الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

٢١

٢٢

٢٣

٢٤

الفوائد المدنية

الشواهد المكّية

٢٥
٢٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمّا بعد حمدا لله باعث النبيّين وناصب الأوصياء المعصومين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وعلى أصحاب سرّه وأبواب مدينة علمه الأئمّة الطاهرين المطهّرين الحافظين للدين.

فأقول : انّي بعد ما قرأت الأصوليين على معظم أصحابهما واستفدت حقائقهما ودقائقهما من كمّل أربابهما ، وتحمّلت الأحاديث المنقولة عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام من جلّ رواتها العارفين بحقائقها الواصلين إلى دقائقها وأخذت علم الفقه من أفواه جماعة من فقهاء أصحابنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ عرضت على تلك الأحاديث قواعد الأصوليين المسطورة في كتب اصول الخاصّة وكتب العامّة والمسائل

______________________________________________________

الشواهد المكّيّة :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله حمدا يليق بجلاله والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله.

ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب.

فأقول : إنّ الباعث على التعرّض لكلام هذا الفاضل في المؤلّف الّذي وسمه بالفوائد المدنيّة في الردّ على من قال بالاجتهاد والتقليد في الأحكام الإلهيّة ليس القصد فيه إلى الجدال والتعنّت أو إظهار الفضيلة ، فإنّا نعوذ بالله من تصوّر ذلك! فضلا عن وقوعه. ولو كان سلوكه فيما سلك بيان ما اعتقده أو ظنّه لم يكن لأحد عليه لوم ولا اعتراض ، لأنّ العلم كلّه في العالم كلّه ، وأيّ كلام لا يرد عليه كلام؟ وكم ترك الأوّل للآخر.

٢٧

الاجتهاديّة الفقهيّة فوجدتهما في مواضع لا تعدّ ولا تحصى مخالفتين لمتواتراتها ، فصرفت عمري دهرا طويلا في المدينة المنوّرة ـ على مشرّفيها ألف صلاة وسلام وتحيّة ـ في تنقيح الأحاديث وتحقيقها ، حتّى فتح الله تعالى عليّ أبواب الحقّ فيما يتعلّق بالاصولين وبالمسائل الفقهيّة وغيرهما ببركات مدينة العلم وأبوابها ،

______________________________________________________

لكنّه ـ عفى الله عنه ـ أساء الأدب وأفحش في حقّ العلماء الأجلّاء وعمدة الفضلاء الّذين هدوا الناس بتحقيقاتهم وشيّدوا معالم الدين بآثار تدقيقاتهم ، فتارة ينسبهم إلى الجهل وسوء الفهم ، وتارة إلى الغفلة وقلّة التدبّر ، وتارة إلى تخريب الدين واتّباع المخالفين ، حتّى أنّه يظهر من لوازم ما نسبهم إليه خروجهم عن الدين! والإقدام على مثل هذا لا يخفى قبحه وجهل مرتكبه على ذي دين قويم وعقل مستقيم ، حتّى أنّ المحقّق نجم الدين أبا القاسم ـ قدّس الله روحه ـ تكلّم على ابن إدريس رحمه‌الله وأزرى عليه غاية الإزراء ، حيث إنّه تعرّض للشيخ الطوسي ـ تغمّده الله بالرحمة والرضوان ـ في بعض المسائل وتكلّم بما فيه نوع من إساءة الأدب ، فحصل عند المحقّق من مزيد الإنكار والتعجّب من مثل هذا الإقدام ما حصل. فيا ليت شعري كيف لو كان يطّلع على مثل هذا الكلام من المؤلّف في هذا المصنّف!

فعلم أنّ الإقدام على مثل ذلك ما نشأ إلّا من زيادة الغرور بالاعتقاد في النفس زيادة الفضل والكمال والتميّز عن الغير ممّن تقدّم وتأخّر ، وهذا لا يصدر من أهل التقوى والصلاح وممّن يخاف الله في القدح في حقّ العلماء وهضم حالهم ونسبتهم إلى غير ما هو فيهم ، وهو أقبح قبيح في العقل فضلا عن الشرع! حتّى وصل رحمه‌الله في كثرة افتخاره ومدحه نفسه إلى التشبّث في ذلك بالمنامات الخياليّة والهذيانات القشريّة ، وبالغ في مدح نفسه بالمعرفة والتحقيق وعدم وصول أحد من العلماء إلى ما بلغه من التدقيق وأنّه اختصّ من الله ومن الأئمّة بما لم يحصل لأحد غيره وتعوّذ باعتقاد امور خارجة عمّا علم ضرورة من دين الشيعة ، لأنّها لم يسبق لأحد قبله القول بها ، بل بعضها ممّا اتّفق عليها المخالف والمؤالف وهي واضحة الفساد ، لكن ربّما إذ رآها جاهل أو غافل اعتقدها حقّا ، فساء ظنّه بالسلف واعتقد أنّهم مضوا على الخطاء والغفلة ، بل ربّما تغيّر اعتقاده في هذا المذهب حيث إنّ جلّة علمائه كانوا على غير الصواب ولم يوفّقهم الله للخروج عن هذه الضلالة!

