعائي إلا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو أني أعلنت بالفتح. أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير (وَوَلَدُهُ) بالضم والسكون: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بفتحتين (وَدًّا)

٣٦١

بالضم: أبو جعفر ونافع الآخرون: بالفتح. خطاياهم بالتكسير: أبو عمرو (بَيْتِيَ) بالفتح: حفص وهشام.

الوقوف: (أَلِيمٌ) ه (مُبِينٌ) ه (وَأَطِيعُونِ) ه (مُسَمًّى) ط (لا يُؤَخَّرُ) م (تَعْلَمُونَ) ه (وَنَهاراً) ه (فِراراً) ه (اسْتِكْباراً) ه ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد القائل (جِهاراً) ه لا (إِسْراراً) ه لا لعطف مقصود الكلام (غَفَّاراً) ه لا لجواب الأمر (مِدْراراً) ه (أَنْهاراً) ه ط لابتداء الاستفهام (وَقاراً) ه ج لأن ما بعده يحتمل الحال والاستئناف (أَطْواراً) ه (طِباقاً) ه لا (سِراجاً) ه لا (نَباتاً) ه (إِخْراجاً) ه (بِساطاً) ه (فِجاجاً) ه (خَساراً) ه ج للآية مع العطف واتحاد الكلام (كُبَّاراً) ه لذلك (وَنَسْراً) ه كـ لأن ما بعده ليس بمعطوف ولكنه حال من فاعل (قالُوا) وذكر السجاوندي أنه حال من مفعول (لا تَذَرُنَ) وفيه نظر (كَثِيراً) ه ز لأن قوله (وَلا تَزِدِ) لا يصح عطفه ظاهرا ولكنه متصل بما قبله بطريق الحكاية أي قال نوح رب إنهم عصوني وقال لا تزد (ضَلالاً) ه (أَنْصاراً) ه (دَيَّاراً) ه (كَفَّاراً) ه (تَباراً) ه

التفسير: لما حذر الناس أهوال يوم القيامة ذكرهم قصة نوح وما جرى على قومه من الإغراق قبل الأطراف حين عصوا رسولهم و «أن» في (أَنْ أَنْذِرْ) و (أَنِ اعْبُدُوا) مفسرة لما في الإرسال والإنذار من معنى القول. أو ناصبة والجار محذوف أي أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإنذار. ثم حكى أنه امتثل الأمر فأمر قومه بعبادة الله قبل الأطراف ويتناول جميع الواجبات والمندوبات (وَاتَّقُوهُ) ويشتمل على الزجر عن جميع المحظورات وبطاعة نفسه تنبيها على أن طاعة الله هي طاعة نبيه ، والإلهيات لا تكمل معرفتها إلا بمعرفة النبوات. ثم وعدهم على العبادة والتقوى والطاعة شيئين: أحدهما دفع مضار الآخرة وهو غفران الذنوب ، والثاني وصول منافع الدنيا وهو بتأخير الأجل إلى أقصى الإمكان. وقد مر في سورة إبراهيم استدلال من جوز زيادة «من» في الإثبات بنظير هذه الآية. وما أجيب عنه. والذي نزيده هاهنا ما قيل: إنه لم لا يجوز أن يراد يغفر لكم كل ما كان من ذنوبكم فتكون فائدته عدم المؤاخذة بمجموع الذنوب لا بكل فرد من أفراده لصدق قول القائل لا أطالبك بمجموع ذنوبك لكني أطالبك بهذا الذنب الواحد. وفي قوله (يَغْفِرْ لَكُمْ) معنى لا يؤاخذكم قاله الإمام فخر الدين الرازي وهو شبه مغالطة لأنه يوجب استعمال مقتضى النفي مكان مقتضى الإثبات وبالعكس بتأويل تقدير الإثبات وبالعكس مثلا اتفقوا على وجوب النصب في قولك «جاءني القوم إلا زيدا» وعلى قوله يمكن رفعه على البدل بتأويل يتخلف القوم إلا زيد وهكذا قولك

٣٦٢

«جاءني رجل» لا يشمل المجيء سواه. ولو قلت «ما تخلف رجل» عمّ المجيء كل أحد. ثم قال: هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حق لأن من آمن فإنه يغفر ما تقدم من ذنوبه على إيمانه ، أما المتأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفورا فثبت أنه لا بد هاهنا من حرف التبعيض. قلت: هذا التأويل جائز في حق هذه الأمة أيضا فوجب أن يذكر من في سورة الصف أيضا. قوله (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) إشارة إلى الأجل المسمى وفيه تنبيه على أن الأجل الاختراعي قد يؤخر بتقدير الإيمان والعبادة ، وفيه أن وقت الفرصة والإمهال يجب أن يغتنم قبل حلول مالا حيلة فيه ، وفي قوله (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) توبيخ على أن إمهالهم في أمور الدنيا بلغ إلى حيث صيرهم شاكين في وقوع الموت. ثم حكى شكوى نوح إلى ربه بعد أن لم ينجع في قومه طول دعوته. ومعنى (لَيْلاً وَنَهاراً) دائبا دائما من غير توان وفتور. قوله (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) كقوله (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر: ٤٢] قوله (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ذكر ما هو المقصود وترك ما هو الوسيلة ، وأصل الكلام ليؤمنوا فتغفر لهم ذنوبهم السالفة هذا قول جار الله. ويمكن أن يقال: إنه وعدهم المغفرة على العبادة والتقوى والطاعة فكأنه قال: دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي لتغفر لهم ، وهذا كلام متسق مبني على الأول كما ترى. ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء منها: جعل الأصابع في الآذان لئلا يسمعوا قوله. ومنها تغطيهم بثيابهم تأكيدا لعدم سماع الحجة أو لئلا يبصروا وجهه. ومنها إصرارهم على مذهبهم واستكبارهم عن قبول الحق استكبارا بالغا نهايته. ثم حكى نوح أنه كان لدعوته ثلاث مراتب بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا فعاملوه بما ذكر ، ثم ثنى بالمجاهدة لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ فلم يؤثر. وانتصب (جِهاراً) على المصدر لأنه نوع من الدعوة أو على أنه صفة دعاء محذوف. والوصف بالمصدر مبالغة على أنه في موضع الحال. ثم إنه جمع بين الأمرين كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ثم فسر الدعوة بقوله (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا) إلى آخره وفيه أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء. وله وجه معقول وهو أن الله سبحانه مفيض الخيرات والبركات بالذات كما قال «سبقت رحمتي غضبي» (١) فكل ما يصل إلى العباد مما يضاد ذلك كالفقر والقحط والآلام والمخاوف فإنها بشؤم معاصيهم ، فإذا تابوا واستغفروا زال الشؤم والبلاء وعاد الخير والنماء. يروى أنهم لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين. فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا دفع الله عنهم البلاء. والمدرار الكثير الدريستوي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

