تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٦

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٦

المتلبس بثوب أطمار. وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وكفى به وعيدا. ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله (أَفَمَنْ يُلْقى) إلخ. وقوله (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لآمنا أو ليأتي. ثم هددهم بقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) إلخ. ثم أبدل من قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه ، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله (لا يَخْفَوْنَ) وإنه كلام مستأنف. وعلى هذا فاختلفوا في خبر «إن». فالأكثرون على أنه (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر. وقيل: خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك. وقيل: هو محذوف. ثم اختلفوا فقال قوم: إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم. وقال آخرون: هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك ، وهذا يمكن تقديره بعد قوله (لَمَّا جاءَهُمْ) وبعد قوله (مِنْ خَلْفِهِ) وبعد قوله (حَمِيدٍ) والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب ، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته. ثم أكد هذا الوصف بقوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قال جار الله: وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء. وقيل: أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه. وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعما منه أن النسخ نوع من البطلان ، ولا يخفي ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته. (تَنْزِيلٌ) أي هو منزل (مِنْ) إله (حَكِيمٍ) في جميع أفعاله (حَمِيدٍ) إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه. ثم سلى نبيه عليه‌السلام بقوله (ما يُقالُ لَكَ) وفيه وجهان: أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم. (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) للمحقين (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) للمبطلين ، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه. وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم. ويجوز أن يكون المقول هو قوله (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ) فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه. كانوا يقولون: لو لا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتا منهم فأجابهم الله بقوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا) معترضين منكرين (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بينت بلسان نفهمه. أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب ، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن ، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول: وقد

٦١

رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل. ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي ، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربيا أو أعجميا. وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) فإن القرآن إذا كان بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) لداء الجهل (وَالَّذِينَ) أي وللذين (لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين ، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه. وقرأ والذين لا يؤمنون به إلخ. والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي. ثم أكد هذا المعنى بقوله (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع ، وإن سمع لم يفهم. ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته. والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ. ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحدا ثم كان لسائل أن يسأل: متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال (إِلَيْهِ) لا إلى غيره (يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سأل عنها. قيل: لا يعلمها إلا هو. ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه. والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة. ثم ذكر من أحوال القيامة طرفا آخر فقال (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مرارا (قالُوا آذَنَّاكَ) قال ابن عباس: أي أسمعناك من أذن بالكسر أذنا بالفتح إذا استمع. وقال الكلبي: أعلمناك قال الإمام فخر الدين الرازي: هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علما واجبا ، فالإعلام في حقه محال. قلت: لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتا في علمك القديم أنا سنقوله كقوله (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا) [آل عمران: ١٤٢] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر. وقولهم (آذَنَّاكَ) ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ. ومعنى (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عيانا أنه لا شريك لك. أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما

٦٢

أضيف إليها من الشركة. ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع ، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا. ومعنى (يَدْعُونَ) يعبدون. والظن بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب. وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم ، بين أن الكفار تبدله في حالاته كلي أو أكثري. ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال ، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار ، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث ، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائسا أمر الآخرة على أمر الدنيا ، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الآية: ٣٦] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله (فَلَنُنَبِّئَنَ) وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي تعظم وتجبر. وقد سلف في «سبحان». واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه ، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضا وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب. فإن قيل: كيف قال أولا (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) ثم قال (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)؟ قلنا: أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان ، أو قنوط من الصنم دعاء الله ، أو الأول في قوم والثاني في آخرين.

ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) الآية. وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت: ٥] (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحا وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي. وقوله (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بيانا لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف. وأقول: جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلا فمن أضل منكم. وإنما قال في الأحقاف (وَكَفَرْتُمْ) [الآية: ١٠] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول «ثم» مع أنها تفيد التراخي في الرتبة ، وهناك عطف عليه قوله (وَشَهِدَ شاهِدٌ) فلم يحسن إلا الواو. ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة. (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ) أي محمدا أو