فلزم علينا عند ذلك أن تتبّعنا ما تيسّر تتبّعه وأجبنا عنه بمؤلّف سمّيناه بـ « الشواهد المكّية في مداحض حجج الخيالات المدنيّة » ولا نبرّئ أنفسنا عن الخطاء والزلل في القول والعمل ، والله

٢٨

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا *.

ولمّا أراد جمع من الأفاضل في مكّة المعظّمة قراءة بعض الكتب الاصوليّة لديّ جمعت فوائد مشتملة على جلّ ما استفدته من كلام العترة الطاهرة عليهم‌السلام ممّا يتعلّق بفنّ أصول الفقه وطرف ممّا يتعلّق بغيره وسمّيتها بـ « الفوائد المدنيّة » في الردّ على من قال بالاجتهاد والتقليد أي اتّباع الظنّ في نفس الأحكام الإلهيّة ، وهي مشتملة على مقدّمة واثني عشر فصلا وخاتمة.

______________________________________________________

الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.

ولمّا كان ملك ملوك الامم وصاحب العزّ والعدل والسيف والقلم ، المؤيّد بعناية الإيمان ، والخاذل لحزب الشيطان ، ظلّ الله على المؤمنين وحافظ شريعة سيّد المرسلين ، الحقيق من الله بالنصر على من ناواه ، السلطان بن السلطان الملك المظفّر السلطان : عبد الله قطب شاه ـ أدام الله إقباله وأبدّ عزّه وإجلاله ولا زال أمداد أقلام السعود تجري بدوام عزّه وسلطانه وأقدار الأفلاك تقضي بحصول مطالبه وقوّة إمكانه ـ ممّن يجب إهداء كلّ نفيس إليه ويحسن عوض كلّ جليل عليه ؛ والعجز والقصور يقعدني عن إهداء تحفة دنياويّة وخطيرة ماليّة ورأيت العلم أرغب مرغوب إليه وأجلّ متنافس فيه بين يديه ، سيّما ما اشتمل على الذبّ عن الطعن في حقّ جماهير العلماء المجتهدين وردّ كلام الحمقاء المخترعين تخطئة أكابر الدين فيما هو الحقّ باليقين ، فجعلت هذا المؤلّف مع الدعاء الخاصّ الصادر عن الإخلاص تحفة وهدية لخزانة كتبه العامرة الوافية بالقواعد والأحكام والوافرة بتحقيق المطالب في كلّ مرام ، ولعلّه حين يتشرّف من حضرته بالوصول يقع من جليل ألطافه في خير القبول. والحمد لله أوّلا وآخرا وعلى كلّ حال.

* هذا الكلام أوّل التعدّي والخروج عن الواقع ونسبة أهل الفضل والتحقيق إلى ما هم بريئون منه ، وكيف يدّعي خروج أقوالهم عن المتواتر ومع ثبوت التواتر المفيد للعلم يتصوّر من هؤلاء العلماء الأجلّاء خروج أقوالهم عنه وعدولهم عن المعلوم إلى المظنون؟ فكأنّ المصنّف كان عنده من آثار الاصول والحديث ما لم يكن عندهم أو اطّلع بسعة علومه على ما لم يطّلعوا عليه! وهذه دعوى لا يليق بعاقل ادّعاؤها في مثل هذا الزمان مع تباعد عهده وقرب عهدهم. ومن تمام الجهل نسبة هؤلاء الأجلّاء إلى الغفلة وعدم الاطّلاع على الأحاديث بجهالة المتواتر منها وغيره.

وممّا يدلّ دلالة واضحة على خلل ما اعتقده وتفرّد به ممّا ذكره وممّا يأتي أنّه لم يوجد

٢٩

المقدّمة في ذكر ما أحدثه العلّامة الحلّي وموافقوه ، خلافا لمعظم الإماميّة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام وهو أمران :

أحدهما : تقسيم أحاديث كتبنا المأخوذة عن الاصول الّتي ألّفها أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بأمرهم ـ لتكون مرجعا للشيعة في عقائدهم وأعمالهم ، لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى ؛ لئلّا يضيع من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم ـ إلى أقسام أربعة. وعلى زعمه معظم تلك الأحاديث الممهّدة في تلك الاصول بأمرهم عليهم‌السلام غير صحيح ، وزعمه هذا نشأ من حدّة ذهنه واستعجاله في التصانيف ، وهو بين أصحابنا نظير الفخر الرازي بين العامّة *.

______________________________________________________

تصوّره لأحد من العلماء الخاصّة والعامّة فضلا عن موافقة عليه ، وما نقله من ظاهر كلام بعضهم وتشبّث به في الدلالة على مطلوبه ليس فيه دلالة صريحة ولا فحوى عند من تأمّله وعرف مساقه ، ولا شكّ أنّ إنكار وجود الأحاديث الضعيفة عن الأئمّة عليهم‌السلام من قبل ومن بعد مكابرة ومخالفة للوجدان ، كيف! وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ستكثر بعدي القالة عليّ (١) وورد أيضا غيره بمعناه وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه (٢) ومثل ذلك كثير لمن تتبّعه.