٣٦٣

فيه المذكر والمؤنث. ثم إنه وبخهم بقوله (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أصل الرجاء الأمل. والوقار التوقير «فعال» بمعنى «تفعيل» مثل «سراح» بمعنى «تسريح» وقد يستعمل الرجاء بمعنى الخوف فمعناه على هذا ما لكم لا تخافون عظمة الله. وعلى الأول قال جار الله: معناه أي شيء لكم وما بالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب و (لِلَّهِ) بيان أو حال ولو تأخر لكان صلة للوقار أو صفة ، ويحتمل أن يكون الوقار فعلا للقوم وذلك أنهم كانوا يستخفون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحثهم على تعظيمه لأجل الله راجين ثوابه. وعن ابن عباس أن الوقار هو الثواب من وقر إذا ثبت واستقر قال جار الله: في تقريره أي لا تخافون لله عاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب. وقال غيره: تم الكلام عند قوله (ما لَكُمْ) ثم استفهم منكرا (لا تَرْجُونَ) أي لا تعتقدون لله ثباتا وبقاء فإنكم لو رجوتم ذلك لما أقدمتم على الاستخفاف برسوله. قال الليث: الطور التارة أي خلقكم مرة بعد مرة نطفة ثم علقة إلى آخرها. وقال ابن الأنباري: والطور الحال فيجوز أن يراد الأوصاف المختلفة التي لا يشبه بعضها بعضا ، وهذا دليل للتوحيد المأخوذ من الأنفس ، ثم أشار إلى دليل الآفاق بقوله (أَلَمْ تَرَوْا) الآية. ومعنى (طِباقاً) قد مر في أول «الملك» فلا يلزم منه أن لا يبقى للملائكة مساكن فيها فلعلها متوازية لا متماسة. وأما على قول من يزعم أن الملائكة روحانية فلا إشكال ، قوله (فِيهِنَ) في حيزه من السموات وشبه الشمس بالسراج لأن نوره ذاتي كهي ، أو لأن الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس سبب لزواله. ثم عاد إلى دليل الأنفس بقوله (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) يحتمل أن يكون من باب التفعيل فيكون مصدرا متعديا قريبا من لفظ الفعل وأن يكون ثلاثيا لازما فيكون أبعد ، ويجوز أن يراد أنبتكم فنبتم نباتا. قال جار الله: استعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث. وفي قوله (إِخْراجاً) تأكيدا أي يخرجكم حقا ولا محالة. ثم ذكر دليلا آخرا فاقيا من حال الأرض. والفج الطريق الواسع.

ثم إن سائلا كأنه سأل: ماذا قال نوح بعد هذه الشكوى؟ فبين سبحانه أنه تعالى (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) مكان قوله وأطيعون (وَاتَّبَعُوا) رؤساءهم ولم يزدهم ما لهم وولدهم (إِلَّا خَساراً) في الآخرة كأن التمتع القليل في الدنيا كالعدم. وولده بالضم لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعا كفلك (وَمَكَرُوا) معطوف على (لَمْ يَزِدْهُ) لأن المتبوعين هم الذين مكروا (وَقالُوا) للأتباع (لا تَذَرُنَ) وجمع حملا على المعنى. والكبار بالتشديد أكبر من الكبار بالتخفيف ولهذا لم يقرأ مخففا إلا في الشاذ فكلاهما مبالغة في الكبير. ولا ريب أن رأس الخيرات هو الإرشاد إلى التوحيد فنقيضه وهو الدعاء إلى الشرك يكون أعظم الكبائر

٣٦٤

وأفظع أنواع المكر. وإنما سمي مكرا لأنهم دلسوا عليهم بأنه دين آبائكم والآباء أعرف من الأبناء. وبأن هذه الأصنام تعطيكم الخيرات والمنافع وأنها شفعاؤكم. ثم خصوا الأصنام الخمسة بالذكر لأنها كانت عندهم أكبر قالوا: وقد انتقلت من قوم نوح إلى العرب لأسباب لا يعلمها إلا الله ، ولأنها لم تكن مما تعرف بالطوفان ، فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير ، وصورته أيضا كصورة النسر ، وأما ود فعلى صورة الرجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضبا عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون ، أو المراد ضلال طريق الجنة ، أو ضلال مكرهم المذكور وعدم ترويجه ، أو المراد العذاب كقوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر: ٤٧] وقالت المعتزلة: أراد الخذلان ومنع الألطاف وخص هذا بالضلال دون التبار لموافقة قوله (وَقَدْ أَضَلُّوا) قوله (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) «من» للتعليل كقولك «جئتك لأجل كذا» و «ما» صلة للتوكيد. وسبب تقديم الجار بيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلا من أجل خطاياهم وهي كفرهم المضموم إلى أنواع إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدة ألف سنة إلا خمسين عاما. وقد يستدل بفاء التعقيب لا سيما وقد دخل على ماض معطوف على مثله على إثبات عذاب القبر. عن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب وهكذا حال من مات من المجرمين في ماء أو في نار أو في جوف سبع أصابه ما يصيب المقبور من العذاب العقلي وهو ظاهر ، والعذاب الجسمي وهو غير بعيد في قدرة الله تعالى. وتنكير النار للتعظيم أو لأنها نوع من النار مختص بهم. وفي قوله (فَلَمْ يَجِدُوا) تهكم بهم وبآلهتم قوله (وَقالَ) معطوف على مثله ولهذا دخل العاطف كأنه جمع نوح بين ذلك القول وبين هذا. وإنما وقع مما خطيئاتهم إلى الآية اعتراضا في البين تنبيها على أن خطيئاتهم هي المذكورات في الآية المتقدمة من عصيان رسول الله واتباع غيره. والمكر الكبار والحث على التقليد والإشراك بالله خصوصا الأصنام الخمسة (دَيَّاراً) من الأسماء المستعملة في النفي العام. يقال: ما بالدار ديار وهو «فيعال» من الدور أو من الدار أي نازل دار قاله ابن قتيبة. فعل به ما فعل بنحو أيام لو كان فعالا لقيل دوارا ، قوله (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) إلى آخره. قال العلماء: عرف ذلك أيام لو كان فعالا لقيل دوارا ، قوله (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) إلى آخره. قال العلماء: عرف ذلك بالوحي كما قال (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود: ٣٦] وبالتجربة في المدة إليه حالهم واتفق الجمهور على أن صبيانهم لم يغرقوا على وجه العذاب. قال الحسن: علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب ولكن كما يموت أكثر الناس بآجال اختراعية ، ومنه