٦٣

القرآن أو الدين (الْحَقُ) ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقا دل على صدق المخبر بل إعجازه. وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء. وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه. ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، وإنما يوقف عليها حينا بعد حين. وقد أكثر الله تعالى من تقرير تلك الدلائل في القرآن ، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات ، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: ٢١] وفي قوله (سَنُرِيهِمْ) دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله. قال جار الله: معنى قوله (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء. وقال حكماء الإسلام: أراد بقوله (أَوَلَمْ يَكْفِ) توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود ، فإن هذا هو طريقة الصديقين ، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق. وقال أهل المعرفة: النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله (أَوَلَمْ يَكْفِ) لخواص الخواص. وقيل: أو لم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيدا عليهم. وقيل: أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها. ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلا على حسب ما يستحقه والله أعلم.

٦٤

(سورة حمعسق وهي مكية إلا أربع آيات (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) إلى آخرهن

حروفها ثلاثة آلاف وثمانية وثمانون كلمها ثمانمائة وست وستون آياتها ثلاث وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ

٦٥

وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

القراآت: يوحي على البناء للمفعول: ابن كثير وعباس يكاد بالياء التحتانية: نافع وعلي تنفطرن بالنون: أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد والمفضل إبراهام كنظائره. يبشر الله مخففا من البشارة: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي.

الوقوف: (حم عسق) كوفي (مِنْ قَبْلِكَ) ط لمن قرأ يوحى مجهولا كأنه قيل: من الموحي فقال الله أي هو الله (الْحَكِيمُ) ه (فِي الْأَرْضِ) ط (الْعَظِيمُ) ه (لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ط (الرَّحِيمُ) ه (عَلَيْهِمْ) ز والوصل أوجه لأن نفي ما بعده تقرير لإثبات ما قبله (بِوَكِيلٍ) ه (لا رَيْبَ فِيهِ) ط (السَّعِيرِ) ه (رَحْمَتِهِ) ط (نَصِيرٍ) ه (أَوْلِياءَ) ج للفصل بين الاستخبار والأخبار مع دخول الفاء (الْمَوْتى) ط فصلا بين المقدور المخصوص وبين القدرة على العموم مع اتفاق الجملتين (قَدِيرٌ) ه (إِلَى اللهِ) ط (أُنِيبُ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (أَزْواجاً) الثاني ط لأن ضمير (فِيهِ) يحتمل أن يعود إلى الأزواج الذي في مدلول الأزواج أو إلى التدبير وإن لم يسبق ذكره (فِيهِ) ط (شَيْءٌ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (الْبَصِيرُ) ه (وَالْأَرْضِ) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال والعامل معنى الفعل في له أو في الملك. (وَيَقْدِرُ) ط (عَلِيمٌ) ه (فِيهِ) ط (إِلَيْهِ) ط (يُنِيبُ) ه (بَيْنَهُمْ) ط كذلك ما بعده ط (مُرِيبٍ) ه (فَادْعُ) ج (كَما أُمِرْتَ) ج (أَهْواءَهُمْ) ج (كِتابٍ) ج كل ذلك للترتيل في القراءة وإن اتفقت الجملتان (بَيْنَكُمُ) ط (وَرَبُّكُمْ) ط (أَعْمالُكُمْ) ط (وَبَيْنَكُمُ) ط (بَيْنَنا) ج (الْمَصِيرُ) ه (شَدِيدٌ) ه (وَالْمِيزانَ) ط (قَرِيبٌ) ه (بِهَا) ج لعطف الجملتين المختلفتين (مِنْها) ج للعطف أو الحال (الْحَقُ)

٦٦

ط (بَعِيدٍ) ه (مَنْ يَشاءُ) ج لاحتمال عطف وهو على جملة قوله (اللهُ لَطِيفٌ) وهما متفقتان (الْعَزِيزُ) ه (فِي حَرْثِهِ) ج لعطف جملتي الشرط (نَصِيبٍ) ه (بِهِ اللهُ) ط (بَيْنَهُمْ) ط (أَلِيمٌ) ه (بِهِمْ) ط (الْجَنَّاتِ) ط لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال (رَبِّهِمْ) ط (الْكَبِيرُ) ه (الصَّالِحاتِ) ط (فِي الْقُرْبى) ط (حُسْناً) ط (شَكُورٌ) ه.