ولو لا تفرقة الأصحاب وتميز الصحيح عن غيره لأشكل الحكم والرجوع إلى الاصول الأربعمائة المذكورة المشهورة لم يتيسّر لكلّ أحد الوصول إليها ولم يعلم أيضا صحّتها كلّها على ما سيجي‌ء بيانه.

* أوّل ما في هذا الكلام أيضا من الشناعة : نسبة الإحداث إلى الجليل الأوحد العلّامة ـ قدّس الله روحه ـ فإنّ في الحديث : إنّ شرّ الامور محدثاتها وكلّ محدث بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار (٣).

وثانيا : أنّ الأحاديث في نفسها إذا اعتبرها المعتبر لا تخرج عن هذا التقسيم وهو وصف ثابت لها ، سواء صرّح به أو لم يصرّح ، وليس جميع ما نقل عن الأئمّة عليهم‌السلام من الاصول وغيرها محقّق الصحّة بتمامه ، بل الاصول المنصوص عليها منهم عليهم‌السلام معروفة ، وما سواها ، منها : ما حصل عن الأصحاب بيان ضعف مؤلّفها ، ومنها : ما كان مؤلّفها يعتمد الرواية عن الضعفاء ، ومنها : ما يقبل

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

(٢) راجع الكشّي : ٣٠٥ ، الرقم ٥٤٩.

(٣) البحار ٢ : ٣٠١ ، ح ٣١.

٣٠

والثاني : اختيار أنّه ليس لله تعالى في المسائل الّتي ليست من ضروريّات الدين ولا من ضروريّات المذهب دليل قطعيّ ، وأنّه تعالى لذلك لم يكلّف عباده فيها إلّا بالعمل بظنون المجتهدين أخطئوا أو أصابوا ، وانجرّ كلامه هذا إلى التزامه كثيرا من القواعد الاصولية المسطورة في كتب العامّة المخالفة لما تواترت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وهو كان في غفلة عن ذلك. ولمّا ألهمني ربّي بذلك ووجب عليّ إظهاره ، لم تأخذني في الله لومة لائم فأظهرته ، والله يعصمني من الناس *.

______________________________________________________

بعضها ولا يقبل البعض الآخر ؛ وذلك معروف واضح لمن اطّلع على كتب الرجال. والأصحاب قد اطّلعوا على الصحيح منها وغيره ونبّهوا عليه في كتب الرجال وأجهدوا أنفسهم في تحقيق ذلك لعلمهم بأنّها قد امتزج صحيحها بضعيفها ، فلو كانت كلّها صحيحة متواترة كما قاله المصنّف ما كان أغناهم عن هذا الغناء! لأنّها كلّها مأخوذة من اصول ثابتة صحيحة عن الأئمّة عليهم‌السلام على مدّعى المصنّف. وكيف جاز له أن ينسب إلى العلّامة الحلّي رحمه‌الله اعتقاد أنّ معظم تلك الأحاديث الممهّدة بتلك الاصول غير صحيحة؟ ومن أين علم أنّ جميع ما ورد عنهم عليهم‌السلام سواء كان صحيحا أو سقيما قد امروا بإثباته وكتابته وقد صحّ عنهم تأمّلهم وتأوّههم ممّن يأخذ الحديث عنهم ويتأوّله له بحسب مراده وهواه ؛ وقد شاع الاختلاف بين الرواة في زمانهم في الأحاديث والكذب عنهم في القدح في حقّ بعض الرواة من الامور الفاحشة الّتي لا يتحمّل الصدق في بعضها ، فكيف بعد هذا يدّعي مدّع أنّ جميع ما يسند إليهم من الأحاديث من قبل ومن بعد يكونون قد امروا بإثباتها مع أنّ فيها ما يقطع بخروجه عن مذهب الشيعة والثابت عنهم منزّه عن الاختلاف والتضادّ وحكمه حكم المتواتر ، وقد صرّحوا بأنّه لا يصحّ فيه الاختلاف. وسيأتي أنّ الشيخ رحمه‌الله ضعّف بعض الأحاديث من كتابيه وعلّل ضعفها بضعف راويها ، أو إسناده الرواية إلى غير معلوم أنّه الإمام ، أو أنّه مخالف للإجماع ، فكيف يجامع هذا القول أنّه أخذ كتابيه من اصول صحيحة كلّها ثابتة عن الأئمّة عليهم‌السلام؟ كما يقوله المصنّف ويلزم الشيخ وأمثاله بشي‌ء ينادون بنفيه عنهم.

* هذا من عظيم الافتراء على العلّامة رحمه‌الله إنّه يقول ذلك بقول مطلق! وأين وجد ما ادّعاه عليه من التزامه لمخالفة الأخبار المتواترة في اصول أو فروع؟ والعلّامة أعرف منه بالأخبار وأوسع اطّلاعا في جميع العلوم والآثار. والمباحث الاصوليّة أغلبها مشتركة بيننا وبين العامّة وأغلب أدلّتها العقل ، والحقّ منها ظاهر على مذهب الشيعة.