٣٦٥

الحديث «يهلكون مهلكا واحدا يصدرون مصادر شتى» (١) ومن روى أن الله سبحانه أعقم أرحام نسائهم أربعين أو سبعين سنة فلا إشكال. ثم إن نوحا كأنه تنبه أن دعاءه عليهم كان بسبب الانتقام وبعض حظ النفس فاستغفر الله من ترك الأولى ، ثم عقبه بذكر والديه. وكان اسم أبيه لمك بن متوشلخ. واسم أمه شمخا بنت أنوش. قال عطاء: لم يكن بين نوح وآدم عليه‌السلام من آبائه كافر وكان بينه وبين أدم عشرة آباء. وقيل: أراد بالوالدين آدم وحواء (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي منزلي. وقيل: مسجدي. وقيل: سفينتي. وقيل: ديني. وعلى هذا يكون قوله (مُؤْمِناً) احترازا من المنافق أي دخولا مع تصديق القلب ، ثم عمم دعاء الخير للمؤمنين والمؤمنات ودعاء الشر لأهل الظلم والشرك إلى يوم القيامة. والتبار الهلاك ويجوز أن يريد بالظالمين قومه فقط والله أعلم.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٦ / ١٠٥ ، ٢٥٩ ، ٣١٧) مسلم في كتاب الفتن حديث ٨.

٣٦٦

(سورة الجن مكية

حروفها سبعمائة وتسعة وخمسون

كلماتها مائتان وخمس وثمانون

آياتها ثمان وعشرون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

القراآت (وَأَنَّهُ تَعالى) إلى قوله (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) بالفتح: يزيد وابن عامر وحمزة

٣٦٧

وعلي وخلف وحفص. والمشهور عن أبي جعفر أنه كان يفتح الألف في سبعة مواضع (أَنَّهُ وَأَنَّهُ) في خمسة مواضع ، واثنين في قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ) وهما بالفتح لا غير بالإتفاق. تقول الإنس بالتشديد من التفعل: يعقوب (يَسْلُكْهُ) على الغيبة: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون: بالنون وإنه لما قام بالكسر: نافع وأبو بكر وحماد (لِبَداً) بالضم: هشام. (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا) على الأمر: عاصم وحمزة ويزيد الآخرون قال على صيغة الماضي والضمير لعبد الله ربي أمدا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ليعلم مبنيا للمفعول: يعقوب.

الوقوف: (عَجَباً) ه لا (فَآمَنَّا بِهِ) ط للعدول عن الماضي المثبت إلى ضدهما. ثم الوقف على الآيات التي بعد أن جائز ضرورة انقطاع النفس والوقف في قراءة الكسر أجوز (أَحَداً) ه (وَلا وَلَداً) ه (شَطَطاً) ه لا (رَهَقاً) ه (أَحَداً) ه (وَشُهُباً) ه (لِلسَّمْعِ) ط (رَصَداً) ه (رَشَداً) ه (ذلِكَ) ط (قِدَداً) ه (هَرَباً) ه (آمَنَّا بِهِ) ط (رَهَقاً) ه (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) ه ط للابتداء بالشرط (رَشَداً) ه (حَطَباً) ه لا (غَدَقاً) ه لا (فِيهِ) ج (صَعَداً) ه (أَحَداً) ه لمن قرأ (وَأَنَّهُ) بالفتح (لِبَداً) ه (أَحَداً) ه (رَشَداً) ه (مُلْتَحَداً) ه (وَرِسالاتِهِ) ط (أَبَداً) ه لا لأن حتى للابتداء بما بعدها (عَدَداً) ه لا (أَمَداً) ه (أَحَداً) ه لا (رَصَداً) ه (عَدَداً) ه.

التفسير: روى يونس وهرون عن أبي عمرو وحي بضم الواو من غير ألف. والوحي والإيحاء بمعنى وهو إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء وسرعة كالإلهام وإنزال الملك وقد مر مرارا. وقرىء (أُحْيِ) بقلب الواو همزة. والكلام في الجنّ اسما وحقيقته قد سلف في الاستعاذة وكذا بيان اختلاف الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأى الجن أم لا ، وذلك في آخر سورة «حم الأحقاف». والذي أزيده هاهنا ما ذكره بعض حكماء الإسلام أنه لا يبعد أن تكون الجن أرواحا مجردة كالنفوس الناطقة ، ثم يكون لكل واحد منهم تعلق بجزء من أجزاء الهواء كما أن أول متعلق النفس الناطقة هو الروح الحيواني في القلب ، ثم بواسطة سريان ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل التدبير والتصرف فيه كما للنفس الناطقة في البدن ، ومنهم من جوز أن يكون الجن عبارة عن النفوس الناطقة التي فارقت أبدان الإنسان فتتصرف فيما يناسبها من الأرواح البشرية التي لم تفارق بعد فتعينها بالإلهام إن كانت خيرة ، وبالوسوسة إن كانت بالضد. أما الذاهبون إلى أن الجن أجسام فمنهم الأشاعرة القائلون بأن البنية ليست شرطا في الحياة وأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة وقدرة على أعمال شاقة ، فعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت

٣٦٨

أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كانت أجزاؤهم صغارا أو كبارا. ثم الأمر بالخروج إليهم وقراءة القرآن عليهم لا أنه رآهم وعرف جوابهم. والله تعالى أوحى في هذه السورة. ومنهم من قال: البنية شرط وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة. ومن الأولين من جوز أن يكون المرئي حاضرا والشرائط حاصلة والموانع مرتفعة ، ثم أنا لا نراه. وأعلم أن ما ذكرنا في تفسير الأحقاف عن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رأى الجن. وعن ابن مسعود أنه رآهم. فالجمع بين القولين أن ما ذكره ابن عباس لعله وقع أولا فأوحى الله إليه في هذه السورة أنهم قالوا كذا وكذا ، أو رآهم وسمع كلامهم وآمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم وذكروا لقومهم على سبيل الحكاية (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) إلى آخره كقوله في «الأحقاف» (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الآية: ٢٩] أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جرى بينهم وبين قومهم. والفائدة فيه أن يعلم أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون كالأنس وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا ، وأن المؤمن منهم يدعو سائرهم إلى الإيمان. وأجمع القراء على فتح (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) لأنه فاعل (أُوحِيَ) وكذا على فتح (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ) لأنه يعلم بالوحي فهما معطوفان على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) وأجمعوا على كسر (إِنَّا) في قوله (إِنَّا سَمِعْنا) لأنه وقع بعد القول. وفي البواقي خلاف ، فمن كسر فمحمول على مقول القول وأنه صريح من كلام الجن ، ومن فتح فعلى أنه فاعل (أُوحِيَ) ولا بد من تقدير ما في الحكاية ليكون حكاية كلام الجن كأنه قيل: وحكوا أنه تعالى جد ربنا إلى آخره إلا في قوله (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) فإنه كاللذين تقدماه يصح وقوعه فاعل (أُوحِيَ) من غير تقدير ، وجوز صاحب الكشاف فيمن قرأ بفتح الكل في قوله (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) وكذلك البواقي أن يكون معناه صدقنا. قلت: وفيه نظر لنبوه عن الطبع في أكثر المواضع إذ لا معنى لقول القائل مثلا: صدقنا أنا لمسنا السماء وصدقنا أنا لما سمعنا الهدى آمنا به. وبالجملة فكلامه في هذا المقام غير واضح ولا لائق بفضله. قوله سبحانه (عَجَباً) مصدر وضع موضع الوصف للمبالغة أي قرآنا عجبا بديعا خارجا عن حد أشكاله بحسن مبانيه وصحة معانيه (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي الصواب أو التوحيد والإيمان (فَآمَنَّا بِهِ) لأن الإيمان بالقرآن إيمان بكل ما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد ، ويجوز أن يكون الضمير لله لأن قوله (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا) يدل عليه بعد دلالة الحال ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. ذكر الحسن أن فيهم يهود ونصارى ومجوسا ومشركين. قلت: ومما يدل على أن فيهم نصارى قوله تعالى (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي عظمته مكن قولهم «جد فلان في عيني» أي عظم. وفي حديث عمر كان الرجل منا إذا

٣٦٩

قرأ البقرة وآل عمران جد فينا. ويحتمل أن يراد ملكه وسلطانه أو غناه استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون. وفي الحديث «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» (١) قال أبو عبيدة: لا ينفع ذا الغنى منك غناه. وفي حديث آخر «قمت على باب الجنة فإذا غلقه من يدخلها من الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون» (٢) يعني أصحاب الغنى في الدنيا أي ارتفع غنى ربنا عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد كأنهم بسماع القرآن تنبهوا على خطا أهل الشرك من أهل الكتاب وغيرهم. فقوله (مَا اتَّخَذَ) بيان للأول. وقيل: الجد أبو الأب وإن علا فهو مجاز عن الأصل أي تعالى أصل ربنا وهو حقيقته المخصوصة عن جميع جهات التعلق بالغير قاله الإمام في التفسير الكبير. النوع الثالث مما ذكره الجن قوله (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) السفه خفة العقل ، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولا هو في نفسه شطط ، وصف بالمصدر للمبالغة. والسفيه إبليس أو غيره من مردة الجن الذين جاوزوا الحد في طرف النفي إلى أن أفضى إلى التعطيل ، أو في طرف الإثبات إلى أن أدى إلى الشريك والصاحبة والولد. الرابع (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أن لا يفتري الكذب على الله أحد ، فلما سمعنا القرآن عرفنا أنهم قد يكذبون. وقال جار الله (كَذِباً) صفة أي قولا مكذوبا فيه ، أو مصدر لأن الكذب نوع من القول. ومن قرأ بالتشديد وضع (كَذِباً) موضع تقولا ولم يجعله صفة لأن التقول لا يكون إلا كذبا. قال بعض العلماء: فيه ذم لطريقة أهل الطريق وحث على الاستدلال والنظر. الخامس (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) الآية. قال جمهور المفسرين: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في واد قفر خاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت في جوار منهم حتى يصبح. وقال آخرون: إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم ، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي أن يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما أفزعهم الجن فهربوا. وقيل: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا لكن من شر الجن كأن يقول مثلا: أعوذ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شر جن هذا الوادي. وإنما ذهبوا إلى هذا التأويل ظنا منهم بأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن ، وضعف بأنه لم يقم دليل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٥٥. مسلم في كتاب الصلاة حديث ١٩٤ أبو داود في كتاب الصلاة باب ١٤٠. الترمذي في كتاب الصلاة باب ١٠٨. النسائي في كتاب التطبيق باب ٢٩٥.

(٢) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٥١. مسلم في كتاب الذكر حديث ٩٣.