التفسير: الكلام في (حم) كما سبق وأما (عسق) فقد قيل: إنه مع (حم) اسم للسورة. وقيل: رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها. وقيل: الحاء حكم الله ، والميم ملكه ، والعين علمه ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته. وقيل: الحاء حرب علي ومعاوية ، والميم ولاية المروانية ، والعين ولاية العباسية ، والسين ولاية السفيانية ، والقاف قدرة المهدي. وهذه الأقاويل مما لا معول عليها. وقال أهل التصوف: حاء حبه ، وميم محبوبية محمد ، وعين عشقه ، وقاف قربه إلى سيده. أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات. والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح. وإنما فصل (حم) من (عسق) حتى عدا آيتين خلاف (كهيعص) [مريم: ١] لتقدم (حم) قبله واستقلالها بنفسها ، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحا إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب. روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه (حم عسق) والله أعلم بصحة هذه الرواية. والأظهر أن يقال: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك والى الأنبياء قبلك. والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى: ١٨ ، ١٩] وفي ورود لفظ (يُوحِي) مستقبلا لا ماضيا إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته. ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلخ. ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) وقد سبق في آخر سورة مريم. ومعنى (مِنْ فَوْقِهِنَ) أن الانفطار يبتدىء من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي ، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل. قال جار الله: كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. وقيل: معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل: السماء فوقنا. وقيل: الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس: يتفطرن من ثقل الرحمن. فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة. ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافا محذوفا أي من ثقل ملائكة الرحمن

٦٧

كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أطت السماء أطا وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.» (١) ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات ، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون وبالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال (وَالْمَلائِكَةُ) قيل: هو عام. وقيل: حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم هاهنا فقال (لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يطلبون أم لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعا في توبة الكفار والفساق منهم. وقيل: هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم. ثم سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ. قوله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) قال ابن بحر: هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض. وقال جار الله: الكاف مفعول به لأوحينا ، (وَكَذلِكَ) إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب. وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع. و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال. والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار. ويجوز أن يكون (كَذلِكَ) إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك ، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر. قال أهل اللغة: يقال أنذرته كذا وبكذا. فمن الاستعمال الثاني قوله (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي أهل مكة على حذف المضاف ، والمفعول الثاني وهو القرآن محذوف. ومن الاستعمال الأول قوله (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوما تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله. قلت: ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا ان قوله (وَتُنْذِرَ) يكون مكررا للمبالغة والتقدير الأصلي: لتنذر أم القرى يوم الجمع. وقد مر في القصص في قوله (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) [الآية: ٥٩] أن مكة لم سميت أم القرى. وقوله (وَمَنْ حَوْلَها) يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها ، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ: ٢٨] وقوله (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة. وقوله (فَرِيقٌ) مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا ، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع.

ثم بين بقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ) إلخ. أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٩ ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٩ أحمد في مسنده (٥ / ١٧٣)

٦٨

بمشيئته وإرادته. وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر ، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء ، وقد مر نظائره مرارا. والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم. وقيل: أن يكونوا أهل ضلالة قياسا على قوله (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الزخرف: ٣٣] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلا (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) إن أرادوا أولياء بحق (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه (يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو الحقيق بأن يتخذ وليا. وحين منع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) والتقدير: قل يا محمد كذا بدليل قوله (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) الآية. والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين. وقيل: وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: ٥٩] وقيل: وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة. وقيل: ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح وغيره. قال في الكشاف: ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت: إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده. وقوله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ومثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه ، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد. فإن قيل: المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد. قلنا: إذا كان القياس مأمورا به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيبا ، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال «اختلاف أمتي رحمة» ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيدا لصحة أحكامه فقال (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أنه خلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل. والضمير في (يَذْرَؤُكُمْ) راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين ، وذلك أن فبه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة ، وتغليب العقلاء على غيرهم. وعلة الأول الخطاب ، وعلة الثاني العقل. وإنما قال (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعا ومعدنا للتكثير كقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة: ١٧٩] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى

٦٩

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب ، ولعل هذا التقرير مختص بنا. قال في الكشاف: إنه من باب الكناية كقولهم: مثلك لا يبخل. يعنون أنت لا تبخل. وكذا هاهنا يريد ليس كالله شيء. وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد. وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية. قوله (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له مفاتيح خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضا. وحين عظم وحيه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال (شَرَعَ لَكُمْ) أي أوجب وبين لأجلكم (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وهو أقدم الأديان بعد الطوفان (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو ختمها (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) وهي الملل المعتبرة المتوسطة. ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) الحنيفي ومحله نصب بدلا من مفعول (شَرَعَ) أو رفع على الاستئناف كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة: ٤٨] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في (أَوْحَيْنا) والخطاب في (إِلَيْكَ) تفخيم شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله. ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه. يقال: اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه ، والتركيب يدل على الجمع والضم ، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين. ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة نبوته كقوله في آل عمران (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [الآية: ١٩] وقيل: وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به. قال أهل البرهان: لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ليكون محدودا من الطرفين. وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) هم العرب ورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتابين كتابهم أوهم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل: جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها

٧٠

لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين (فَلِذلِكَ) أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم (فَادْعُ) إلى الملة الحنيفية. وقيل: اللام بمعنى «إلى» والإشارة إلى القرآن (وَاسْتَقِمْ) عليها كما أمرت (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ) أي (كِتابٍ) كان (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري. ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا) جزاء (أَعْمالُنا وَلَكُمْ) جزاء (أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف. وقيل: إنه منسوخ بآية القتال وقوله (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم. ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي من بعد ما استجاب له الناس وقبلوا دينه ، أو بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي باطلة زائلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا. وأيضا أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختلف فيها. والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضا. ثم حث على سلوك طريقة العدل حذرا من عقاب يوم القيامة فقال (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي جنسه متلبسا بالغرض الصحيح (وَالْمِيزانَ) أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان. وقيل: هو العقل. وقيل: الميزان نفسه وذلك في زمن نوح. وقيل: هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقضي بينهم بالكتاب (وَما يُدْرِيكَ) يا محمد أو أيها المكلف (لَعَلَّ السَّاعَةَ) أي مجيئها (قَرِيبٌ) أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه ، أو أراد شيء قريب. ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف. ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه. ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) يقولون على سبيل السخرية: متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال. ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالا له أو حذرا من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجا بالرجاء ، وقد مر تحقيقه مرارا. ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر

٧١

البعث بقوله (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) وأصله من المرية الشك (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه ، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة. ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) عمم البر ثم خصص بقوله (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) يعني الزائد على مقدار الضرورة ، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحدا منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه: ٥٠] وقيل: معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون ، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا. وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الآية: ١٠٣] وأما قوله (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره. وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) سماه حرثا تشبيها للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافا مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلبا للزيادة والنماء ، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافا مضاعفة ، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال (نُؤْتِهِ مِنْها) أي بعض ذلك (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئا من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة» (١) هذا لفظه أو لفظ هذا معناه. وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا. وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة. قال بعض أصحاب الشافعي: إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله ، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية ، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) وهي المنقطعة عند بعضهم. وقال آخرون: هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٣٠ ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٢ الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢ أحمد في مسنده (٤ / ١٨٣)

٧٢

من الدين أم لهم آلهة. (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) [يونس: ١٨] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بتأخير الجزاء (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء (تَرَى الظَّالِمِينَ) في القيامة (مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) من الجرائم (وَهُوَ) أي وبال ذلك (واقِعٌ بِهِمْ) واصل إليهم لا محالة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي منتزهاتها. قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا الذي آمن ولم يعمل صالحا وهو الفاسق. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات ، ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا. والفضل الكبير قد تقدم في «فاطر». (ذلِكَ) المذكور أو الثواب أو التبشير هو (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ) به (عِبادَهُ) ثم حذف الجار ، ثم الراجع إلى الموصول ، ثم أمر رسوله بأن يقول (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على هذا التبليغ (أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ) الكائنة (فِي الْقُرْبى) جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ولهذا لم يقل «مودة القربى» أو «المودة للقربى» وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم. فإن قيل: استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في «الشعراء». وقد جاء في حق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) [سبأ: ٤٧] و (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص: ٨٦] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة. وأيضا أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة. قلنا: إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه ، وأما الآخرون فمنهم من قال: الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