٣١

الفصل الأوّل : في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنّيّة في نفس أحكامه تعالى ، ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم الله أو بحكم ورد عنهم عليهم‌السلام.

والثاني : في بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريّات الدين من المسائل الشرعيّة ، أصليّة كانت أو فرعيّة في السماع عن الصادقين عليهم‌السلام.

والثالث : في إثبات تعذّر المجتهد المطلق.

والرابع : في إبطال حصر الرعيّة في المجتهد والمقلّد في زمن الغيبة.

والخامس : في بيان أنّ في كثير من المواضع يحصل الظنّ على مذهب العامّة دون الخاصّة.

والسادس : في سدّ الأبواب الّتي فتحتها العامّة للاستنباطات الظنّيّة بوجوه تفصيليّة.

والسابع : في بيان من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والافتاء.

والثامن : في جواب الأسئلة المتّجهة على ما استفدناه من كلامهم عليهم‌السلام ومن كلام قدمائنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ.

والتاسع : في تصحيح أحاديث كتبنا بوجوه كثيرة ، تفطّنت بها بتوفيق الله تعالى ، وفي جواز التمسّك بها لكونها متواترة النسبة إلى مؤلّفيها وفي بيان القاعدة الّتي وضعوها عليهم‌السلام للخلاص من الحيرة في باب الأحاديث المتخالفة *.

______________________________________________________

ودعوى المصنّف ـ كما يأتي ـ أنّ كلّ مسألة من اصول أو فروع لا بدّ أن يكون له دليل قطعيّ يستفاد من الحديث دعوى ينكرها الوجدان ، فإنّ الأحاديث كلّها صحيحها وضعيفها ليس فيها ما يستفاد منه جميع أحكام المسائل نصّا ولا فحوى إلّا أن كان بنوع من الرجوع إلى القواعد والاصول الثابتة عن أهل البيت عليهم‌السلام بالقوّة الربّانيّة ، وهي الاجتهاد المحصّل للظنّ بالحكم ، ولا سبيل إلى غير ذلك ، فكيف يمكن حصول حكمها بالقطع المستند إلى العلم؟ ولو اعتبرنا الوقف في كلّ مسألة لا نجد العلم بحكمها من الحديث ـ كما يقوله المصنّف ـ انسدّ عنا غالب أحكام المسائل الشرعيّة وتعطّلت ، ولزم من ذلك تكليفنا بما لا سبيل لنا إلى معرفة حكمه والضرورة داعية إليه ، ومخالفة الحكمة لذلك أمر ظاهر لا ينكره إلّا غبيّ جاهل.

* من فهم هذا الكلام ظنّ أنّ تحته طائلا ، والحال أنّه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا.

٣٢

والعاشر : في بيان الاصطلاحات الّتي يعمّ بها البلوى.

والحادي عشر ، والثاني عشر : في التنبيه على طرف من الأغلاط والتردّدات الّتي وقعت من فحول العلماء الأعلام ، ليتّضح عند اولي الألباب أنّ عمدة الخطأ أو التحيّر الّتي وقعت من العلماء في أفكارهم إنّما نشأت من الخطأ في مقدّمة هي مادّة الموادّ في بابها ، أو من التردّد فيها *.

______________________________________________________

* نعم ، قد اتّضح عند اولي الألباب ضعف محصول من يدّعي هذه الدعوى العريضة ولو كانت حقّا ، وهنا يحسن التمثيل بقول القائل :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

ولا بدّ من بيان جملة من الواضحات في هذا المقام على خلاف ما يدّعيه لتنكشف حقيقة الحال.

أوّلها : إنّ كلامه على العلّامة ـ قدّس الله روحه ـ بما يقتضي تركه العمل بالحديث وأنّه اعتمد على الامور الظنّية بقول مطلق. وهذا ليس بصحيح ، فإنّ العلّامة اعتمد على العمل بالحديث في مسائله وفتواه وتساهل في العمل بالخبر بما

لم يتساهل فيه غيره صونا لضياع الخبر ، ولم يرجع إلى غيره إلّا عند فقده ، فيرجع إلى الاجتهاد الّذي قد اتّفق عليه المؤالف والمخالف حتّى جوّزه بعضهم للأنبياء ونقلوه عن الامم السالفة ، وهو راجع إلى قواعد أهل البيت عليهم‌السلام واصولهم بالاستنباط المعتبر في الاجتهاد ، وقد ثبت عنهم عليهم‌السلام تجويزهم لشيعتهم العمل بالظنّ إذا تعذّر العلم في مسائل كثيرة ، وقد صرّح غالب الأصحاب المعتمدين في مسائل عديدة : أنهم لم يجدوا فيها نصّا ، والوجدان أيضا يحقّق ذلك عند الاختبار. والمصنّف يدّعي أنّ كلّ حكم لا بدّ أن يوجد عليه دلالة من الحديث ، فظاهر ذلك أن يكون صريحا ولا يحتاج إلى الاستنباط. وكلام المصنّف على العلّامة فيما أشرنا إليه من تركه الحديث كان أحقّ به السيّد المرتضى وابن ادريس وغيرهم ممّن لا يعمل بخبر الواحد.