٣٧٠

على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا. أما قوله (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) فمعناه أن الإنس لاستعاذتهم بهم زادوهم إثما وجراءة وطغيانا وكبرا لأنهم إذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس. وقيل: ضمير الفاعل للجن أي فزاد الجن الإنس خوفا وغشيان شر باغوائهم وإضلالهم فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استولوا واجترءوا عليهم. السادس (وَأَنَّهُمْ) أي الإنس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن قاله بعضهم لبعض. وقيل: هذه الآية والتي قبلها من جملة الوحي بلا تقدير الحكاية. والضمير في (وَأَنَّهُمْ) للجن ، والخطاب في (ظَنَنْتُمْ) لأهل مكة. والأولى أن يكون الكلام من كلام الجن لئلا يقع كلام أجنبي في البين. السابع (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) قال أهل البيان: اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب التعرف ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم بمعنى الخدام ولها لم يقل شداد. الثامن (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) إلى آخره وفي قوله (شِهاباً رَصَداً) وجوه: قال مقاتل: يعني رميا بالشهب ورصدا من الملائكة وهو اسم جمع كما قلنا في حرس. فقوله (رَصَداً) كالخبر بعد الخبر وقال الفراء: هو فعل بمعنى مفعول أي شهابا قد رصد ليرجم به. وقيل: بمعنى فاعل أي شهابا راصدا لأجله. واعلم أنا قد بينا في هذا الكتاب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاء ذكرها في الجاهلية وفي كتب الفلاسفة ، وإنما غلظت وشدد أمرها عند البعث لئلا يتشوش أمر الوحي بسبب تخليط الكهنة. وفي قوله (كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) إشارة إلى أن الجنّ كانوا يجدون بعض المقاعد خالية عن الشهب والحرس والآن ملئت المقاعد كلها. التاسع (وَأَنَّا لا نَدْرِي) الآية. وفيه قولان: أحدهما لا ندري أن المقصود من منع الاستراق شر أريد بمن في الأرض أم خير وصلاح. وثانيهما لا نعلم أن المقصود من إرسال محمد الذي وقع المنع من الاستراق لأجله هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك المكذبون من الأمم السالفة ، أو أن يؤمنوا فيهتدوا ، وفيه اعتراف من الجن بأنهم لا يعلمون الغيب على الإطلاق. العاشر (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي قوم أدون حالا في الصلاح من المذكورين حذف الموصوف واكتفى بالصفة كما في قوله (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات: ١٦٤] وهذا القسم يشمل المقتصدين والصالحين. وقوله (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) بيان للقسمة المذكورة ، فالطرائق جمع الطريقة بمعنى السيرة والمذهب ، والقدد جمع قدة من قد كالقطعة من قطع أي كنا قبل الإسلام ذوي مذاهب متفرقة مختلفة أو على حذف المضاف أي كانت طرائقنا طرائق قدد ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. الحادي عشر (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي تيقنا وقد استعمل الظن الغالب مكان اليقين (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ

٣٧١

فِي الْأَرْضِ) إن أراد بنا أمر (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي هاربين أو بسبب الهرب إن طلبنا وفيه إقرار منهم بأن الله غالب على كل شيء. الثاني عشر (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) الآية. عنوا سماعهم القرآن وإيمانهم به. وقوله (فَلا يَخافُ) في تقدير مبتدأ أو خبر أي فهو لا يخاف وإلا قيل بالجزم وبدون الفاء ، والفائدة في هذا المساق تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة كأنه وقع فأخبر أنه لا يخاف ودلالة على أنه هو المختص بذلك دون غيره إذ يعلم من بناء الكلام على الضمير أن غيره خائف. وقوله (بَخْساً وَلا رَهَقاً) على حذف المضاف أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد ، وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون غير باخس ولا ظالما. ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة. الثالث عشر (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الجائرون عن طريق الحق بالكفر والعدوان وهو قريب من العاشر إلا أن في هذا النوع تفصيل جزاء الفريقين فذكر الإيعاد صريحا وفي الوعد اقتصر على ذكر سببه وهو تحري الرشد أي طلب الصواب المستتبع للثواب. قال المبرد: أصل التحري من قولهم ذلك أحرى وأحق وأقرب. وقال أبو عبيدة: تحروا توخوا. وفي العدول عن الحقيقة إلى المجاز في جانب الوعد بشارة وإشارة إلى تحقيق الثواب لما عرفت مرارا أن المجاز أبلغ من الحقيقة. قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) معطوف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) كما مر ومعناه أوحى إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى. وجوز جمع من المفسرين أن يعود الضمير في (اسْتَقامُوا) إلى الأنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بهم لا بالجن ، ولأن الآية روي أنها نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين. وزعم القاضي أن الثقلين يدخلون في الآية لأنه أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة فوجب أن يعم الحكم بعموم العلة. وأما قول من يقول إن الضمير عائد إلى الجن فله معنيان: أحدهما لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع لأنه أصل البركات ، فتكون الآية نظير قوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) [المائدة: ٦٥] وثانيهما لو استقام الجن الذين استمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لو سعنا عليهم الرزق في الدنيا ليذهبوا بطيباتهم في الحياة الفانية (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا) [الزخرف: ٣٣] إلى آخره. وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان جاريان فيه بعينهما. وعن أبي مسلم: إن المراد بالماء الغدق جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الجنة. واحتجاج الأشاعرة بقوله

٣٧٢

(لِنَفْتِنَهُمْ) على أنه سبحانه هو الذي يضل عباده ويوقعهم في الفتن والمحن. والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هنا بمعنى الاختبار كقوله (لِيَبْلُوَكُمْ) [الملك: ٢] ثم بين وعيد المعرضين عن عبادة الله ووحيه. وانتصب (عَذاباً صَعَداً) على حذف الجار أي في عذاب صعد كقوله (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر: ٤٢] أو على تضمين معنى الإدخال. والصعد مصدر بمعنى الصعود ، ووصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن (صَعَداً) جبل في جهنم من صخرة ملساء يكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، وإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف الصعود مرة أخرى ، وهكذا أبدا ومن جملة الوحي قوله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ذهب الخليل إلى أن الجار محذوف ومتعلقه ما بعده أي ولأجل أن المساجد لله خاصة (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فيها عن الحسن عني بالمساجد الأرض كلها لأنها جعلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجدا وهو مناسب لمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المقام أي كما أنه مفضل على الأنبياء ببعثه إلى الثقلين فكذلك خص بهذا المعجز الآخر. وقال جمع كثير من المفسرين: إنها كل موضع بني للصلاة ويشمل مساجدنا والبيع والكنائس أيضا. قال قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله فأمرنا بالإخلاص والتوحيد. وعن الحسن أيضا أن المساجد جمع مسجد بالفتح فيكون مصدرا بمعنى السجود. وعلى هذا قال سعيد بن جبير: المضاف محذوف أي مواضع السجود من الجسد لله وهي الآراب السبعة: الوجه والكفان والركبتان والقدمان. وقال عطاء عن ابن عباس: هي مكة بجميع ما فيها من المساجد ، وأنها قبة الدنيا فكل أحد يسجد إليها. قال الحسن: من السنة أن الرجل إذا دخل المسجد أن يقول «لا إله إلا الله» لأن قوله (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) في ضمنه أمر بذكر الله بدعائه. قوله (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) هو النبي باتفاق المفسرين. ثم قال الواحدي: ذا من كلام الجن لأن الرسول لا يليق به أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة. ولا يخفى ضعفه فإنه وارد على طريق التواضع والأدب في الافتخار بالانتساب إلى عبودية المعبود الحق ، وهذا طريق مسلوك في المحاورات والمكاتبات. يقولون: عبدك كذا وكذا دون أن يقال «فعلت كذا». وفي تخصيص هذا اللفظ بالمقام دون الرسول والنبي نكتة أخرى لطيفة هي أن ما قبله النهي عن عبادة غير الله وما بعده ذكر عبادة النبي إياه. فإن كان هذا من جملة الوحي فلا إشكال في النسق ، وإن كان من كلام الجن وفرض أن ما قبل قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) أيضا من كلامهم كانت الآيتان المتوسطتان كالاعتراض بين طائفتي كلام الجن. ومناسبة الاستقامة على الطريقة وتخصيص المساجد بعبادة الله وحده لما قبلها ظاهرة فلا