والمعنى لا أطلب منكم أجرا ، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجرا لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الرعد: ٢١] ومنهم من قال: الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجرا البتة ، ولكن أذكركم المودة في القربى ، وفي تفسير (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أربعة أقوال: الأول قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن

٧٣

ذلك فأجاب بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ. القول الثاني: روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم ، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا. ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم. القول الثالث: عن الحسن: إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح. الرابع: عن سعيد بن جبير: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما. ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام ، ويؤيده ما روي أن عليا رضي‌الله‌عنه شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسد الناس فيه فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» وكان يقول «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» (١) وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب عليا والحسن والحسين ، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: ١٥٣] وكفى شرفا لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفخرا ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة. قال بعض المذكرين: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فنحن نركب سفينة حب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة. ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب طاعة ، قال بعض أهل اللغة: الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره هاهنا للخير. عن السدي أنها المودة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم ، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصدا أوليا لذكرها عقيبها. ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أذنب (شَكُورٌ) لمن أطاع الله والله أعلم.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب ١٢ ، ١٦ مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٩٣ ، ٩٤ أبو داود في كتاب النكاح باب ١٢ الترمذي في كتاب المناقب باب ٦٠ ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٦ أحمد في مسنده (٤ / ٥ ، ٣٢٦)

٧٤

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ

٧٥

قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

القراآت: (ما تَفْعَلُونَ) على الخطاب: حمزة وعلي وحفص (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) بالتشديد: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم ينزل بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بما كسبت بدون فاء الجزاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون (فَبِما كَسَبَتْ) بالفاء الجواري بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. وقرأ قتيبة ونصير وأبو عمرو بالإمالة. الرياح نافع. على الجمع: أبو جعفر ونافع. ويعلم الذين بالرفع: ابن عامر وأبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب كبير الإثم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف. أو يرسل بالرفع (فَيُوحِيَ) بالإسكان: نافع وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بالنصب فيهما.

الوقوف: (كَذِباً) ج للشرط مع فاء التعقيب (قَلْبِكَ) ط لأن ما بعده مستأنف (بِكَلِماتِهِ) ط (الصُّدُورِ) ه (تَفْعَلُونَ) ه لا (فَضْلِهِ) ط (شَدِيدٌ) ه (يَشاءُ) ط (بَصِيرٌ) ه (رَحْمَتَهُ) ط (الْحَمِيدُ) ه (دابَّةٍ) ط (قَدِيرٌ) ه (كَثِيرٍ) ه (فِي الْأَرْضِ) ط (وَلا نَصِيرٍ) ه (كَالْأَعْلامِ) ه ط (عَلى ظَهْرِهِ) ط (شَكُورٍ) ه لا (كَثِيرٍ) ه لا لمن رفع (وَيَعْلَمَ) ومن نصب فوقفه مجوز (آياتِنا) ط (مَحِيصٍ) ه (الدُّنْيا) ج لعطف جملتي الشرط ، ويحتمل أن يكون الوقف مطلقا بناء على أن الثانية أخبار مستأنف (يَتَوَكَّلُونَ) ه ط (يَغْفِرُونَ) ه ج (الصَّلاةَ) ص لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد المقول (بَيْنَهُمْ) ص لذلك (يُنْفِقُونَ) ه ج (يَنْتَصِرُونَ) ه (مِثْلُها) ج (عَلَى اللهِ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (سَبِيلٍ) ه ط (الْحَقِ) ط (أَلِيمٌ) ه (الْأُمُورِ) ه (بَعْدِهِ) ط (مِنْ سَبِيلٍ) ه ج للآية مع العطف (خَفِيٍ) ط (الْقِيامَةِ) ط (مُقِيمٍ) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) ط (سَبِيلٍ) ط (مِنَ اللهِ) ط (نَكِيرٍ) ه (حَفِيظاً) ط (الْبَلاغُ) ط (بِها) ج (كَفُورٌ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (ما يَشاءُ) ط (الذُّكُورَ) ه لا (وَإِناثاً) ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف أي وهو يجعل (عَقِيماً) ه (قَدِيرٌ) ه (ما يَشاءُ) ط (حَكِيمٌ) ه (أَمْرِنا) ط (عِبادِنا) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (الْأُمُورُ) ه.