ودعواه أنّ جميع الأحاديث الّتي في الكتب الأربعة كلّها مأخوذة من الاصول القديمة المشهورة الثابتة النقل عن الأئمّة عليهم‌السلام كأنّها كانت موجودة في زمن الشيخ وغيره من أصحاب تلك الكتب ولم تكن موجودة في زمن المرتضى وابن أبي عقيل وابن الجنيد وغيرهم من المتقدّمين ، أو كانت موجودة لكنّهم لم يطّلعوا عليها ، وإلّا كيف جاز للمرتضى وغيره في فتاويهم غالبا مخالفة

٣٣

وليعلم أنّ المنطق غير عاصم عن هذا النوع من الخطأ ، وغير نافع في الخلاص عن هذا التحيّر والتردّد ، بل لا بدّ فيهما من التمسّك بأصحاب العصمة عليهم‌السلام.

والخاتمة : في نقل طرف من كلام قدمائنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ ليكون فذلكة لما فصّلناه.

وإن أحطت خبرا بما في كتابنا هذا تجد فيه حقائق ودقائق خلت عنها كتب

______________________________________________________

الأحاديث الّتي في الكتب؟ مع تقدّم الكليني ومن لا يحضره الفقيه عليه وهو يعلم أنّ تلك الأحاديث منقولة نقلا صحيحا عن الاصول الثابتة عن الأئمّة عليهم‌السلام ويعتذر المرتضى رحمه‌الله عن عدم العمل بها بأنّها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا. وكيف جاز لابن أبي عقيل وابن الجنيد مع تقدّمهما على السيّد المرتضى وقرب وجود تلك الاصول في زمانهما أن يفتوا بخلاف المشهور من الأحاديث في مواضع عديدة؟ فلو لا أنّهم جميعا لم يظهر عندهم صحّتها لما جاز لهم أن يحكموا بخلاف مدلولها. ولا يقال : إنّهم كانوا يحكمون على ما يخالفهم بالتقيّة حتى تحمل عليها.

وثانيها : إنّ الشيخ وابن بابويه والمفيد في مواضع عديدة تخالف فتواهم ما أوردوه من الحديث ويصرّحون بضعف الحديث. ويذكر الشيخ رحمه‌الله ضعف راويه [ رواية خ ل ] بشي‌ء لا مزيد عليه وأنّ ذلك علّة ضعفه ، وتارة يردّه بالإرسال وأنّه غير معلوم الاستناد إلى الإمام ، فكيف يجامع هذا ما ألزمه به المصنّف بأنّ كلّ ما في كتابيه من الأحاديث معترف بصحّتها وثبوتها وأنّها كلّها منقولة من اصول صحيحة مقطوعة الثبوت عن الأئمّة عليهم‌السلام والشيخ رحمه‌الله ينادي بخلاف ذلك؟

وثالثها : إنّه قد وقع التصريح من النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام بما يقتضي كثرة الكذب في الأحاديث عليهم.

ورابعها : إنّ الكشّي والنجاشي وغيرهما ما كان يخفى عليهم حال الاصول وصحّتها ، وليست الأحاديث الّتي نقلت إلّا منها ، فأيّ حاجة بعد ذلك إلى التعرّض لرجال سندها بمدح أو قدح والقدح غيبة ما أجازوها هنا إلّا للضرورة ، وما الحاجة إلى ذكر السند في الأحاديث إلى المعصوم إذا كان أخذها من الاصول يغني عن ذلك؟ والاعتذار عنه بأنّ القصد بذلك التبرّك لو تمّ كان التنبيه عليه واجبا في أغلب مواضعه خوفا من التباسه بالضعيف ، كما وقع واحتيج في معرفة الصحيح والضعيف منه إلى كتب الرجال ، فكانوا في غنية عن هذا التكلّف والإقدام على القدح في الناس بما لا عذر يوجبه ، خصوصا الشيخ رحمه‌الله على دعوى المصنّف الّتي قدّمناها.

وخامسها : إنّ السيّد المرتضى والشيخ المفيد ـ رحمهما‌الله تعالى ـ كانا في عصر واحد

٣٤

الأوّلين والآخرين من الحكماء والفقهاء والمتكلّمين والاصوليّين ، وهي انموذج ممّا أعطاني ربّي جلّ وعزّ ، وأسأل الله التوفيق لإتمام ما أنا مشتغل به من شرحي لاصول كتاب الكافي ، وشرحي لتهذيب الحديث ، وردّي لما أحدثه الفاضلان المتخاصمان المشكّكان المستعجلان في حواشي الشرح الجديد للتجريد (١) وفوائدي المتعلّقة بدقائق الفنون الغريبة وحقائقها المخفيّة ، والله الموفّق للصواب وإليه