٣٧٣

اعتراض على هذا الاعتراض. وفي قوله (كادُوا) ثلاثة أوجه أظهرها أن الضمير للجن ، والقيام قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته متزاحمين عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه. والثاني أن الضمير للمشركين والمعنى لما قام رسولا يعبد الله وحده مخالفا للمشركين كاد المشركون لتظاهرهم عليه يزدحمون على عداوته ودفعه. والثالث قول قتادة أي لما قام عبد الله تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. و (لِبَداً) جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد. والتركيب يدور على الاجتماع ومنه اللبد. ومن قرأ (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا) فظاهر وهو أمر من الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لأمته المتظاهرين أو للجن هذا الكلام. ومن قرأ على المضي فإخبار من الله تعالى أن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمتظاهرين أو للجن عند ازدحامهم: ليس ما ترون من عبادتي ربي بأمر بديع وإنما يتعجب ممن يدعو غير الله وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام الجن لقومهم حكاية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم أمر أن يخبر أمته بكلمات قاطعة للأسباب والوسائل سوى الإيمان والعمل الصالح. والرشد بمعنى النفع ، والضر بمعنى الغي ، وكل منهما إمارة على ضده. ثم من هاهنا إلى قوله (إِلَّا بَلاغاً) اعتراض أكد به نفي الاستطاعة وإثبات العجز على معنى أن الله إن أراد به سوأ لن يخلصه منه أحد ولن يجد من غير الله ملاذا ينحرف إليه. والمقصود أني لا أملك شيئا إلا البلاغ الكائن من الله ورسالاته ، فالجار صفة لا صلة لأن التبليغ إنما يعدى بـ «عن» قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلغوا عني ولو آية» قال الزجاج: انتصب (بَلاغاً) على البدل أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به. قلت: على هذا جاز أن يكون استثناء منقطعا. وقيل: أن لا أبلغ بلاغا لم أجد ملتحدا كقولك «أن لا قياما فقعودا». استدل جمهور المعتزلة بقوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) الآية. على أن الفساق من أهل القبلة مخلدون في النار ، ولا يمكن حمل الخلود على المكث الطويل لاقترانه بقوله (أَبَداً) وأجيب بأن الحديث في التبليغ عن الله فلم لا يجوز أن تكون هذه القرينة مخصصة؟ أي ومن يعص الله في تبليغ رسالته وأداء وحيه ، ومما يقوي هذه القرينة أن سائر عمومات الوعيد لم يقرن بها لفظ (أَبَداً) فلا بد لتخصيص المقام بها من فائدة وما هي إلا أن التقصير في التبليغ أعظم الذنوب. وقد يجاب أيضا بأن قوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) لا يحتمل أن يجري على عمومه كأن يراد ومن يعص الله بجميع أنواع المعاصي. فمن المحال أن يقول شخص واحد بالتجسيم وبالتعطيل ، وإذا صار هذا العام مخصصا بدليل العقل فلم لا يجوز أن يتطرق إليه تخصيص آخر كأن يقال: ومن يعص الله بالكفر. وحينئذ لا يبقى للخصم شبهة بل نقول: لا حاجة إلى التزام تخصيص آخر ، فإن الآتي بالكفر

٣٧٤

آت بجميع المعاصي الممكنة الجمع. قال جار الله: (حَتَّى إِذا) متعلق بقوله (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي يتظاهرون عليه بالعداوة إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة حين يعلم يقينا أن الكافر أضعف الفريقين. وجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار واستقلالهم لعدده كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا. ثم أمره بأن يفوّض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب و (مِنْ رَسُولٍ) بيان (لِمَنِ ارْتَضى) وفيه أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه ، وعلم الكهنة والمنجمين ظن وتخمين فلا يدخل فيه ، وعلم الأولياء إلهامي لا يقوى قوة علم الأنبياء كنور القمر بالنسبة إلى ضياء الشمس. وهاهنا أسرار لا أحب إظهارها فلنرجع إلى التفسير. قوله (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) الأكثرون على أن الضمير لله سبحانه. وسلك بمعنى أسلك. (رَصَداً) مفعول أي يدخل الله من أمام المرتضى وورائه حفظة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. وفي الكلام إضمار التقدير. إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ثم يسلك. وقيل: الضمير للمرتضى وسلك بمعنى سار وفاعله الملائكة و (رَصَداً) حال. قال في الكواشي: ثم بين غاية الإظهار والسلك فقال (لِيَعْلَمَ) أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص ، ومثل هذا التركيب قد مر مرارا. قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن قد أبلغ جبرائيل ومن معه من الملائكة الوحي بلا تحريف وتغيير. وقوله (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) مع قوله (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) كقوله (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ) من الحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى. ثم ما ذكرنا وهو أن المراد بالعلم هو الظهور بقوله (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) من الحكم والشرائع أي وقد أحاط قبل به. ثم عمم العلم فقال (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) من ورق الأشجار وزبد البحار وقطر الأمطار. و (عَدَداً) مصدر في معنى الإحصاء أو حال أي ضبط كل شيء معدودا محصورا أو تمييز والله أعلم.

٣٧٥

(سورة المزمل مكية

غير آية (إِنَّ رَبَّكَ)

حروفها ثمانمائة وثمانية وثمانون

كلماتها مائتان وثمان وخمسون

آياتها عشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

القراآت: (أَوِ انْقُصْ) بكسر الواو للساكنين: حمزة وعاصم وسهل. الآخرون: بضمها للإتباع ناشية بالياء: يزيد والشموني والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون. بالهمزة وطأ بكسر الواو وسكون الطاء: ابن عامر وأبو عمرو. الآخرون: بالمد مصدر واطأت مواطأة ووطاء رب المشرق بالخفض على البدل من (رَبِّكَ) ابن عامر ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: بالرفع على المدح أي هورب. (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب فيهما: عاصم وحمزة وعلى وابن كثير وخلف.