التفسير: لما ذكر في أول السورة أن هذا القرآن إنما حصل بوحي الله وانجر الكلام

٧٦

إلى هاهنا حكى شبهة القوم وهي زعمهم أنه مفترى وليس بوحي فقال (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى) قال جار الله: «أم» منقطعة ، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل: أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى أعظم أنواع الفرية وهو الافتراء على الله ، ثم أجابهم بقوله (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم. والغرض المبالغة في استبعاد الافتراء من مثله والتعريض بأن من ينسبه إلى الافتراء فهو مختوم على قلبه. وقيل: لأنساك ما أتاك من القرآن ولكنه لم يشأ فأثبته فيه ، وقيل: لأماتك فإن قلب الميت كالمختوم عليه ومثله (لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة: ٤٦] قاله قتادة. وقال مجاهد ومقاتل: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يدخل قلبك حزن مما قالوه. ثم استأنف فقال (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي من عادته ذلك فلو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبطلا لفضحه وكشف عن باطله ، وحذف الواو من الخط لا للجزم كما في قوله (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) [الإسراء: ١١] (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق: ١٨] وفي تفسير الجبائي أن الواو حذف للجزم ، والمعنى إن افتريت ختم على قلبك ومحا الباطل المفترى ، فالاستئناف على هذا من قوله (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) [يونس: ٨٢] أي يثبت ما هو الحق في نفسه بوحيه أو بقضائه. ويجوز أن يكون وعدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويظهر الحق الذي أنت عليه وهو القرآن بحكمه السابق وبعلمه القديم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيجازي المبطل والمحق على حسب حاليهما وحين وبخهم على البهت والتكذيب ندبهم إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء والآية واضحة مما سلف تارات ولا سيما في أوائل البقرة في توبة آدم. أما الضمير في قوله (وَيَسْتَجِيبُ) فعائد إلى الله سبحانه وأصله ويستجيب لهم فحذف الجار ، والمراد أنه إذا دعوه استجاب لهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم تفضلا. وقيل: لا ضمير فيه وإنما الظاهر بعده فاعله. قال سعيد بن جبير: أراد أن المؤمنين يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم رضي‌الله‌عنه أنه قيل: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه وقرأ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) [يونس: ٢٥] وحيث وعد الاستجابة للمؤمنين كان لسائل أن يقول: إنا نرى المؤمن في شدة وبلية وفقر ثم إنه يدعو الله فلا يشاهد أثر الإجابة فلا جرم قال (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي ظلم بعضهم بعضا وعصوا الله. وهذه ليست بقضية كلية دائمة ولكنها أكثرية ، فإن المال معين قوي على تحصيل المطالب ودفع ما لا يلائم النفس ، وإذا كانت الآلة موجودة وداعية الشر في طبع الإنسان مجبولة فقلما لا يقع مقتضاه في الخارج وأيضا إن أكثر الناس إنما يخدم مثله ويتسخره طمعا في ماله أو جاهه التابع للمال غالبا ، فلو تساويا

٧٧

في المال استنكف كل منهما من الانقياد لصاحبه فارتفعت رابطة التعاون وانقطعت سلسلة التمدن ، وقيل: إن الآية نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وأغار بعضهم على بعض ولبعضهم شعر