______________________________________________________

ونقل السيّد عليّ بن طاوس رحمه‌الله في رسالته لولده عن الشيخ الجليل العارف بعلوم كثيرة سعيد بن هبة الله القطب الراوندي : أنّه وقع الخلاف بين السيّد والشيخ المفيد في خمس وتسعين مسألة من مسائل الاصول ، وقال : لو استوفيت الخلاف بينهما لطال الكلام (٢) ومن المعلوم : أنّ هذا الاختلاف لا يصلح له سبب إلّا اختلاف الحديث ، ولو كانت كلّها صحيحة وكلّ حكم من اصول وفروع فيها دلالة عليه ـ كما يقوله المصنّف ـ لم يجز منهم هذا الاختلاف ، وإنّما نشأ غالبا من ردّ السيّد أخبار الآحاد وعمل المفيد بها رحمهما‌الله.

وسادسها : إنّ العلّامة ومن تأخّر عنه ما كان عندهم إهمال الأحاديث ولا للعمل بها (٣) وفي كتبهم وتأليفاتهم كلّ مسألة يوجد الحديث فيها أوردوه وتكلّموا في دلالته وصحّته وضعفه ، فكيف ينسبهم المصنّف إلى تخريب الدين والجهالة والغفلة عن العمل بأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام؟

وسابعها : إنّ المصنّف حمل بعض الأحاديث المخالفة بظاهرها لما هو المعلوم الثابت من مذهب الشيعة على مدلول ظاهرها وتكلّم على القائل بخلاف ذلك ، والحال أنّه لا يخفى أنّ القرآن والحديث مصدرهما والحكمة فيهما أمر واحد ، فكما وقع في القرآن ما يخالف بظاهره العقل والنقل واعتقاد الشيعة ، مثل قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) و ( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ) فلا يبعد في الحكمة أن يقع في الحديث مثل ذلك ، لأنّ كلّا منهما المراد به الهداية والخطاب للناس عامّا. وليس في ذلك إخلال بالهداية والحكمة بعد قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) فكما أوّلنا ظواهر القرآن بما يوافق العقل والمذهب كذلك الحديث لأنه إذا جاز في الأقوى جاز فيما دونه بطريق أولى. ولو اعتبر معتبر لوجد جميع ما وقع في القرآن من موادّ الاشتباه في الأفعال والآجال

__________________

(١) وهو شرح القوشجي.

(٢) كشف المحجّة : ٦٤.

(٣) كذا ، ويحتمل التصحيف في العبارة.

٣٥

المرجع والمآب *.

______________________________________________________

والأرزاق والهداية والمشيّة والقدر وقع نظيره في الأحاديث ، وحكمة الله في الجميع واصلة وذكر في بعض التفاسير : أنّ الحكمة فيه الابتلاء لزيادة الثواب ، لأنّ الدنيا دار تكليف وعناء ، ولا شكّ أنّ الشيعة أقرب إلى ذلك من غيرهم ، فكيف يليق بعاقل أن يقول : الأخذ بظاهر الأحاديث متعيّن ولا يجوز غيره ، وقد أجازه كلّ العلماء في القرآن ، وأوّل كلّ منهم آياته على ما يقتضيه مذهبه حتّى قيل : إنّه لا يمكن أن يحتجّ خصم على خصمه بالقرآن ، لأنّ كلّ آية من ذلك فيه ما ينافيها بحسب الظاهر وتدلّ على معتقد الآخر.

وإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّ أصل ما بناه هذا المؤلّف على الخطأ ، وكلّما زاد الغالط في الحجّة ازداد غلطا وفسادا من حيث يدري أو لا يدري. والله المستعان.

* هل يصدر مثل هذا الكلام في مدح نفسه من شخص يفرق بين الحسن والقبيح؟ وفي الحقيقة ليست حقايق ودقايق صادقة فيما يدّعيه ، ولكنّها عجائب وغرائب تفرّد بانتحالها والخطأ فيها عن سائر الناس من الخاصّة والعامّة ، ويا ليته! كان صرف وقته في شي‌ء يعود نفعه عليه رحمه‌الله.

* * *

٣٦

فائدة

قد اشتهر في كتب بعض المتأخّرين من فضلائنا الاصوليّين المتبحّرين ـ كالعلّامة الحلّي ومن وافقه ـ أنّ في زمن الغيبة تنقسم الرعيّة إلى مجتهد ومقلّد ، وأنّه يجب على المقلّد أن يرجع إلى ظنّ المجتهد في المسائل الشرعيّة الّتي ليست من ضروريّات الدين ولا من ضروريّات المذهب ، وأنّ المجتهد المطلق هو الّذي يتمكّن من استنباط كلّ مسألة شرعيّة فرعيّة نظريّة ، وذكروا أنّ ذلك التمكّن إنّما يحصل بأن يعرف مدارك جميع الأحكام الشرعيّة ، وأنّ تلك المعرفة تتحقّق بمعرفة جميع المقدّمات الستّ وهي : الكلام ، والاصول ، والنحو والتصريف ولغة العرب ، وشرائط الأدلّة ، والاصول الأربعة ، وهي : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل.