الوقوف (الْمُزَّمِّلُ) ه لا (إِلَّا قَلِيلاً) ه لا (قَلِيلاً) ه لا (تَرْتِيلاً) ه (ثَقِيلاً) ه

٣٧٦

(قِيلاً) ه ط (طَوِيلاً) ه ط (تَبْتِيلاً) ه ط بالخفض لا يقف (وَكِيلاً) ه (جَمِيلاً) ه م (قَلِيلاً) ه (وَجَحِيماً) ه لا (أَلِيماً) ه وقد قيل يوصل بناء على أن يوم ظرف لدينا والوقف أجوز لأن ثبوت إلا نكال لا يختص بذلك اليوم بل المراد ذكر يوم كذا أو يوم كذا ترون ما ترون. (مَهِيلاً) ه (رَسُولاً) ه (وَبِيلاً) ه (شِيباً) ه لا بناء على أن ما بعده صفة يوما (بِهِ) ط (مَفْعُولاً) ه (تَذْكِرَةٌ) ج للشرط مع الفاء (سَبِيلاً) ه (مَعَكَ) ط (وَالنَّهارَ) ه (الْقُرْآنِ) ط (مَرْضى) لا للعطف (مِنْ فَضْلِ اللهِ) لا لذلك (فِي سَبِيلِ اللهِ) ج لطول الكلام والوصل أولى للتكرار (فَاقْرَؤُا) ه (مِنْهُ) لا للعطف (حَسَناً) ط (أَجْراً) ط لاختلاف الجملتين (اللهُ) ط (رَحِيمٌ) ه

التفسير: (الْمُزَّمِّلُ) أصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها ، فأدغم التاء في الزاء ونحوه المدثر في المثر والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإتفاق إلا أنهم اختلفوا في سببه. فعن ابن عباس: أول ما جاءه جبرائيل عليه‌السلام خافه فظن أن به مسا من الجن فرجع من الجبل مرتعدا وقال: زملوني فبينا هو كذلك إذ جاءه الملك وناداه (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) فهذه السورة على هذا القول من أوائل ما نزل من القرآن قال الكلبي: إنما تزمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة فأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه. ومثله عن عائشة وقد سئلت عن تزمله فقالت: إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان تزمل مرطا سداه شعر ولحمته وبر طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي. وقيل: أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما بالليل متزملا في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة لأنها فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن فأمر بأن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل الموجب للاستثقال في النوم التشمر للعبادة ، وقال عكرمة: اشتقاقه من الزمل الحمل ومنه أزدمله أي احتمله ، والمعنى يا أيها الذي احتمل أمرا عظيما يريد أعباء النبوة ويناسبه التكليف بعده بقيام الليل. قال ابن عباس: إنه كان فريضة عليه بناء على ظاهر الأمر ثم نسخ. وقيل: كان واجبا عليه وعلى أمته في صدر الإسلام فكانوا على ذلك سنة أو عشر سنين ، ثم نسخ بالصلوات الخمس ، قال جار الله: قوله (نِصْفَهُ) بدل من الليل و (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من النصف كأنه قال: قم أقل من نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف ، خيره بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين: النقصان من النصف أو الزيادة عليه. وإن شئت جعلت (نِصْفَهُ) بدلا من (قَلِيلاً) لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل ، ولأن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن العهدة إلا بزيادة شيء فيصير الواجب بالحقيقة نصفا فشيئا فيكون الباقي أقل منه ، فكان تخييرا بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد

٣٧٧

عليه ، فلك أن تقول: على تقدير إبدال النصف من الليل إن الضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) راجع إلى الأقل من النصف فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص القليل أو أزيد منه قليلا فيكون التخيير فيما وراء النصف إلى الثلث مثلا ، وإن شئت على تقدير إبدال النصف من (قَلِيلاً) جعلت (قَلِيلاً) الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قال: أو انقص منه قليلا نصفه ويجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع كأنه قيل: أو زد عليه أي على الربع قليلا نصفه وهو الثمن فيكون تخييرا بين النصف وحده والربع والثمن معا والربع وحده ، هذا حاصل كلامه مع بعض الإيضاح. وأما في التفسير الكبير فقد اختار أن المراد بقوله (قَلِيلاً) الثلث لقوله تعالى في السورة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ) ففيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين إلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربما يتفق له خطأ بالاجتهاد أو النوم فينقص شيء منه إلى النصف أو إلى الثلث على قراءة الخفض. وليس هذا مما يقدح في العصمة لعسر هذا الضبط على البشر ولا سيما عند اشتغاله بالنوم ولذلك قال (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) فيصير تقدير الآية. قم الثلثين ثم نصف الليل. أو انقص من النصف ، أو زد عليه. والغرض التوسعة وأن أكثر الفرض هو الثلثان وأقله الثلث ليكون النقصان من النصف بقدر الزيادة. عن الكلبي قال: كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين. ثم علم أدب القراءة فقال (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) وهو قراءة على تأن وتثبت ولا تحصل إلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات ومنه «ثغر مرتل» إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير ، ومنه قال الليث: الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد كنور الأقحوان. سئلت عائشة عن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت: لا كسر دكم. هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. وفي قوله (تَرْتِيلاً) زيادة تأكيد في الإيجاب وأنه لا بد للقاريء منه لتقع قراءته عن حضور القلب وذكر المعاني فلا يكون كمن يعثر على كنز من الجواهر عن غفلة وعدم شعور. حين أمره بقيام الليل وبتدبر القرآن فيه وعده بقوله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) كأنه قال: صير نفسك بأنوار العبادة والتلاوة مستعدة لقبول الفيض الأعظم وهو القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة على نفوس البشر. وقيل: ثقله أنه كان إذا نزل عليه الوحي تربد جلده وارفض جبينه عرقا. ومنه قيل «برحاء الوحي». وقال الحسن: أراد ثقله في الميزان وقال أبو علي الفارسي: ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أستارهم وقال الفراء: كلام له وزن وموقع لأنه حكمة وبيان ليس بالسفساف وما لا يعبأ به. وقيل: باق على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن لا يزول عن حيزه. وقيل: يثقل إدراك معانيه وإحضارها. والفرق بين أقسامها من

٣٧٨

المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والظاهر والمؤل.