قوم إذا نبت الربيع بأرضهم

نبتت عداوتهم مع البقل

وقال محمد بن جرير: نزلت في أصحاب الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى. وقوله (بِقَدَرٍ) أي على قدر المصلحة ووفق حال الشخص كقوله (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر: ٢١] وحين بين أن حكمته اقتضت عدم توسيع الرزق على كل الخلق أراد أن يبين أنه لا يترك ما يحتاجون إليه وإن بلغ أمرهم إلى حد اليأس والقنوط فقال (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) الآية. ونشر الرحمة عموم المطر الأرض أو هي عامة في كل رحمة سوى المطر (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى أمور عباده (الْحَمِيدُ) على كل ما يفعله. ولا ريب أن هذه من جملة دلائل القدرة فلذلك عطف عليها قوله (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومحل قوله (وَما بَثَ) إما مجرور عطفا على السموات أو مرفوع عطفا على خلق. وإنما قال (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) مع أن الدواب في الأرض وحدها لأن الشيء قد ينسب إلى جميع المذكور وإن كان متلبسا ببعضه كما يقال: «بنو فلان فعلوا كذا» ولعله قد فعله واحد منهم فقط. ويجوز أن يكون للملائكة مع الطيران مشى فيتصفوا بالدبيب كالإنسان ، أو يكون في السموات أنواع أخر من الخلائق يدبون كما يدب الحيوان في الأرض. (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أي إحيائهم بعد الموت (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) وإذا يدخل على الماضي ومعنى الاستقبال في (يَشاءُ) يعود إلى تعلق المشيئة لا إلى نفس المشيئة القديمة. ثم بين حال المكلفين وأن ما يصيبهم من ألم ومكروه وبلاء فهو عقوبة للمعاصي التي اكتسبوها ، وأن الله يعفو عن كثير من الذنوب أو الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة رحمة أو استدراجا. قال الحسن: أراد إقامة الحدود على المعاصي وأنه لم يجعل لبعض الذنوب حدا. وقيل: إن هذه في يوم القيامة فإن الدنيا دار تكليف لا دار جزاء. ولقائل أن يقول: كون الجزاء الأوفى على الإثم مخصوصا بالقيامة لا ينافي وصول بعض الجزاء إلى المكلف في الدنيا ، ولهذا قال علي رضي‌الله‌عنه: هذه أرجى آية للمؤمنين في كتاب الله. وذلك أنه تعالى قسم ذنوب المؤمنين صنفين: صنف يكفره عنهم بالمصائب ، وصنف يعفو وهو كريم لا يرجع في عفوه ، نعم لو عكست القضية وقيل ما كسبت أيديكم فإنه يصيبكم به ألم وعذاب في الدنيا لكان هذا منافيا لكون الجزاء في الآخرة ولحصول العفو أيضا. روي عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية فقال: ما عفا الله عنه. فهو أعز وأكرم من

٧٨

أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد عليه العذاب في الآخرة. قال أهل التناسخ: لو لا أن الأطفال والبهائم لهم حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة ما كانوا ليتألموا فإنهم لا ذنوب لهم الآن. وأجيب بالتزام أنهم لا يتألمون من المصائب والآلام وفيه بعد ، وبأن الخطاب في الآية لذوي العقول البالغين ، وبأنها في البالغين عقوبة أو زيادة درجة ، وفي الأطفال مثوبة لهم أو لوالديهم. ثم خاطب المشركين بقوله (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الآية ثم ذكر دليلا آخر قائلا ومن آياته الجواري أي السفن الجواري (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال في العظم. ولا شك أن جريانها بواسطة هبوب الرياح فلذلك قال (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي فيصرن واقفة على ظهر ماء البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على البلاء (شَكُورٍ) على الآلاء أو صبار في السفينة شكور إذا خرج منها (أَوْ) أن يشأ (يُوبِقْهُنَ) أي يهلك السفينة بما فيها بالغرق أو الكسر لعصوف الريح وغيره (بِما كَسَبُوا) من كفران نعم الله وعصيانه (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من الذنوب فلا يجازي عليها في الدنيا ولا في الآخرة. والحاصل أنه إن يشأ يسكن الريح فتبقى الجواري واقفة على متن البحر ، أو أن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. من رفع (وَيَعْلَمَ) فعلى الاستئناف ، ومن نصب فللعطف على تعليل محذوف أي لينتقم منهم ويعلم قاله في الكشاف. وقال الكوفيون ومنهم الزجاج: النصب بإضمار «أن» لأن قبلها جزاء. تقول: ما تصنع أصنع وأكرمك. ووجهه أن هذا في تأويل المصدر معطوف على مصدر أصنع مقدرا. ثم استأنف قوله (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لا مهرب للمجادلين عن عقابه. ثم رغب المكلفين عن الدنيا وفي الدنيا وفي الآخرة وقد مر نظيره في القصص إلا أنه ذكر هاهنا أن هذه الخيرية تحصل للموصوفين بصفات إحداها الإيمان ، والثانية التوكل على الرب ، والثالثة الاجتناب عن الكبائر والفواحش كقوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء: ٣١] (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) [الأعراف: ٣٣] ومن قرأ كبير على التوحيد فللجنس ، وفسره ابن عباس بالشرك ، الرابعة الغفران عند الغضب «وهم» تأكيد للضمير أو مبتدأ ما بعده خبره. قال بعض العلماء: يحتمل أن يراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع والعقائد الفاسدة وهي من فساد القوة العقلية ، وبالفواحش فساد القوة الشهوية ، وبالأخيرة ما يتعلق بالقوة الغضبية. قال المفسرون: نزل قوله (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) في الأنصار دعاهم الله ورسوله إلى التوحيد فأطاعوا ورضوا بقضائه وواظبوا على الصلوات الخمس ، وكانوا قبل الإسلام متشاورين في كل أمر دهمهم غير منفردين برأي ، والشورى مصدر كالفتيا ، والمضاف محذوف أي ذو التشاور. وليس بين