وذكر العالم الربّاني الشهيد الثاني ـ قدّس الله سرّه ـ في بعض كتبه الفقهيّة في مبحث القاضي :

أنّ المعتبر من الكلام : ما يعرف به الله تعالى وما يلزمه من صفات الجلال والإكرام وعدله وحكمته ، ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصمته ، وإمامة الأئمّة عليهم‌السلام كذلك ، ليحصل الوثوق بخبرهم ويتحقّق الحجّة به ، والتصديق بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحوال الدنيا والآخرة ، كلّ ذلك بالدليل التفصيلي *. ولا يشترط الزيادة على ذلك بالاطّلاع على

______________________________________________________

* اعترضه المصنّف في حاشية الكتاب فقال ، أقول : هذا ناظر إلى ما في كتب العامّة : من أنّه يجب كفاية أن يكون في كلّ قطر من الأقطار رجل عالم بتلك الامور ليندفع شبهة الملاحدة وغيرهم من القواعد الدينيّة. ولي فيه نظر ، وهو أنّه من بنى دينه ومذهبه على مقدّمات يقينيّة له

٣٧

ما حقّقه المتكلّمون من أحكام الجواهر والأعراض ، وما اشتملت عليه كتبه من الحكمة والمقدّمات والاعتراضات وأجوبة الشبهات ، وإن وجب معرفته كفاية من جهة اخرى. ومن ثمّ صرّح جماعة من المحقّقين بأنّ الكلام ليس شرطا في التفقّه ، فإنّ ما يتوقّف عليه منه مشترك بين سائر المكلّفين.

ومن الاصول : ما يعرف به أدلّة الأحكام من الأمر والنهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والبيان وغيرها ممّا اشتملت عليه مقاصده.

ومن النحو والتصريف : ما يختلف المعنى باختلافه ليحصل بسببه معرفة المراد من الخطاب. ولا يعتبر الاستقصاء فيه على الوجه التامّ بل يكفي الوسط منه فما دون.

ومن اللغة : ما يحصل به فهم كلام الله تعالى ورسوله ونوّابه عليهم‌السلام بالحفظ أو الرجوع إلى أصل مصحّح يشتمل على معاني الألفاظ المتداولة في ذلك.

______________________________________________________

أن يدفع تلك الشبهة إجمالا ، بأن يقول : تلك مصادمة لليقين ، وكلّ ما هو كذلك فهو باطل ، كما أجاب به بعض فحول العلماء عن شبهة المجهول المطلق بأنّها مصادمة لمقدمة بديهيّة وكلّ ما هو كذلك فهو باطل.

أقول : ما أفاده غريب! لأنّ الخصم لا يسلّم اليقين الّذي يدّعيه إلّا بعد إثباته بالبرهان القطعيّ ، وهو موقوف على معرفة شرائطه وتمكّنه من الإتيان بها ، وذلك لا يحصل إلّا بما فصّله الشهيد الثاني ـ قدّس الله روحه ـ وما ماثل به من جواب بعض فحول العلماء لا يوافق جوابه ، لأنّه يدّعي فيه أنّه مبنيّ على مقدّمة بديهيّة والبديهيّ يظهر لكلّ أحد ولا مساغ لإنكاره. وأمّا اليقين إذا حصل لأحد في مسألة لا يلزم حصوله كذلك لغيره ، فلا بدّ له من دليل على حصول اليقين بتلك المسألة ، على أنّ حجج الخصم ليست محصورة حتّى يمكن الجواب عنها بكلام الأئمّة عليهم‌السلام أو من دليل العقل.

وقوله : « هذا ناظر إلى ما في كتب العامّة » لا ندري ما عنى به من وجه الذمّ؟ لأنّه ليس يلزم علينا أنّ كلّ ما اعتبره المخالفون من اصول وفروع لا يكون معتبرا عندنا ، لأنّ العلوم مشتركة ، وما فيه الخلاف بيّن ظاهر لا موافقة لنا فيه ، فأيّ محذور في مشاركتهم في المسائل الّتي لا خلاف بيننا وبينهم فيها ، حتّى أنّ المصنّف في عدّة مواضع يعيب العلماء المتقدّمين باتّباع طريق العامّة ويهضم قدرهم بذلك من غير موجب.

٣٨

ومن شرائط الأدلّة : معرفة الأشكال الاقترانية والاستثنائية وما يتوقّف عليه من المعاني المفردة وغيرها. ولا يشترط الاستقصاء في ذلك بل يقتصر على المجزئ منه ، وما زاد عليه فهو مجرّد تضييع للعمر وترجئة للوقت.

والمعتبر من الكتاب الكريم : معرفة ما يتعلّق بالأحكام وهو نحو من خمسمائة آية ، إمّا بحفظها أو فهم مقتضاها ليرجع إليها متى شاء ، ويتوقّف على معرفة الناسخ منها من المنسوخ ولو بالرجوع إلى أصل يشتمل عليه.