ثم عاد إلى حكمة الأمر بقيام الليل فقال (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) فيها قولان: أحدهما أنها ساعات الليل إما كلها لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد أخرى ، وإما الساعات الأول ما بين المغرب والعشاء وهو قول زين العابدين وسعيد بن جبير والضحاك والكسائي وذلك أنها مبادئ نشوء الليل. والثاني أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في الليل. وعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال: هي النفس الناشئة بالليل أي التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت. ومنهم من قال: هي مصدر كالعاقبة أي قيام الليل. ولا بد من سبق النوم لما روي عبيد بن عمير قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل أتقولين له قام ناشئة الليل؟ قالت: لا إنما الناشئة القيام بعد النوم. وقد فسرها بعض أهل المعنى بالواردات الروحانية والخواطر النورانية والانفعالات النفسانية للإبتهاج بعالم القدس وفراغ النفس من الشواغل الحسية التي تكون بالنهار. الوطاء والمواطأة الموافقة. قال الحسن: يعني النفس أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب أو اللسان لانقطاع رؤية الخلائق ، أو يواطيء فيها قلب القائم لسانه ، إن أردت الساعات ، أو القيام. ومن قرأ وطأ بغير فالمعنى أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ومنه قوله «اللهم أشدد وطأتك على مضر» (وَأَقْوَمُ قِيلاً) وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات وسكون الحركات فلا يكون بين القراءة وبين تفهم معانيها حائل ولا مشوش. قال في الكشاف: عن أنس إنه قرأ و «أصوب قيلا» فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي (أَقْوَمُ) فقال: إنهما واحد. قال ابن جني: وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ولا يلتفتون نحو الألفاظ. قال العلماء الراسخون: هذا النقل يوجب القدح في القرآن فالواجب أن يحمل النقل لو صح على أنه فسر أحد اللفظين بالآخر لا أنه زعم أن تغيير لفظ القرآن جائز. ثم أكد أمر قيام الليل بقوله (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) قال المبرد: أي تصرفا وتقلبا في مهماتك فلا تفرغ لخدمة الله إلا بالليل ومنه السابح لتقلبه بيديه ورجليه. وقال الزجاج: أراد أن ما فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه. وقيل: أن لك في النهار مجالا للنوم والاستراحة وللتصرف في الحوائج. ثم بين أن أشرف الأعمال عند قيام الليل ما هو فصله في شيئين ذكر اسم الرب والتبتل إليه وهو الانقطاع إلى الله بالكلية والتبتل القطع ، الأول مقام السالك والثاني مقام المشاهد. فالأول كالأثر والثاني كالعين وإنما لم يقل وبتل نفسك إليه تبتيلا لأن المقصود بالذات هو التبتل فبين أولا ما هو المقصود ثم أشار أخيرا إلى سببه تأكيدا مع رعاية الفاصلة. ثم أشار إلى الباعث إلى التبتل فقال (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)

٣٧٩

لأن التكميل والإحسان موجب المحبة وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها والمحبة تقتضي الإقبال على المحبوب بالكلية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهو إشارة إلى كماله تعالى في ذاته والكمال محبوب لذاته ، وهذا منتهى مقامات الطالبين وإنه يستدعي رفع الإختيار من البين وتفويض الأمر بالكلية إلى المحبوب الحقيقي حتى أن المحبوب لو كان رضاه في عدم التبتل إليه رضي المحب بذلك ، وإن كان رضاه في التبتل والتوجه نحوه فهو المطلوب لا من حيث إنه تبتل بل من حيث إنه مراد المحبوب الحق جل ذكره. وقوله (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) كالنتيجة لما قبله ، وفيه إن من لم يفوض كل الأمور إليه لم يكن راضيا بإلهيته معترفا بربوبيته ، وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين. ثم أمره بالصبر عند الاختلاط وبالهجر الجميل إذا أراد أن لا يخالطهم. والهجر الجميل أن يخالفهم بقلبه ويداريهم بالإغضاء وترك المكافآت ومن المفسرين من قال: إنه منسوخ بآية القتال وقد عرفت مرارا أنه لا ضرورة إلى التزام النسخ. في أمثال هذه الآية. ثم أمره بأن يخلي بينه وبين المكذبين أصحاب الترفه. والنعمة بالفتح التنعم وهم صناديد قريش ولم يكن هناك منع ولكنه سبحانه أجرى الكلام على عادة المحاورات ، والغرض أنه سبحانه يكفي في رفع شرور الكفرة ودفع إيذائهم ثم فصل ما سيعذب به أهل التكذيب مما يضاد تنعمهم. والإنكال جمع نكل بالكسر أو نكل بالضم وهي القيود الثقال. عن الشعبي: إذا ارتفعوا استلفت بهم. والطعام ذو الغصة هو الذي ينشب في الحلق كالزقوم والضريع فلا ينساغ ، وقد يمكن حمل هذه الأمور على العقوبات الروحانية فالإنكال عبارة عن بقاء النفس في قيود العلائق الحسية والملكات الوهمية ، والجحيم نيران الحسرة والحيرة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق الجلال والبقاء في ظلمة الضلال والتنوين في هذه الألفاظ للتعظيم أو النوع. ثم وصف اليوم فيه هذه الأحوال والأهوال فقال (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) الرجفة الزلزلة والكثيب الرمل المجتمع «فعلي» «بمعنى» «مفعول» من كثب الشيء جمعه. وقال الليث. الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به. وسمي الكثيب كثيبا لأن ترابه دقاق كأنه نثر بعضه على بعض لرخاوته ، والمهيل السائل تراب مهيل ومهيول أي مصبوب وإنما لم يقل كثيبة مهيلة لأنها بأسرها تجتمع فتصير واحدا ، أو المراد كل واحد منها ، وحين خوف المكذبين بأهوال الآخرة خوفهم بأهوال الدنيا مثل ما جرى على الأمم السالفة لا سيما فرعون وجنوده. وإنما خصص قصة موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم الباقية ومعجزاته أبهر فكان تشبيه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحاله أنسب. ومعنى (شاهِداً عَلَيْكُمْ) كما مر في قوله (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: ١٤٣] إنما عرّف الرسول ثانيا لأنه ينصرف إلى المعهود

٣٨٠