٧٩

قوله (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي ينتقمون وبين قوله (يَغْفِرُونَ) منافاة ، فإن هذه أخص من الأولى إذ البغي هو الذي يؤدي إلى الفساد ولا يصير عفوه سببا لتسكين ثائرة الفتنة ولرجوع الجاني عن جنايته ، ويجوز أن يتوجه المدح في الانتصار إلى كون المظلوم بحيث يراعي حد الشرع ولا يتجاوزه حتى لو زاد عليه لم يكن منتصرا ولا يستحق المدح ، فهذه خمس صفات أخرى للراغبين في الدار الآخرة. ثم بين أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) حتى لو قال أخزاه الله لا يزيد في الجواب عليه شيئا. وسمى الثاني سيئة ازدواجا للكلام أو لأن السيئة هي التي يكرهها الإنسان طبعا كالقصاص والقطع وسائر الحدود. وقد لا يمكن رعاية المماثلة كما في قتل الأنفس بنفس واحدة أو كقطع الأيدي بواحدة إذا تعاونوا على قطعها ذلك في الفقه. وإنما عرف ذلك بنص آخر أو بقياس جلي. ثم حث مع ذلك على العفو والصبر قائلا (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) ما بينه وبين خصمه بالإغضاء والعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فإن الانتصار حسن في نفسه ولا سيما إذا كان فيه مصلحة دينية كزجر وارتداع إلا أن العفو أحسن لأنه لا يكاد يؤمن في الانتصار والتجاوز عن حد الاعتدال ولهذا حذر منه بقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم فيقوم خلق فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله» ثم كرر أن الانتصار لا يؤاخذ به ولا سبيل للوم إليه لئلا يظن أن وعد الأجر على العفو يقتضي قبح الانتصار في نفسه فقال (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) الآية. وقوله (بَعْدَ ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول والباقي واضح إلى قوله (الْأُمُورِ) وإنما أدخل اللام في الخبر خلاف ما في لقمان لأن الصبر على المكروه الذي هو ظلم أشد من الصبر على الذي ليس بظلم ، وتكرير الحث على الصبر لمزيد التأكيد أيضا ، ثم ذكر أن الإضلال والهداية التي هي نقيضه إنما تتعلق بمشيئته. والمعتزلة يتأولون الإضلال بالخذلان أو بالإضلال عن طريق الجنة. ثم حكى أن الكفار عند معاينة عذاب النار يتمنون الرجعة إلى الدنيا ، ثم عقبه بذكر حالهم حين يعرضون على النار. الخشوع بمعنى الهوان ولهذا علق بقوله (مِنَ الذُّلِ) وقد يعلق بـ (يَنْظُرُونَ) أي لهذا السبب يبتدىء نظرهم من تحريك أجفانهم وهو ضعيف فإن الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ، وقد يفسر الطرف الخفي بمعنى البصيرة بناء على أن الكفار يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم والأكثرون أجابوا عنه فقالوا: لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عميا ، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم. ثم حكى قول المؤمنين فيهم و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لـ (خَسِرُوا) كما في «الزمر» فيحتمل أن

٨٠