ومن السنّة : جميع ما اشتمل منها على الأحكام ولو في أصل مصحّح رواه عن عدل بسند متّصل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام * ويعرف الصحيح منها والحسن والموثّق والضعيف والموقوف والمرسل والمتواتر والآحاد ، وغيرها من الاصطلاحات الّتي دوّنت في دراية الحديث ، المفتقر إليها في استنباط الأحكام ، وهي امور اصطلاحيّة

______________________________________________________

* واعترضه في الحاشية ، فقال ، أقول : الاطّلاع على جميع السنّة المتعلّقة بالأحكام إنّما يتّجه على قاعدة العامّة : من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أودع أسرار الدين عند أحد ، بل كلّ ما جاء به أظهره بين يدي أصحابه. وأمّا على قاعدة الإماميّة أنّه أظهر ما احتاجت إليه الامّة في زمانه وأودع الباقي عند أهل بيته عليهم‌السلام فلا يتّجه أصلا.

أقول : إن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجوز له ان يخفي الدين الّذي امر بتبليغه عن أحد من الناس بعد قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) وقوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وإنّما الّذي لم يستوعب إظهاره لو سلّم عدم إظهاره لسائر الناس في زمانه فقد دلّهم على أخذه من أهل بيته من الأحاديث الدالّة عندنا وعند المخالفين الّتي لا تنكر من التمسّك في الدين بالكتاب والعترة ـ أهل بيته ـ وأنّهم النجاة من الضلال ، فكيف يليق نسبة الرسول إلى إخفاء بعض شريعة المكلّفين وهو مأمور بالتبليغ إلى الإنس والجنّ وقد عرّفهم علم ما لا يعلمونه؟ أو يشتبه [ يشبّه خ ] عليهم بالرجوع فيه إلى الكتاب وأهل بيته؟ وأمّا ما لا يتعلّق بالتكليف من الأسرار والحكم وغير ذلك فلا نزاع في جواز تخصيص الأئمّة به عليهم‌السلام على أنّ ما ذكره لا يتوجّه على كلام الشهيد رحمه‌الله لأنّ العلم الّذي عند الأئمّة المتعلّق بالتكليف أظهروه لشيعتهم فصار احتياجهم إلى معرفته كاحتياج المخالفين في زماننا هذا وغيره ، فكيف ينفي المصنّف الاحتياج إلى ذلك ويعترض به كلام الشهيد رحمه‌الله.

٣٩

توقيفيّة لا مباحث علميّة. ويدخل في اصول الفقه معرفة أحوالها عند التعارض وكثير من أحكامها.

ومن الإجماع والخلاف : أن يعرف أنّ ما يفتي به لا يخالف الإجماع ، إمّا بوجود موافق من المتقدّمين ، أو بغلبة ظنّه على أنّه واقعة متجدّدة لم يبحث عنها السابقون بحيث حصل فيها أحد الأمرين لا معرفة كلّ مسألة أجمعوا عليها أو اختلفوا.

ودلالة العقل من الاستصحاب والبراءة الأصليّة وغيرهما داخلة في الاصول. وكذا معرفة ما يحتجّ به من القياس ، بل يشتمل كثير من مختصرات اصول الفقه ـ كالتهذيب ومختصر الاصول لابن الحاجب ـ على ما يحتاج إليه من شرائط الدليل المدوّن في علم الميزان ، وكثير من كتب النحو على ما يحتاج إليه من التصريف. نعم ، يشترط مع ذلك كلّه أن يكون له قوّة يتمكّن بها من ردّ الفروع إلى اصولها واستنباطها منها. وهذه هي العمدة في هذا الباب ، وإلّا فتحصيل تلك المقدّمات قد صارت في زماننا سهلة ، لكثرة ما حقّقه العلماء والفقهاء فيها وفي بيان استعمالها ، وإنّما تلك القوّة بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده ، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (١) * وإذا تحقّق المفتي بهذا الوصف وجب على الناس الترافع إليه وقبول قوله والتزام حكمه ، لأنّه منصوب من الإمام عليه‌السلام

______________________________________________________

* إنّ الّذي يتأمّل هذا الكلام يعلم أنّ الاجتهاد أعظم شروطه حصول القوّة الإلهيّة الّتي وعد الله بحصولها بعد المجاهدة وهي الهداية إلى الحقّ ، فكيف يتصوّر معها بطلان الاجتهاد والمؤاخذة عليه ووصف صاحبه بالكذب على الله ، كما يظهر من كلام المصنّف فيما يأتي. وفي الأحاديث المذكورة في تتمّة كلام الشهيد صراحة في الاكتفاء بالظنّ الحاصل للخصم من قول الحاكم من غير دلالة على أن يكون مستند الحاكم العلم أو الظنّ ، ولا على أنّ الحاكم لا يجوز له الحكم إلّا إذا استند فيه إلى نصّ صحيح ، بل ظاهره إذا وصل إلى الرتبة المذكورة صار له أهليّة الحكم بحيث لا تخرج عن اصول الأئمّة سواء كان بالاستنباط أو بغيره.

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

٤٠